Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 30-32)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ } الآية ، النسوة فيها أقوالٌ : [ أشهرها ] : أنه جمعُ تكسير للقلَّة ، على فعلة ؛ كالصبية والغلمة ، ونصَّ بعضهم على عدم أطَّرادها ، وليس لها واحدٌ من لفظها . الثاني : أنها اسمٌ مفردٌ ، لجمع المرأة قاله الزمخشريُّ . الثالث : أنَّها اسم جمعٍ ؛ قاله أبو بكرِ بنُ السَّراج رحمه الله ـ ، وكذلك أخواتها ، كالصِّبيةِ ، والفِتْيَةِ . وقيل : على كُلِّ قولٍ ، فتأنيثها غير حقيقي ، باعتبارِ الجماعةِ ؛ ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث . وقال الواحديُّ : تقديمُ الفعل يدعُو إلى إسقاطِ علامةِ التأنيثِ ، على قياس إسقاط علامة التَّثنية ، والجمع . والمشهورُ : كسر نونها ، ويجوز ضمُّها في لغةٍ ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة ، قال القرطبي : وهي قراءة الأعمش ، والمفضل والسلمي . وإذا ضُمَّتْ نونه ، كان اسم جمع بلا خلافٍ ، ويكسَّرُ في الكثرة على نسوانٍ ، والنساءُ : جمعٌ كثرةٍ أيضاً ، ولا واحدَ لَهُ مِنْ لفظه ، كذا قالهُ أبو حيَّان . ومقتضى ذلك ألاَّ يكون النساءُ جمعاً لنسوةٍ ؛ لقوله : لا واحِدَ له من لفظه . و " فِي المَدينَةِ " يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ ، صفةٍ لـ " نِسْوةٌ " ، وهو ظاهرٌ ، ويقال : ليس بظاهرٍ . فصل في عدد النسوة في : إنَّهن خمسُ : امرأة حاجب الملك ، وامرأةُ صاحب دوابه ، وامرأةُ الخازن ، وامرأة السَّاقي ، وامرأة صاحب السِّجن ، قاله مقاتل . وقال الكلبيُّ : أربعٌ ؛ فأسقط امرأة الحاجب . والأشبه أنَّ تلك الواقعة شاعت في البلد ، واشتهرت ، وتحدث بها النساء ، والمراد بالمدينة : مِصْرُ ، وقيل : مدينة عَين شَمْسٍ . قوله : " تُراودُِ " خبرُ " امْرأةُ العَزيزِ " ، وجيءَ بالمضارع ، تنبيهاً على أنَّ المراودة صارت سجيةً لها ، ودَيْدناً ، دون الماضي فلم يقلْ : رَاودتْ ، ولامُ الفتى ياءٌ ؛ لقولهم : الفتيان ، وفتى ، وعلى هذا ؛ فقولهم : الفُتُوَّة في المصدر شاذٌّ . قال : " فَتَاهَا " ، وهو فتى زوجها ؛ لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك ، وكان ينفذُ أمرها فيه . وروى مقاتلٌ ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : " إنَّ امرأة العزيز استوهبتْ يوسف من زوجها ، فوهبهُ لها ، وقال : ما تصنعين به ؟ قالت : أتخذه ولداً ، قال : هو لك ؛ فربَّتُهُ حتى [ أيفع ] ، وفي نفسها منه ما في نفسها ، فكانت تتكشَّف له ، وتتزيَّن ، وتدعوه من وجه اللُّطفِ ؛ فعصمه الله " . قوله : { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } ، وهذه الجملة يجوز أن تكمون خبراً ثانياً ، وأن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً ؛ إمَّا من فاعل " تُرَاوِدُ " ، , وإمَّا من مفعوله ، و " حُبًّا " تمييزٌ ؛ وهو منقولٌ من الفاعليَّة ، وإذ الأصل : قد شغفها حبُّه . والعامةُ على " شَغَفَهَا " بالغين المعجمة المفتوحةِ ، بمعنى : خَرقَ شِغافَ قلبها ، وهو مأخوذٌ من الشِّغاف ، والشِّغاف : حجابُ القلب ، جليدةٌ رقيقةٌ ، وقيل : سويداءُ القلبِ . فعلى الأول ، يقال : شَغفتُ فلاناً ، إذا أصبت شِغافهُ ؛ كما تقولُ : كبدتهُ إذا أصبتَ كبدَه ، فمعنى : " شَغَفَهَا حُبّاً " أي : خرق الحبُّ الجلدَ ؛ حتَّى أصاب القلب ، أي : أنَّ حبَّه أحاط بقلبها ، مثل إحاطةِ الشِّغاف بالقلبِ ، ومعنى إحاطة ذلك الحبِّ بقلبها : هو أنَّ اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها ، وبين كلِّ ما سوى هذه المحبَّة ، فلا يخطر ببالها سواه ، وإن قلنا : إنَّ الشِّغاف سويداءُ القلبِ ، فالمعنى : أنَّ حبُّهُ وصل إلى سويداءِ قلبها . وقيل : الشِّغافُ داء يصلُ إلى القلب مِنْ أجل الحبِّ ، وقيل : جليدةٌ رقيقةٌ يقال لها : لسانُ القلبِ ، ليست محيطةً به . ومعنى : " شَغَفَ قلبَهُ " أي : خرق حجابهُ ، إذا أصابه ؛ فأحرقه بحرارةِ الحبِّ ، وهو من شغف البعير بالهِناءِ ، إذا طلاهُ بالقطرانِ ، فأحرقهُ . [ والمشغوف من وصل الحب لقلبه ] قال الأعشى : [ البسيط ] @ 3079ـ يَعْصِي الوُشَاةَ وكَانَ الحُبُّ آونَةٌ مِمَّا يُزيِّنُ للمَشْغُوفِ ما صَنَعَا @@ وقال النابغةُ الذبيانيُّ : [ الطويل ] @ 3080ـ وقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذلِكَ والِجٌ مَكَانَ الشِّغافِ تَبْتغيِهِ الأصَابعُِ @@ وقرأ ثابت البناني : بكسر الغين ، وقيل : هي لغة تميم ، وقرأ أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ـ ، وعليُّ بن الحسين ، وابنه محمدٌ ، وابنه جعفر والشعبي ، وقتادة رضي الله عنهم بتفحِ العين المهملةِ . وروي عن ثابت البناني ، وأبي رجاء : كسر العين المهملة أيضاً ، واختلف الناسُ في ذلك : فقيل : هو من شعف البعير ، إذا هنأهُ ، فأحرقه بالقطرانِ ، قاله الزمخشريُّ ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 3081ـ … كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي @@ وهذا البيتُ لامرىء القيس : [ الطويل ] @ 3082ـ أتَقْتُلنِي وقدْ شَعَفْتُ فُؤادهَا كَما شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي @@ والناسُ إنما يروونهُ بالمعجمة ، ويفسرونه بأنه أصاب حبُّه شغاف قلبها ، أي : أحرقَ حجابهُ ، وهي جليدةٌ رقيقةٌ دونه ، كما شغف ، أي : كما أحرق ، وأراد بالمَهْنُوءةِ : المطليَّة بالهناءِ ، أي : القطران ، ولا ينشدونه بالمهملة ، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى ؛ فقال : " الشَّغف : إحراقُ الحُبِّ للقلب مع لذة يجدها ؛ كما أنَّ البعير إذا طُلِيَ بالقطرانِ ، بلغ منه مثل ذلك ، ثم يَسْتَرْوحُ إليه " . وقال أبو البقاء رحمه الله لما حكى هذه القراءة : " مِن قولِكَ : فلانٌ مشغوفٌ بكذا ، أي : مغرمٌ به " . وقال ابنُ الأنباريِّ : " الشَّغفُ : رُءوسُ الجبالِ ، ومعنى شغف بفلانٍ : إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ " . وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال ابنُ زيدٍ : " الشَّغفُ يعني بالمعجمة في الحبِّ ، والشعف : في البغضِ " . وقال الشعبيُّ : الشَّغَفُ ، والمشغوفُ بالغينِ منقوطة في الحبِّ ، والشَّعفُ : الجنونُ ، والمَشْعُوفُ : المَجْنونُ . قوله : { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، أي : خطأ مبين ظاهر ، وقيل : معناه : إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر . " فلَّما سَمِعَتْ " راعيلُ " بِمكْرهِنَّ " ؛ بقولهنَّ ، وسمى قولهنَّ مكراً ؛ لوجوه : الأول : أنَّ النسوة ، إنما قلن ذلك ؛ مكراً بها ؛ لتُريهنَّ يوسف ، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله ؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك ، عرضتْ يوسف عليهنَّ ؛ ليتمهد عذرها عندهن . الثاني : أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف واستكتمتهُنَّ ، فأفشين ذلك السرَّ ؛ فلذلك سمَّاه مكراً . الثالث : أنهن وقعن في الغيبة ، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ ، فأشبهت المكر . { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } : قال المفسرون : اتخذت مأدبة ، ودعت جماعة من أكابرهن ، " وأعْتدَتْ " أي : أعدَّت " لهُنَّ مُتَّكئاً " . قرأ العامة : " مُتَّكئاً " بضم الميم ، وتشديد التاءِ ، وفتح الكاف والهمز ، وهو مفعولٌ به ، بـ " أعْتَدتْ " أي : هيَّأتْ ، وأحضَرتْ . والمُتَّكأ : الشيءُ الذي يتكأ عليه ، من وسادةٍ ونحوها ، والمُتَّكأ : مكان الاتِّكاءِ ، وقيل : طعام يُجَزُّ جزًّا . قال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد رضي الله عنهم ـ : " مُتَّكَئاً ، أي : طعاماً ، سمَّاه " مُتَّكَئاً " ؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا ، يتكئُون على الوسائدِ ، فسمى الطعامُ متكئاً ؛ على الاستعارة " . وقيل : " مُتَّكئاً " ، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين ؛ لأنه إذا كان كذلك ، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع . وقال القتبي : يقالُ : اتكأنا عند فلانٍ ، أي أكلنا . وقال الزمخشري : من قولك : اتكأنا عند فلانٍ ، طعمنا على سبيل الكناية ؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها ؛ قال جميلٌ : [ الخفيف ] @ 3083ـ فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ @@ فقوله : " وشَرِبْنَا " مرشحٌ لمعنى " اتَّكأنَا " : أكلنا . وقرأ أبو جعفر ، والزهريُّ رحمهما الله ـ : " مُتَّكأً " مشددة التاء ، دون همزٍ ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون أصله : " متكأ " كقراءة العامَّة ، وإنما خفف همزهُ ؛ كقولهم : " تَوضَّيْتُ " في توضَّأتُ ، فصار بوزن " مُتَّقى " . والثاني : أن يكون " مُفْتَعَلاً " من أوكيتُ القِربَة ، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ . فالمعنى : أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه ؛ إمَّا بالاتِّكاءِ ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين ، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ . وقرأ الحسن ، وابن هرمز : " مُتَّكاءً " بالتشديد والمد ، وهي كقراءةِ العامة ، إلاََّ أنه أشبع الفتحة ؛ فتولدت منها الألفُ ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3084ـ … ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ @@ وقول الآخر : [ الكامل ] @ 3085ـ يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ … @@ وقوله : [ الرجز ] @ 3086ـ أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ @@ بمعنى : بِمُنتزحٍ ، وينبع ، والعقرب الشَّائلة . وقرأ ابن عباسٍ ، وابن عمر ، ومجاهدٌ ، وقتادة ، والضحاك ، والجحدري ، وأبان بن تغلب رحمهم الله ـ : " مُتْكاً " بضمِّ الميم ، وسكون التاء ، وتنوين الكافِ ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ ، وعبد الله ، ومعاذ ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم . والمُتْكُ : بالضم والفتح : الأترجُّ ، ويقال : الأترنج ، لغتان ؛ وأنشدوا : [ الوافر ] @ 3087ـ فأهْدَتْ مُتْكَةً لِبَنِي أبيها تَخُبُّ بِهَا العَثَمْثَمَةُ الوَقَاح @@ وقيل هو اسمٌ لجميع ما يقطع بالسكين ، كالأترجِّ ، وغيره من الفواكه ، وأنشدوا : [ الحفيف ] @ 3088ـ نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا @@ قيل : هو من متك ، بمعنى بَتَكَ الشيء ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلاً من الباء ، وهو بدلٌ مطردٌ في لغة قومٍ ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقت هذه . وقيل : بالضمِّ : العسلُ الخالصُ عند الخليل ، والأترجُّ عند الأصمعيِّ ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ؛ أعني : ضمَّ الميم ، وفتحها ، وكسرها ، قال : وهو الشرابُ الخالصُ . وقال المفضلُ : هو بالضم : المائدة ، أو الخمر ، في لغة كندة ، وقال ابن عباس : هو الأترجُّ بالحبشة ، وقال الضحاك : الزَّمَاوْرَد ، وقال عكرمة : كل شيء يقطع بالسكين . وقوله : " لهُنَّ مُتَّكَئاً " إما أن يريد : كُلَّ واحدةٍ متكئاً ؛ ويدلُّ له قوله : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، وإما أن يريد : الجِنْسَ . والسِّكينُ : تذكرُ وتؤنث ، قاله الكسائي : والفراء ، وأنكر الأصمعي تأنيثه ، والسكِّينةُ : فعيلة من السكون ، قال الراغب : سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ ، فقوله : " وأتتْ " ، أي : أعطتْ { كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، إما لأجل الفواكه ، أو لأجل قطع اللحم ، ثم أمرت يوسف عليه الصلاة والسلام بأن يخرج عليهن ، وأنه عليه الصلاة والسلام ما قدر على مخالفتها ؛ خوفاً منها . { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } ، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف ، ومعنى " أكْبَرنَهُ " : أعظمنهُ ، ودهشن من حسنه ، وقيل : هي هاءُ السكتِ ؛ قال الزمخشري . وقيل : " أكْبَرْنَ " بمعنى : حِضْنَ ، والهاءُ للسَّكتِ ؛ يقال : أكبرت المرأةُ : إذا حاضتْ ، وحقيقته : دخلت في الكبرِ ؛ لأنها بالحيض تخرج عن حدِّ الصِّغر إلى الكبرِ ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رحمه الله أخذ من هذا التفسير قوله : [ الطويل ] @ 3089ـ خَفِ الله واسْترْ ذَا الجَمالَ بِبُرقُعٍ فإنْ لُحْتَ حاضتْ في الخُدورِ العَواتِق @@ وكون الهاء للسَّكتِ ، يردُّه ضم الهاءِ ، ولو كانت للسكتِ ، لسكنت ، وقد يقال : إنه أجراها مجرى هاء الضمير ، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها . قال أبو حيَّان رحمه الله : " وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل ، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت ، إذا لو كانت هاء السَّكت ، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء " . قال شهابُ الدِّين : " وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير ؛ إجراءً لها مجراها " ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً : [ البسيط ] @ 3090ـ واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ @@ قإنه رُوي بضم الهاء في " قَلْبَاهُ " ، وجعلوها هاء السَّكت ، ويمكن أن يكون " أكْبَرْنَ " بمعنى حضن ، ولا تكون الهاء للسكت ؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله ، أي : أكبرن الإكبار ، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ ، قوله [ البسيط ] @ 3091ـ يَأتِي النِّساءَ على أطْهَارِهنَّ وَلاَك يَأتِي النِّساءَ إذَا أكْبَرْنَ إكْبَارَا @@ قال الطبريُّ : البيت مصنوعٌ . فصل في صفة يوسف الخلقية روى أبو سعيد الخدريُّ رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَأيْتُ ليلةُ أسْرِيَ بِي إلى السَّماء يُوسفَ ، كالقَمرِ ليْلةَ البَدْرِ " . وقال إسحاقُ بنُ أبي فروة : " كان يوسفُ عليه الصلاة والسلام إذا سَار في أزِقََّةِ مِصر يُرى تَلألُؤ وجْههِ على الجُدرانِ ، كمَا يُرَى نُورُ الشَّمس في الماءِ عَليْهَا " . وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الإسراء : " فَمَررْتُ بيُوسفَ فإذَا هُوَ قَدْ أعْطِي شَطْرَ الحُسنِ " . قال العلماءُ رضي الله عنهم ـ : معناه أنه كان على النِّصفِ من حسن آدم صلوات الله وسلامه عليه ـ ؛ لأنَّ الله تعالى خلقه بيده ؛ فكان في غايةِ الحسنِ البشريّ ؛ ولهذا يدخل أهل الجنة على صورته ، وكان يوسف على النصفِ ، ولم يكن بينهما أحسنُ منهما ، كما أنَّهُ لم يكن بعد حوَّاء عليها السلام أشبهُ بها من " سارَّة " امرأة الخليل صلوات الله وسلامه عليه ـ . قال أبو العالية : " هَالهُنّ أمره إنَّهُن من دهْشتهِنَّ ، وحيْرتِهنَّ ؛ قطَّعنَ أيْديهُنَّ ، وهُنَّ يَحْسبنَ أنَّهن يقطِّعْنَ الأترجَ ، ولم يجدن الألَم ؛ لشغلِ قلوبهنَّ بيوسف " . وقال مجاهدٌ : ما أحْسَسْنَ إلا بالدَّمِ ، وذلك كنايةٌ عن الجرحِ ، لا أنَّهن ابنَّ أيديهنَّ ، كما قال قتادة . وقيل : إنهن لما دهشن ، صارت المرأةُ منهن بحيثُ لا تميز نصاب السِّكين من حديدها ؛ فكانت تأخذُ الجانب الحادِّ من تلك السكين بكفِّها ؛ فكانت تحصل تلك الجراحةُ بكفها . قال وهبٌ : ماتت جماعةٌ منهن . قال ابن الخطيب : وعندي أنَّهُ يحتملُ وجهاً آخر ، وهو أنهنَّ إنَّما أكبرنه ؛ لأنَّهن رأين عليه نُور النبوَّة ، وبهاء الرِّسالة وآثار الخضوع ، والإنابة ، وشاهدنَ منه معاني الهيْبَة ، والسكينة ، وهي عدمُ الالتفاتِ إلى المطعُومِ المنكُوحِ ، وعدم الاعتدادِ بهنَّ ، واقرانِ هذه الهيبة الإلهية ، بذلك الجمال العظيم ، فَتعجبن من تلك الحالةِ ، فلا جرم أكبرنه ، وعظمنهُ ، ووقع الرُّعبُ والمهابة في قلوبهن ، وهذا عندي أولى . فإن قيل : كيف يطابقُ على هذا التَّأويل قولها : " فَذلكُنَّ الَّذي لمتنَّني فيه " ؟ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوَّة العشق ، وإفراط المحبَّة ؟ . قلت : تقرر أن المحبُوب متبوع ، فكأنَّها قالت لهُنَّ : هذا الخلق العجيب انضمَّ إليه هذه السيرةُ الملكية الطَّاهرة المطهرة . فحسنه يوجب الحب الشَّديد ، والسِّيرة الملكية توجب اليأسَ عن الوصول إليه ، فلهذا وقعت في المحبَّة والحسرةِ ، وهذا التأويل أحسنُ ، ويؤيده قولهم : { مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } . قوله : " حَاشَا للهِ " عدَّها النحويون من الأدواتِ المترددة بين الحرفية والفعلية ، فإن جرَّت ، فهي حرفٌ ، وإن نصبت ، فهي فعلٌ ، هي من أدوات الاستثناء ، ولم يعرف سيبويه فعليَّتها ، وعرفها غيره ، وحكوا عن العرب : " غَفَرَ اللهُ لِي ، ولِمَنْ سَمِعَ دُعائِي ، حَاشَا الشَّيطانَ ، وابن أبي الأصْبَعِ " بالنصب ، وأنشدوا : [ الوافر ] @ 3092ـ حَشَا رَهْطَ النبيِّ فإنَّ مِنهُمْ بُحُوراً لا تُكدِّرُها الدِّلاءُ @@ بنصب " رَهْطَ " ، و " حَشَا " لغة في " حَاشَا " كما سيأتي . قال الزمخشري : " حَاشَى " كلمةٌ تفيد التنزيه ، في باب الاستثناء ، تقول : أساء القوم حَاشَى زَيدٍ ، وقال : [ الكامل ] @ 3093ـ حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ إنَّ بهِ ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ @@ وهي حرفٌ من حروف الجرِّ ؛ فوضعت موضع التنزيه ، والبراءةِ ، فمعنى حاشا للهِ : براءة الله ، وتنزيه الله ، وهي قراءة ابن مسعودٍ . قال أبو حيَّان : وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء ، غير معروفٍ عند النحويين ، لا فرق في قولك : قَامَ القومُ إلاَّ زيداً ، وقَامَ القوْمُ حَاشَا زيْد ولمَّا مثل بقوله : أساء القوم حاشا زيد ، وفهم من هذا التمثيل براءة زيدٍ من الإساءةِ ، جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ ، وأما ما أنشده من قوله : [ الكامل ] @ حَاشَا أبِي ثَوْبانَ @@ البيت . فهكذا ينشدهُ ابن عطيَّة ، وأكثر النحاة ، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدر بيتٍ على عجز آخر من بيتين ، وهما : [ الكامل ] @ 3094ـ حَاشَى أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبَا ثَوْبانَ لَيْسَ بِبَكْمَةٍ فَدْمِ عَمرو بنِ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ ضنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ @@ قال شهابُ الدِّين : " قوله : " إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشريُّ لا يعرفه النحاة " ولم ينكروه ؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم ؛ لأنَّ غالب : فَنِّهِمْ " صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولما ذكروا مع أدوات الاستنثاءِ " لَيْسَ " ، و " لا يكُونُ " و " غَيْر " ، لم يذكروا معانيها . إذ مرادهم مساواتها لـ " إلاَّ " في الإخراج ، وذلك لا يَمْنَع من زيادة معنى في تلك الأدوات " . وزعم المبردُ ، وغيره كابن عطيَّة : أنَّها تتعينُ فعليتها ، إذا وقع بعدها حرف جرٍّ كالآية الكريمة ، قالوا : لأن حرف الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3095ـ … وَلا لِمَا بِهِمْ أبَداً دَواءُ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 3096ـ فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَهُ عَن بِمَا بِهِ … @@ فيتعيَّن أن يكون فعلاً فاعله ضمير يوسف ، أي : حَاشَى يوسف ، و " للهِ " جارٌّ ومجرورٌ ، متعلق بالفعل قبله ، واللام تفيد العلَّة ، أي : حاشا يوسف أن يُقارِفَ ما رمته به ؛ لطاعة الله ، ولمكانه منه ، أو لترفيع الله أن يرمى بما رمتهُ به ، أي : جَانَبَ المعصية ؛ لأجل الله . وأجاب النَّاسُ عن ذلك : بأنَّ " حَاشَا " في الآية الكريمة ، ليست حرفاً ولا فعلاً وإنَّما هي اسم مصدر بدلٌ من اللفظِ بفعله ؛ كأنه قيل : تنزيهاً للهِ ، وبراءة له ، وإنما لم ينون ؛ مراعاة لأصله الذي نقل منه ، وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : " مِنْ عَنْ يَمِينه " فجعلوا " عَنْ " اسماً ، ولم يعربوه ، وقالوا : " مِن عليه " فلم يثبتوا ألفه مع الضمر بل أبقوا " عَنْ " على بنائه ، وقلبوا ألف " عَلى " مع المضمر ؛ مراعاة لأصلها ، كذا أجاب الزمخشريُّ ، وتابعه أبو حيَّان ، ولم يَعزُ لهُ الجواب ، وفيه نظرٌ ؛ أما قوله : " مراعاة لأصله " فيقتضي أنه نقل من الحرفيَّة ، إلى الاسمية ، وليس ذلك إلاَّ في جانب الأعلام ، يعني أنهم يُسمّون الشَّخص بالحرفِ ، ولهم ذلك مذهبان : الإعرابُ ، والحكايةٌ . أما أنهَم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي : يجعلونه اسماً ، فهذا غير معروف . وأما استشهاده بـ " عَنْ " ، و " عَلَى " فلا يفيده ذلك ؛ لأنَّ " عَنْ " حال كونها اسماً بنيت ، لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين ، لا أنَّها باقيةٌ على بنائها ، وأما قلب ألف " عَلَى " مع الضمير ، فلا دلالة فيه ؛ لأنَّا عهدنا ذلك ، فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كالذي ، والأولى أن يقال : الذي يظهرُ في الجواب عن قراءة العامَّة ، أنها اسمٌ منصوبٌ كما تقدم ، ويدلُّ عليه قراءة أبي السَّمال : " حَاشاً للهِ " منصوباً منوناً ، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفاً ؛ كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف ، كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرةٍ ، تقدم منها جملةٌ ، وسيأتي مثلها ، إن شاء الله تعالى . وقيل : في الجواب عن ذلك : بل بُنِيَتْ " حَاشَا " في حال اسميتها ؛ لشبهها بـ " حَاشَا " في حالِ حرفيَّتها ، لفظاً ومعنى ، كما بُنِيَتْ " عَنْ " ، و " عَلَى " لما ذكرناه . وقال بعضهم : إنَّ اللام زائدة ، وهذا ضعيف جدًّا بابه الشِّعر . واستدلَّ المبرد وأتباعه على فعليتها ، بمجيء المضارع منها ؛ قال النَّابغة الذبيانيُّ : [ البسيط ] @ 3097ـ وَلا أرَى فَاعِلاً في النَّاسِ يُشْبِههُ وَلا أحَاشِى من الأقْوامِ من أحَدِ @@ قالوا : تصرف الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل ، دليلٌ على فعليتها ، لا محالة . وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظ الحرف ؛ كما قالوا : سوَّفت بزيدٍ ، ولو كيت له ، أي : قلت له : سوف أفعل ، وقلت له : لو كان ، ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتملٌ . وممن رجح جانب الفعلية ، أبو علي الفارسي رحمه الله قال : " لا تَخْلُوا حَاشَى في قوله " حَاشَى للهِ " من أن يكون الحرف الجارُّ في الاستثناءِ ، أو يكون فعلاً على فاعل ، ولا يجوز أن يكون الحرف الجار ؛ لأنه لا يدخل على مثله ؛ ولأن الحروف لا يحذف منها ، إذا لم يكن فيها تضعيفٌ ، فثبت أنه فاعلٌ من " الحَشَا " الذي يراد به الناحية . والمعنى : أنه صار في حشا ، أي : في ناحية ، وفاعل " حَاشَى " يوسف ، والتقدير : بعد من هذا الأمر ؛ لله ، أي : لخوفهِ " . فقوله : " حرفُ الجرِّ لا يدخل على مثله " مُسلَّمٌ ، ولكن ليس هو هنا حرفُ جرِّ ، كما تقدم تقريره . وقوله : " لا يحذفُ من الحرفِ إلا إذا كان مُضَعَّفاً " ، ممنوعٌ ، ويدل له قولهم : " مُذْ " في " مُنْذُ " إذا جُرَّ بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيف ، قالوا : ويدلُّ على أنَّ أصلها : " منذ " بالنون ، تصغيرها على " مُنَيْذ " وهذا مقررٌ في بابه . وقرأ أبو عمرو وحده : " حَاشَا " بألفين ألفٌ بعد الحاءِ ، وألفٌ بعد الشين ، في كلمتي هذه السورة وصلاً ، ويحذفها وقفاً ؛ اتباعاً للرسم ، كما سيأتي ، والباقون بحذف الألف الأخيرة ؛ وصلاً ، ووقفاً . فأما قراءة أب عمرو ، فإنه جاء فيها بالكلمةِ على أصلها ، وأما الباقون : فإنهم ابتعوا في ذلك الرسم ، ولما طال اللفظُ ، حسن تخفيفه بالحذف ، ولا سيَّما على قول من يدَّعي فعليتها ، كالفارسيّ . قال الفارسي : " وأما حذفُ الألف ، فعلى : لمْ يَكُ ، وَلا أدْرِ ، وأصَابَ النَّاس جهدٌ ، ولو تَرَ ما أهْلَ مَكَّة ، وقوله : [ الرجز ] @ 3098ـ وصَّانِي العَجَّاجُ فِيمَا وَصَّني @@ في شعر رُؤبة ، يريد : لَمْ يكن ، ولا أدْرِي ، ولو ترى ، ووصَّاني " . وقال أبو عبيدة : رأيتها في الذي يقال له إنه الإمامُ مصحف عثمان رضي الله عنه " حَاشَ لله " بغير ألف ، والآخرى مثلها . وحكى الكسائيُّ : أنه رآها في مصحف عبد الله ، كذلك . قالوا : فعلى ما قال أبُو عبيد ، والكسائي : تُرجَّح هذه القراءةُ ، ولأن عليها ستةٌ من السبعةِ . ونقل الفراء : أن الإتمام لغةُ بعض العرب ، والحذف لغة أهل الحجاز ، قال : ومِنَ العرب من يقول " حَاشَى زَيْداً " أراد " حَشَى لزيدٍ " ، فقد نقل الفراء : أنَّ اللغات الثلاث مسموعةٌ ولكنَّ لغة أهل الحجازِ مُرجحةٌ عندهم . وقرأ الأعمش ، في طائفة " حَشَى للهِ " بحذف الألفين ، وقد تقدم أنَّ الفراء حكاها لغة عن بعض العرب ؛ وعليه قوله : [ الوافر ] @ 3099 حَشَى رَهْطَ النَّبيِّ … … @@ البيت . وقرأ أبي ، وعبد الله : " حَاشَى اللهِ " بجر الجلالةِ ، وفيها وجهان : أحدهما : أن تكون اسماً مضافاً للجلالة ، نحو سبحان الله ، وهو اختيارُ الزمخشريِّ . والثاني : أنه حرف استنثاءٍ ، جر به ما بعده ؛ وإليه ذهب الفارسيُّ . وفي جعله : " حَاشَا " حرف جرِّ مُراداً به الاستثناء ، نظرٌ ، إذْ لم يتقدم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسم المعظَّم ، بخلاف : قام القومُ حَاشَا زيدٍ ، واعلم أنَّ النحويين لما ذكروا هذا الحرف ، جعلوه من المتردِّد بين الفعلية ، والحرفية كما عند من أثبت فعليّته ، وجعله في ذلك كـ " خَلاَ " و " عَدَا " ، وهذا عند من أثبت حرفيته ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسمية ، والفعلية ، والحرفية ، كما فعلوا ذلك في " عَلَى " فقالوا : تكون حرف جرٍّ في " عَليْكَ " ، واسماً في قوله : " مِنْ عَليْه " ، وفعلاً في قوله : [ الطويل ] @ 3100ـ عَلاَ زَيْدُنَا يوْمَ النَّقَا … … @@ وإن كان فيه نظرٌ ، تلخيصه : أنَّ " عَلاَ " حال كونها فعلاً غيرُ " عَلَى " ، حال كونها غير فعلٍ ؛ بدليل أنَّ الألف الفعلية منقلبةٌ عن واوٍ ، ويدخلها التصريفُ ، والاشتقاقُ دون ذينك . وقد يتعلق من ينتصر للفارسي بهذا ، فيقول : لو كان " حَاشَا " في قراءة العامَّة اسماً ، لذكر ذلك النحويون عند ترددها بين الحرفية ، والفعلية ، فلمَّا لم يذكروه ، دلَّ على عدم اسميتها . وقرأ الحسن : " حَاشْ " بسكون الشين ، وصلاً ووقفاً ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ : " حَاشَ الإله " قال محذوفاً من " حَاشَا " يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرةِ ، ويدلُّ على ذلك ، ما صرَّح به صاحبُ اللوامح ، فإنه قال : " بحذف الألف " ثم قال : وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ ، يجر به ما بعده . فأما الإله : فإنه فكَّه عن الإدغام ، وهو مصدرٌ أقيم مقام المفعول ، ومعناه : المبعودُ ، وحذف الألف من " حَاشَ " ؛ للتخفيف . قال أبو حيَّان : " وهذا الذي قاله ابن عطية ، وصاحب اللوامح : من أنَّ الألف في " حَاشَا " في قراءة الحسنِ ، محذوفةٌ ، لا يتعيَّن إلاَّ أن ينقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين ، فإنه لم ينقل عنه في ذلك شيء ، فاحتمل أن تكون الألف حذفت ؛ لالتقاء الساكنين ، والأصل : حاشا الإله ، ثم نقل فحذف الهمزة ، وحرَّك اللام بحركتها ، ولم يعتدَّ بهذا التحريك ؛ لأنه عارضٌ ، كما تحذف في نحو " يخشى الإله " ولو اعتد بالحركة لم يحذف الألف " . قال شهابُ الدِّين رحمه الله ـ : الظاهر أن الحسن يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين ، ويستأنس له ، بأنه سكَّن الشين في الرواية الآخرى عنه ، فلما جيء بشيءٍ محتمل ، ينبغي أن يحمل على ما خرج به ، وقول صاحب اللّوامح : وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ يجرُّ به ما بعده ، لا يصحُّ ؛ لما تقدم من أنَّه لو كان حرف جرٍّ ، لكان مُستثنى به ، ولم يتقدم ما يُسْتثنى منه بمجروره . واعلم أنَّ اللام الداخلة على الجلالة ، متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيل البيانِ ، كهي في " سَقْياً لَكَ " ، و " رَعْياً لزيد " عند الجمهور ، وأما عند المبرد ، والفارسي : فإنها متعلقةٌ بنفس " حَاشَى " ؛ لأنها فعلٌ صريحٌ ، وقد تقدَّم أن بعضهم يرى زيادتها . قال المفسِّرون : معنى قوله : " حَاشَى لله " أي : تنزَّه الله تعالى عن العجز ، حيث قدر على خلق جميلٍ مثله ، وقيل : معاذ الله أن يكون هذا بشراً . قوله : " مَا هَذا بشراً " العامة على إعمال " ما " على اللغة الجازيَّة وهي اللغة الفُصْحَى ، ولغة تميم الإهمالُ ، وقد تقدَّم تخفيف هذا ، أول البقرة [ البقرة : 8 ] ، وما أنشده عليه من قوله : [ الكامل ] @ 3101ـ وأنا النَّذيرُ بحَرَّةٍ مُسْودًّةٍ … @@ البيتين . ونقل ابن عطيَّة : أنه لم يقرأ أحدٌ إلاَّ بلغة الحجاز ، وقال الزمخشري : ومن قرأ على سليقته من بني تميمٍ ، قرأ " بشرٌ " بالرفع ، وهي قراءة ابن مسعودٍ . فادعاءُ ابن عطية ، أنه لم يقرأ به ، غير مسلم . وقرأ العامة : " بَشَراً " بفتح الباءِ على أنها كلمةٌ واحدةٌ ، ونصب بنزع حرفِ الخفض ، أيّ : بِبشَرٍ . وقرأ الحسن ، وأبو الحويرث الحنفي : " بِشرَى " بكسر الباء ، وهي باءُ جرَّ ، دخلت على " شِرَى " فهما كلمتان ، جارٌّ ومجرورٌ ، وفيها تأويلات : أحدهما : ما هذا بمُشْتَرَى ، فوضع المصدر موضع المفعول به ، كـ " ضَرَبَ الأميرِ " . الثاني : ما هذا بمباع ، فهو أيضاً مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به ، إلاَّ أنَّ المعنى مختلفٌ . الثالث : ما هذا