Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 26-27)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } الآية . لمَّا دعا عبادهُ إلى دار السَّلام ، ذكر السَّعادات الحاصلة لهم فيها ، فقال : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ } أي : أحسنوا العمل في الدُّنيا ، فأتوا المأمورات ، واجتنبوا المنهيات . وقال ابن عبَّاسٍ : للذين ذكرُوا كلمة لا إله إلاَّ الله ، فأمَّا الحُسْنَى : فهي الجنَّة وأمَّا الزيادة : فقال أبو بكر الصِّدِّيق ، وحذيفة ، وأبو موسى ، وعبادة بن الصامت : هي النَّظرُ إلى وجه الله الكريم ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي . روى ابن أبي ليلى ، عن صهيبٍ قال : " قرأ رسُول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } قال : إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّة ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ ، نادى منادٍ : يا أهل الجنَّة : إنَّ لكم عند الله موعداً ، قالوا : ما هذا الموعدُ ، ألمْ يُثقِّل موازِيننا ، ويُبيض وُجوهنا ، ويدخِلْنَا الجنَّة ، ويُنْجِنَا من النَّارِ ؟ قال : فيرفعُ الحجابَ فينظرون إلى وجهِ الله - عزَّ وجلَّ - ، قال : " فما أعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إليهم من النَّظر إليْهِ " ويؤيد هذا قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] . وقالت المعتزلةُ : لا يجوزُ حملُ الزِّيادة على الرؤية ، لوجوه : أحدها : أنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على أنَّ رؤية الله - تعالى - ممتنعةٌ . وثانيها : أنَّ الزيادة يجبُ أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤيةُ الله - تعالى - ليست من جنس نعيم الجنَّة . وثالثها : أنَّ الحديث المرويَّ يوجب التشبيه ؛ لأنَّ النظر : عبارةٌ عن تقليب الحدقة ، إلى جهة المرئيِّ ، وذلك يقتضي كون المرئيِّ في الجهة ؛ لأنَّ الوجه اسم للعضو المخصوص ، وذلك يوجبُ التشبيه ، فثبت أنَّ هذا اللفظ ، لا يمكن حملُه على الرُّؤية ، فوجب حملهُ على شيء آخر . قال الجبائي : الحُسْنَى : هي الثَّواب المستحق ، والزِّيادة : ما يزيده الله على ذلك الثَّواب من التفضُّل ، كقوله - تعالى - : { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } [ فاطر : 30 ] ، ونقل عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، أنه قال : " الزِّيادة : غرفة من لُؤلؤة واحدة " . وعن ابن عبَّاسٍ : " الحُسْنَى : هي الحسنة ، والزِّيادة عشرُ أمثالها " ، وعن الحسن : " عشُر أمثالها إلى سبْعمائة ضعف " ، وعن مجاهد : " الزيادة : مغفرة من الله ورضوان " . وعن يزيد بن سمرة : " الزِّيادة : أن تمُرَّ السَّحابة بأهْلِ الجنَّة ، فتقول : ما تُرِيدُون أن أمطركُم ، فلا يُريدُون شيئاً إلاَّ أمطرتهم " . وأجاب أهل السُّنَّة عن هذه الوجوه ، فقالوا : أمَّا قولهم : إنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على امتناع رؤية الله - تعالى - ، فهذا ممنوع ؛ لأنَّا بيَّنا في كتب الأصُول : أن تلك الدلائل في غاية الفُتُور ، وثبت بالأخبارِ الصحيحة إثبات الرُّؤية ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " هل تُمَارُونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ ليس دُونهَا سَحَاب ؟ " حين سألوه عن رؤية الله - تعالى - ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " هل تُمارُونَ في رُؤيةِ القمرِ ليلة البدر ؟ " فوجب إجراؤها على ظواهرها . وقولهم : " الزِّيادة يجبُ أن تكُون من جنْسِ المزيد عليه " ، فنقول : المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معيَّن ، كانت الزِّيادةُ من جنسها ، وإذا كان مقدراً بمقدار غير معيَّن ، وجب أن تكون الزِّيادة مخالفة له ، مثال الأول : قول الرَّجُل لغيره : أعطيْتُك عشرة أمدادٍ من الحنطة وزيادة ، فتكون تلك الزيادة من الحنطة ، ومثال الثاني : قوله أعطيتك الحنطة وزيادة ، فيجبُ أن تكون الزِّيادة غير الحنطة . فلفظ : " الحُسْنَى " : وهي الجنَّة ، مطلقة ، وهي غير مقدَّرة بقدر معيَّن ، فتكون الزِّيادة شيئاً مغايراً لما في الجنة . وقولهم : " الحديثُ يدلُّ على إثبات الوجه ، وذلك يوجب