Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 24-25)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } الآية . لمَّا قال - تعالى - : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ يونس : 23 ] ضرب هذا المثل لمن اغترَّ بالحياةِ الدُّنيا ، واشتد تمسُّكه بها ، وأعرض عن التأهُّبِ للآخرة ، فقال : { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وهذه الجملةُ سيقتْ ؛ لتشبيه الدُّنْيَا بنباتِ الأرض ، وقد شرح الله وجه الشَّبه بما ذكر . قال الزمخشري : " هذا من التَّشبيه المُركَّب ، شُبِّهتْ حال الدُّنيا ، في سرعةِ تقضِّيهَا ، وانقراضِ نعيمها بعد الإقبالِ ، بحالِ نباتِ الأرض في جفافه ، وذهابه حطاماً بعدما التفَّ ، وتكاثف ، وزيَّن الأرض بخُضْرته ، ورونقه " ، التَّشبيهُ المركبُ في اصطلاح البيانيِّين : إمَّا أن يكون طرفاهُ مركَّبين ، أي : تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ ؛ كقول بشَّار بن بُردٍ : [ الطويل ] @ 2885 - كَأن مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا وأسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كواكِبُه @@ وذلك أنَّه يُشبِّه الهيئة الحاصلة ، من هُوِيِّ أجرام مشرقة ، مستطيلة متناسبةِ المقدارِ ، متفرقةٍ في جوانب شيءٍ مُظْلم ، بليلٍ سقطتْ كواكبُه ، وإمَّا أن يكون طرفاهُ مُخْتلفين بالإفرادِ والتَّركيب ، وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع . قوله : " كَمَآءٍ " : هو خبرُ المبتدأ ، و " أَنزَلْنَاهُ " : صفة لـ " مَاءٍ " ، و " مِنَ السَّمَاءِ " : متعلِّقٌ بـ " أنزَلنَاهُ " ، ويضعفُ جعله حالاً من الضَّمير المنصوب ، وقوله : " فَٱخْتَلَطَ بِهِ " في هذه الباءِ وجهان : أحدهما : أنها سببيَّةٌ ، قال الزمخشري : " فاشْتبكَ بسببهِ ، حتى خالط بعضه بعضاً " . قال ابن عطيَّة : " وصَلَتْ فِرْقَةٌ " النَّبات " ، بقوله : " فاخْتَلَطَ " ، أي : اختلط النَّبَاتُ بعضه ببعضٍ بسبب الماء " . والثاني : أنَّها للمُصاحبة ، بمعنى : أنَّ الماء يجري مجرى الغذاء له ، فهو مُصاحبه ، وزعم بعضُهم : أنَّ الوقف على قوله : " فَٱخْتَلَطَ " ، على أنَّ الفاعِلَ ضميرٌ عائدٌ على الماءِ ، وتبتدىءُ " بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ " على الابتداء والخبر ، والضمير في " بِهِ " على هذا ، يجُوزُ عودُه على الماءِ ، وأن يعُود على الاختلاط الذي تضمَّنَهُ الفعل ، قاله ابن عطيَّة ، وقال أبو حيَّان : " الوقْفُ على قوله : " فاخْتلَطَ " لا يجُوزُ ، وخاصَّةً في القرآن ؛ لأنَّه تفكيكٌ للكلام المتَّصل الصحيح ، والمعنى الفصيحِ ، وذهابٌ إلى اللُّغْزِ ، والتَّعقيد " . قوله " مِمَّا يَأْكُلُ " فيه وجهان : أحدهما : أنَّه متعلِّقٌ بـ " اخْتَلَطَ " ، وبه قال الحُوفيُّ . والثاني : أنَّه حالٌ من " النَّبات " ، قاله أبو البقاء ، وهو الظاهرُ ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المُستقرَّة ، أي : كائناً أو مُسْتقرّاً ممَّا يأكل . ولو قيل : إنَّ " مِنْ " لبيان الجنسِ ، لجاز ، وقوله : " حتَّى " غايةٌ فلا بُدَّ لها من شيءٍ مُغَيّاً ، والفعلُ الذي قبلها - وهو " اخْتَلَطَ " - لا يصح أن يكون مُغَيّاً ، لقصر زمنهِ ، فقيل : ثمَّ فعل محذوفٌ ، أي : لم يزلِ النباتُ ينمُو حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ وقيل : يجوز " فاخْتَلَطَ " بمعنى : فدام اختلاطه ، حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ ، و " إذَا " بعد " حتَّى " هذه تقدَّم التَّنبيه عليها ، قوله : " وَٱزَّيَّنَتْ " بوصل الهمزة ، وتشديد الزاي والياء ، والأصلُ " وتزَيَّنَتْ " فلمَّا أريدَ إدغامُ التَّاء في الزَّاي بعدها ، قُلبت زاياً ، وسُكِّنَت فاجتُلِبَت همزة الوصْل ؛ لتعذُّر الابتداء بالسَّاكن ، فصار " ازَّيَّنت " ، وتقدَّم تحريرُ هذا عند قوله - تعالى - : { فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [ البقرة : 72 ] . وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله وزيد بن علي ، والأعمش : " وتَزيَّنَتْ " على تفعَّلَتْ ، وهو الأصلُ المُشَار إليه ، وقرأ سعد بن أبي وقَّاص ، والسُّلمي ، وابنُ يعمُر ، والحسن ، والشَّعبي ، وأبُو العالية ، ونصر بن عاصم ، وابنُ هرمز ، وعيسى الثقفي : " وَأزْيَنَتْ " على وزن أفعَلَتْ ، وأفعل هنا بمعنى : صار ذا كذا ، كأحْصَدَ الزَّرعُ وأغدَّ البعيرُ ، والمعنى : صارت ذا زينة ، أي : حضرت زينتها وحانَتْ ، وكان من حقِّ الياءِ على هذه القراءة ، أن تُقْلبَ ألفاً ، فيقال : أزَانَتْ ، كأنَابَت فتُعَلُّ بنقلِ حركتها إلى السَّاكِن قبلها ، فتتحرَّك حينئذٍ ، وينفتح ما قبلها ، فتقلب ألفاً كما تقدَّم في نحو : أقامَ وأنابَ ، إلاَّ أنَّها صحَّتْ شذُوذاً ؛ كقوله : " أغْيَمت السماء ، وأغْيَلَت المرأة " ، وقد ورد ذلك في القرآن ، نحو : { ٱسْتَحْوَذَ } [ المجادلة : 19 ] وقياسه : اسْتَحَاذَ ؛ كاستقام . وقرأ أبو عثمان النَّهديُّ - وعزاه ابن عطيَّة لفرقةٍ غير مُعيَّنة - : " وازْيأنَّتْ " بهمزة وصل ، بعدها زايٌ ساكنةٌ ، بعدها ياءٌ مفتوحةٌ خفيفةٌ ، بعدها همزةٌ مفتوحةٌ ، بعدها نونٌ مشددةٌ ، قالوا : وأصلها : " وازْيَانَّتْ " بوزن " احْمَارَّتْ " بألف صريحة ، ولكنَّهُم كرهُوا الجمع بين السَّاكنين ، فقُلبتَ الألفُ همزة ، كقراءة { ٱلضَّأَلِّينَ } [ الفاتحة : 7 ] ، و { الجَأَنٌّ } [ الرحمن : 39 ] ، وعليه قولهم : " احْمأرَّت " بالهمز ، وأنشد : [ الطويل ] @ 2886 - … إذَا مَا احْمَأرَّتْ بالعَبيطِ العَوامِلُ @@ وقد تقدَّم هذا مُشْبَعاً في آخر الفاتحة . وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة : " وَازْيَأنَّت " بالأصل المشار إليه ، وعزاها ابن عطيَّة لأبي عثمان النَّهْدي ، وقرىء : " وازَّايَنَتْ " ، والأصلُ : تزاينت ، فأدغم . وقوله : " أهْلُهَا " أي : أهل نباتها . و " أتَاهَا " : هو جوابُ " إذَا " ، فهو العاملُ فيها . وقيل : الضَّميرُ عائدٌ على الزِّينة . وقيل : على الغَلَّةِ ، أي : القُوت فلا حذفَ حينئذٍ ، و " لَيْلاً ونَهَاراً " ظرفان ؛ للإتيان ، أو للأمر ، والجعل هنا تصْييرٌ ، وحصيد : فَعِيل بمعنى : مفعول ، ولذلك لم يؤنث بالتاء ، وإن كان عبارة عن مُؤنَّث ، كقوله : أمْرَأة جريحٌ . قوله : " كَأَن لَّمْ تَغْنَ " هذه الجملة يجُوزُ أن تكون حالاً من مفعول " جَعَلْنَاها " الأوَّل ، وأن تكون مستأنفةٌ جواباً لسُؤالٍ مقدَّرٍ ، وقرأ هارون بن الحكم " تتغَنَّ " ، بتاءين بزنة تتفعَّل ؛ كقول الأعشى : [ المتقارب ] @ 2887 - … طَويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنْ @@ وهو بمعنى : الإقامة ، وقد تقدَّم في الأعراف ، وقرأ الحسن ، وقتادة : " كأنْ لم يَغْنَ " بياء الغيبة ، وفي هذا الضمير ثلاثة أوجه : أجودها : أن يعود على الحصيد ؛ لأنَّه أقرب مذكور . وقيل : يعودُ على الزخرف ، أي : كأن لم يَقُم الزُّخْرُف . وقيل : يعودُ على النَّبات أو الزَّرع الذي قدَّرته مضافاً ، أي : كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونَبَاتُهَا . و " بالأمْسِ " : المرادُ به : الزَّمن الماضي ، لا اليوم الذي قبل يومك ؛ كقول زهير : [ الطويل ] @ 2888 - وأعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمْسِ قبلهُ ولكنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما فِي غَدٍ عَمِ @@ لمْ يقْصِدْ بها حقائقها ، والفرقُ بين الأمسيْن : أنَّ الذي يُرَاد به قبل يومك مبنيٌّ ؛ لتضمُّنه معنى الألف واللاَّم ، وهذا مُعْرَبٌ تدخل عليه " ألْ " ويضافُ ، وقوله : " كَذلِكَ نُفَصِّلُ " نعت مصدرٍ محذُوف ، أي : مثل هذا التَّفصيل الذي فصَّلناه في الماضي ، نُفَصِّل في المستقبل . فصل معنى الآية : { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } في فنائها ، وزوالها { كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ } أي : بالمطر { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } قال ابن عباسٍ : نبت بالماءِ من كل لون { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ } : من الحُبُوبِ والثِّمار ، " وَٱلأَنْعَامُ " من الحشيش { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا } : حسنها ، وبهجتها ، وظهر الزهْرُ أخضرُ ، وأحمرُ ، وأصفرُ ، وأبيضُ ، " وَٱزَّيَّنَتْ " شبهها بالعروس ، إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون { وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } على جذاذها وقطافها وحصادها ، ردَّ الكناية إلى الأرض ، والمراد : النبات إذ كان مفهوماً ، وقيل : إلى الغلَّة ، وقيل : إلى الزِّينَة " أَتَاهَآ أَمْرُنَا " : قضاؤنا بالهلاك { لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } أي : محصودة مقطوعة ، وقال أبو عبيدة : " الحصيد : المستأصل " ، { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } من غني بالمكان : إذا أقام به . قال الليث " يقال للشيء إذا فني : كأن لم يَغنَ بالأمْسِ ، أي : كأنْ لمْ يَكُنْ " . فصل اعلم : أن تشبيهَ الحياة الدنيا بالنبات يحتملُ وجوهاً ، لخَّصها القاضي . أحدها : أنَّ عاقبةَ هذه الحياة التي يُنفقُهَا المرء في هذه الدنيا ، كعاقبة هذا النَّبات ، الذي حين عظُم الرَّجَاء في الانتفاع به ، وقع اليأس منه ؛ لأنَّ المُتَمسِّك بالدنيا ، إذا عظمت رغبتُه فيها ، يأتيه الموت ، وهو معنى قوله : { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [ الأنعام : 44 ] . وثانيها : أنَّه - تعالى - بيَّن أنَّه كما لم يحصل لذلك الزَّرْع عاقبةٌ تُحْمد ، فكذلك المُغترُّ بالدُّنْيَا المُحبُّ لها ، لا يحصل له عاقبة تحمد . وثالثها : أنَّ هذا التشبيه ، كقوله - تعالى - : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] أي : لمَّا صار سعي هذا الزَّرع باطلاً ، بسببِ حدوث المهلك ، فكذلك سعي المغترِّ بالدُّنْيَا . ورابعها : أنَّ مالكَ هذا البستان لمَّا أتْعَبَ نفسه في عمارته ، وكذلك الرُّوحَ ، وعلَّق قلبه بالانتفاع به ، فإذا حدث السببُ المهلكُ ، صار العناءُ الشديد ، الذي تحملُه في الماضي ، سبباً لحصول الشقاء الشَّديد لهُ في المستقبل ، وهو ما يحصُل في قلبه من الحشرات . فكذلك حالُ من أحبَّ الدنيا ، وأتعب نفسه في تحصيلها ، فإذا مات ، وفاتهُ كلُّ ما نال ، صار العناء الذي تحمَّله في تحصيل الدنيا ، سبباً لحُصُول الشقاء العظيم له في الآخرة . وخامسها : لعلَّه - تعالى - إنَّما ضرب هذا المثل لمنْ لا يُؤمن بالمعاد ؛ لأنَّا نرى الزَّرْع الذي انتهى إلى الغايةِ في الحسن ، ثمَّ إنَّ ذلك الحسنَ يزول بالكلِّيَّة ، ثم تصير تلك الأرضُ موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى ، فذكر - تعالى - هذا المثال ؛ ليدلَّ على أنَّ مَنْ قَدَر على ذلك ، كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة ؛ ليُجَازيَهُم على أعمالهم . قوله تعالى : { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ } الآية . لمَّا نفر العقلاء عن الميل إلى الدُّنيا ، رغَّبهُم في الآخِرة بهذه الآية ، قال قتادة : " السَّلام هو الله ، وداره الجنَّة " . وسمِّي الله - تعالى - بالسَّلام لوجوه : أحدها : أنَّه لمَّا كان واجب الوُجُودِ لذاته ، فقد سَلِمَ من الفناء والتَّغيير ، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير ، وهذه الصِّفةُ ليست إلاَّ له - سبحانه . وثانيها : وصف بالسلام ، أي : أنَّ الخَلْق سَلِمُوا من ظُلْمِهِ ؛ ولأنَّ كل ما سواه فهو مُلْكُه ومِلْكُه ، وتصرُّفُ المالك في ملك نفسه لا يكون ظُلْماً . وثالثها : قال المُبرِّد : " وصف بالسلام ، أي : لا يقدر على السَّلام إلاَّ هو ، والسَّلام : عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات ، وهو المنتصف للمظلُومين من الظالمين " وعلى هذا التقدير : السَّلام مصدر " سَلِمَ " . وقيل : سُمِّيت الجنَّة دارَ السلام ؛ لأنَّ من دخلها سلم من الآفات ، وقيل : المرادُ بالسَّلام : التَّحية ؛ لأنَّه - تعالى - يُسَلِّم على أهلها ، قال - تعالى - : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] ، والملائكةُ يُسلِّمُون عليهم أيضاً ، قال - تعالى - : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } [ الرعد : 23 ، 24 ] ، وهم يُحيُّون بعضهم بعضاً بالسَّلام ، قال - تعالى - : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ يونس : 10 ] . وروى جابرٌ ، قال : " جاءت ملائكةُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو نائمٌ ، فقالوا : إنَّ لصاحبكُم هذا مثلاً ، مثله كمثل رجُل بنى داراً ، وجعل فيها مأدُبَةً ، وبعثَ داعياً فمنْ أجاب الدَّاعِي ، دخل الدَّار ، وأكل من المَأدبة ، ومنْ لمْ يُجبِ الدَّاعي ، لم يدخُل الدَّار ، ولمْ يأكلْ من المأدُبةِ ، فالدَّارُ الجنَّة ، والدَّاعي محمَّدٌ ، فمن أطاع محمداً ، فقد أطاعَ اللهَ ، ومنْ عَصَى مُحمداً ، فقد عصى الله " . فصل قال ابن عبَّاسٍ : " الجِنان سبعٌ : دار الجلال ، ودار السَّلام ، وجنَّة عدن ، وجنَّةُ المأوى ، وجنَّة الخُلْدِ ، وجنَّة الفردوس ، وجنَّة النَّعيم " . ثم قال تعالى : { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } : وهو الإسلام . وروي عن عليِّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال : سمعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الصِّراط المستقيم : كتابُ الله . وقال قتادة ، ومجاهد : هو الحق . وقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر . واحتجَّ أهلُ السُّنَّة : على أنَّ الكفر والإيمان بقضاء الله - تعالى - ؛ لأنَّه - تعالى - بيَّن في هذه الآيةِ ، أنَّه دعا جميع الخلق إلى دارالسَّلام ، ثم بيَّن أنَّه ما هدى إلاَّ بعضهم ، فهذه الهدايةُ الخاصَّةُ ، يجبُ أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامَّة ، ولا شكَّ أنَّ الإقدار ، والتمكين ، وإرسال الرُّسُل ، وإنزال الكُتُب أمورٌ عامَّة ، فوجب أن تكون الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه الأشياء ، وما ذاك إلاَّ أنَّه - تعالى - خصَّه بالعلم والمعرفة ، دُون غيره . وأجاب القاضي بوجهين : الأول : أن المراد : ويهدي الله من يشاء ، إلى إجابة تلك الدَّعوة ، أي : أنَّ من أجاب الدُّعاء ، وأطاع واتَّقَى ، فإنَّ الله يهديه إليها . والثاني : أن المراد بهذه الهداية الألطافُ ، وأجيب عن هذين الوجهين ، بأنَّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية ، وما يكون واجباً ، لا يكون معلَّقاً بالمشيئةِ ، فامتنع حمله على ما ذكرتم .