Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 34-36)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } الآية . هذه هي الحجَّة الثانية عليهم . فإن قيل : القوم كانوا منكرين الإعادة ، والحشر ، والنشر ، فكيف احتجَّ عليهم بذلك ؟ فالجواب : أنَّه - تعالى - قدَّم في هذه السورة ما يدلُّ عليه ، وهو وجوب التمييز بين المُحْسِن والمُسيءِ ، وهذه الدَّلالة دلالةٌ ظاهرةٌ قويَّة ، لا يمكن للعاقل دفعها ؛ فلأجْلِ قُوَّتها ، وظهورها تمسَّك بها ، سواء الخَصْم عليها ، أو لا . فإن قيل : لِمَ أمر رسوله أن يعترف بذلك ، والإلزام إنَّما يحصلُ لو ا عترف الخصمُ به ؟ . فالجوابُ : أنَّ الدَّليل لمَّا كان ظاهراً جليّاً ، فإذا أورد على الخَصْم في معرض الاستفهام ، كأنَّه بنفسه يقول : الأمر كذلك ، فكان هذا تنبيهاً ، على أنَّ هذا الكلام بلغ في الوُضوح ، إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به ، وأنَّه سواء أقرَّ ، أو أنكَرَ ، فالأمرُ متقرِّر ظاهرٌ . قوله : { قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ } : هذه الجملةُ جوابٌ لقوله : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ، وإنَّما أتى بالجواب جملة اسمية ، مصرَّحاً يجزأيها ، مُعَاداً فيها الخبر ، مطابقاً لخبر اسم الاستفهام ؛ للتأكيد ، والتَّثبيتِ ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا ، لا مندوحة لهُم عن الاعتراف به ، جاءت الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جزأيها ، في قوله : { فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ } [ يونس : 31 ] ، ولم يَحْتَجْ إلى التَّأكيد بتصريح جزأيها . فصل قال القرطبيُّ : ومعنى الآية : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ } ينشئه من غير أصل ، ولا سبق مثال : " ثُمَّ يُعِيدُهُ " : يُحْييه بعد الموت كهَيْئتِهِ ، فإن أجابُوك ، وإلاَّ فـ { قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ، ثم قال : { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي : تصرفون عن قصد السَّبيل ، والمُراد : التَّعجُّب منهم في الدُّنْيَا من هذا الأمر الواضح الذي دعاهُم الهوى والتَّقليد إلى مخالفته ؛ لأنَّ الإخبار عن كون الأوثان آلهةً كذب ، وإفكٌ الاشتغال بعبادتها ، مع أنَّها لا تستحق العبادة أيضاً إفكٌ . قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } الآية . وهذه حجَّة ثالثة . واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً ، ثم بالهداية ثانياً ، عادة مُطَّردة في القرآن ، قال - تعالى - حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ، وحكى عن موسى - عليه الصلاة والسلام - في جوابه لفرعون : { رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] ، وأمر محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - فقال : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 1 - 3 ] . واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد ، هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الرُّوح ، هو الهدايةُ . والمقصودُ من خلق الجسدِ : حصول الهداية للرُّوح ، كما قال - تعالى - : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] ، وهذا كالتَّصريح بأنَّه تعالى إنَّما خلق الجسد ، وأعطى الحواسّ ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف ، والعلم . قوله : { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } ، قد تقدَّم في أول الكتاب : أنَّ " هَدَى " يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما : إمَّا باللاَّم أو بإلى ، وقد يحذفُ الحرفُ تخفيفاً [ الفاتحة : 6 ] ، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر ، فعدَّى الأول والثالث بـ " إلى " ، والثاني باللاَّم ، وحذف المفعول الأول من الأفعال الثلاثة ، والتقدير : هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق ، قل الله يهدي من يشاء للحقِّ ، أفمنْ يهدي غيره إلى الحقِّ ، وزعم الكسائي ، والفرَّاء ، وتبعهما الزمخشري : أنَّ " يَهْدِي " الأول قاصرٌ ، وأنَّه بمعنى : اهتدى ، وفيه نظر ؛ لأنَّ مقابله ، وهو { قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } متعدٍّ ، وقد أنكر المبرِّدُ أيضاً مقالة الكسائي ، والفراء ، وقال : لا نَعْرِفُ " هَدَى " بمعنى : " اهتدى " . قال شهاب الدِّين " الكسائي والفرَّاء أثبتاه بما نقلاه ، ولكن إنَّما ضعف ذلك هنا ؛ لما ذكرتُ لك من مقابلته بالمتعدِّي ، وقد تقدَّم أنَّ التعدية بـ " إلى " أو اللاَّم ، من باب التَّضمن في البلاغة ، ولذلك قال الزمخشري : " يقال : هداه للحقِّ وإلى الحقِّ ، فجمع بين اللغتين " ، وقال غيره : " إنَّما عدَّى المسند إلى الله باللاَّم ؛ لأنَّها أدلُّ في بابها على المعنى المراد من " إلى " ؛ إذ أصلها لإفادة الملك ، فكأنَّ الهداية مملوكةٌ لله - تعالى - " . وفيه نظر ؛ لأنَّ المراد بقوله : { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } هو الله - تعالى - ، مع تعدِّي الفعل المسند إليه بـ " إلى " . قوله : { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ } : خبرٌ لقوله : " أَفَنْ يَهْدِيۤ " ، و " أنْ " في موضع نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حذف الخافض ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، وتقدير هذا كلّه : أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يهدي . ذكر ذلك مكِّي بن أبي طالب ، فجعل " أحَقُّ " هنا على بابها من كونها للتفضيل ، وقد منع أبو حيَّان كونها للتَّفضيل ، فقال : و " أحَقُّ " ليست للتفضيل ، بل المعنى : " حَقيقٌ بأن يُتَّبع " ، وجوَّز مكِّي أيضاً في المسألة وجهين آخرين : أحدهما : أن تكون " مَنْ " مبتدأ أيضاً ، و " أنْ " في محلِّ رفعٍ ، بدلاً منها بدل اشتمال ، و " أحَقُّ " خبرٌ على ما كان . والثاني : أن يكون " أنْ يُتَّبَع " في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و " أحَقُّ " خبره مقدَّمٌ عليه . وهذه الجملة خبر لـ " مَنْ يَهْدِي " ، فتحصَّل في المسألة ثلاثة أوجُه . قوله : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ } : نسقٌ على " أفَمَنْ " ، وجاء هنا على الأفصح ، مِنْ حيث إنَّهُ قد فصل بين " أمْ " وما عُطفتْ عليه بالخبر ، كقولك : أزَيْدٌ قائمٌ أم عمرو ، ومثله : { أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ } [ الفرقان : 15 ] ، وهذا بخلاف قوله - تعالى - : { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 109 ] وسيأتي هذا في موضعه ، وقرأ أبو بكر عن عاصمٍ : بكسر ياء " يهدِّي " وهائه ، وحفص بكسر الهاء دون الياء ، فأما كسر الهاء ؛ فلالتقاء الساكنين ، وذلك أنَّ أصله " يَهْتَدِي " ، فلمَّا قُصِدَ إدغامُه سكنتِ التاء ، والهاءُ قبلها ساكنة ، فكسرت الهاءُ لالتقاء الساكنين ، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر ، وقال أبو حاتم : في قراءة حفصٍ " هي لغة سُفْلَى مُضَرَ " . ونقل عن سيبويه : أنَّه لا يجيز " يِهْدِي " ، ويجيز " تِهْدِي ، وإهْدِي " ، قال : " لأنَّ الكسرة تثقلُ في الياء " ، يعني : أنَّه يُجيز كسر حرفِ المضارعة من هذا النَّحو ، نحو : تِهْدِي ونِهْدِي وإِهْدِي ، إذ لا ثقل في ذلك ، ولم يجزهُ في الياء ؛ لثقل الحركة المجانسةِ لها عليها ، وهذا فيه غضٌّ من قراءة أبي بكرٍ ، لكنه قد تواتر قراءة ، فهو مقبولٌ ، وقرأ أبو عمرو وقالون ، عن نافعٍ : بفتح الياء ، واختلاس فتحة الهاء ، وتشديد الدَّال ، وذلك أنَّهُمَا لمَّا ثقَّلا الفتحة للإدغام ، اختلسا الفتحة ؛ تنبيهاً على أنَّ الهاءَ ليس أصلها الحركة ، بل السُّكون ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وورش : بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل ، وقد رُوي عن أبي عمرو ، وقالوا : اختلاسُ كسرةِ الهاءِ ، على أصل التقاء الساكنين ، والاختلاسُ للتنبيه على أنَّ أصل الهاءِ السُّكون كما تقدَّم ، وقرأ أهلُ المدينة - خلا ورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدَّال ، وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمع بين السَّاكنين ، قال المبرد : " مَنْ رَامَ هذا ، لا بد أن يحرك حركة خفيَّة " قال أبو جعفر النَّحاس : لا يقدر أحدٌ أن ينطقَ به . قال شهاب الدِّين : " وقد قال في التيسير : " والنَّصُّ عن قالون بالإسكان " ، قلت : ولا بعد في ذلك ؛ فقد تقدَّم أنَّ بعض القُرَّاء يَقْرَأ { نِعْمَّا } [ النساء : 58 ] و { لاَ تَعْدُواْ } [ النساء : 154 ] بالجمع بين الساكنين ، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة ، في قوله { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } [ البقرة : 20 ] ، وسيأتي مثل هذا في { يَخِصِّمُونَ } [ يس : 49 ] . وقرأ الأخوان " يَهْدِي " بفتح الياء ، وسكون الهاء ، وتخفيف الدال ، من هدى يَهْدي ، وفيه قولان : أحدهما : أنَّ " هَدَى " بمعنى : اهتدى . والثاني : أنَّه متعدٍّ ، ومفعوله محذوفٌ كما تقدَّم ، وتقدم في قول الكسائي ، والفرَّاء في ذلك ، وردُّ المبرد عليهما . وقال ابن عطيَّة : " والذي أقول : قراءةُ حمزة ، والكسائيُّ ؛ تحتمل أن يكون المعنى : أمْ مَنْ لا يهدي أحداً ، إلاَّ أنْ يهدى ذلك الأحدُ بهداية الله ، وأمَّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها : أمْ مَنْ لا يهتدي ، إلاَّ أنْ يُهْدَى . فيتجه المعنى على ما تقدَّم " ، ثم قال : " وقيل : تمَّ الكلامُ عند قوله : " أمْ مَنْ لا يَهِدِّي " ، أي : لا يهدِّي غيره " ، ثم قال : " إلاَّ أنَّ يَهْدَى : استثناءٌ منقطع ، أي : لكنه يحتاجُ إلى أن يُهْدَى ، كما تقول : فلانُ لا يسمع غيره ، إلاَّ أنْ يسمع ، أي : لكنَّه يحتاجُ إلى أن يسمع " . انتهى ، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً ؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية ، بخلافِ الأصنام ، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له ، أي : لا يهدي لشيءٍ من الأشياء ، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره . قوله : " فَمَا لَكُمْ " : مبتدأ وخبر ، ومعنى الاستفهام هنا : الإنكارُ والتعجُّبُ ، أي : أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء ؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم ، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم ؟ وقد تقدَّم : أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب ، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده ، نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة : 84 ] إلى غير ذلك ، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً ؛ لأنَّها استفهاميَّة ، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً . وقوله : { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } : استفهامٌ آخر ، أي : كيْفَ تحكمُونَ بالباطل ، وتجعلُون لله أنْداداً ، وشُركاء ؟ . فصل المعنى : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ } : يرشد ، " إِلَى ٱلْحَقِّ " فإذا قالوا : لا ، ولا بدَّ لهم من ذلك { قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } أي : إلى الحقِّ { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } أي : الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع ، أم الصَّنم الذي لا يهتدي ، إلاَّ أنْ يُهْدَى ؟ فإن قيل : الأصنام جمادات لا تقبل الهداية ، فكيف قال : { إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } ، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي ، ولا أنْ يُهْدَى ؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أنَّ المراد من قوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } الأصنام ، والمراد من قوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } : رؤساء الكفر ، والضلال ، والدعاة إليهما ؛ لقوله - تعالى - : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] إلى قوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] أي : أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين ، بالدَّلائل العقليَّة ، والنقليَّة ، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم ، إلاَّ إذا هداهم الله ، فكان التَّمسك بدين الله ، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال . وثانيها : أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ : الانتقال ، والهدى : عبارة عن النَّقل والحركة ، يقال : أهديت المرأة إلى زوجها ، إذا انتقلت إليه ، والهَدْيُ : ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم ، وسميت الهديَّةُ هديَّة ؛ لانتقالها من شخص إلى غيره ، وجاء فلان يهادى بين رجلين ، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما ؛ لضعفه وتمايله . وإذا ثبت ذلك فالمرادُ : أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان ، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام . وثالثها : أنه ذكر الهداية على وجه المجاز ؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً ، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة ، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل ، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل . ورابعها : أنْ يُحْمل على التقدير ، أي : أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي ، فإنَّها لا تهدي غيرها ، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها ، ثم قال : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي : تَقضُون ، حين زعمتُم : أنَّ للهَ شريكاً . قوله : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً } الآية . أي : يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة ، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة ، " ظَنّاً " : لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ . وأراد بالأكثر ، جميع من يقول ذلك . وقيل : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً ؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم ، بل سمعُوه من أسلافهم ، وهذا القول أولى ؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ . قوله : " لاَ يُغْنِي " : خبرُ " إنَّ " ، و " شيئاً " منصوبٌ على المصدر ، أي : شيئاً من الإغناء ، و " منَ الحقِّ " نصبٌ على الحالِ من " شَيْئاً " ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له ، ويجُوزُ أن تكون " مِن " بمعنى " بدل " ، اي : لا يُغْنِي بدل الحقِّ ، وقرأ الجمهور : " يَفْعلُون " على الغيبة ، وقرأ عبد الله : " تَفْعَلون " خطاباً ، وهو التفاتٌ بليغٌ ، ومعنى الآية : إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً ، وقيل : لا يقوم مقام العلم . فصل تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية ، فقالوا : العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية ، وأجيبوا : بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس ، دليلٌ قاطعٌ ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً ، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً ، فأجابوا : بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى - ، لكان ترك العمل به كُفْراً ؛ لقوله - تعالى - : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ولمَّا لمْ يكُن كذلك ، بطل العمل به ، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة ، فقالوا : الحكم المستفاد من القياس : إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى - ، أو يظن ، أو لا يعلم ولا يظن . والأرض باطل ، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً ؛ لقوله - تعالى - : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ، وبالاتِّفاق ليس كذلك . والثاني : باطلٌ ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز ؛ لقوله - تعالى - : { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } . والثالث : باطلٌ ؛ لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوماً ، ولا مظنوناً ، كان مجرد التَّشهي ، فكان باطلاً ؛ لقوله - تعالى - : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] . وأجاب مثبتُو القياس : بأنَّ حاصل هذا الدَّليل ، يرجع إلى التَّمسك بالعمومات ، والتَّمسُّك بالعمومات لا يفيد إلاَّ الظن ، فإذا دلَّت العمومات ، على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ ، لزم كونها دالَّة على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ ، وما أفْضَى ثُبُوته إلى نفيه ، كان مَتْرُوكاً . دلَّت هذه الآيةُ : على أنَّ كلَّ من كان ظانّاً في مسائل الأصول ، ولم يكُن قاطعاً ؛ فإنَّه لا يكون مؤمناً . فإن قيل : فقول أهل السُّنَّة : أنَا مؤمنٌ - إن شاء اللهُ - ، يمنع من القطع ، فوجب أن يلزمَهُم الكفر . فالجواب من وجوه : الأول : مذهب الشافعي : أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع الاعتقادِ ، والإقرارِ ، والعمل ، والشَّك إنَّما هو في هذه الأعمال ، هل هي موافقةٌ لأمر الله - تعالى - ؟ والشَّك في أحد أجزاء الماهيَّة ، لا يوجب الشَّك في تمام الماهيَّة . الثاني : أنَّ الغرضَ من قوله : إن شاء اللهُ ، بقاء الإيمان عند الخاتمة . الثالث : الغرض منه هضم النَّفْس وكسرُها .