Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 5-6)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمَّا قال : " وإن تولَّوْا " عن عبادة الله وطاعته ، بيَّن بعده صفة ذلك التولي فقال : " أَلا إِنَّهُمْ " يعني الكُفَّار " يثنون صُدورهم " يقال : ثنيت الشَّيء إذا عطفته وطويته . وقرأ الجمهور : بفتح الياء وسكون الثَّاء المثلثة ، وهو مضارع " ثَنَى يَثْني ثَنْياً " ، أي طوى وَزَوى ، و " صُدُورهم " مفعول به ، والمعنى : يَحْرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله ، والأصل " يَثْنِيُونَ " فأُعِلَّ بحذف الضَّمةِ عن الياء ، ثُمَّ تحذفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين . وقرأ سعيدُ بن جبير " يُثْنُون " وهو مضارع " أثْنَى " كأكرم . واستشكل النَّاسُ هذه القراءة فقال أبُو البقاءِ : ماضيه أثنى ، ولا يعرفُ في اللغةِ ، إلاَّ أنْ يقال : معناه عرضُوها للانثناء ، كما يقال : أبعت الفرسَ : إذا عرضته للبيع . وقال صاحبُ اللَّوامِحِ : ولا يعرفُ الإثناء في هذا الباب ، إلاَّ أن يرادَ به ، وجدتُهَا مثْنِيَّة ، مثل أحْمَدْتُه وأمْجَدْتُه ، ولعلَّه فتح النون ، وهذا ممَّا فعل بهم فيكون نصب " صُدُورَهُم " بنزع الخافض ، ويجُوزُ على ذلك أن يكون " صُدُورَهُم " رفعاً على البدل بدل البعض من الكُلِّ يعني بقوله : ولعلَّهُ فتح النُّونِ أي : ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نونِ " يُثْنَون " فيكون مبنياً للمفعول ، وهو معنى قوله : وهذا ممَّا فعل بهم أي وجدوا كذلك ، فعلى هذا يكونُ " صُدورهُم " منصُوباً بنزعِ الخافضِ ، أي : في صدورهم ، أي يوجدُ الثَّنْيُ في صدورهم ، ولذلك جوَّز رفعهُ على البدل كقولك : ضُربَ زيدٌ الظَّهْرُ . ومنْ جوَّز تعريف التمييز لا يبعدُ عنده أن ينتصب " صُدُورهُم " على التَّمييز بهذا التقدير الذي قدَّرهُ . وقرأ ابنُ عبَّاسٍ ، وعليُّ بنُ الحسين ، وابناه زيد ، ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وعبد الرحمن بن أبزى ، وأبو الأسود " تَثنَوْني " مضارع " اثْنَوْنَى " على وزنِ " افْعَوْعَلَ " من الثَّنْي كاحْلَوْلى من الحَلاوةِ وهو بناءُ مبالغةٍ ، " صُدُورهُم " بالرَّفع على الفاعلية . ونُقل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق : " يَثْنَوْنَى صدورهم " بالياءِ والتَّاءِ ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ ؛ فجاز تذكيرُ الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعةِ . وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعمش " تَثْنَوِنُّ " بفتح التاء وسكون الثَّاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة ، والأصل : " تَثْنَوْنِنُ " بوزن " تَفْعَوْعِلُ " من الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضعف من الكَلأ ، يريد مطاوعة نفوسهم للثَّنْي كما يثنى الهَشُّ من النَّبات ، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم . و " صدورهم " بالرَّفع على الفاعليَّة . وقرأ مجاهدٌ وعروة أيضاً كذلك ، إلاَّ أنَّهما جعلا مكان الواو المكسورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل " تطمئن " . وفيها تخريجان : أحدهما : أنَّ الواو قُلبتْ همزة لاستثقال الكسرة عليها ، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح ، لمَّا استثقلوا الكسرة على الواوِ أبدلوها همزة . والثاني : أن وزنه " تَفْعَيِلٌ " من الثِّن وهو ما ضعف من النَّبات كما تقدَّم ، وذلك أنَّهُ مضارع لـ " اثْنَان " مثل احْمَارَّ واصفارَّ ، وقد تقدَّم [ يونس : 24 ] أن من العرب من يقلبُ مثل هذه الألف همزة ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2943 - … … بالعَبِيطِ ادْهَأمَّتِ @@ فجاء مضارع " اثْنَأنَّ " على ذلك كقولك احْمَأرَّ يَحمَئِرُّ كاطمأنَّ يَطْمَئِنُّ . وأمَّا " صُدورُهم " فبالرَّفع على ما تقدَّم . وقرأ الأعمش أيضاً تَثْنَؤُونَ بفتح الياء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزة مضمومة و واوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كَتَرْهَبُون . صُدورَهُم بالنَّصْبِ . قال صاحبُ اللَّوامِحِ : ولا أعرف وجهه يقال : " ثَنَيْتُ " ولم أسمعْ " ثَنَأتُ " ، ويجوز أنَّهُ قلب الياء ألفاً على لغةِ من يقول : " أعْطات " في " أعْطَيْتُ " ، ثُمَّ همز الألف على لغةِ من يقول : { ولا الضَّأْلين } [ الفاتحة : 7 ] . وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً - رضي الله عنهما - " تَثْنَوِى " بفتح التَّاءِ وسكون المثلثة ، وفتح النُّونِ وكسر الواو بعدها ياءٌ ساكنةٌ بزنة " تَرْعَوِى " وهي قراءةٌ مشكلة جداً حتَّى قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلطٌ لا تتجه ، وإنَّما قال إنَّها غلطٌ ؛ لأنَّه لا معنى للواوِ في هذا الفعل إذ لا يقالُ : ثَنَوْتُهُ فانْثَوَى كرعَوْتُه ، أي : كففته فارعَوَى ، أي : فانكفَّ ، ووزنه افعلَّ كاحْمَر . وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ يعمر وابن أبي إسحاق " يَنْثُونَ " بتقديم النُّون السَّاكنة على المثلثة . وقرأ ابنُ عباس أيضاً " لَتَثْنَونِ " بلام التأكيد في خبر " إنَّ " وفتح التَّاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة " تَفْعَوْعِلُ " ، كما تقدَّم إلاَّ أنَّها حذفت الياء ، التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم : لا أدْرِ وما أدْرِ . و " صُدورهم " ، فاعل كما تقدم . وقرأ طائفة : " تَثنؤنَّ " بفتح التَّاءِ ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نُون مفتوحةٍ ثم همزة مضمومةٍ ثم نون مشددة ، مثل تَقْرَؤنَّ ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ ، إلاَّ أنَّه قلب الياءَ واواً ؛ لأنَّ الضمة تُنافِرُهَا ، فجعلت الحركةُ على مُجانِسها ، فصار اللفظُ " تَثْنَوونَ " ثم قلبت الواوُ المضمومةُ همزة كقولهم : " أجُوه " في " وُجُوه " و " أقِّتَتْ " في " وقِّتَت " فصار " تَثْنَؤونَ " ، فلمَّا أكَّد الفعل بنونِ التَّوكيد حذفت نونُ الرَّفع فالتقى ساكنان : وهما واوُ الضمير والنون الأولى من نون التَّوكيد ، فحذفت الواو وبقيت الضَّمةُ تدلُّ عليها ؛ فصار " تَثْنَؤنَّ " كما ترى و " صُدورَهُم " منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً مضبوطة . قوله تعالى : { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } فيه وجهان : أحدهما : أنَّ هذه اللاَّم متعلقةٌ بـ " يَثْنُونَ " كذا قاله الحوفيُّ ، والمعنى : أنَّهم يفعلون ثَنْي الصُّدور لهذه العلةِ . وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كلفة فيه . والثاني : أنَّ اللاَّم متعلقةٌ بمحذوفٍ . قال الزمخشريُّ : " لِيَسْتخُفُوا منهُ " يعنى ويريدون : ليستَخْفُوا من الله فلا يطلعُ رسوله والمؤمنون على ازْورَارهِمْ ، ونظيرُ إضمار " يريدون " لعود المعنى إلى إضماره الإضمارُ في قوله : { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } [ الشعراء : 63 ] معناه : " فضرب فانفلق " . قال شهاب الدين : وليس المعنى الذي يقُودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا ، لأنَّ ثمَّ لا بد من حذف معطوفٍ يُضْطَر العقلُ إلى تقديره ؛ لأنَّهُ ليس من لازم الأمْرِ بالضَّرْبِ إنفلاقُ البحر فلا بُدَّ أن يُتَعَقَّل " فضرب فانفلق " ، وأمَّا في هذه ، فالاستخفاف علةٌ صالحةٌ لثَنْيهم صدورهم ، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادةِ . والضَّميرُ في " مِنْهُ " فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على رسُولِ الله - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللاَّم بـ " يَثْنُونَ " . والثاني : أنَّهُ عائدٌ على الله تعالى كما قال الزمخشريُّ . قوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } في هذا الظرف وجهان : أحدهما : أنَّ ناصبهُ مُضْمَرٌ ، فقدَّره الزمخشري بـ " يريدون " كما تقدم ، فقال : ومعنى ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) : ويريدون الاستخفاء حين يشتغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله ، كقول نُوحٍ { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] ، وقدَّره أبو البقاء فقال : ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) : يستخفون . والثاني : أنَّ النَّاصب له " يَعْلَمُ " ، أي : ألا يعلم سرَّهُم وعلنهم حين يفعلون كذا ، وهذا معنى واضح ، وكأنَّهُم إنَّما جوَّزُوا غيره ؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصِّ ، والله تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت . وهذا غيرُ لازم ؛ لأنَّه إذا عُلِمَ سرُّهم وعلنهُم في وقت التَّغْشِية الذي يخفى فيه السرُّ فأولى