Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 95-98)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله سبحانه : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ … } الآية : الصَّيْد : مصدرٌ عومِلَ معاملةَ الأسماء ، فأوقع على الحَيَوانِ المَصِيدِ ، ولفظُ الصيد هنا عامٌّ ، ومعناه الخصوصُ فيما عدا ما استثني ، وفي الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ : الغُرَابُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالفَأْرَةُ ، وَالعَقْرَبُ ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ " ، وأجمع النَّاس على إباحة قتل الحَيَّة ، وبَسْطُ هذا في كُتُب الفقْه ، و { حُرُم } : جمع حرامٍ ، وهو الذي يدخُلُ في الحَرَم ، أو في الإحرام ، واختلف في قوله : { مُّتَعَمِّداً } ، فقال مجاهد وغيره : معناه : متعمِّداً لقتله ، ناسياً لإحرامه ، فهذا يُكَفِّرُ ، وأما إنْ كان ذاكراً لإِحرامه ، فهو أعظمُ مِنْ أن يكفِّر ، وقد حَلَّ ولا رخْصَة له . وقال جماعة من أهْل العلْمِ ، منهم ابن عباس ومالكٌ والزُّهْرِيُّ وغيرهم : المتعمِّد : القاصد للقتلِ ، الذَّاكرُ لإِحرامه ، فهو يكفِّر ، وكذلك الناسِي والقاتلُ خطأً يكفِّران ، وقرأ نافع وغيره : « فَجَزَاءُ مِثْلِ » ، ـــ بإضافة الجزاء إلَىٰ « مثل » ـــ ، وقرأ حمزة وغيره : « فَجَزَاءُ » ـــ بالرفع ـــ ، « مِثْلُ » ـــ بالرفع أيضاً ـــ ، واختلفَ في هذه المماثلة ، كيف تكُون ، فذهب الجمهور إلى أنَّ الحَكَمين ينظران إلَىٰ مِثْلِ الحيوان المَقْتُول في الخِلْقَة ، وعظم المرأَىٰ ، فيجعلانِ ذلك من النَّعَم جزاءه ، وذهب الشَّعْبيُّ وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة يُقَوَّم الصيدُ المقتول ، ثم يشتري بقيمته نِدٌّ من النَّعَم ، ورد الطبريُّ وغيره هذا القولَ ، والنَّعَم : لفظ يقع علَى الإبل والبَقَر والغَنَم ، إذا ٱجتمعَتْ هذه الأصنافُ ، فإن ٱنفرَدَ كلُّ صِنْفٍ لم يُقَلْ « نَعَم » إلا للإبل وحْدها ، وقَصَرَ القرآنُ هذه النازَلَة علَىٰ حَكَمين عدْلَيْن عالِمَيْن بحُكْم النازلة ، وبالتقدير فيها ، وعلَىٰ هذا جمهورُ الناس . قال ابنُ وهْب في « العتبية » : من السنة أن يُخَيِّرَ الحَكَمان مَنْ أصاب الصيد ؛ كما خَيَّره اللَّه تعالَىٰ في أنْ يخرج هَدْياً بالغَ الكَعْبة ، أو كفارةً طعامَ مساكينَ ، أو عَدْلَ ذلك صياماً ، فإن ٱختار الهَدْيَ ، حَكَما عليه بما يريانِهِ نَظيراً لما أصاب ما بينهما وبَيْن أن يكون عَدْلَ ذلك شاةً ؛ لأنها أدنَى الهَدْيِ ، فما لم يبلُغْ شاةً ، حَكَمَا فيه بالطعامِ ، ثم خُيِّر في أنْ يطعمه أو يصوم مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يوماً ، وكذلك قال مالكٌ في « المدوَّنة » : إذا أراد المصيبُ أنْ يطعم أو يصوم ، فَإنْ كان لِمَا أصاب نظيرٌ من النَّعَم ، فإنه يقوَّمُ صيدُهُ طعاماً ، لاَ دَرَاهِمَ ، قال : وإن قوَّماه دراهمَ ، وٱشْتُرِيَ بها طعامٌ ، لَرَجَوْتُ أنْ يكون واسعاً ، والأول أصْوَبُ ، فإنْ شاء ، أطعمه ، وإلا صام مَكَانَ كلِّ مُدٍّ يوماً ، وإن زاد ذلك علَىٰ شهرين ، أو ثلاثة ، وقال يحيـى بن عمر من أصحابنا : إنما يقالُ : كَمْ مِنْ رجلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيدِ ، فيعرف العددَ ، ثم يقال : كَمْ من الطعامِ يُشْبِعُ هذا العَدَدَ ؟ فإن شاء ، أخرج ذلك الطعام ، وإن شاء ، صام عدد أمداده ، وهذا قولٌ حسنٌ ٱحتاطَ فيه ؛ لأنه قد تكونُ قيمةُ الصيدِ مِنَ الطعامِ قليلةً ، فبهذا النَّظَر يكثر الإطعام . وقوله تعالى : { هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ } ذكرت « الكعبة » ؛ لأنها أم الحَرَم ، والحَرَمُ كلُّه مَنْحَرٌ لهذا الهَدْيِ ؛ ولا بد أن يجمع في هذا الهَدْي بَيْن الحِلِّ والحَرَمِ حتَّىٰ يكون بالِغَ الكعبة ، فالهَدْيُ لا ينحر إلا في الحَرَمِ . واختلفَ في الطَّعَام ، فقال جماعةٌ : الإطعام والصَّوْمِ حيث شاء المكفِّر من البلاد ، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره : الهَدْيُ والإطعام بمكَّة ، والصوم حيث شِئْتَ . وقوله سبحانه : { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } : الذوق هنا مستعارٌ ، والوبالُ : سوءُ العاقبةِ ، والمرعَى الوَبِيلُ هو الذي يتأذَّىٰ به بَعْد أكله ، وعبَّر بـ { أَمَرَه } عن جميع حاله ؛ مِنْ قتلٍ وتكْفيرٍ ، وحكمٍ علَيْه ، ومُضِيِّ مالِهِ ، أو تعبِهِ بالصَّوْمِ ، واختلف في معنى قوله سبحانه : { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف … } الآية : فقال عطاءُ بن أبي رباح ، وجماعة : معناه : عفا اللَّه عما سَلَفَ في جاهليَّتكم مِنْ قتلكم الصيد في الحرمة ، ومَنْ عاد الآنَ فِي الإسلام ، فإن كان مستحلاًّ ، فينتقم اللَّه منه في الآخرة ، ويكفَّرُ في ظاهر الحُكْم ، وإن كان عاصياً ، فالنقْمَةُ هي في إلزامُ الكَفَّارة فقَطْ ، قالوا : وكلَّما عاد المُحْرِمُ ، فهو يكفِّر . قال * ع * : ويخاف المتورِّعون أنْ تبقى النِّقْمة مع التكفير ، وهذا هو قول الفقهاء مالكٍ ونظرائه ، وأصحابِهِ ( رحمهم اللَّه ) ، وقال ابن عباس وغيره : أما المتعمِّد ، فإنه يكفِّر أول مرَّةٍ ، وعفا اللَّه عن ذَنْبه ، فإن اجترأ ، وعاد ثانياً ، فلا يُحْكَم عليه ، ويقال له : ينتقم اللَّه منْكَ ؛ كما قال اللَّه تعالَىٰ . وقوله سبحانه : { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ } : تنبيهٌ علَىٰ صفتين تقتضيان خَوْفَ من له بصيرةٌ ، ومن خاف ، ٱزدَجَر ، ومن هذا المعنَىٰ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ خَاَف أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ " ، قلت : والصيد لِلَّهْوِ مكروه ، ورَوَىٰ أبو داود في سُنَنه ، عن ابنِ عبَّاس ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : " مَنْ سَكَنَ البَادِيَةَ جَفَا ، وَمَنِ ٱتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ ، وَمَنْ أتَى السُّلْطَانَ ، ٱفْتُتِنَ " انتهى . وقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَـٰعاً لَّكُمْ … } الآية : البَحْر : الماء الكثيرُ ، مِلْحاً كان أو عَذْباً ، وكلُّ نهر كبير : بحرٌ ، وطعامه : هو كل ما قَذَفَ به ، وما طَفَا عليه ؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم ؛ وهو مذهبُ مالكٍ . و { مَّتَـٰعاً } : نصبٌ على المَصْدر ، والمعنَىٰ : مَتَّعَكُمْ به متاعاً تنتفعُونَ به ، وتأْتَدِمُونَ ، و { لَكُمْ } : يريدُ حاضري البَحْر ومُدُنِهِ ، و { لِلسَّيَّارَةِ } : المسافرينَ ، واختلف في مقتضَىٰ قوله سبحانه : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } ، فتلقاه بعضهم على العُمُوم من جميع