Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 104-109)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } الآية . لمَّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه ، وإظهار المباينة عن المشركين ، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره . فإن قيل : كيف قال " في شكٍّ " وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به ؟ . قيل : كان فيهم شاكون ، فهم المرادُ بالآية ، أو أنَّهم لمَّا رَأوا الآياتِ اضطربوا ، وشكُّوا في أمرهم وأمر النبي - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - . قوله : " فَلاَ أَعْبُدُ " جواب الشَّرط ، والفعلُ خبر ابتداء مضمر تقديره : فأنَا لا أعبدُ ، ولو وقع المضارعُ منفياً بـ " لا " دون فاء لجزمَ ، ولكنَّه مع الفاءِ يرفع كما تقدَّم ذكره ، وكذا لوْ لمْ يُنْفَ بـ " لا " كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، أي : فهو ينتقُم . ثم قال : { وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } يميتكم ، ويقبض أرواحكم . فإن قيل : ما الحكمةُ في وصف المعبود ههنا بقوله : { ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } ؟ . فالجواب : من وجوه : الأول : أنَّ المعنى أني أعبدُ الله الذي خلقكم أولاً ، ثم يتوفَّاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً ، فاكتفى بذكر التوفي لكونه مُنَبِّهاً على البواقي . الثاني : أنَّ الموت أشدُّ الأشياءِ مهابة ، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا ، ليكون أقوى في الزَّجر والرَّدع . الثالث : أنَّهم لمَّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ يونس : 102 - 103 ] وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى يهلك أولئك الكفار ، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم ، فلمَّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا : { وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } وهو إشارةٌ إلى ما قرَّره وبيَّنهُ في تلك الآية كأنه يقول : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم ، وإبقائي بعدكم . قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 72 ] ، قال الزمخشري : أصله بأن أكون ، فحذف الجارُّ ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذفُ الحروفِ الجارَّة مع أن وأنَّ ، وأنْ يكون من الحذف غير المطَّرد ؛ وهو كقوله : [ البسيط ] @ 2939 - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ … … @@ { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] يعنى : بغيرِ المُطَّرد أنَّ حذف حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوزُ القياسُ عليها ، وهي : أمَرَ ، واسْتَغْفَرَ ، كما تقدم [ الأعراف155 ] ، وأشار بقوله : " أمَرْتُكَ " إلى البيت المشهور : [ البسيط ] @ 2940 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ … @@ وقد قاس ذلك بعضُ النَّحويِّين ، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف ، ويتعيَّن موضعه أيضاً ، وهو رأي علي بن سليمان فيُجيز " بريتُ القلمَ السكين " بخلاف " صَكَكْتُ الحَجَرَ بالخشبةِ " . قوله : " وأنْ أقِمْ " يجوز أن يكون على إضمار فعلٍ أي : وأوحي إليَّ أن أقم ، ثم لك في " أنْ " وجهان أحدهما : أن تكون تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدَّرة ، كذا قاله أبو حيان ، وفيه نظرٌ ، إذ المفسَّرُ لا يجوز حذفه ، وقد ردَّ هو بذلك في موضع غير هذا ، والثاني : أن تكون المصدرية ، فتكون هي وما في خبرها في محلِّ رفع بذلك الفعل المقدر ، ويحتمل أن تكون " أنْ " مصدرية فقط ، وهي على هذا معمولةٌ لقوله : أمِرْتُ مراعى فيها معنى الكلام ؛ لأنَّ قوله " أنْ أكُونَ " كون من أكوانِ المؤمنين ، ووصلْ " أنْ " بصيغة الأمْر جائزٌ ، كما تقَدَّم تحريره . وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : عطف قوله : " وأنْ أقِمْ " على " أنْ أكُون " فيه إشكالٌ ؛ لأنَّ أنْ لا تخلو : إمَّا أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكونُ مع الفعلِ في تأويل المصدر ، فلا يصحُّ أن تكون التي للعبارة ، وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّنُ معنى القول ؛ لأنَّ عطفها علىالموصولة ينافي ذلك ، والقولُ بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمْرِ وهو " أقِمْ " ؛ لأنَّ الصِّلة حقُّها أن تكون جملة تحتمل الصِّدق والكذب . قلت : قد سوَّغَ سيبويه أن توصلَ " أنْ " بالأمْرِ والنَّهْيِ ، وشبَّه ذلك بقولهم : " أنت الذي تفعل " على الخطاب ؛ لأنَّ الغرضَ وصلها بما تكونُ معه في تأويلِ المصدرِ ، والأمْرُ والنَّهْيُ دالاَّنِ على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال . قال شهاب الدين : وقد تقدَّم الإشكالُ في ذلك وهو أنَّه إذا قُدِّرت بالمصدر فاتت الدَّلالةُ على الأمْرِ والنَّهْي . ورجَّحَ أبُو حيَّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدَّم تقريره قال : " ليزولَ قلقُ العطفِ لوجودِ الكافِ ، إذْ لوْ كانَ " وأنْ أقِمْ " عطفاً على " أنْ أكُونَ " لكان التَّركيبُ " وَجْهِي " بياء المتكلم ، ومراعاةُ المعنى فيه ضعفٌ ، وإضمارُ الفعل أكثر " . قال ابنُ الخطيبِ : الواو في قوله : " وأنْ أقِمْ وجْهكَ " حرف عطف ، وفي المعطوف عليه وجهان : الأول : أنَّ قوله : وأمِرْتُ أنْ أكُون قائم مقام قوله : وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه " وأنْ أقِمْ وجْهَكَ " . الثاني : أنَّ قوله " وأنْ أقِمْ وجْهَكَ " قائم مقام قوله : " وأمْرِتُ " بإقامة الوجه ، فيصير التقدير : وأمرت بأن أكون من المؤمنين ، وبإقامة الوجه للدِّين حنيفاً . قوله : " حَنِيفاً " يجُوزُ أن يكون حالاً من " الدِّين " ، وأن يكون حالاً من فاعل " أقِمْ " أو مفعوله . فصل قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : معنى قوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أي : عملك . وقيل : استقم على الدِّين حنيفاً . قال ابنُ الخطيبِ : " إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليَّةِ إلى طلبِ الدِّين ؛ لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه ؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه ، ولو بالقليل ، فقد بطلت تلك المقابلة ، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار ؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين ، وقوله " حَنِيفاً " أي : مائلاً إليه ميلاً كليّاً ، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً " . ثم قال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } وهذا لا يمكنُ أن يكون نهياً عن عبادة الأوثان ؛ لأنَّ ذلك صار مذكوراً في قوله أول الآية : { فَلاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ 104 ] فلا بُدَّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة ، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً ، وهذا هو الذي تسميه أصحابُ القلوبِ بالشِّرك الخفيِّ . قاله ابنُ الخطيبِ . قوله تعالى : " ولا تَدْعُ " يجُوزُ أن تكون هذه الجملة استئنافية ، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة الأمر وهي : " أَقِمْ " فتكون داخلة في صلة " أنْ " بوجهيها ، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم . وقوله : " مَا لاَ ينفعُك " يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً ، وأن تكون موصولةً . قوله : " فإنَّكَ " هو جوابُ الشَّرطِ و " إذَنْ " حرفُ جوابٍ توسَّطتْ بين الاسم ، والخبرِ ، ورتبتها التَّأخيرُ عن الخبرِ ، وإنَّما وُسِّطتْ رعياً للفواصل . وقال الزمخشري : " إذَنْ " جواب الشَّرطِ وجوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأنَّ سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان . وفي جعله " إذَنْ " جزاءً للشَّرطِ نظرٌ ، إذ جوابُ الشَّرطِ محصورٌ في أشياء ليس هذا منها . فصل المعنى : " ولا تَدْعُ " أي : ولا تعبد { مِن دُونِ ٱللَّهِ ما لا ينفعك } إن أطعته : " ولا يَضُرُّكَ " إن عصيتهُ " فإن فعلْتَ " فعبدتَ غير الله ، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة ، والمضرَّةِ من غير الله { فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ ٱلظَّالِمِينَ } الضَّارين لأنفسهم ، الواضعين للعبادة في غير موضعها ؛ لأنَّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه . قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } الآية . قوله : " وَإِنْ يَمْسَسْكَ " قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [ الأنعام : 17 ] . وقال هنا في جواب الشَّرط الأول بنفي عام ، وإيجاب ، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب ؛ لأنَّ ما أرادَه لا يردُّه رادٌّ ، لا هو ولا غيره ، لأنَّ إرادتهُ قديمةٌ لا تتغيَّرُ ، فلذلك لم يجىء التَّركيب فلا رادَّ لهُ إلاَّ هو ، هذه عبارةُ أبي حيَّان ، وفيها نظرٌ ، وكأنَّهُ يقولُ بخلاف الكَشْفِ فإنه هو الفاعلُ لذلك وحدهُ دون غيره بخلاف إرادته تعالى ، فإنَّهُ لا يتصوَّر فيها الوقوعُ على خلافها ، وهي مسألةٌ خلافيَّةٌ بين أهل السُّنَّةِ والاعتزال . قال الزمخشريُّ : فإن قلت : لم ذُكر المسُّ في أحدهما والإرادةُ في الثاني ؟ قلت : كأنَّه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة والإصابة في كُلِّ واحدٍ من الضُّر والخَيْر ، وأنَّه لا رادَّ لما يريده منهما ، ولا مُزيلَ لِمَا يُصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المسَّ وهو الإصابةُ في أحدهما ، والإرادة في الآخر ليدُلَّ بما ذكر على ما ترك ، على أنَّه قد ذكر الإصابة في الخير في قوله : { يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } [ يونس : 107 ] . فصل اعلم أنَّ الشيء إمَّا أن يكون ضارّاً ، وإمَّا أن يكون نافعاً ، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير ، ولمَّا كان الضر أمراً وجودياً ، والخير قد يكون أمراً عدميّاً ، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } والآية دالَّة على أنَّ الضرَّ والخيْرَ واقعان بقدرةِ الله وبقضائه ، فيدخل فيه الكفر ، والإيمانُ ، والطاعةُ ، والمعصيةُ ، والسرورُ والخيراتُ والآلامُ واللَّذاتُ . ومعنى الآية : إن يُصبْكَ الله بضرٍّ أي : بشدَّة ، وبلاء فلا دافع لهُ إلاَّ هُوَ ، { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } رخاء ونعمة وسعة { فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } لا دافع لرزقه ، { يُصَيبُ بِهِ } بكل واحدٍ من الضر والخير { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } . قال الواحديُّ : قوله : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } من المقلوب ، معناه : وإن يرد بك الخَيْرَ ، ولكنَّه لمَّا تعلَّق كل واحد منهما بالإرادةِ جاز تقديم كل واحد منهما . قال المفسِّرون : لمَّا بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّ الأصنامَ لا تضرّ ولا تنفعُ بيَّن في هذه الآية أنَّها لا تقدر على دفع الشَّر الواصل من الغير ، ولا على دفع الخير الواصل من الغير . قوله تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } الآية . قوله : " مِن ربِّكم " يجوز أن يتعلَّق بـ " جَاءَكُمُ " و " مِنْ " لابتداءِ الغاية مجازاً ، ويجُوزُ أن يكون حالاً من " الحَقِّ " . قوله : فَمِن اهْتَدَى ومن ضلَّ يجوز أن تكون " مَنْ " شرطاً ، فالفاءُ واجبةُ الدُّخُولِ وأن تكون موصولة فالفاءُ جائزته . فصل المراد " بالحقّ " القرآن والإسلام { فَمَنُ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : على نفسه . قوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : بِكَفِيلٍ يحفظ أعمالكم ، و " ما " يجوز أن تكون الحجازيَّة أو التميمية ، لخفاء النصب في الخبر . قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - هذه الآية نسختها آية القتال . ثمَّ قال تعالى : { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ } [ يونس : 109 ] أمرهُ باتِّباعِ الوحي والتَّنزيل { حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ } من نصرك وقهر عدوك وإظهار دينك { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } فحكم بقتل المشركين ، وبالجزيةِ على أهل الكتاب يعطونها { عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] . روى أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَن قَرَأ سورة يونس - عليه الصلاة والسلام - أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدَّق بيونس وكذَّب به ، وبعدد من غرق مع فرعون " .