التشبيه " ، فنقولُ : قام الدَّليل على أنَّه - تعالى - ليس بجسم ، ولم يقم الدَّليلُ على امتناع الرُّؤية ، فوجب ترك العمل بما قام الدَّليل على فساده . فصل قال أبو العبَّاس المقري : وردت الحُسْنَى على أربعة معان : الأول : بمعنى الجنَّة ، قال - تعالى - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] . الثاني : الحسنى : الصَّلاح ، قال - تعالى - : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } [ التوبة : 107 ] أي : الصَّلاح . الثالث : البنون ، قال - تعالى - : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } [ النحل : 62 ] أي : البنُون . الرابع : الخلف في النفقة ، قال - تعالى - : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } [ الليل : 5 - 6 ] أي : بالخلف ، ومثله { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } [ الليل : 9 ] . قوله : " وَلاَ يَرْهَقُ " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنها مستأنفةٌ . والثاني : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل في هذه الحال : الاستقرار الذي تضمَّنَهُ الجارُّ ، وهو " للَّذين " لوقوعه خبراً عن " الحُسْنَى " ، قاله أبو البقاء ، وقدَّره بقوله : " استقرَّ لهم الحسنى ، مضموناً لهم السَّلامة " ، وهذا ليس بجائزٍ ؛ لأنَّ المضارع متى وقع حالاً منْفيَّا بـ " لا " ، امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت ، وإن ورد ما يُوهم ذلك ، يُؤوَّل بإضمار مبتدأ ، وقد تقدَّم تحقيقه مراراً [ المائدة : 54 ] . والثالث : أنها في محلِّ رفع نسقاً على " الحُسْنَى " ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدريٍّ ، يصحُّ جعلُه معه مخبراً عنه بالجارِّ ، والتقدير : للذين أحسنوا الحسنى ، وأنْ لا يرهق ، أي : وعدم رهقهم ، فلمَّا حذفت " أنْ " رفع الفعلُ المضارع ؛ لأنَّه ليس من مواضع إضمار " أن " الناصبة ، وهذا كقوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] أي : أن يريكم ، وقوله : " تسْمَع بالمُعَيدي ، خيرٌ من أن تراه " . وقوله : [ الطويل ] @ 2889 - ألاَ أيُّهَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغَى … @@ أي . أن أحضر ، روي برفع " أحْضُر " ونصبه ، ومنع أبو البقاء هذا الوجه ، وقال : " ولا يجوز أن يكون معطوفاً على " الحُسْنَى " ؛ لأنَّ الفعل إذا عطف على المصدر ، احتاج إلى " أنْ " ذكراً ، أو تقديراً ، و " أنْ " غير مقدَّرة ؛ لأن الفعل مرفوعٌ " . فقوله : " وأنْ غيرُ مقدَّرةٍ ؛ لأنَّ الفعل " مرفوع " ليس بجيِّد ؛ لأن قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] معه " أنْ " مقدَّرة ، مع أنه مرفوع ، ولا يلزم من إضمار " أنْ " نصب المضارع ، بل المشهور أنَّهُ : إذا أضمرت " أنْ " في غير المواضع التي نصَّ النحويُّون على إضمارها فيها ناصبة ، ارتفع الفعلُ ، والنصب ] قليلٌ جدّاً . فصل والرَّهق : الغشيان ، يقال : رَهِقَهُ يَرْهقُه رَهَقاً ، أي : غشيهُ بسرعة ، ومنه { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي } [ الكهف : 73 ] ، { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [ الجن : 13 ] . يقال : رَهِقْتُه وأرْهَقْتُه نحو : رَدِفْتُه وأرْدَفْتُه ، ففعل وأفعل بمعنًى ، ومنه : " أرْهَقْت الصَّلاة " ، إذا أخَّرْتَها ، حتى غَشِي وقتُ الأخرى ، ورجلٌ مُرْهقٌ ، أي : يغشاه الأضياف . وقال الأزهريُّ : " الرَّهَقُ : اسم من الإرهاق ، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيقُ ، ويقال : أرْهَقْتُهُ عن الصَّلاةِ ، أي : أعْجَلْتُه عنها " . وقال بعضهم : أصل الرَّهقِ ، المقاربةُ ، ومنه غلامٌ مراهقٌ ، أي : قارب الحلم ، ومنه الحديث " ارْهَقُوا القبلة " ، أي : أقربُوا منها ، ومنه : رهقت الكلابُ الصَّيدَ ، أي : لحقته ، والقَتَر والقَتَرة ، الغُبَارُ معه سوادٌ ؛ وأنشدوا للفرزدق : [ البسيط ] @ 2890 - مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ المُلْكِ يتْبَعُهُ مَوْجٌ تَرَى فوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا @@ أي : غبار العسكر ، وقيل : القَتَرُ : الدُّخان ، ومنه : قُتارُ القِدْر ، وقيل : القَتْر : التَّقليل ، ومنه { لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] ، ويقال : قَتَرْتُ الشَّيء وأقْتَرْتُهُ وقتَّرته ، أي : قَلَّلتُه ، ومنه { وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] وقد تقدَّم ، والقترة ، نامُوس الصَّائد ، وقيل : الحفرة ، ومنه قول امرىء القيس : [ المديد ] @ 2891 - رُبَّ رامٍ من بَنِي ثُعلٍ مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِه @@ أي : في حُفرتهِ التي يحفُرها ، وقرأ الحسن ، وعيسى بن عمر ، وأبو رجاء ، والأعمش : " قَتْرٌ " ، بسكون التاء ، وهما لغتان : قَتْر وقَتَر ، كقَدْر وقَدَر . فصل المعنى : لا يَغْشَى وجوههم قتر : غبار ، جمع قترة ، وقال ابن عبَّاس ، وقتادة : سواد الوُجُوه ، " ولا ذلَّةٌ " : هوان ، وقال قتادة : " كآبة " قال ابن أبي ليلى : " هذا بعد نظرهم إلى ربِّهم " ، { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } إشارة إلى كونها دائمة ، آمنة من الانقطاع . قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } الآية . لمَّا شرح حال المسلمين ، شرح بعدهُ حال المُسيئين . قوله : { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ } : فيه سبعةُ أوجه : أحدها : أن يكون " والذين " : نسقاً على " لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ " ، أي : لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى ، والذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها ، فيتعادل التَّقسيم ، كقولك : في الدَّار زيدٌ ، والحجرة عمرٌو ، وهذا يسمِّيه النحويُّون : عطفاً على معمولي عاملين ، وفيه ثلاثة مذاهب : أحدها : الجواز مطلقاً ، وهو قول الفرَّاء . والثاني : المنعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه . والثالث : التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو : في الدَّار زيدٌ ، والحجرة عمرو ، فيجوز ، أو لا ، فيمتنع نحو : إن زيداً في الدَّار ، وعمراً في القصر ، أي : وإنَّ عمراً في القصر ، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ ، كقوله - تعالى - : { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ آيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الجاثية : 5 ] بنصب " آيَات " في قراءة الأخوين ، على ما سيأتي ؛ كقوله : [ المتقارب ] @ 2892 - أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا @@ وقول الآخر : [ الرجز ] @ 2893 - أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرَّا بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرَّا @@ وسيأتي لهذا مزيد بيان - إن شاء الله - ، وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الموصول مجرورٌ عطفاً على الموصول قبله : ابن عطيَّة ، وأبو القاسم الزمخشري . الثاني : أن " الَّذينَ " مبتدأ ، و " جَزَآءُ سَيِّئةٍ " مبتدأ ثانٍ ، وخبره " بِمثلها " ، والباء فيه زائدةٌ ، أي : وجزاءُ سيئةٍ مثلها ، كقوله - تعالى - : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] كما زيدتْ في الخبرِ ، كقوله : [ الوافر ] @ 2894 - فَلاَ تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ @@ أي : شيء يُستطاع . وكقول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 2895أ - فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ @@ أي : المُجرِّب ، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية . الثالث : أنَّ الباء ليست بزائدةٍ ، والتقدير : مقدَّر بمثلها ، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول . والرابع : أنَّ خبر " جزاء سيَّئةٍ " محذوفٌ ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله : " لهم جزاءُ سيئة " ، قال : ودلَّ على تقدير " لَهُمْ " ، قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ } حتى تتشاكل هذه بهذه ، وقدَّرهُ أبو البقاء : جزاءُ سيِّئة مثلها واقع ، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول ، وعلى هذين التقديرين ، فالباء متعلقةٌ بنفس " جزاءُ " ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ ، قال - تعالى - : { جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } [ سبأ : 17 ] ، { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } [ الإنسان : 12 ] إلى غير ذلك . فإن قلت : أين الرَّابطُ بين هذه الجملة ، والموصول الذي هو المبتدأ . قلت : على تقدير الحوفيِّ ، هو الضمرُ المجرور باللاَّم المقدَّر خبراً ، وعلى تقدير أبي البقاء : هو محذوفٌ ، تقديره : جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ ، نحو : " السَّمْنُ منوانِ بدرهم " ، وهو حذفٌ مُطَّرِد ، لما عرف . الخامس : أن يكون الخبرُ ، الجملة المنفيَّة من قوله : { مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } ، ويكون " مِنْ عَاصمٍ " إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله ؛ لاعتماده على النَّفي ، وإمَّا مبتدأ ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه ، و " مِنْ " مزيدة فيه على كلا القولين ، و " مِنَ الله " متعلِّق بـ " عَاصِم " ، وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ ، وفي ذلك خلافٌ عن الفارسيِّ تقدَّم التنبيهُ عليه ، وما استدلَّ به عليه . السادس : أنَّ الخبر هو الجملةُ التشبيهيَّة ، من قوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ } ، و " كأنَّما " حرف مكفوف ، و " مَا " هذه زائدة ، تُسمَّى كافَّة ومُهيئة ، وتقدَّم ذلك [ البقرة : 11 ] . وعلى هذا الوجه ، فيكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بثلاث جمل اعتراضٍ . السابع : أنَّ الخبر هو الجملة من قوله : { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } ، وعلى هذا القول ، فيكون قد فصل بأربع جمل معترضة . وهي : { جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } . والثانية : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } . والثالثة : { مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } . الرابعة : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ } ، وينبغي أن لا يجُوزَ الفصل بثلاث جُمل فضلاً عن أربع . قوله : " وَتَرْهَقُهمْ " فيها وجهان : أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب على الحال ، ولم يُبيِّنْ أبو البقاء صاحبها ، وصاحبها هو الموصولُ أو ضميره ، وفيه ضعفٌ ؛ لمباشرته الواو ، إلاَّ أنْ يجعل خبر مبتدأ محذوف . الثاني : أنَّها معطوفةٌ على " كَسَبُوا " . قال أبو البقاء : وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّ المستقبل لا يعطفُ على الماضي ، فإن قيل : هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً ، وقرىء : " ويرْهَقُهمْ " بالياء من تحت ؛ لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ . قوله : " قطعاً " قرأ ابنُ كثير ، والكسائي ، " قِطْعاً " بسكون الطاء ، والباقون بفتحها : " فأمَّا القراءة الأولى فاختلفت عبارات النَّاس فيها : فقال أهل اللغة : " القِطْع " : ظُلْمَة آخر الليل . وقال الأخفش في قوله : { بِقِطْعٍ مِّنَ ٱللَّيْلِ } [ الحجر : 65 ] بسواد من الليل ، وقال بعضهم : " طائف من الليل " ، وأنشد الأخفش : @ 2895ب - افتحي الباب فانظري في النجومِ كم علينا من قطعِ ليلٍ بهيم @@ وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ " قطعة " نحو : دِمْنة ودِمَن ، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب " مظلماً " ، فإنه على قراءة الكسائي وابن كثير يجوز أن يكون نعتاً لـ " قِطْعاً " ، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد ، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه حالٌ من " قِطْعاً " ، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو " من الليل " . والثاني : أنه حالٌ من " الليل " . والثالث : أنه حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة . قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جعلت " مظلماً " حالاً من " الليل " فما العاملُ فيه ؟ قلت : لا يخلو : إما أن يكون " أغْشِيَتْ " من قبل أنَّ " من الليل " صفةٌ لقوله : " قِطْعاً " ، وكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة ، وإما أن يكون معنى الفعل في " من الليل " . قال أبو حيان : " أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصل أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في ذي الحال ، والعاملُ في " من الليل " هو الاستقرار ، و " أغْشِيَتْ " عاملٌ في قوله : " قطعاً " الموصوف بقوله : " من الليل " فاختلفا ، فلذلك كان الوجهُ الأخير أولى ، أي : قطعاً مستقرة من الليل ، أو كائنة من الليل في حال إظلامه " . وقال شهاب الدِّين : ولا يعني الزمخشري بقوله : " إنَّ العامل أغْشِيَتْ " ، إلاَّ أن الموصوف ، وهو " قِطْعاً " معمول لـ " أغْشِيَتْ " ، والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصِّفة . قال شهاب الدين : والصِّفةُ هي " مِنَ الليل " فهي معمولةٌ لـ " أغْشِيَتْ " ، وهي صاحبةُ الحال ، والعامل في الحالِ هو العاملُ في ذي الحال ، فجاء من ذلك أنَّ العامل في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقة ، ويجوز أن يكون " قِطْعاً " : جمع قِطْعَة ، أي : اسم جنسٍ لها ، فيجُوزُ حينئذٍ وصفُه بالتَّذكير ، نحو : { نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ، والتأنيث ، نحو : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] . وأمَّا قراءة الباقين ، فقال مكِّي ، وغيره : إنَّ " مظلماً " حالٌ من " اللَّيْلِ " فقط ، ولا يجوز أن يكون صفة لـ " قِطعاً " ، ولا حالاً منه ، ولا من الضمير في " مِنَ اللَّيل " ؛ لأنَّه كان يجبُ أن يقال فيه : مظلمةٌ ، يعنُون : أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ ، وكذا صاحب الحال ، فتجب المطابقةُ . وأجاز بعضهم ما منعهُ هؤلاء ، وقالوا : جَازَ ذلك ؛ لأنَّه في معنى الكثير ، وهذا فيه تعسُّفٌ . وقرأ أبيٌّ " يَغْشَى وجوههم قطع " بالرفع ، و " مُظْلمٌ " ، وقرأ ابن أبي عبلة كذلك ، إلاَّ أنَّه فتح الطَّاء . وإذا جعلتَ " مُظْلماً " ، نعتاً لـ " قِطْعاً " ، فتكون قد قدَّمتَ النَّعْتَ غير الصَّريح على الصَّريح . قال ابن عطيَّة : فإذا كان نعتاً - يعني : مُظلماً : نعتاً لقطع - فكان حقه أن يكون قبل الجملة ، ولكن قد يجيء بعد هذا ، وتقدير الجملة : قطعاً استقرَّ مظلماً ، على نحو قوله : { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 92 ] . قال أبو حيَّان : " ولا يتعيَّن تقدير العامل في المجرور بالفعل ، فيكون جملة ، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل ، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد ، والتقدير : قطعاً كائناً من اللَّيل مُظْلِماً " . قال شهاب الدِّين : " المحذُورُ تقديمُ غير الصَّريح على الصَّريح ، ولو كان مُقدَّراً بمفرد " ، و " قِطَعاً " : منصوبٌ بـ " أغْشِيتْ " ، مفعولاً ثانياً . فصل المعنى : { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } ؛ لقوله : { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] . والفرق بين الحسنات والسيئات : أنَّه إذا زاد في الحسنات يكون تفضُّلاً ، وذلك حسن ، وفيه ترغيبٌ في الطَّاعة ، وأمَّا الزِّيادة على قدر الاستحقاق على السيئات ، فهو ظلمٌ ، والله منزه عنه ، ثم قال : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : هوانٌ وتحقير { مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي : ما لهم عاصمٌ من الله في الدُّنيا ، ولا في الآخرة ، { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ } أي : أُلْبِسَتْ وجوههم ، { قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً } والمراد : سوادُ الوجه . وقال حكماء الإسلام : المرادُ من هذا السَّواد ، سوادُ الجَهْل ، وظلمةُ الضَّلالة ، فإنَّ العلم طبعه طبع النُّور ، والجهل طبعُه طبع الظُّلْمَة . قيل : المراد بقوله : { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } : الكفار ؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر ، قال تعالى : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ آل عمران : 106 ] وقال : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [ عبس : 40 - 42 ] . وقال القاضي : { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } عامٌّ يتناول الكافر ، والفاسق ، وأجيبُ : بأن الصيغة وإن كانت عامَّة ، إلاَّ أن الدلائل التي ذكرناها مخصِّصة ، ثم قال : { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }