Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 84-95)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } القصة . أي : وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام - ، ثم صار اسماً للقبيلةِ . وقال كثير من المفسِّرين : مَدْيَنُ اسم مدينة ، وعلى هذا فتقديره : وأرسلنا إلى أهل مدين ، فحذف " أهل " ، كقوله : { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] أي : أهل القرية . واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيدِ ، ولذلك قال شعيبٌ - عليه الصلاة والسلام - : { يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ، فالأهم ، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان ، دعاهم إلى تركِ هذه العادة ، فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } . قوله : " وَلاَ تَنقُصُوا " : " نَقَصَ " يتعدَّى لاثنين ، إلى أولهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ ؛ وقد يحذفُ ؛ تقولُ : نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه ، وحقَّهُ ، وهو هنا كذلك ، إذ المرادُ : ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى . والمعنى : لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون " المِكْيَال " مفعولاً أول ، والثاني محذوفٌ ، وفي ذلك مبالغة ، والتقدير : ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما ، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما . قوله تعالى : { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قال ابنُ عبَّاسٍ : موسرين في نعمة . وقال مجاهدٌ : كانوا في خصب وسعةٍ ؛ فحذَّرهم زوال النعمة ، وغلاء الأسعار ، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا . { وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } يحيطُ بكم فيهلككم . قال ابنُ عبَّاسٍ : أخافُ : أي : أعلم . وقال غيره : المراد الخوف ؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ . قوله : " محيطٍ " صفة لليوم ، ووصف به من قولهم : أحاط به العدوُّ ، وقوله : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] . قال الزمخشري : إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال : لأنَّ اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه . وزعم قومٌ : أنه جُرَّ على الجوار ؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب ، والأصلُ : عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون : التقدير : عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه . قال أبو البقاءِ : وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له ، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف . واختلفوا في المراد بهذا العذاب : فقيل : عذاب يوم القيامةِ . وقيل : عذاب الاستئصال في الدنيا ؛ كما هُو في حق سائر الأمم . والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه ، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها . قوله : { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي : بالعدل . فإن قيل : وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه ، فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } ثم قال { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } ، وهو عين الأول ، ثم قال : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } ، وهو عين الأوَّل ، فما فائدة التَّكرارِ ؟ . فالجواب من وجوه : الأول : أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل ، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد ، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام . الثاني : قوله : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } نهي عن التنقيص ، وقوله : { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } أمر بإيفاء العدل ، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده ، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر ، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه ، لأنَّا نقول : الجوابُ من وجهين : أحدهما : أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء ، وبين النهي عن ضده للمبالغة ، كما تقولُ : صل قرابتك ، ولا تقطعهم ؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد . وثانيهما : ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم ؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة ، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات ، ولم ينه عن المبايعات ، وإنَّما منع من التَّطْفِيفِ ، ومنع الحقوق ، فكانت المبايعات محرمة بالكُلِّيَّةِ ، فلأجْلِ هذا منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء ، وأما قوله ثالثاً : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان . ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء ، فدل ذلك على أنها غير مكررة ، بل في كل واحدة فائدة زائدة . الوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } وفي الثانية قال : { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } والإيفاءُ : عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام ، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق ، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ : إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس . فالحاصلُ : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان ، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة ، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة ، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض . وقوله : " بِٱلْقِسْطِ " يعني : بالعدلِ ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل . والبخس : هو النَّقْضُ . ثم قال : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } . فإن قيل : العثوُّ : الفسادُ التَّامُّ ، فقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } جار مجرى قولك : ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين . فالجوابُ من وجوه : الأول : أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير ، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير ، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم . والثاني : أن يكون المرادُ من قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } مصالح دنياكم وآخرتكم . والثالث : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } مصالح الأديان والشرائع . ثم قال : { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } العامَّة على تشديد ياء " بقيَّة " . وقرأ إسماعيلُ بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها قال ابنُ عطيَّة : " وهي لغةٌ " . وهذا لا ينبغي أن يقال ، بل يقال : إنْ لم يقصد الدَّلالةُ على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنَّ " فِعَل " بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصِّفة منه : " فَعِل " بكسر العين نحو : سَجِيَت المرأة فهي سجيَة فإن قصدت المبالغة قيل : سجيَّة ، لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك " بقيَّة وبقِية " أي : بالتَّشديد والتَّخفيف . قال المفسِّرون " بقيَّةُ اللهِ " هي تقواه . قال ابنُ عباسٍ : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيلِ والوزن خيرٌ ممَّا تأخذونه بالتطفيف . وقال مجاهدٌ : " بقيَّةُ اللهِ " يعنى طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل ؛ لأنَّ منفعة الطَّاعة تبقى أبداً . قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال ابنُ عطيَّة - رحمه الله - : " وجوابُ هذا الشَّرط متقدِّمٌ " يعنى : على مذهب من يراهُ لا على مذهب جمهور البصريِّين . وإنَّما شرط الإيمان لكونه خيراً لهُمْ ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرِّين بالثَّواب والعقابِ عرفوا أنَّ السَّعي في تحصيل الثَّواب وفي الحذر من العقابِ خير لهم من السَّعي في تحصيل ذلك القليل . والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط ؛ فدلَّ ظاهرُ الآية على أنَّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مُؤمناً . قوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : إنِّي نصحتكم ، وأرشدتكم إلى الخير ، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح . وقيل : لمَّا قال لهم : إنَّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم ، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة ؛ قالوا له : { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } قرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفص عن عاصم ، " أصلاتُكَ " بغير واو . والباقون بالواو على الجمع . قوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ } العامَّةُ على نون الجماعةِ ، أو التعظيم في " نَفْعلُ " و " نشاءُ " . وقرأ زيد بنُ عليّ ، وابنُ أبي عبلة والضحاك بنُ قيس بتاءِ الخطاب فيهما . وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء ، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول " نَتْرُكَ " وهو " ما " الموصولةُ ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبدُ آباؤنا ، أو أنْ نتركَ أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ ، وهو بخسُ الكيل والوزن المقدَّم ذكرهما . و " أوْ " للتنويع أو بمعنى الواو ، قولان ، ولا يجوز عطفه على مفعول " تأمُركَ " ؛ لأنَّ المعنى يتغيَّرُ ، إذ يصير التقديرُ : أصلواتُك تأمُرك أن تفعل في أموالنا . ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفاً على مفعول " تأمُركَ " ، وأن يكون معطوفاً على مفعول " نترك " ، والتقديرُ : أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءُ أنت ، أو أن نترك ما يعبدُ آباؤنا ، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت . ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان : " أن تفعل " معطوفاً على مفعول : " تأمُرُكَ " فقد صار ذلك ثلاثة أقسام ، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول : " نَتْرُكَ " وهي قراءةُ النُّونِ فيهما ، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول " تأمُرك " ، وهي قراءةُ النُّون في " نفعلُ " والتاء في " تشاء " ، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما . والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما ، أو في " تشاء " أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان ؛ لأنه كان يأمرهم بهما . وقال الزمخشريُّ : " المعنى : تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف لأنَّ الإنسانَ لا يؤمرُ بفعل غيره " . واعلم أنَّ قوله : { أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد . وقوله : { أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس . فصل قيل : المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان ؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين ؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين . وقيل : أصل الصلاة الاتِّباعُ ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة ، وهو الذي يتلو السابق ؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّابق ، وهما ناحيتا الفخذين ، والمعنى : دينُك يأمرك بذلك . وقيل : المرادُ هذه الأفعال المخصوصة ، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون ، فقصدوا بقولهم : أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء . { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } . قال ابن عباس : أرادوا السَّفيه الغاوي ؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون : للديغ سليم ، وللفلاة مفازة . وقيل : قالوه على وجهِ الاستهزاء ، كما يقال للبخيل الخسيس " لو رآكَ حاتمٌ ، لسجد لك " ، وقيل : الحليم ، الرشيد بزعمك . وقيل : على الصِّحَّة أي : إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك ، ومخالفة دينهم ، وهذا كما قال قومُ صالحٍ : { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا } [ هود : 62 ] . قوله : { أَرَءَيْتُمْ } قد تقدَّم مراراً [ يونس : 50 ] . وقال الزمخشريُّ هنا : فإنْ قلت : أين جوابُ " أرأيْتُم " وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوحٍ ، وصالح ؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ ، وإنَّما لم يثبتْ ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه ، ومعنى الكلام ينادي عليه ، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة ، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي ، والأنبياءُ لا يبعثُونَ إلاَّ لذلك ؟ . قال أبُو حيَّان : وتسميةُ هذا جواباً لـ " أرَأيتُمْ " ليس بالمصطلح ، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثَّاني لـ " أرَأَيْتُمْ " لأنَّ " أرَأَيْتُمْ " إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين ، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها ، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ : " أرأيتك زيداً ما صنع " وقال الحوفيُّ : " وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره : أأعدلُ عمَّا أنا عليه " . وقال ابنُ عطيَّة : " وجوابُ الشَّرط الذي في قوله : " إنْ كُنتُ " محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ ، أو أترك تبليغ الرسالة ، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة " . قال أبُو حيان : وليس قوله : " أضَلَّ " جواباً للشَّرط ؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط ، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني لـ " أرأيْتُمْ " وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها . فصل المعنى { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } بصيرة وبيان من ربِّي { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } حلالاً . قيل : كان شعيب كثير المالِ الحلال . وقيل : الرزق الحسنُ : العلم والمعرفة أي : لما أتاني جميع هذه السَّعادات ، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه ، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه ، وإذا كان العزّ من الله ، والإذلال من الله ، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم ، ولا أفرحُ بموافقتكم ، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه . قوله : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ } قال الزمخشريُّ : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مُولٍّ عنه ، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده ، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ : " خالفَنِي إلى الماءِ " ، يريد أنه ذاهب إليه وارداً ، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً ، ومنه قوله تعالى : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم . وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف ، ولم يتعرَّض لإعراب مفرداته ؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب . فيجوزُ أن يكون قوله : " أنْ أخَالِفَكُمْ " في موضع مفعول بـ " أُرِيدُ " ، أي : وما أريد مُخالفتكُم ، ويكون " فاعل " بمعنى " فعل " نحو : جاوزتُ الشَّيء وجُزْته ، أي : وما أريد أن أخالفكم ، أي : أكون خلفاً منكم . وقوله : { إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ } يتعلَّق بـ " أخَالِفَكُمْ " ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال ، أي : مائلاً إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره : وأميل إلى أن أخالفكم ، ويجُوزُ أن يكون " أنْ أخالِفكُمُ " مفعولاً من أجله ، وتتعلق " إلى " بقوله " أريدُ " بمعنى : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه . ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه . ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ ، وتكون في موضع المفعول به بـ " أُرِيد " ، ويقدَّر مائلاً إلى . والمعنى : وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه : { إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } . قوله : " مَا ٱسْتَطَعْتُ " يجوزُ في " مَا " هذه وجوه : أحدها : أن تكون مصدرية ظرفية أي : مدة استطاعتي . والثاني : أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي " بدلاً من " الإصلاح " والتقديرُ : إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح . الثالث : أن يكون على حذفِ مضاف ، أي : إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ ، وهو أيضاً بدلٌ . الرابع : أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف ، أي : إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه ؛ كقوله : [ المتقارب ] @ 3006 - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ @@ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين ، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين ، وتقدَّم الجارَّان في " عليهِ " و " إليهِ " للاختصاص أي : عليه لا على غيره ، وإليه لا إلى غيره . فصل اعلم أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس ؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة ، وإثارة الفتنةِ ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي ، وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه ، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله : { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ } والتوفيق تسهيل سبيل الخير " عليْهِ توكَّلْتُ " اعتمدت " وإلَيْهِ أنيبُ " أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ ، وقيل : في المَعَادِ . قوله : " لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ " العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من " جرم " ثلاثيًّا . وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من " أجرم " وقد تقدَّم [ هود 22 ] أنَّ " جَرَمَ " يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل : كسب ، فيقال : جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو : كَسَبَهُ ، وجرمْتُه ذَنْباً ، أي : كسبته إياه فهو مثلُ كسب ؛ وأنشد الزَّمخشري على تعدِّية لاثنين قوله : [ الكامل ] @ 3007 - ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً جَرَمَتْ فَزارَةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا @@ فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول . والثاني : هو " أنْ يصيبكُم " أي : لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى ، أو بينهما فرق . ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير . والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام " مِثْلُ " رفعاً على أنَّه فاعل " يُصِيبَكُم " وقرأ مجاهدٌ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان : أحدهما : أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة ، وإنَّما بُني على الفتح ؛ لإضافته إلى غير متمكن ؛ كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] وكقوله : [ البسيط ] @ 3008 - لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ حَمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ @@ وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [ الأنعام94 ] . والثاني : أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة للإعراب ، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام ، أي : يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب . فصل والمعنى : لا يكسبنكم " شِقَاقِي " خلافي : " أنْ يُصِيبكم " عذاب الاستئصال في الدنيا " مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح " من الغرقِ ، وقوم هود من الريح ، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ ، وقوم لوط من الخسْفِ . قوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أتى بـ " بَعِيد " مفرداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ : إمَّا لحذف مضاف تقديره : وما إهلاك قوم ، وإمَّا باعتبار زمانٍ ، أي : بزمانٍ بعيد ، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيبٍ ، وإمَّا باعتبار مكان ، أي : بمكان بعيد ؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين ، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهما ، أي : بشيءٍ بعيد ، كذا قدَّره الزمخشريُّ ، وتبعه أبو حيَّان ، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَّمان عن الجُثَّةِ . وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في " قَرِيب " و " بَعِيد " و " قَلِيل " و " كَثير " بين المذكَّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل ، والنَّهيق ونحوهما . ثم قال : { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي : من عبادة الأوثان ، ثُمَّ تُوبُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ من البَخْس والنُّقصان { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } بأوليائه : " وَدُودٌ " الوَدُود : بناءُ مبالغة من ودَّ الشيء يوَدُّهُ وُدًّا ، وودَاداً ، ووِدَادَةً ووَدَادَةً أي : أحبًّه وآثره . والمشهورُ " وَدِدْت " بكسر العين ، وسمع الكسائي " وَدَدْت " بفتحها ، والوَدُودُ بمعنى فاعل أي : يَوَدّ عباده ويرحمهم . وقيل : بمعنى مفعولٍ بمعنى أنَّ عبادهُ يحبُّونه ويُوادُّون أولياءهُ ، فهم بمنزلة " المُوادِّ " مجازاً . قال ابنُ الأنباري : الوَدُودُ - في أسماءِ الله تعالى - المُحِبُّ لعبادِهِ ، من قولهم : وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ . قال الأزهريُّ - في " شرح كتاب أسماء الله الحسنى " - : ويجوزُ أن يكون " وَدُوداً فعُولاً بمعنى مفعول ، أي : إنَّ عبادهُ الصَّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق . قال ابن الخطيب : واعلم أنَّ هذا التَّرتيب الذي راعاه شعيبٌ في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيبٌ لطيفٌ . لأنَّهُ ذكر أولاً أنَّ ظهور البيِّنةِ له وكثرة الإنعام عليه في الظَّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله ، ويصده عن التَّهاون في تبليغه . ثم بيَّن ثانياً أنَّه مواظب على العمل بهذه الدَّعوة ، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكونه حَلِيماً رشيداً . ثم بيَّن صحته بطريق آخر ، وهو أنَّه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلح ، والصَّلاح وإخفاء موجبات الفتنِ ، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما اشتغل بها ، ثمَّ لمَّا بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال : لا تحملكم عداوتي على مذهبٍ ودين تقعُون بسببه في العذاب الشَّديد من الله ، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ، ثم إنََّه لمَّا صحَّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله : { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } ثم بيَّن لهم أنَّ سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطَّاعة ؛ لأنَّه تعالى رحيمٌ ودودٌ يقبلُ الإيمان من الكافر والفاسق ؛ لأنَّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجبُ ذلك ، وهذا تقرير في غاية الكمال . قوله : { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } . قيل : المعنى : ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه ، كقوله : { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] وقيل : إنَّهم فهموه ، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً ، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة ، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه : ما أدري ما تقولُ . وقيل : ما ندري صحة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث ، وما يجبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة . فصل استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه : اسمٌ لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه ؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين ، وقيل : إنَّه اسم لمطلق الفهم ، يقال : أوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين ، أي : فَهْماً . قال عليه الصلاة والسلام : " يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ " أي : يفهمه تأويله . ثم قال : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } قيل : الضَّعيفُ الذي يتعذر عليه منعُ القوم عن نفسه . وقيل : هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ ؛ لأنه ترك للظاهر بغير دليل ، وأيضاً فقوله : " فِينَا " يُبْطل هذا الوجه ؛ لأنَّهم لو قالوا : إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كان فاسداً ؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم ، وأيضاً قولهم بعد ذلك " ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ " فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة ؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة . واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآيةِ على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه ، لما بيَّناه . قال بعضُ المعتزلةِ : لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء ، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن النَّجاسات ، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً ؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى . قوله : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } " الرَّهْط " جماعةُ الرجل . وقيل : الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ ، ولا يقعُ الرَّهْطُ ، والعَصَب ، والنَّفَر ، إلاَّ على الرِّجالِ . وقال الزمخشريُّ : " من الثَّلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى السَّبعةِ " ، ويجمع على " أرْهُط " و " أرْهُط " على " أرَاهِط " ؛ قال : [ مجزوء الكامل ] @ 3009 - يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا @@ قال الرُّمَّانِيُّ : وأصلُ الكلمة من الرَّهْط ، وهو الشدُّ ، ومنه " التَّرْهيطُ " وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَربُوع ؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده . فصل المعنى : ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك . والرَّجْمُ في اللغة : عبارة عن الرَّمي ، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل ، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً ، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى : { رَجْماً بِٱلْغَيْبِ } [ الكهف : 22 ] وقوله : { وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ } [ سبأ : 53 ] ، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن ، ومنه الشيطان الرجيم ، وقد يكون بالطرد ، قال تعالى : { رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى : لقتلناك ، أو لشتمناك وطردناك . قوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } قال الزمخشريُّ " وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل : وما أنت بعزيزٍ علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا ؛ فلذلك قال في جوابهم : " أرَهْطِي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ " ولو قيلَ : " ومَا عَزَزْتَ عليْنَا " لم يصحَّ هذا الجوابُ " . والمعنى : أنك لمَّا لمْ تكن علينا عزيزاً ، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك . واعلم أنَّ هذه الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل ، بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسَّفاهة . قوله : { يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً } اعلم أنَّهم لمَّا خوَّفُوه بالقتل ، وزعمُوا أنهم إنَّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه ، قال : أنتم تزعمون أنَّكم تركتم قَتْلي إكراماً لرَهْطِي ، فالله تعالى أولى أنْ يتبع أمرهُ ، أي : حفظكم إيَّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيَّاي رعاية لحقِّ رهطي . قوله : " وَاتَّخَذْتُمُوهُ " يجوزُ أن تكون المتعدية لاثنين . أولهما : " الهاء " والثاني : " ظِهْرِيًّا " ويجوز أن يكون الثاني هو الظَّرفُ و " ظِهْريًّا " حالٌ ، وأن تكون المتعدية لواحد ؛ فيكون " ظِهْرِيًّا " حالاً فقط . ويجوز في " وَراءكُم " أن يكون ظرفاً للاتخاذ ، وأن يكون حالاً من ظِهْريًّا " ، والضمير في " اتِّخَذْتُمُوهُ " يعودُ على الله ؛ لأنَّهم يجهلون صفاته ، فجعلوه أي : جعلوا أوامره ظِهْريًّا ، أي : منبوذةً وراء ظهورهم . والظَّهْرِيُّ : هو المنسوبُ إلى " الظَّهْر " والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبةِ إلى " أمْس " ، " وإمْسِيّ " بكسر الهمزة ، وإلى الدَّهْر : دُهْرِيّ بضم الدَّالِ . وقيل : الضَّميرُ يعودُ على العصيان ، أي : وٱتخذتم العصيان عوناً على عداوتِي ، فالظَّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعين المُقَوِّي . ثم قال : { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : عالم بأحوالكم ، فلا يخفى عليه شيء منها . قوله تعالى : { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ } الآية . المكانةُ : الحالةُ التي يتمكن بها صاحبها من عمله ، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة ، وكل ما في وسعكم ، وطاقتكم من إيصال الشرِّ إليَّ فإني أيضاً عاملٌ بقدر ما آتانِي الله من القدرة . " سَوْفَ تَعْلَمُونَ " أيُّنا الجاني على نفسه ، والمخطئ في فعله . قوله : " مَن يَأْتِيهِ " تقدَّم نظيرهُ في قصة نوحٍ . قال ابنُ عطيَّة - بعد أن حكى عن الفرَّاءِ أن تكون موصولة مفعولةً بـ " تَعْلَمُون " وأن تكون استفهامية مبتدأة معلقة لـ " تَعْلَمُونَ " - : " والأوَّلُ أحسنُ " ثم قال : " ويقْضَى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة " . وهي قوله : { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } . قال أبُو حيَّان : " لا يتعيَّن ذلك ، إذ من الجائزِ أن تكون الثَّانية استفهاميَّةً أيضاً معطوفةً على الاستفهاميَّة قبلها ، والتقديرُ : سوف تعلمُونَ أيُّنَا يأتيه عذابٌ ، وأيُّنَا هو كاذبٌ " . قال الزمخشريُّ : فإن قُلت : أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في " سَوْفَ تَعْلَمُونَ " ؟ . قلت : إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهر بحرفٍ موضوع للوصل ، ونزْعُهَا وصلٌ خفيٌّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا ، وعملت أنت على مكانتك ؟ فقيل سوف تعلمُون ، فوصل تارةً بالفاءِ ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ " . ثم قال : { وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي : وانتظرُوا العذاب إنِّي معكُم منتظرٌ . والرقيب : بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم ، أو بمعنى المراقب ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع . قوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } الآية . قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو ، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ ؟ قلت : قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعدِ ، وذلك قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ } [ هود : 81 ] { ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ : " وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ " ، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة ، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما ، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ " . قوله : { نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } . روى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ قال : لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم صالح ، فأمَّا قوم صالح ؛ فأخذتهم الصحيةُ من تحتهم ، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم . وقوله : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } يحتملُ أن يكون المرادُ منه ، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة ، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب ، وعلى التقديرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين . وفي قوله : " بِرَحْمَةٍ مِّنَّا " وجهان : الأول : أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته ، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته . والثاني : أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله . ثم قال : { وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } وعرَّف " الصَّيحة " بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } تقدم الكلام على ذلك [ هود : 67 ، 68 ] وإنَّما ذكر هذه اللفظة ، وقاس حالهم على ثمود ؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود . قوله : { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } العامَّةُ : على كسر العين من " بَعِدَ يَبْعَد " بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك ؛ قال : [ الطويل ] @ 3010 - يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ @@ أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا : " بَعُد " بالضمِّ ضد القرب ، و " بَعِد " بالكسر ضد السَّلامة ، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين . وقرأ السُّلمي وأبو حيوة " بَعُدت " بالضم أخذه من ضدِّ القرب ؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا ، ومن هذا قولُ الشَّاعر : [ الكامل ] @ 3011 - مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ @@ وقال النَّحَّاسُ : المعروفُ في اللغةِ : بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً ، إذا هلك ، وبَعُد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب . وقال ابنُ قتيبة : بَعِدَ يَبْعَد إذا كان بعده هلكة ، وبَعُد يَبْعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس . وقال المهدوي : " بَعُد " يستعمل في الخَيْرِ والشّر ، و " بَعِد " في الشرِّ خاصة . وقال ابنُ الأنباري : مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب ، فيقولُ فيهما : بَعُدَ يَبْعُدُ ، وبَعِدَ يَبْعَدُ ؛ وأنشدوا قول مالكٍ : [ الطويل ] @ 3012 - يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونَنِي وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا @@ قيل : يروى " لا تَبْعُدْ " بالوجهين . وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد ، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه ، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلهِ ، قالوا : ولم يَأتِ في القرآن غيره ، وأنشدوا في ذلك قول حسان : [ الكامل ]