في غيره ، وهذا بحسب العادةِ وإلاَّ فالله تعالى لايتفاوتُ علمهُ . و " ما " يجُوزُ أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى " الذي " ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : تُسِرُّونه وتُعْلِنُونه . فصل قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - نزلت في الأخنس بن شريقٍ ، وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحبُّ ، وينطوي له بقلبه على ما يكره . فقوله : { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي يخفون ما في صدورهم من الشَّحْنَاءِ والعداوةِ . قال عبدُ الله بنُ شداد : نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره ، وطأطأ رأسه ، وغطَّى وجهه ، كي لا يراه النبي - صلوات الله وسلامه عليه - . قال قتادة : كانوا يخفون صدورهم ، لكيلا يسمعُوا كلامَ الله ولا ذكره . وقيل : كان الرَّجلُ من الكُفَّار يدخل بيته ، ويرخي ستره ، ويحْنِي ظهرهُ ، ويتغشَّى بثوبه ، ويقول : هل يعلمُ الله ما في قلبي . وقال السُّدي : " يَثْنُونَ صُدورَهُمْ " أي : يُعرضُون بقلوبهم ، من قولهم : ثنيت عناني ليَسْتخْفُوا مِنهُ أي : من رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - . وقال مجاهدٌ : من الله عز وجل . { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } يغطون رؤوسهم بثيابهم و " ألا " كلمة تنبيه أي : ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم . ثم ذكر أنَّهُ لا فائدة لهم في استخفافهم فقال سبحانه : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها : إنَّ الذين اضمرُوا عداوة رسُول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم . وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر - رضي الله عنه - ؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } قال : كان أناسٌ يستحيون أن يَخلوا فينفضوا إلى السَّماء ، وأن يجامعوا نساءهم ، فيفضوا إلى السَّماءِ ؛ فنزل ذلك فيهم . لمَّا ذكر أنه : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أردفهُ بما يدلُّ على أنَّهُ تعالى عالمٌ بجميعِ المعلومات وهو أنَّ رزق كلَّ حيوان إنَّما يصل إليه من الله تعالى ؛ لأنَّه لو لم يكن عالماً بجميع المعلُومات لما حصلت هذه المهمَّات . قال الزجاجُ : الدَّابَّةُ : اسمٌ لكلِّ حيوان ، مأخوذ من الدَّبيبِ ، وبُنيتْ هذه اللفظة على هاء التأنيث ، هذا موضوعها اللُّغوي ، و " مِنْ " صلة ، { إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } هو المتكفِّلُ بذلك فضلاً ، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق . وقيل : " على " بمعنى " من " أي : من الله رزقها . قال مجاهدٌ : ما جاءها من رزق فمن الله ، ورُبَّما لم يرزقها حتَّى تمُوت جُوعاً . { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } قال ابنُ مقسم : ويروى عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - " مُسْتقرَّهَا " المكانُ الذي تأوي إليه ، وتستقرُّ فيه ليلاً ونهاراً " ومُسْتوْدعهَا " الموضع الذي تُدْفَنُ فيه إذا ماتت . وقال عبد الله بن مسعودٍ : المستقرُّ : أرحامُ الأمَّهات ، والمستودع : أصلابُ الآباء . ورواه سعيدُ بن جبيرٍ ، وعليُّ بن أبي طلحة ، وعكرمةُ عن ابن عبَّاس . وقيل : المستقر : الجنة أو النار ، والمستودع : القبر ، لقوله تعالى في صفة الجنة ، والنار { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 76 ] { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] . { كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } . قال الزَّجَّاجُ : " معناه : كلُّ ذلك ثابتٌ في علم الله " . وقيل : كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها . قوله : { مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } يجوزُ أن يكونا مصدرين ، أي : استقرارها واستيداعها ، ويجوزُ أن يكونا مكانين ، أي : مكان استقرارها واستيداعها ، ويجوز أن يكون " مُستوْدعهَا " اسم مفعول لتعدِّي فعله ، ولا يجوز ذلك في " مُسْتَقَر " ؛ لأنَّ فعله لازمٌ ، ونظيره في المصدرية قول الشاعر : [ الوافر ] @ 2944 - ألَمْ تعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي … @@ أي : تَسْريحي . و " كُلُّ " المضافُ إليه محذوفٌ تقديره : كُل دابةٍ ورزقها ومستقرُّها ومستودعُها في كتاب مبين .