جهاته ؛ فقالوا : إنَّ المُحْرِمَ لا يحلُّ له أنْ يصيد ، ولا أنْ يأمر من يَصِيد ، ولا أن يأكل صيداً صِيدَ من أجله ، ولا مِنْ غير أجله ، وأنَّ لَحْم الصيد بأيِّ وجه كان حرامٌ على المُحْرِمِ ، وكان عمر بنُ الخطَّاب ( رضي اللَّه عنه ) لاَ يَرَىٰ بأساً للمُحْرِمِ أنْ يأكل ما صَادَهُ حلالٌ لنفسه ، أو لحلالِ مثله ، وقال بمثل قولِ عمر ـــ عثمانُ بنُ عفَّان والزُّبَيْر بنُ العَوَّام ؛ وهو الصحيحُ ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنَ الحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ أبو قَتَادَةَ ، وهو حَلاَلٌ ، والنبيُّ ـــ عليه السلام ـــ مُحْرِم . ثم ذكَّر سبحانه بأمر الحَشْر والقيامةِ ، مبالغةً في التحذير ؛ ولما بان في هذه الآيات تعظيمُ الحَرَمِ والحُرْمة بالإحرام من أجْل الكعبة ، وأنَّها بيْتُ اللَّه تعالَىٰ ، وعنصر هذه الفَضَائلَ ذَكَرَ سبحانه في قوله : { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ } ؛ تنبيهاً سَنَّهُ في الناس ، وهداهم إلَيْهِ ، وحَمَلَ عليه الجاهليَّة الجهلاَءَ من ٱلتزامِهِمْ أنَّ الكعبة قِوَامٌ ، والهَدْي قِوَامٌ ، والقلائد قِوَام ، أي : أمر يقوم للناس بالتَّأمين ، ووَضْعِ الحربِ أوزارها ، وأعلَمَ تعالى أنَّ التزامَ النَّاس لذلك هو ممَّا شرعه وٱرتضاه ، و { جَعَلَ } ، في هذه الآيةِ : بمعنى « صَيَّر » ، والكَعْبَة بيْتُ مكة ، وسمي كعبةً لتربيعه ، قال أهْل اللُّغَة : كلُّ بَيْتٍ مربَّع ، فهو مكعَّب ، وكَعْبة ، وذهب بعض المتأوِّلين إلى أنَّ معنى قوله تعالى : { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } ، أي : موضع وُجُوب قيامٍ بالمناسك والتعبُّدات ، وضَبْطِ النفوسِ في الشهر الحرام ، ومع الهَدْيِ والقلائدِ ، قال مَكِّيٌّ : معنى { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } ، أي : جعلها بمنزلة الرئيس الَّذي يقُومُ به أمر أتباعه ، فهي تحجزهم عَنْ ظُلْم بعضهم بعضاً ، وكذلك الهَدْيُ والقلائد جُعِلَ ذلك أيضاً قياماً للناس ؛ فكان الرجُلُ إذا دَخَل الحَرَمِ أَمِنَ مِنْ عدوه ، وإذا ساق الهَدْي كذلك ، لم يعرض لَهُ ، وكان الرجُلُ إذا أراد الحجَّ ، تقلَّد بقلادة مِنْ شعر ، وإذا رجع تقلَّد بقلادة من لِحَاءِ شَجَر الحَرَمِ ، فلا يعرض له ، ولا يُؤْذَىٰ حتى يَصِلَ إلَىٰ أَهله ، قال ابنُ زيد : كان الناسُ كلُّهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضُهُم عن بعض ، ولم يكُنْ في العرب ملوكٌ تدفع عن بعضهم ظُلْمَ بعضٍ ، فجعل اللَّه لهم البَيْتَ الحرامَ قياماً يدفَعُ بعضَهُمْ عن بعض . انتهى من « الهداية » . والشهرُ هنا : اسمُ جنسٍ ، والمراد الأشهر الثلاثةُ بإجماع من العرب ، وشَهْرُ مُضَرَ ، وهو رَجَبٌ ، وأما الهَدْيُ ، فكان أماناً لمن يسوقه ؛ لأنه يعلم أنه في عبادةٍ لم يأت لحَرْبٍ ، وأما القلائد ، فكذلك كان الرجُلُ إذا خَرَج يريدُ الحَجِّ ، تقلَّد مِنْ لحاء السَّمُرِ أو غيره شيئاً ، فكان ذلك أماناً له ، وكذلك إذا انصرفوا ، تقلَّدوا من شجر الحَرَمِ ، وقوله { ذٰلِكَ } : إشارةٌ إلى أنَّ جعل اللَّه هذه الأمور قياماً . وقوله سبحانه : { بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } : عامٌّ عموماً تامًّا في الجزئيَّات ودَقائِقِ الموجودات ، والقولُ بغير هذا إلحادٌ في الدِّين وكُفْر .