Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 11-12)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ … } الآية . هذا الامتناعُ نفيٌ في المعنى ، تقديره : لا يُعَجِّلُ الله لهم الشَّر ، قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف اتَّصل به قوله : { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } ، وما معناها ؟ قلت : قوله " وَلَوْ يُعَجِّلُ " متضمّن معنى نفي التَّعجيلِ ، كأنَّه قيل : ولا نُعَجِّل لهم بالشَّرِّ ، ولا نقضي إليهم أجلهم " . قوله " ٱسْتِعْجَالَهُمْ " فيه أوجهٌ : أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ ، تقديره : استعجالاً مثل استعجالهم ، ثُمَّ حذف الموصوف ، وهو " اسْتِعْجَال " ، وأقام صفته مقامه ، وهي " مِثل " ، فبقي : ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم ، ثم حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، قال مكِّي : " وهذا مذهبُ سيبويه " ، وقد تقدَّم مراراً أنَّ مذهب سيبويه في هذا ، أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المُقدَّرِ ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْربين غيره ، ففي نسبةِ ما ذكرناه أولاً لسيبويه نظرٌ . والثاني : أن تقديره : تعجيلاً مثل استعجالهم ، ثم فعل به ما تقدَّم قبله ، وهذا تقديرُ أبي البقاء ، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلهُ ؛ فإنَّ " تَعْجِيلاً " مصدر لـ " عَجّلَ " ، وما ذكره مكِّي موافقٌ للمصدر الذي بعده . والذي يظهر ؛ ما قدَّره أبو البقاء ؛ لأنَّ موافقة الفعل أولى ، ويكون قد شبَّه تعجيله تعالى باستعجالهم ، بخلاف ما قدَّره مكِّي ، فإنَّه لا يظهر ؛ إذ ليس " اسْتِعْجَال " مصدراً لـ " عَجَّل " ، وقال الزمخشري : " أصله : ولو يعجِّل الله للنَّاس الشرَّ تعجيله لهم الخير ، فوضع " اسْتِعْجَالهُم بالخَيْرِ " موضع تعجيله لهم الخيرَ ؛ إشعاراً بسُرعةِ إجابته لهُمْ وإسعافه بطلبهم ، كأنَّ استعجالهُم بالخير تعجيلٌ لهُم " ، قال أبو حيَّان : " ومدلُولُ " عَجَّل " غير مدلول " اسْتَعْجَل " ؛ لأنَّ " عَجَّل " يدلُّ على الوقوع ، و " اسْتَعْجَل " يدلُّ على طلب التَّعجيل ، وذلك واقعٌ من الله - تعالى - ، وهذا مضافٌ إليهم ، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون التقدير : تَعْجِيلاً مثل استعجالهم بالخير ، فشبَّه التَّعجيل بالاستعجالِ ؛ لأنَّ طلبهم للخَيْر ، ووقوع تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كلِّ شيء . والثاني : أن يكون ثمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدر تقديره : ولو يُعَجِّل اللهُ للنَّاسِ الشرَّ ، إذا استعجلوا به اسْتعْجَالهُم بالخير ؛ لأنَّهم كانوا يَسْتَعْجِلُون بالشرِّ ووقوعه على سبيل التَّهكم ، كما كانُوا يَسْتعجلُون بالخير " . الثالث : أنَّه منصوبٌ على إسقاط الخافض ، وهو كاف التَّشبيه ، والتقدير : كاستعجالهم . قال أبُو البقاء : " وهو بعيدٌ ؛ إذ لو جاز ذلك ، لجاز " زيدٌ غلام عمرو " أي : كغلام عمرو " . وبهذا ضعَّفهُ جماعةٌ ، وليس بتضعيفٍ صحيحٍ ؛ إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدَّى بنفسه عند حذف الجارِّ ، وفي الآية فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك ، وهو قوله : " يُعَجل " ، وقال مكِّي : " ويَلزَمُ مَنْ يجُوِّز حذفَ حرفِ الجر منه ، أن يُجيز " زيدٌ الأسدُ " ، أي : كالأسد " . قال شهابُ الدِّين : " قوله : ويَلْزَمُ … إلى آخره " ، لا رَدَّ فيه على هذا القائل ، إذ يلتزمه ، وهو التزامٌ صحيحٌ سائغٌ ؛ إذ لا يُنكِرُ أحَدٌ " زيدٌ الأسد " ، على معنى : كالأسَد ، وعلى تقدير التَّسليم ، فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء ، أي : إنَّ الفعل يطلب مصدراً مُشَبَّهاً ، فصار مدلُولاً عليه . وقال بعضهم : تقديره : في استعجالهم ؛ نقله مكِّي ، فلمَّا حذفت " في " انتصبَ ، وهذا لا معنى له ، وقال البغوي : المعنى " ولو يُعَجِّل الله إجابة دعائهم في الشرِّ والمكروه استعجالهم بالخير ، أي : كما يحبُّون استعجالهم بالخير " . وقال القرطبي : قال العلماء : التَّعجيلُ من الله ، والاستعجال من العبدِ ، وقال أبو عليّ : هُمَا من الله . فصل في كيفية النَّظم وجوه : أحدها : قال ابن الخطيب : " إنَّه ابتدَأ السورة بذكر شُبُهَاتِ المنكرينَ للنُّبوَّة مع الجواب عنها : فالشبهة الأولى : أنَّ القوم تعجَّبُوا من تخصيص الله محمداً بالنُّبوة ، فأزال الله ذلك التعجُّب بقوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } [ يونس : 2 ] ، ثم ذكر دلائل التَّوحيدِ ، ودلائل صحَّة المعاد . وحاصل الجواب أن يقول : إنِّي ما جئتُكُم إلاَّ بالتوحيد ، والإقرار بالمعاد ، وقد دَلَّلنا على صحتهما ، فلمْ يَبْقَ للتعجُّب من نبوَّتِي معنى . والشبهة الثانية : أنَّهم كانوا يقولون : اللَّهُمَّ إن كان ما يقول محمدٌ حقاً في ادِّعاء النُّبوَّة والرٍِّسالة ، فأمطر علينا حجارة من السَّماء ، أو ائتِنَا بعذابٍ أليمٍ ، فأجاب الله - تعالى - عن هذه الشبهة بهذه الآية . وثانيها : قال القاضي : " لمَّا بيَّن الله - تعالى - الوعْد والوعِيدَ ، أتبعهُ بما يدلُّ على أن من حقِّهما ، أن يتأخَّرا عن هذه الحياة الدُّنيويَّة ؛ لأنَّ حصولهما في الدُّنيا ، كالمانع من بقاءِ التَّكليف . وثالثها : قال القفال : إنَّه لمَّا وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ، ورضوا بالحياةِ الدُّنيا ، واطمأنوا بها ، وكانُوا عن آيات الله غافلين ، بيَّن أنَّ من غفلتهم ، أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً . فصل أخبر - تعالى - في آيات كثيرة : أنَّ هؤلاء المشركين متى خُوفوا بنزول العذاب في الدُّنيا ، استعجلوا ذلك العذاب ، كقولهم : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] الآية ، ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية ، بقوله { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ يونس : 8 ] ، استعجلوا ذلك العذاب ، وقالوا متى يحصل ذلك ؟ كما قال - تعالى - : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] ، وقال بعد هذه الآية ، في هذه السورة : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 48 ] ؛ إلى قوله { الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ يونس : 51 ] وقال - تعالى - في سورة الرعد : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ } [ الرعد : 6 ] . فبيَّن - تعالى - أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشرّ إليهم ؛ لأنه - تعالى - لو أوصل ذلك إليهم لماتوا ، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنُوا بعد ذلك ، أو خرج من صلبهم من يؤمن ، وذلك يقتضي ألاَّ يُعَاجلهُم الله بإيصال الشرِّ إليهم . وسمى العذاب شرّاً ؛ لأنه أذى في حقِّ المعاقب ، كما سماه سيئة في قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } [ الرعد : 6 ] ، وفي قوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . والمراد من استعجالهم الخير : أنَّهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها ؛ لقوله : { إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا } [ الزمر : 49 ] . قوله : " لقُضِيَ " قرأ ابنُ عامر : " لقَضَى " بفتح القاف مبنياً للفاعل ، " أجلهم " بالنصب مفعولاً ، والباقون : بالضمِّ والكسر مبنياً للمفعول ، " أجلهم " رفعاً لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الأعمش ، ويعقوب ، وعبد الله : " لقَضَيْنَا " مسنداً لضمير المُعَظِّم نفسه ، وهي مؤيِّدةٌ لقراءةِ ابنِ عامرِ . فصل معنى { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لفرغ من هلاكهم ولماتُوا جميعاً ، وقيل : إنَّها نزلت في النَّضر بن الحارث ، حين قال : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية . قوله : { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّه معطوفٌ على قوله : " ولوْ يُعجل اللهُ " ، على معنى أنَّه في قُوَّة النَّفي ، وقد تقدَّم تحقيقه في سؤال الزمخشري ، وجوابه فيه ، إلاَّ أنَّ أبا البقاء ردَّ عطفه على " يُعَجِّلُ " ، فقال : " ولا يجُوزُ أن يكون معطوفاً على " يُعَجِّلُ " ؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي تقتضيه " لَوْ " ، وليس كذلك ؛ لأنَّ التعجيل لم يقع ، وتركهم في طغيانهم وقع " . قال شهاب الدِّين : " إنَّما يتمُّ هذا الرَّدُّ ، لو كان معطوفاً على " يُعَجِّلُ " فقط ، باقياً على معناه ، وقد تقدَّم أنَّ الكلام صار في قُوَّة : لا نُعجل لهم الشَّرَّ : فنذرهم ، فيكون " فَنَذَرُهُم " معطوفاً على جملة النَّفي ، لا على الفعل الممتنع وحده ، حتَّى يلزم ما قال " . والثاني : أنَّه معطوفٌ على جملةٍ مقدَّرة : أي : ولكن نمهلهم فنذر ، قالهُ أبو البقاء . والثالث : أن تكون جملة مستأنفة ، أي : فنحنُ نذر الذين ؛ قاله الحوفي . فصل المعنى : { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } : لا يخافون البعث ، والحساب { في طغيانهم يَعْمهُونَ } . قال أهل السنة : إنَّه - تعالى - لمَّا حكم عليهم بالطُّغيان والعمه ، امتنع أن لا يكونوا كذلك ، وإلا لزم أن يَنْقَلِبَ خبر الله تعالى الصِّدق كذباً ، وعلمهُ جهلاً ، وحكمه باطلاً ، وكلّ ذلك محالٌ . قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ } : الجهد والشدة { دَعَانَا لِجَنبِهِ } أي : على جنبه مضطجعاً { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } يريد في جميع حالاته ؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات ، وفي كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا ، لهلك ولقُضِيَ عليه ؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه ، ونهاية عجزه ؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره ، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات . الثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم : أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب ، فبيَّن في هذه الآية ، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال ؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه ، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه ، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب . قوله : " لِجَنْبِهِ " في محلِّ نصبٍ على الحال ؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه ، والتقدير : دعانا مضطجعاً لجنبه ، أو مُلْقياً لجنبه ، واللاَّمُ على بابها عند البصريين ، وزعم بعضهم : أنَّها بمعنى : " عَلَى " ، ولا حاجة إليه ، واختلف في صاحب الحال : فقيل : الإنسان والعامل فيها " مسَّ " ، قاله ابن عطية ، ونقله أبو البقاء عن غيره ، واستضعفه من وجهين : أحدهما : أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب " إذا " ، وليس بالوجه ، كأنه يعني : أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته ، وهذه الحال معمولةٌ للشرط ، وهو " مسَّ " ، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله . ثم قال : " والثاني : أن المعنى : كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله ، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله ، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن " ، وقال أبو حيَّان : " وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ ، دعاؤه في هذه الأحوال ؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب ، كما تقول : إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه ، فالمعنى ، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه " . وقيل : صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في " دعانا " ، وهو واضحٌ ، أي : دعانا في جميع أحواله ؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها . فصل قيل : المراد بـ " الإنسان " هنا : الكَافِر . وقيل : أبو حذيفة بن المغيرة ، تصيبه البأساء والشدة والجهد ، { دَعَانَا لِجَنبِهِ } أي : على جنبه مضطجعاً { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } وإنَّما أرادَ تسمية حالاته ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات . وقيل : وإنَّما بدأ بالمضطجع ؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ ، فهو يدعُو أكثر ، والاجتهاد فيه أشدّ ، ثمَّ القاعد ثم القَائم . وقيل : المراد بالإنسان : الجنسُ ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع ، أي : مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً ، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً ، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات ، فيدعو في وقت على هذه الحال ، وفي وقت على أخرى ، والصحيحُ أنَّ المراد بـ " الإنسان " : الجنس ، وقال آخرون : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به : الكافر ، وهذا باطل ؛ لقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [ الإنشقاق : 6 ، 7 ] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ ، وكذا قوله : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } [ الإنسان : 1 ] ، وقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] ، { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 19 ] ، والحقُّ : أنَّ اللفظ المفرد ، المحلَّى بالألف واللام ، إن حصل معهودٌ سابقٌ ، صرف إليه ، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل ، وقال صاحبُ النَّظْم : قوله { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ } وضعهُ للمستقبل ، وقوله : { فَلَمَّا كَشَفْنَا } للماضي ، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل : على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى ، وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الماضي ، على الماضي " . قوله : { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ } قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا ، عند قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } [ النساء : 73 ] ، تقديره : كأنَّه لم يدعنا ، ثم أسقط الضمير تخفيفاً ، كقوله تعالى { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ } [ يونس : 45 ] قال الزمخشري : " فحذف ضمير الشَّأن ؛ كقوله : [ الهزج ] @ 2880 - … كأنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ " @@ يعني : على رواية من رواه " ثَدْياهُ " بالألف ، ويروى : " كأن ثَدْيَيه " بالياء ، على أنها أعملت في الظَّاهر ، وهو شاذٌّ ، وهذا البيت صدره : [ الهزج ] @ 2881 - وَوجهٍ مُشْرقِ النَّحْرِ كَأنْ ثدْيَاهُ حقَّانِ @@ وهذه الجملةُ التَّشبيهيَّةُ : في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " مرَّ " ، أي : مضى على طريقته ، مشبهاً من لم يدعُ إلى كشف ضُرٍّ ، و " مسَّهُ " صفةً لـ " ضُرّ " ، وقيل : " مَرَّ " عن موقف الابتهال والتضرُّع لا يرجع إليه ، ونسي ما كان فيه من الجهدِ والبلاء ، كأن لم يدعنا ، ولم يطلُب منَّا كشف ضُرِّه . قوله : { كَذٰلِكَ زُيِّنَ } الكاف من " كذلِكَ " في موضع نصب على المصدر ، أي : مثل ذلك التَّزيين والإعراض عن الابتهال ، وفاعل " زُيِّنَ " المحذوف : إمَّا الله - تعالى - ، و إمَّا الشيطان ، و { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في محل رفع لقيامه مقام الفاعل ، و " مَا " يجوز أن تكون مصدريَّة ، وأن تكون بمعنى " الذي " . فصل قال أبو بكر الأصم : سُمّي الكافرُ مُسْرفاً ؛ لأنَّه ضيَّع ماله ونفسه ، أمَّا النَّفس ، فإنه جعلها عبداً للوثن ؛ وأمَّا المالُ ؛ فلأنهم كانوا يُضَيِّعُون أموالهم في البحيرة ، والسَّائبة ، والوصيلة والحامِ . وقيل : من كانت عادتُه كثرة التضرُّع والدعاء ، عند نزول البلاء ، وعند زوال البلاء بعرضُ عن ذكرِ الله وعن شكره ، يكون مُسْرِفاً في أمر دينه ، وقال ابن الخطيب : " المُسرفُ هو الذي ينفقُ المال الكثير ؛ لأجل الغرضِ الخسيس ، ومعلومٌ أنَّ لذَّاتِ الدنيا وطيباتها خسيسةٌ جداً ، في مقابلة سعادات الآخرة ، والله - تعالى - أعطى الحواسَّ ، والعقل والفهم ، والقدرة ، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويَّة ، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة ؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة ، كان قد أنفق أشياء عظيمة ؛ ليفوز بأشياء حقيرة ؛ فوجب أن يكون من المسرفين " .