Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 1-4)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" كِتَابٌ " يجوز أن يكون خبراً لـ : " ألف لام راء " ، أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ . قال الزجاج : هذا غلطٌ ؛ لأنَّ " الر " ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب : وهذا اعتراضٌ فاسدٌ ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ، ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره : ذلك كتابٌ . قال ابن الخطيب : " وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين " : الأول : أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله : " الر " كلاماً باطلاً لا فائدة فيه . والثاني : أنك إذا قلت : هذا كتابٌ ، فقولك : " هذا " يكون إشارة إلى الآيات المذكورات ، وذلك هو قوله : " الر " فيصير حينئذ " الر " مخبراً عنه بأنه { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } . وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [ البقرة : 2 ] قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } في محلِّ رفع صفةً لـ " كِتابٌ " ، والهمزةُ في " أُحْكِمَتْ " يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ ، أي : صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ ، كقوله : { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ } [ لقمان : 2 ] . ويجوز أن يكونَ من قولهم : " أحْكمتُ الدَّابَّة " إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ ؛ كقول جريرٍ : [ الكامل ] @ 2941 - أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا @@ فالمعنى : أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ . ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل ، من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ ، والمعنى : أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً . ويجوز أن يكون قوله : " أحْكِمَتْ " أي : لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها . قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - . قوله : " ثُمَّ فُصِّلَتْ " " ثُمَّ " على بابها من التَّراخي ؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ . وقرأ عكرمةُ والضحاكُ والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية " فَصَلَتْ " بفتحتين خفيفة العين . قال أبو البقاء : والمعنى : فرقَتْ ، كقوله : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [ البقرة : 249 ] ، أي : فارق وفسَّرها غيرهُ ، بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ ، وهو أحسنُ . وجعل الزمخشريُّ " ثم " للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ ، فقال : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " ؟ قلت : ليس معناها التَّراخِي في الوقت ، ولكن في الحالِ ، كما تقولُ : هي محكمةٌ أحسن الإحكام ، مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل ، وفلانٌ كريمُ الأصل ، ثُمَّ كريمُ الفعل . وقرىء أيضاً : " أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ " بإسناد الفعلين إلى " تاءِ " المتكلم ، ونصب " آياته " مفعولاً بها ، أي : أحكمتُ أنا آياته ، ثم فصَّلتها ، حكى هذه القراءة الزمخشري . فصل قال الحسن : أحكمت بالأمْر والنَّهي ، ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد وقال قتادةٌ : أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض . وقال مجاهدٌ : " فُصِّلتْ " أي : فسرت وقيل : " فُصِّلَتْ " أي : أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ } [ الأعراف : 133 ] ، وقيل : جعلت فصولاً : حلالاً ، وحراماً ، وأمثالاً ، وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً . فصل احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ : الأول : قال : المحكم هو الذي أتقنه فاعله ، ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن ، لَمْ يصحَّ ذلك ؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ ، ولا يجوز أن يقال : كان موجُوداً غير محكم ، ثم جعله الله مُحْكَماً ؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً ، ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ . الثاني : أنَّ قوله : " فُصِّلَتْ " يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق ، ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل . الثالث : قوله تعالى : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ، والمرادُ من عنده ، والقديمُ لا يقال : إنَّهُ حصل من عند قديم آخر ؛ لأنَّهما إن كانا قديمين ، لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس . وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ ، ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات . قوله : " مِن لَّدُنْ " أي : من عند ، يجُوزُ أن تكون صفة ثانية لـ " كِتَابٌ " وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك ، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني : " أحْكِمَتْ " أو " فُصِّلَتْ " ويكون ذلك من باب التنازع ، ويكون من إعمال الثاني ، إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وإليه نحا الزَّمخشري فقال : وأن يكون صلة " أحكمت " " فُصِّلتْ " ، أي : من عندهُ أحكامُها وتفصيلُها ، والمعنى : أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها ، أي : شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ . قال أبُو حيان : لا يريدُ أنَّ " مِنْ لدُن " متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب ، بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى ، وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً : ويجُوزُ أن يكون مفعولاً ، والعاملُ فيه فُصِّلَتْ . قوله : " أن لا تَعْبدُوا " فيه أوجهٌ : أحدها : أن تكون أنْ المخففة من الثَّقيلة ، و " لا تَعْبُدُوا " جملة نهي في محلِّ رفعٍ خبراً لـ " أنْ " المخففة ، واسمها على ما تقرَّر ضمير الأمر والشَّأن محذوفٌ . والثاني : أنَّها المصدرية النَّاصبة ، ووصلت هنا بالنَّهي ، ويجوز أن تكون " لا " نافية ، والفعل بعدها منصوبٌ بـ " أنْ " نفسها ، وعلى هذه التقادير فـ " أنْ " : إما في محلِّ جرٍّ أو نصبٍ أو رفع ، فالجرُّ والنصبُ على أنَّ الأصل : لأنْ لا تعبدوا ، أو بأن لا تعبدوا ، فلما حذف الخافضُ جرى الخلافُ المشهور ، والعاملُ : إمَّا " فُصِّلتْ " وهو المشهورُ ، وإمَّا " أحْكِمَتْ " عند الكوفيين . فتكون المسألة من باب الإعمال ؛ لأنَّ المعنى : أحْكِمَتْ لئلاَّ تعبدُوا أو بأن لا تعبدُوا . فـ " أنْ لا تعبدُوا " هو المفعول الثاني لـ " ضمَّن " والأولُ قام مقام الفاعل . والرفع فمن أوجه : أحدها : أنَّها مبتدأٌ ، وخبرها محذوفٌ ، فقيل : تقديره : من النَّظر أن لا تعبدوا إلاَّ الله . وقيل : تقديره : في الكتاب ألاَّ تعبدوا إلاَّ الله . والثاني : خبر مبتدأ محذوف ، فقيل : تقديره : تفصيلُه ألاَّ تعبدوا إلا الله . وقيل : تقديره : هي أن لا تعبدوا إلاَّ الله . والثالث : أنه مرفوعٌ على البدل من " آياته " . قال أبو حيَّان : وأمَّا من أعربه أنَّهُ بدلٌ من لفظ " آيات " أو من موضعها ، يعني : أنَّها في الأصْلِ مفعولٌ بها فموضعها نصبٌ ، وهي مسألة خلافٍ ، هل يجُوزُ أن يُراعَى أصلُ المفعولِ القائم مقام الفاعلِ ، فيتبع لفظهُ تارة وموضعهُ أخرى ، فيقال : ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلِّ ، ورفعها باعتبار اللفظ ، أمْ لا ؟ . مذهبان ، المشهور مراعاة اللفظ فقط . الوجه الثالث : أن تكون مفسرة ؛ لأنَّ في تفصيل الآيات معنى القول ؛ فكأنَّه قيل : لا تعبدوا إلاَّ الله إذْ أمركم ، وهذا أظهرُ الأقوالِ ، لأنَّهُ لا يُحْوِجُ إلى إضمار . قوله : " مِنْهُ " في هذا الضمير وجهان : أظهرهما : أنَّهُ يعودُ على الله تعالى ، أي : إنَّ لكم من جهة الله نذيرٌ وبشير ، نذير للعاصين ، وبشير للمطيعين . قال أبو حيان : فيكون في موضع الصِّفةِ ، فيتعلقُ بمحذوفٍ ، أي : كائن من جهته ، وهذا على ظاهره ليس بجيِّد ؛ لأنَّ الصفة لا تتقدَّمُ على الموصوفِ ، فكيف تجعل صفةً لـ " نذير " ؟ وكأنَّه يريد أنه صفةٌ في الأصل لو تأخَّر ، ولكن لمَّا تقدَّم صار حالاً ، وكذا صرَّح به أبو البقاءِ ، فكان صوابه أن يقول : فيكون في موضع الحالِ ، والتقدير : كائناً من جهته . الثاني : أنَّهُ يعودُ على الكتابِ ، أي : نذيرٌ لكم من مخالفته ، وبشيرٌ منه لمن آمن وعمل صالحاً وفي متعلق هذا الجارِّ أيضاً وجهان : أحدهما : أنَّه حالٌ من نذير ، فيتعلَّق بمحذوفٍ كما تقدَّم . والثاني : أنه متعلقٌ بنفس نذير ، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم . وقدَّم الإنذار ؛ لأنَّ التَّخويف أهمُّ إذ يحصل به الانزجارُ . قوله : { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ } فيها وجهان : أحدهما : أنَّها عطفٌ على " أن " الأولى ، سواء كانت " لا " بعدها نَفْياً أو نَهْياً ، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى " أنْ " هذه . والثاني : أن تكون منصوبةً على الإغراءِ . قال الزمخشريُّ في هذا الوجه : ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة ، ويدل عليه قوله : { إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كأنه قال : ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى : { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } [ محمد : 4 ] . قوله : { ثُمَّ تُوبُوۤاْ } عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار ، و " ثُمَّ " على بابها من التَّراخي ؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ . قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " في قوله { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } ؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة ، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } [ الأحقاف : 13 ] . قال شهابُ الدِّين : قوله : " أو استغفروا " إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد ، فلذلك احتاج إلى تأويل " تُوبُوا " بـ " أخْلِصُوا التَّوبة " . قال الفراء : " ثُمَّ " ههنا بمعنى الواو ، أي : وتوبوا إليه ، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار . وقيل : وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي ، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف . وقيل : إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب ، والتوبة هي السبب إليها ، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب . ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر ، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر . قوله : " يُمَتِّعكُم " جوابُ الأمرِ . وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ : هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [ البقرة : 40 ] . وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن " يُمْتِعُكُم " بالتخفيف من أمتع . وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ { فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً } بالتخفيف كهذه القراءة [ البقرة : 126 ] . قوله " متَاعاً " في نصبه وجهان : أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ ، إذ التقديرُ : تَمْتِيعاً ، فهو كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . والثاني : أن ينصب على المفعول به ، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به ، فهو كقولك : " متعت زيداً أثواباً " . قال المفسِّرون : يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ " إلى أجلٍ مُسَمًّى " إلى حين الموتِ . فإن قيل : أليس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر " وقال أيضاً : " خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ " . وقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا ، فكيف الجمع بينهما ؟ . فالجواب من وجوه : الأول : أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار . الثاني : أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارةُ بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } [ طه : 132 ] . الثالث : أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه ، وأَمِنَ من زوال محبوبه . وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله ، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله ؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً ، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] . فإن قيل : هل يدل قوله { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } على أنَّ للعبدِ أجليْنِ ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير ؟ . فالجواب : لا ، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة ، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً . وسمى منافع الدُّنيا متاعاً ، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا ، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } . قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } " كُلَّ " مفعول أوَّل ، و " فَضلهُ " مفعولٌ ثانٍ . وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك . والضَّمير في " فَضْلَهُ " يجوز أن يعود على الله تعالى ، أي : يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله ، أي : ثوابهُ ، وأن يعود على لفظِ " كُلّ " ، أي : يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله ، لا يبخَسُ منه شيئاً ، أي : جزاء عمله . قال المفسِّرون : ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة . وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة ؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال . وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : " مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة ، ومن زادت سيئاته على حسناته ، دخل النَّار ، ومن استوت حسناته وسيئاته ، كان من أهْلِ الأعرافِ ، ثم يدخلون الجنة " . ثم قال : { وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } وهو يومُ القيامةِ . وقرأ الجمهور " تَولَّوْا " بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة ، وفيها احتمالان : أحدهما : أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو : " تَنَزَّلُ " . وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ ، وهذا هو الظَّاهر . ولذلك جاء الخطابُ في قوله : " عليْكُم " . والثاني : أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين ، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ ، أي : فقل لهم : إنِّي أخاف عليكم ، ولولا ذلك لكان التركيب : فإنِّي أخاف عليهم . وقرأ اليماني وعيسى بن عمر : " تُوَلُّوا " بضمِّ التَّاءِ ، وفتح الواوِ وضم اللام ، وهو مضارعُ " ولَّى " ؛ كقولك : زكَّى يزكِّي . ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر : " وإن تُوُلُّوا " بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول ، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه ؟ وهو فعلٌ ماضٍ ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل ، وضُمَّ ثانيه أيضاً ؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه ، وضُمَّت اللام أيضاً ، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير ، والأصلُ " تُوُلِّيُوا " نحو : تُدحْرجُوا ، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ ، فحذفت فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الياءُ ، لأنَّهما أولهما ؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير ؛ فصار وزنهُ " تُفُعُّوا " بحذف لامه ، والواو قائمةٌ مقام الفاعل . وقرأ الأعرجُ " تُولُوا " بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع " أوْلَى " ، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا ، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى . و " كَبِيرٍ " صفةٌ لـ " يَوْمٍ " مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ . وقيل : بل " كَبيرٍ " صفةٌ لـ " عذابَ " فهو منصوبٌ ، وإنَّما خفض على الجوارِ ؛ كقوله : " هذا جُحر ضبٍّ خربٍ " بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ لـ " جُحْرٌ " ؛ وقول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 2942 - كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ @@ بجر " مُزَمَّل " وهو صفةٌ لـ " كبير " . وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة . ثم قال : { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وهذا فيه تهديدٌ وبشارة ، فالتَّهديد قوله { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } يدلُّ على أنَّ مرجعنا إليه ، وهو قادرٌ على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ، ولا مانع لمشيئته ، والرُّجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذُّنوب العظيمة مشكل ، وأمَّا البشارةُ ، فإنَّ ذلك يدلُّ على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم ، وعلى ضعف تام ، وعجز عظيم لهذا العبد ، والملك القادر القاهر الغالب إذا رأى أحداً أشرف على الهلاك ؛ فإنهُ يخلصهُ من تلك الهلكة ، ومنه المثل المشهور " إذَا ملكْتَ فأسْجِعْ " .