Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 106-108)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ … } الآيةَ ، إلى قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [ المائدة : 109 ] قال مكِّيٌّ : هذه الآياتُ عند أهْل المعانِي مِنْ أشكل ما في القرآن إعراباً ، ومعنًى ، وحُكْماً . قال * ع * : وهذا كلام من لم يقع له الثَّلَجُ في تفسيرها ؛ وذلك بيِّن من كتابه ، وباللَّه نستعين . لا نَعْلَمُ خلافاً أن سبب هذه الآيةِ أنَّ تميماً الدَّارِيَّ وعَدِيَّ بْن بَدَّاء ، وكانا نصرانيَّيْنِ ، سافرا إلى المدينةِ ، يريدانِ الشامَ ؛ لتجارتهما ، وقَدِمَ المدينة أيضاً ابْنُ أَبِي مَارِية مولى عَمْرِو بنِ العاصِي ، يريد الشامَ تاجِراً ، قال الفخْر : وكان مُسْلماً ، فخرَجُوا رفاقة ، فمرض ابنُ أبي مارية في الطريقِ ، وأوْصَىٰ إلى تميمٍ وعديٍّ ؛ أنْ يؤدِّيَا رَحْلَهُ إلى أوليائه من بني سَهْم ، وروى ابْنُ عباس عن تميمٍ الداريِّ ؛ أنه قال : بَرِىءَ النَّاسُ من هذه الآيةِ غيري وغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاء ، وذكر القصَّة ، إلا أنه قال : وكان معه جَامُ فِضَّةٍ ، يريد به المُلْكَ ، فأخذتُهُ أَنَا وعديٌّ ، فبْعنَاه بألفٍ ، وقَسَّمنا ثمنه ، فلما أسلَمْتُ بعد قُدُومِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينةَ ، تَأَثَّمْتُ من ذلك ، فأتيْتُ أهْلَهُ ، فأخبرتهم الخبر ، وأدَّيْتُ خمسمائة ، فوثَبُوا إلَىٰ عَدِيٍّ فأتوا به رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وحلَفَ عمْرُو بن العاصِي ، ورجُلٌ آخر معه ، ونُزِعَتْ من عَدِيٍّ خَمْسُمِائَةٍ . قال * ع * : واختلفتِ ألفاظ هذه القصَّة ، وما ذكرتُهُ هو عمود الأمْر ، ولم تصحَّ لعديٍّ صُحْبة فيما عَلِمْتُ ، ولا ثبت إسلامه ، وقد صنَّفه في الصحابة بعْضُ المتأخِّرين ، ولا وجه عندي لذكْره في الصَّحابة . وأما معنى الآية مِنْ أولها إلى آخرها ، فهو أن اللَّه سبحانه أخبر المؤمنين أنَّ حكمه في الشهادةِ عَلَى المُوصِي ، إذا حضره الموتُ : أنْ تكونَ شهادة عَدْلَيْنِ ، فإن كان في سَفَرٍ ، وهو الضَّرْب في الأرض ، ولم يكن معه من المؤمنين أحدٌ ، فليُشْهِدْ شاهدَيْنِ ممن حَضَرَهُ مِنْ أهْل الكُفْر ، فإذا قدما ، وأَدَّيا الشهادةَ علَىٰ وصيَّته ، حَلَفَا بعد الصَّلاة ؛ أنهما ما كَذَبَا ، ولا بَدَّلاَ ، وأنَّ ما شهدْنَا به حقٌّ ما كتمنا فيه شهادةَ اللَّه ، وحُكِمَ بشهادتهما ، فإن عُثِرَ بعد ذلك علَىٰ أنهما كَذَبَا ، أو خَانَا ، أو نَحْوِ هذا ممَّا هو إثْم ، حَلَفَ رُجلانِ مِنْ أولياء المُوصِي في السفر ، وغُرِّمَ الشاهدانِ ما ظَهَرَ علَيْهما ، هذا معنى الآيةِ علَىٰ مذهب أبي موسَى الأشعريِّ ، وابن عبَّاس ، وسعيدِ بْنِ المسيَّب ، ويحيـــى بن يَعْمَرَ ، وابنِ جُبَيْر ، وأبي مِجْلَزٍ ، وإبراهيم ، وشُرَيْحٍ ، وعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ ، وابن سِيرِينَ ، ومجاهدٍ وغَيْرِهم ، قالوا : ومعنى قوله : { مِّنكُمْ } ، أي : مِنَ المؤمنين ، ومعنى : { مِنْ غَيْرِكُمْ } ، أي : من الكافرين . قال بعضهم : وذلك أن الآية نزلَتْ ، ولا مؤمن إلا بالمدينة ، وكانوا يسافرون في التِّجارة مع أنواع الكَفَرة ، واختلفتْ هذه الجماعةُ المذْكُورة ، فمذهبُ أبي مُوسَى الأشعريِّ وغيره ؛ أن الآية مُحْكَمَةٌ ، ومذهب جماعة منهم ؛ أنها منسوخةٌ ؛ بقوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوِيْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ } [ الطلاق : 2 ] ؛ وبما عليه إجماعُ جمهور النَّاس ؛ أن شهادة الكُفَّار لا تجوزُ . قال * ع * : ولنرجع الآنَ إلى الإعراب ، ولنقصِدِ القَوْل المفيدَ ؛ لأن الناس خَلَطُوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً ، وذِكْرُ ذلك والرَّدُّ عليه يطولُ ، وفي تَبْيِينِ الحَقِّ الذي تتلَقَّاه الأذهانُ بالقَبُول مَقْنَعٌ ، واللَّه المستعان . فقوله تعالَىٰ : { شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ } ، هي الشهادةُ التي تُحْفَظُ لتؤدَّىٰ ، ورفعها بالابتداءِ ، والخَبَرُ في قوله : { ٱثْنَانِ } ، وقوله تعالى : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } : إذا قارب الحضُورَ ، والعاملُ في « إذا » المصدرُ الذي هو « شهادة » ، وهذا على أنْ تجعل « إذا » بمنزلة « حِينَ » ، لا تحتاج إلى جوابٍ ، ولك أن تجعل « إذا » في هذه الآية المحتاجةَ إلى الجوابِ ، لكن ٱستغنِيَ عن جوابها بما تقدَّم في قوله : { شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ } ؛ إذ المعنَىٰ : إذا حَضَر أحدَكُمُ المَوْتُ ، فينبغي أن يُشْهِدَ ، وقوله : { حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ } : ظرْفُ زمانٍ ، والعاملُ فيه { حَضَرَ } ، وإنْ شِئْتَ ، جعلته بَدَلاً مِنْ « إذا » ، وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ } : صفة لقوله : { ٱثْنَانِ } ، و { مِّنكُمْ } : صفةٌ أيضاً بعد صفةٍ ، وقوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } : صفةٌ لـ { ءَاخَرَانِ } وقوله : { تَحْبِسُونَهُمَا } : صفة لـ { ءَاخَرَانِ } أيضاً ، واعترض بَيْن الموصوفِ والصفةِ بقوله : { إِنْ أَنتُمْ } ، إلى { ٱلْمَوْتُ } ، وأفاد الاِعتراضُ أنَّ العدول إلى آخرَيْنِ من غَيْر الملَّة ، إنما يكونُ مع ضَرُورة السَّفَر ، وحلولِ الموتِ فيه ، واستغني عن جواب « إنْ » ؛ لِمَا تقدَّم من قوله : { أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ، وقال جمهورٌ مِن العلماء : الصلاةُ هنا صلاةُ العَصْر ، وقال ابنُ عباس : إنما هي صلاة الذِّمِّيِّين ، وأما العصر ، فلا حُرْمَة لها عنْدَهما ، والفاءُ في قوله : { فَيُقْسِمَانِ } : عاطفةٌ جملةً على جملةٍ ؛ لأن المعنَىٰ تَمَّ في قوله : { مِنْ بَعْدِ ٱلصَّلَوٰةِ } ، وقوله : { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } شرطٌ لا يتَّجه تحليفُ الشاهدَيْن إلا به ، والضميرُ في قول الحالِفَيْن : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } : عائدٌ على القَسَمِ ، أو على ٱسْمِ اللَّهِ ، وقوله : { لاَ نَشْتَرِي } جوابٌ يقتضيه قوله : { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ } ؛ لأن « أقسم » ونحوه يتلقَّىٰ بما تتلقَّىٰ به الإيْمَانُ ، وقوله : { ثَمَناً } ، أي : ذا ثَمَنٍ ، وخُصَّ ذو القربَىٰ بالذِّكْر ؛ لأن العرب أمْيَلُ النَّاس إلى قراباتهم ، وٱستسهالِهِمْ في جنب نفعهم ما لا يُسْتَسْهَل ، وقوله : { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ } ، أضاف الشهادةَ إلَيْه تعالى مِنْ حيث هو الآمِرُ بإقامتها ، الناهِي عن كتمانها ، وروي عن الشِّعْبِيِّ وغيره : « شَهَادَةً » ـــ بالتنوين ـــ ، « اللَّه » ـــ بقطع الألف دون مَدٍّ وخفضِ الهاءِ ـــ ، وقال أيضاً : يقف على الهاء مِن : « شهادة » بالسكون ، ثم يقطع الألفَ المكتوبَةِ منْ غير مَدٍّ ؛ كما تقدَّم ، ورُوِيَ عنه كان يقرأ : « آللَّهِ » ـــ بمد ألفِ الإستفهامِ في الوجْهَيْن ـــ ، أعني : بسكون الهاء من « شهادة » ، وتحريكها منوَّنةً منصوبةً ، ورُوِيَتْ هذه التي هي تَنْوينُ « شهادة » ، ومدُّ ألف الاستفهامِ بَعْدُ عن عَلِيِّ بن أبي طالب ، قال أبو الفَتْح : إنما تُسَكَّن هاء « شهادة » في الوقْف عليها . وقوله سبحانه : { فَإِنْ عُثِرَ } : ٱستعارةٌ لما يُوقَعُ علَىٰ علمه بعد خَفَائه ، و { ٱسْتَحَقَّا إِثْماً } : معناه : ٱستوجَبَاه مِنَ اللَّه ، وكانا أهْلاً له ؛ لأنهما ظَلَمَا وخَانَا . وقوله تعالى : { فَآخَرَانِ } ، أي : إذا عُثِرَ علَىٰ خيانتهما ، فَالأَوْلَيَانِ باليمينِ وإقامةِ القضية : آخرَانِ من القَوْم الذين هُمْ ولاة المَيِّت ، واستَحَقَّ عليهم حظُّهم ، أو نصيبهم ، أو مالهم ، أو مَا شِئْتَ من هذه التقديراتِ ، وقرأ نافعٌ وغيره : « ٱسْتُحِقَّ » ـــ مضمومةَ التاءِ ـــ ، « والأَوْلَيَانِ » ؛ عَلَىٰ تثنية الأَوْلَىٰ ، ورُوِيَ عنِ ابنِ كَثِيرٍ : « ٱسْتَحَقَّ » ـــ بفتح التاء ـــ ؛ وكذلك روىٰ حَفْصٌ عن عاصم . وفي قوله : { ٱسْتَحَقَّ } : ٱستعارةٌ ؛ لأنه وَجْه لهذا الٱستحقاق إلاَّ الغلبة على الحالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعَدَمه لقرابَتِه أو لأهل دِينه ، فٱستحقَّ هنا كما تقول لظالمٍ يظلمُكَ : « هذا قَدِ ٱستحقَّ علَيَّ مالِي أوْ مَنْزِلِي بظلمه » ، فتشبهه بالمستَحِقِّ حقيقةً ؛ إذْ تصوَّر تصوُّره ، وتملَّك تملُّكه ؛ وهكذا هي « استحقَّ » في الآية علَىٰ كلِّ حال ، وإنْ أسندتَّ إلى النصيب ونحوه . وقرأ حمزة وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر : « ٱسْتُحِقَّ » ـــ بضم التاء ـــ ، « الأَوَّلِينَ » : على جَمْعِ أوَّل ؛ ومعناها : من القومِ الذين ٱسْتُحِقَّ عليهم أمْرُهُمْ ؛ إذْ غُلِبُوا علَيْه ، ثم وصَفَهم بأنَّهم أوَّلُون ، أي : في الذِّكْر في هذه الآية ، وذلك في قوله : { ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ، ثم بعد ذلك قال : { أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ، وقوله : { فَيُقْسِمَانِ } ، يعني : الآخَرَيْنِ اللذَيْنِ يقُومانِ مَقَامَ شاهِدَيِ الزُّورِ ، وقولُهما : { لَشَهَـٰدَتُنَا } ؛ أي : لَمَا أَخْبَرْنَا نَحْنُ به ، وذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ القصَّة ـــ أحقُّ مما ذَكَراه أوَّلاً وحرَّفاه ، { وَمَا ٱعْتَدَيْنَا } ؛ في قولنا هذا ، وقولُهما : { إِنَّا إِذَاً لَمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } : تَبَرٍّ في صيغة الاِستعظامِ والاِستقباحِ للظُّلْمِ . وقوله تعالى : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَـٰفُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَـٰنٌ بَعْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ … } الآية : الإشارة بـ « ذلك » هي إلى جميع مَا حَدَّ قَبْلُ ؛ مِنْ حَبْسِ الشاهدَيْن من بعد الصلاة لليمينِ ، ثم إنْ عثر علَىٰ جَوْرهما ، رُدَّتِ اليمينُ ، وغَرِمَا ، فذلك كلُّه أقربُ إلى ٱعتدالِ هذا الصِّنْف فيما عسَىٰ أنْ ينزل من النوازلِ ؛ لأنهم يخافُونَ الفضيحة ، وردَّ اليمين ؛ هذا قولُ ابنِ عبَّاس ، وجُمِعَ الضميرُ في { يَأْتُواْ } أو { يَخَـٰفُواْ } ؛ إذ المرادُ صِنْفٌ ونوعٌ من الناسِ ، والمعنَىٰ : ذلك الحُكْم كلُّه أقربُ إلَىٰ أنْ يأتوا ، وأقربُ إلى أنْ يخافوا ، وباقي الآية بيِّن .