Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 37-44)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ } الآية . لمَّا تقدَّم قول القوم : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [ يونس : 20 ] ، وذكروا ذلك ؛ لاعتقادهم ؛ أنَّ القرآن ليس بمعجز ، وأنَّ محمداً أنَّما أتَى به من عند نفسه ؛ افتعالاً ، واختلافاً ، وذكر - تعالى - أجوبة كثيرة عن هذا الكلام ، وامتدَّت تلك البيانات إلى هذا الموضع ، بيَّن - تعالى - هنا : أنَّ إتيان محمَّد - عليه الصلاة والسلام - بهذا القرآن ، ليس هو افتراءٌ على الله - تعالى - ، وإنَّما هو وحي نازل عليه من عند الله ، وأنَّه مُبَرَّأ عن الافتعال ، والافتراء ، ثم احتجَّ على صحَّة هذا الكلام ، بقوله : { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] . قوله : " أن يُفْتَرَىٰ " : فيه وجهان : أحدهما : أنَّه خبرُ " كان " ، تقديره : وما كان هذا القرآن افتراء ، أي : ذا افتراء ، إذ جعل نفس المصدر مبالغةً ، أو يكون بمعنى : مُفْتَرى . والثاني : زعم بعضهم : أنَّ " أنْ " هذه هي المضمرة بعد لام الجُحُودِ ، والأصل : وما كان هذا القرآنُ ليفترى ، فلمَّا حذفتْ لامُ الجحود ، ظهرت " أنْ " ، وزعم : أنَّ اللاَّم ، و " أنْ " يتعاقبان ، فتحذف هذه تارة ، وتَثْبُت الأخرى ، وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه ، وعلى هذا القول ، يكون خبر " كان " محذُوفاً ، و " أنْ " وما في حيِّزها ، متعلقةٌ بذلك الخبر ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك [ البقرة143 ] ، و " مِن دُون اللهِ " متعلِّق بـ " يُفْتَرَى " والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائدٌ على القرآن . قوله : { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ } : عطف على خبر " كانَ " ووقعت " لكن " هنا أحسن موقع ؛ إذ هي بين نقيضين : وهُما التكذيبُ ، والتَّصْديقُ المتضمِّن للصدق . وقرأ الجمهور : " تَصْدِيقَ " و " تَفْصِيلَ " بالنصب ، وفيه أوجهٌ : . أحدها : العطفُ على خبر " كَانَ " كما تقدَّم ، ومثله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 40 ] . والثاني : أنَّه خبر " كَانَ " مضمرةٌ ، تقديره : ولكن كان تصديقَ ، وإليه ذهب الكسائيُّ ، والفرَّاء ، وابن سعدان ، والزجاج ، وهذا كالذي قبله في المعنى . والثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدَّر ، أي : وما كان هذا القرآنُ أن يفترى ، ولكن أُنزل للتَّصديق . والرابع : أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر أيضاً ، والتقدير : ولكن يُصدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب . وقرأ عيسى بن عمر " تَصْدِيقُ " بالرفع ، وكذلك التي في يوسف ، ووجه الرَّفْعُ على خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : ولكن هو تصديقُ ؛ ومثله قول الشاعر : [ الوافر ] @ 2903 - ولَسْتُ الشَّاعِرَ السَّفْسَافَ فِيهِمْ ولكِنْ مِدْرَهُ الحَرْبِ العَوانِ @@ برفع " مِدْرَهُ " ، على تقدير : أنَا مِدْرَهُ . وقال مكي : " ويجوز عندهما - أي الكسائي والفرَّاء - . الرَّفعُ على تقدير : ولكن هو تصديقُ " ، وكأنَّه لم يطَّلِعْ على أنَّها قراءةٌ ، وقد ورد في قراءات السَّبعة : التَّخفيفُ ، والتَّشديدُ في " لكن " ، نحو : { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ } [ البقرة : 102 ] ، { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] . قوله : " لاَ رَيْبَ فِيهِ " : فيه أوجه : أحدها : أن يكون حالاً من " الكتاب " وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه ؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى ، والمعنى : وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب . والثاني : أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب . والثالث : أنَّه معترضٌ بين " تَصْديقَ " ، وبين " من ربِّ العالمينَ " . قال الزمخشري : " فإن قلت : بِمَ اتَّصلَ قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ؟ . قلت : هو داخلٌ في حيِّز الاستدراك ، كأنَّه قيل : ولكن تصديقاً ، وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ ، كائناً من ربِّ العالمينَ ، ويجُوزُ أن يراد به : ولكن كان تصديقاً من ربِّ العالمين ، وتفصيلاً منه ، لا ريب في ذلك ، فيكون " من ربِّ العَالمينَ " : متعلِّقاً بـ " تَصْديقَ " ، و " تَفْصِيلَ " ، ويكون " لا رَيْبَ فيهِ " : اعتراضاً ، كما تقول : زيدٌ - لا شكَّ فيه - كريمٌ " . انتهى . قوله : " مِن ربِّ " : يجوز فيه أوجهٌ : أحدها : أن يكن متعلِّقاً بـ " تَصْدِيقَ " أو بـ " تَفْصِيلَ " وتكون المسألة من باب التنازع ، إذ يصحُّ أن يتعلَّق بكلٍّ من العاملين ، من جهة المعنى ، وهذا هو الذي أراد الزمخشري ، بقوله : فيكون " من ربِّ " : متعلقاً بـ " تَصْدِيقَ " ، و " تَفْصِيلَ " ، يعني : أنه متعلِّقٌ بكلٍ منهما ، من حيث المعنى ، وأمَّا من حيث الإعرابُ ، فلا يتعلَّق إلاَّ بأحدهما ، وأمَّا الآخرُ فيعملُ في ضميره ، كما تقدَّم تحريره ، والإعمالُ هنا حينئذٍ إنَّما هو للثَّاني ، بدليل الحذف من الأول . والوجه الثاني : أنَّ " مِن ربِّ " حال ثانية . والثالث : أنَّه متعلِّقٌ بذلك الفعل المقدَّر ، أي : أنزل للتَّصديق من ربِّ العالمين . فصل المعنى : وما ينبغي لمثل هذا القرآن ، أن يُفْتَرَى من دون الله ، كقوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] ، وقيل : " أنْ " بمعنى : اللاَّم ، أي : وما كان هذا القرآنُ ليُفْتَرى ، كقوله : { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] ، و { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 179 ] ، و { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } [ آل عمران : 179 ] أي : ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله ، والافتراءُ : الافتعال ، من أفريتُ الأديم : إذا قدَّرته للقطع ، ثم استعمل في الكذب ، كما استعمل قولهم : اختلق فلان الحديث في الكذب ، ثم إنَّهُ - تعالى - احتجَّ على صحَّةِ الدَّعوى بأمور : الأول : قوله : { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : إنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - كان رجُلاً أمِّيًّا ، لم يتعلَّم العِلْمَ ، وما كانت مكَّةُ بلدة العلماء ، وليس فيها شيء من كتب العلم ، ثم إنَّه - عليه الصلاة والسلام - أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين ، والقومُ كانوا في غاية العداوة لهُ ، فلوْ لمْ تكُن هذه الأقاصيص موافقة لما في التَّوراة ، والإنجيل ، لقدحوا فيه وبالغُوا في الطَّعن ، فلمَّا لم يقُل أحدٌ ذلك ، مع شدَّة حرصهم على الطَّعن فيه ، علمنا أنَّه أتى بتلك الأقاصيص ، مطابقة للتوراة والإنجيل ، مع أنَّه ما طالعهما ، ولا تتلمذ لأحدٍ فيهما ، فدلَّ ذلك : على أنَّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي . الحجة الثانية : أنَّ كتب الله المنزَّلة ، دلَّت على مقدم محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم في تفسير قوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] فكان مجيءُ محمَّد صلى الله عليه وسلم موافقاً لهما في تلك الكتب ، ومصدقاً لما فيها من الباشرة بمجيئه ، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه . والدليل الثاني : قوله تعالى : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } [ يوسف : 111 ] واعلم : أنَّ العُلُوم : إمَّا أن تكون دينيَّة ، أو ليست دينيَّة . والقسم الأول أرفع حالاً ، وأعظم شأناً من القسم الثاني ، والدينيَّة : إمَّا أن تكون علم العقائد والأديان ، أو علم الأعمال . فأما علم العقائد والأديان : فهو عبارةٌ عن معرفة ذاته ، ومعرفة صفات جلاله ، وصفات أفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل ، وتفاريعها ، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيءٌ من الكتب ، ولا يقرب منه . وأمَّا علم الأعمال فهو : إمَّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة ، وهو علم الفقه ، ومعلوم أنَّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن . وإمَّا عبارةٌ عن علم الباطن ورياضة القلوب ، ففي القرآن من مباحث هذا العلم ، ما لا يكادُ يوجدُ في غيره ، كقوله : { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] ، وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] الآية ، إلى غير ذلك . فثبت أنَّ القرآن مشتملٌ على تفاصيل جميع العُلُوم الشريفة ؛ فكان ذلك مُعْجِزاً . ثم قال : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } وذلك لأنَّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة ؛ لا بُدَّ وأن يقع فيه نوع من التناقض ، وحيثُ خلا هذا الكتاب عنه ، علمنا أنَّه من عند الله ، قال - تعالى - : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } الآية . لمَّا أقام الدَّلائل على أنَّ هذا القرآن ، لا يليقُ بحاله أن يكون مفترى ، أعاد مرَّةً أخرى بلفظ الاستفهام ، على سبيل الإنكار ، إبطال هذا القول ، فقال : " أم يقولون افتراه " ، وقد تقدَّم تقرير هذه الحجَّة في البقرة ، عند قوله : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] . قوله : " أم يقُولُونَ " : في " أمْ " هذه وجهان : أحدهما : أنَّها منقطعةٌ ، فتقدَّر بـ " بَلْ " ، والهمزة عند سيبويه ، وأتباعه ، والتقدير : بل أتقُولُون ، انتقل عن الكلامِ الأول ، وأخذ في إنكار قولٍ آخر . والثاني : أنَّها متصلةٌ ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذف جملةٍ ؛ ليصحَّ التعادلُ ، والتقدير : أيقرون به ، أم يقولون افتراهُ ، وقال بعضهم : " أمْ " هذه بمنزلة الهمزة فقط ، وعبَّر بعضهم عن ذلك ، فقال : " الميمُ زائدة على الهمزة " وهذا قولٌ ساقطٌ ؛ إذ زيادة الميم قليلةٌ جدّاً ، ولا سيَّما هنا ، وزعم أبو عبيدة : " أنها بمعنى : الواو ، والتقدير : ويقولون افتراه " . قوله : " قُلْ فَأْتُواْ " : جواب شرطٍ مقدَّر ، قال الزمخشري : " قُلْ : إنْ كان الأمرُ كما تزعمون ، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله ، فأنتم مثلي في العربيَّة ، والفصاحة ، والأبلغيَّة " . وقرأ عمرو بن فائد : " بسُورَةِ مثلِهِ " بإضافة " سُورة " إلى " مِثلِهِ " على حذف الموصول ، وإقامة الصِّفة مقامه ، والتقدير : بسورة كتاب مثله ، أو بسُورةِ كلام مثله ، ويجُوز أن يكون التقديرُ : فأتُوا بسورةِ بشرٍ مثله ، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على القرآنِ ، وأن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا في قراءة العامَّة ؛ فالضمير للقرآن فقط . فإن قيل : لِمَ قال في البقرة : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، وقال هنا : " فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ " ؟ . فالجواب : أنَّ محمداً - عليه الصلاة والسلام - كان أمِّيّاً ، لم يتلمذْ لأحدٍ ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة : " مِن مثلهِ " أي : فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّداً في هذه الصِّفات ، وعدم الاشتغال بالعُلُوم ، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة ، وحيث لا يقدرُون على ذلك ؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، في عدم التتلمذ والتَّعلم ، يكون معجزاً . وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها ؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا ؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور ؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا : " فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ " . فصل تمسَّك المعتزلة بهذه الآية : على أنَّ القرآن مخلوقٌ ؛ قالوا : إنَّه - عليه الصلاة والسلام - تحدَّى العرب بالقرآن ؛ والمراد بالتَّحدِّي : أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم ؛ فإذا عجزوا عنه ، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى - ، دالَّة على صدقه ، وهذا إنَّما يمكن ، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان القرآنُ قديماً ؛ لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به . وأجيبُوا : بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة ، القائمة بذات الله - تعالى - ، وعلى هذه الحروف والأصوات ، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات ، محدثة مخلوقة ، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة . ثم قال تعالى : { وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } : ممَّنْ تعبدُون { من دُونِ اللهِ } ليُعينُوكُم على ذلك ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أنَّ محمداً افتراه ، والمراد منه : كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة ، لو كانوا قادرين عليها وتقريره : أنَّ الجماعة إذا تعاونت ، وتعاضدت ، صارت تلك العقول الكثيرة ، كالعقل الواحد ، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده ، فكأنَّه - تعالى - يقول : هَبْ أنَّ عقل الواحد ، والاثنين منكم ، لا يفي باستخراج معارضة القرآن ، فاجتمعوا ، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة ، فإذا عرفتُم عجزكم حالة الاجتماع ، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة ، فحينئذٍ : يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة ، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها ؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله ، لا فعل البشر . فظهر بما تقرَّر : أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستٌّ : أولها : أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن ، في قوله : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] . وثانيها : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - تحدَّاهم بعشر سورٍ ، في قوله : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] . وثالثها : أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة ، في قوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] . ورابعها : تحدَّاهم بحديث مثله ، في قوله { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] . وخامسها : أنَّ في تلك المراتب الأربع ، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم ، ثُمَّ في سورة يونس : طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان ، سواء تعلَّم العلوم ، أو لم يتعلَّمها . وسادساً : أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق ، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم ، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة ، كما قال : { وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 38 ] ، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن . فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } يعني : كذَّبُوا بالقرآن ، ولم يحيطوا بعلمه . قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } : جملةٌ حاليةٌ من الموصول ، أي : سارعُوا إلى تكذيبه حال عدم إتيان التأويل ، قال الزمخشري : " فإن قلت : ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى - : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ؟ قلت : معناه : كذَّبُوا به على البديهة ، قبل التَّدبُّر ، ومعرفة التأويل " ، ثمَّ قال أيضاً : " ويجُوزُ أن يكون المعنى : ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب ، أي : عاقبته حتى يتبيَّن لهم : أكذبٌ هو ، أم صدقٌ " . انتهى . وفي وضعه " لَمْ " موضع " لمَّا " نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق ، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة بـ " لم " ، وجملة إتيانِ التأويل بـ " لمَّا " ؛ لأنَّ " لَمْ " للنَّفْي " المطلق على الصَّحيح ، و " لمَّا " لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ ، فالمعنى : أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار . فصل قيل المعنى : بل كذَّبُوا بالقرآن { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أي : عاقبةُ ما وعد الله في القرآن ؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة ، يريد : أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم . وقيل : كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص ، قالوا : ليس في هذا الكتاب ، إلاَّ أساطير الأولين ، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها ، ليس هو نفس الحكاية ، بل أمور أخرى ، وهي : بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم ، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل ، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة ، وأيضاً : تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية ؛ كما قال - تعالى - : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ } [ يوسف : 111 ] ، وأيضاً فهي دلالة على العجز ؛ لكون النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يتعلَّم ، ولم يتتلمذ لأحدٍ ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى - ، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 192 - 194 ] ، وقيل : إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور ، ولم يفهموها ، ساء ظنُّهم بالقرآن ؛ فأجاب - تعالى - بقوله : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، وقيل : إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً ، ساء ظنهم ، وقالوا : لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة ؛ فأجاب - تعالى - : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] ، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر ، وكانوا ألفُوا الحياة ، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت ، فكذَّبُوا بالقرآن ، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة ، والزكاة ، والعبادات ، قال القوم : إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا ، وعن طاعتنا ، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه ، فأجاب الله عنه ، بقوله : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، وبالجملة : فشبهات الكفار كثيرة ؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها ، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها ، لا جرم كذَّبوا بالقرآن . قوله : " كذلِكَ " : نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : مثل ذلك التَّكذيب ، كذَّب الذين من قبلهم ، أي : قبل النظر ، والتدبُّر . وقوله : { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ } كَيْفَ خبر لـ " كَانَ " ، والاستفهام معلِّقٌ للنَّظر . قال ابن عطيَّة : " قال الزجاج : " كَيْفَ " في موضع نصبٍ على خبر " كان " ، ولا يجوز أن يعمل فيها " انظر " ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، هذا قانونُ النحويِّين ؛ لأنَّهم عاملُوا " كَيْفَ " في كلِّ مكان معاملة الاستفهام المحض ، في قولك " كيف زيد " ، ولـ " كيف " تصرفاتٌ أخرى ؛ فتحلُّ محلَّ المصدر الذي هو " كيفيَّة " ، وتخلعُ معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكون منها . ومن تصرُّفاتها قولهم : " كُنْ كيفَ شِئْتَ " ، وانظر قول البخاريِّ : " كيف كان بدءُ الوحي ؛ فإنه لم يستفهم " . انتهى . فقول الزجاج : لا يجوز أن تعمل " انظر " في " كيف " ، يعني : لا تتسلَّط عليها ، ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحب عليها حكمُ الاستفهام ، وهكذا سبيلُ كُلِّ تعليقٍ . قال أبو حيَّان : " وقولُ ابن عطيَّة : هذا قانونُ النَّحويين … إلى آخره ، ليس كما ذكر ، بل لـ " كيف " معنيان : أحدهما : الاستفهامُ المحض ، وهو سؤال عن الهيئة ، إلاَّ أن يعلَّق عنها العامل ، فمعناها معنى الأسماء التي يستفهمُ بها إذا علِّق عنها العاملُ . والثاني : الشرط ؛ كقول العرب : " كيف تكونُ أكونُ " ، وقوله : ولـ " كيف " تصرفات إلى آخرة ليس " كيف " تحلُّ محلَّ المصدر ، ولا لفظ " كيفية " هو مصدرٌ ؛ إنَّما ذلك نسبةٌ إلى " كَيْف " ، وقوله : " ويحتمل أن يكون هذا الموضعُ منها ، ومن تصرُّفاتهم قولهم : كن كيْفَ شِئْتَ " لا يحتمل أن يكون منها ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ لها المعنى الذي ذكر ، من كون " كيف " بمعنى : " كيفية " ، وادِّعاءُ مصدرية " كيفية " . وأمَّا " كُنْ كيف شِئْتَ " : فـ " كَيْفَ " ليست بمعنى : " كيفية " ؛ وإنَّما هي شرطيَّةٌ ، وهو المعنى الثاني الذي لها ، وجوابها محذوفٌ ، التقدير : كيف شئت فكن ؛ كما تقول : " قُمْ مَتَى شِئْتَ " ، فـ " متى " اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه " قُمْ " ، والجواب محذوف ، تقديره : متى شئت فقم ، وحذف الجوابُ ؛ لدلالةِ ما قبله عليه ؛ كقولهم : " اضربْ زَيْداً إنْ أسَاءَ إليْكَ " ، التقدير : إن أساءَ إليك فاضْرِبْه ، وحذف " فاضْرِبه " لدلالة " اضرِبْ " المتقدِّم عليه ، وأمَّا قول البخاريُّ : " كيف كَانَ بَدْءُ الوحي " ؛ فهو استفهامٌ محضٌ : إمَّا على سبيل الحكاية ؛ كأنَّ سَائِلاً سأله ، فقال : كيف كان بدءُ الوحي . وإمَّا أن يكون من قوله هو ، كأنَّه سَألَ نفسه : كيف كان بدء الوحي ، فأجاب بالحديث الذي فيه كيفيَّة ذلك " . وقوله : " ٱلظَّالِمِينَ " من وضع الظَّاهر موضع المُضْمَر ، ويجوز : أن يراد به ضميرُ من عَادَ عليه ضمير " بَلْ كذَّبُوا " ، وأن يُرادَ به { ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } . ومعنى الآية : أنَّهم طلبُوا الدُّنْيَا ، وتركُوا الآخرة ، فبقُوا في الخسارِ العظيمِ ، وقيل : المراد : عذاب الاستئصال الذي نزل بالأممِ السَّابقة . قوله تعالى : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } الآية . لمَّا قال : { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ } والمراد منه : تسليط العذاب عليهم في الدُّنيا ، أتبعه بقوله : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } تنبيهاً على أنَّ الصَّلاح عنده - تعالى - كان في هذه الطائفة ، والأقربُ : أنَّ الضمير في قوله " بِهِ " يرجعُ إلى " العذاب " ؛ لأنَّه المذكور من قبل ، وقيل إلى : القرآن ، واختلفوا في قوله : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } لأنَّ " يُؤمِنُ " يصلح للحالِ ، والاستقبال ، فحمله بعضهم على الحال ، أي : ومنهم من يُؤمِنُ بالقرآن باطناً ؛ لكنَّه يتعمد الجحد . ومنهم من باطنه كظاهره . وقيل : المراد : الاستقبال ، أي : ومنهم من يؤمنُ به في المستقبل ؛ بأنْ يتوب عن الكفر ، ومنهم من يُصِرُّ على الكفر . { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِٱلْمُفْسِدِينَ } أي : بأحوالهم ، أي : هل يبقُوا على الكفر أو يتُوبُوا . ثم قال : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي } ، وجزاؤه " ولكُم عملُكُم " ، وجزاؤه { أَنتُمْ بَرِيۤئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] ، هذا كقوله - تعالى - : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } [ الشورى : 15 ] ، ومعنى الكلام : الردع والزجر ، وقيل : معناه : استمالة قلوبهم ، قال مقاتلٌ والكلبيُّ : " هذه الآية منسوخة بآية السيف " ، وهذا بعيدٌ ؛ لأنَّ شرط النَّاسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخِ ، ومدلُول هذه الآية : اختصاص كلِّ واحد بأفعاله ، وثمراتها من الثواب والعقاب ، وذلك لا يقتضي حرمة القتال ، فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية ، فكان القولُ بالنسخ باطلاً . قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } الآية . لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى : " مَنْ يُؤمن ، ومن لا يُؤمن ، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين : منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فوصف ههنا القسم الأوَّل ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } مع أنَّه يكون كالأصمِّ ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام ، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر ، كان مُعرضاً عن سماع كلامه ، ولا يلتفتُ إليه ، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت ، والعمى في العين يمنع إدراك البصر ، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه ، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه . قوله : " مَّن يَسْتمِعُونَ " : مبتدأ ، وخبره الجارُّ قبله ، وأعاد الضمير جمعاً ؛ مراعاة لمعنى " مَنْ " ، والأكثر مراعاة لفظه ، كقوله : { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } [ يونس : 43 ] . قال ابن عطيَّة : " جاء ينظرُ على لفظ " مَنْ " ، وإذا جاء على لفظها ، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى ، وإذا جاء أولاً على معناها ، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ " . قال أبو حيَّان : " وليس كما قال ، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً ، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى : من تأنيثٍ ، وتثنيةٍ ، وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً ، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [ البقرة8 ] . فصل أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان ، والتَّوفيق به لا بغيره ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } بأسماعهم الظاهرة ، ولا ينفعهم ، { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ } يريد : صمم القلب { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } : بعينه الظاهرة ولا ينفعه ، { أَفَأَنْتَ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ } يريد : عَمَى القلب ، { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - عليه الصلاة والسلام - يقول : إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع ، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر ، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن . والمقصُود : إعلامُ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - : بأنهم قد بلغُوا في معرض العقل ، إلى حيث لا يقبلُون العلاج ، فالطَّبيبُ إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج ، أعرض عنهُ ، ولم يستوحشْ من عدم قُبُولهِ للعلاج ، فكذلك أنت لا تستوحش من حالِ هؤلاءِ الكُفَّار . فصل احتج أهلُ السُّنَّة بهذه الآية : على أنَّ أفعالَ العباد من الله ؛ لأنَّ الآية دلَّت على : أنَّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان ، كالأصمِّ بالنسبة إلى استماع الكلام . وكالأعْمَى بالنسبة إلى نظر الأشياء ، فكما أنَّ هذا ممتنع ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيارِ الإنسان ، واحتجَّ المعتزلةُ على صحَّة قولهم ، بقوله - تعالى - بعدها : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس : 44 ] فدلَّ ذلك على : أنَّه - تعالى ما ألْجَأ أحداً إلى فِعْل القبائح ، ولكنَّهم يقدمُون عليها باختيارهم ، وأجاب الواحدي : " بأنَّه - تعالى - إنَّما نفى الظلم عن نفسه ؛ لأنَّه يتصرف في ملك نفسه ، ومن كان كذلك ، لم يكن ظالماً ، وإنَّما قال : { وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لأنَّ الفعل منسوبٌ إليهم بسبب الكسب " . فصل احتجَّ ابن قتيبة بهذه الآية ، على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر ؛ لأنَّه - تعالى - قرن بذهاب السَّمع ، ذهاب العقل ، ولم يقرن بذهاب النَّظَر ، إلاَّ ذهاب البصر ، فكان السَّمْع أفضل من البصر ، وردَّه ابن الأنباري : بأنَّ الذي نفاهُ اللهُ من السَّمْع ، بمنزلة ما نفاهُ من البصر ؛ لأنَّه - تعالى - أراد إبصار القلوب ، ولم يُرِدْ إبصار العُيُون ، والذي يُبْصِره القلب ، هو الذي يعقله . واحتجَّ ابن قتيبة بحجة أخرى ، فقال : كُلَّما ذكر الله السَّمع في القرآن ، فإنَّه غالباً يقدم السَّمع على البصر ، فدل على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر ، وذكر بعضُ النَّاس في تفضيل السمع على البصر وجوهاً أخر . أحدها : أنَّ العمى قد وقع في حقِّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وأمَّا الصَّمم فغير جائز عليهم ؛ لأنَّه يخلُّ بأداء الرِّسالة ؛ لأنَّه إذا لم يسمع كلام السائلين ، تعذَّر عليه الجواب ، فيعجزُ عن تبليغ الشَّرائع . وثانيها : أنَّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات ، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلاَّ من الجهة المقابلة وحدها . وثالثها : أنَّ الإنسانَ إنَّما يستفيد العلم من أستاذه ، وذلك لا يمكن إلاَّ بقوَّة السمع ، ولا يتوقفُ على قوَّة البصر ، فكان السَّمعُ أفضل . ورابعها : أنَّه - تعالى - قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ ق : 37 ] ، والمراد بالقلب ههنا : العقل ، فجعل السَّمع قريناً للعقل ، ويؤيِّده قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] فجعلوا السَّمع سبباً للخلاص من عذاب السَّعير . وخامسها : أنَّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات ؛ هو النُّطق والكلام ، وإنما ينتفع بذلك القوَّة السَّامعة ، فمتعلق السمع : النطق الذي شرف الإنسان به ، ومتعلَّق البصر : إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر يشترك فيه النَّاس ، وسائر الحيوانات ؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر . وسادسها : أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يراهم النَّاس ، ويسمعُون كلامهم ؛ فنُبوَّتهم ما حصلت بما معهم من الصِّفات المرئيَّة ، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة ، وهو تبليغ الشرائع والأحكام ؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيِّ ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر . وقال آخرون : البصر أفضلُ من السَّمع لوجوه : الأول : قولهم في المثل : " ليس ورَاءَ العيانِ بيان " ، فدلَّ على : أنَّ أكمل وجوه الإدراك هو البصر . الثاني : أنَّ آلة القوَّة الباصرة ، هو النُّور ، وآلة القوة السَّامعة هي الهواء ، والنُّور أشرف من الهواء ، فالقوَّة الباصرة أشرف من القوة السَّامعة . الثالث : أنَّ عجائب حكمة الله - تعالى - ، في تخليق العين التي هي محل الإبصار ؛ أكثر من عجائب خلقته في الأذن ، التي هي محل السماع ، فإنَّه - تعالى - جعل تمام روح واحد من الأرواح السَّبعة الدِّماغيَّة من العصب ، آلة للإبصار ، وركَّب العين من سبع طبقات ، وثلاث رطوبات ، وجعل لحركات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة . والأذنُ ليس كذلك ، وكثرة العناية في تخليق الشيء ، يدل على أنَّه أفضل من غيره . الرابع : أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات ، والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ ؛ فكان البصرُ أقوى وأفضل ، وبهذا البيان يدفع قولهم : إنَّ السَّمع يدرك من كل الجوانب ، والبصر لا يدرك إلاَّ من الجانب الواحد . الخامس : أنَّ كثيراً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - سمع كلام الله في الدُّنيا ، واختلفوا : هل رآه أحدٌ في الدُّنْيَا أم لا ؟ وأيضاً : فإنَّ موسى أسمعه كلامه من غير سبق سؤال ، ولمَّا سأل الرُّؤية ، قال : { لَن تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] فدل على أنَّ حال الرُّؤية أعلى من حال السَّمْع . السادس : قال ابن الأنباري : كيف يكون السَّمعُ أفضل من البصر ، وبالبصر يحصل جمال الوجه ، وبذهابه عيبه ، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً ، والعربُ تسمي العينين الكريمتين ، ولا تصف السمع بمثل هذا ، ومنه الحديث ؛ يقول الله : " من أذهبت كريمتيه ، فصبر واحتسب ، لم أرض له ثواباً دون الجنة " . قوله تعالى : { لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً } يجوز أن ينتصب " شَيْئاً " على المصدر ، أي : شيئاً من الظلم ، قليلاً ولا كثيراً ، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً لـ " يَظْلِمُ " ، بمعنى : لا ينقص النَّاس شيئاً من أعمالهم . قوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ } قرأ الأخوان : بتخفيف " لكن " ومن ضرورة ذلك : كسرُ النُّونِ ؛ لالتقاءِ الساكنين وصلاً ، ورفع " النَّاس " ، والباقون بالتشديد ونصب " النَّاس " ، وتقدم توجيه ذلك في البقرة [ 102 ] ، ومعنى { لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً } ؛ لأنَّه في جميع أفعاله مُتفضل ، وعادل ، { وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } : بالكفر والمعصية .