بثمنٍ ، يعنين أنه أرفعُ من أن يجري عليه شيءٌ من هذه الأشياء ، وروى عبدُ الوارث ، عن أبي عمرو كقراءة الحسن ، وأبي الحويرث ، إلاَّ أنه قرأ عنه إلا " مَلِك " بكسر اللام ، واحد الملوكِ ، نفوا عنه ذُلَّ المماليك ، وأثبتوا له عزَّ المُلوكِ ، وذكر ابنُ عطية : كسْرَ اللام عن الحسنِ ، وأبي الحُوَيْرث . وقال أبو البقاءِ : وعلى هذا قُرىء " مَلِك " بكسر اللام ، كأنه فهم أنَّ من قرأ بكسرِ الباءِ ، وقرأ بكسرِ اللام أيضاً ؛ للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءة مع كسر الباء ألبتة ؛ بل يفهم من كلامه أنَّه لم يطلعْ عليها ، فإنه قال : وقُرِىء ما هذا بِشِرَى أي : ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيمٍ ، { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } ، تقول : " هذا بِشرَى " ، أي : حاصلٌ بِشرَى ، بمعنى مُشْترَى ، وتقول : هذا لك بِشرَى ، أو بِكِرَى والقراءةُ هي الأولى ؛ لموافقتها المصحف ، ومطابقة " بَشَر " لـ " مَلِك " . قوله " لموافقتها المصحف " يعني أنَّ الرَّسم : " بَشَراً " بالألفِ ، لا بالياءِ ، ولو كان المعنى على " بُشْرَى " لرسم بالياءِ ، وقوله : " ومُطابَقة بشراً الملك " ، دليلٌ على أنه لم يطلع على كسرِ اللامِ ، فضلاً عمن قرأ بكسرِ الباءِ . فصل في معنى قوله : { مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } وجهان : أشهرهما : أن المقصود منه إثباتُ الحسن العظيم له ، قالوا : لأنه تعالى ركب في الطبائع أنَّ لا حيَّ أحسنُ من الملكِ ، كما ركَّب فيها أنَّ لا حيَّ أقبحُ من الشَّيطان ، ولذلك قال في صفة شجرةٍ جهنَّم : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } [ الصافات : 65 ] وذلك لما تقرَّر في الطبائع ، أنَّ أقبح الأشياءِ ، هو الشيطانُ ، فكذا هاهنا ، تقرَّر في الطبائع أنَّ أحسن الأشياءِ ، هو الملكُ ، فلما أرادت النسوةُ المبالغة في وصفِ يوسف في الحسنِ ، لا جرم شبَّهنهُ بالملك ، وقلن : " إنْ هَذَا إلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ " على الله من الملائكة . والوجه الثاني : قال ابنُ الخطيب : وهو الأقربُ عندي ، أن المشهور عند الجمهور ، أنَّ الملائكة مطهَّرون عن بواعثِ الشهوةِ ، وحوادث الغضب ، ونوازع الوهم ، والخيال ، فطعامهم توحيد الله ، وشرابهم الثناءُ على الله ، ثم إنَّ النسوة لما رأين يوسف ، لم يلتفتْ إليهن ، ورأين عليه هيبة النُّبوةِ ، وهَيْبة الرسالةِ ، وسيما الطَّهارة ، قلن : ما رأينا فيه أثراً من الشَّهوة ، ولا شيئاً من البشرية ، ولا صفة من الإنسانيةِ ، ودخل في الملائكة ، فإن قالوا : فإن كان المرادُ ما ذكرتم ، فكيف يتمهدُ عُذْرٌ المرأةِ عند النسوةِ ؟ فالجواب قد سبق . فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر احتج القائلون بأن الملك أفضلُ من البشر بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف صلوات الله وسلامه عليه ـ ، فوجب أن يكون إخراجه من البشرية ، وإدخاله في الملكيِّة ، سبباً لتعظيم شأنه ، وإعلاء مرتبته ، وإنما يكون كذلك ، إذا كان الملك أعلى حالاً من البشر . ثم نقول : لا يخلُوا إما أن يكون المقصودُ بيان كماله في الحسنِ الظاهر ، أو بيان كمال حُسْنِ الباطنِ الذي هو الخلق الباطن ، والأول باطلٌ لوجهين : الأول : أنهن وصفنه بكونه كريماً ؛ بحسب الأخلاق الباطنة ، لا بحسب الخلقةِ الظاهرة . والثاني : أنا نعلمُ بالضرورة أنَّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكةِ ألبتة ، وأما كونه بعيداً عن الشهوة ، والغضب ، معرضاً عن اللَّذات الجسمانية ، مُتوجِّهاً إلى عبوديةِ الله ، مستغرق القلبِ والرُّوحِ ، فهو مشتركٌ فيه بين الإنسان الكاملِ ، وبين الملائكةِ . إذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسانِ بالملكِ ، في الأمرِ الذي حصلت المشابهةُ فيه على سبيلِ الحقيقة ، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة ؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية ، إنَّما وقع في الخُلق الباطن ، لا في الصُّورة الظاهرةِ ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان في هذه الفضائل . قوله : " فَذلِكُنَّ " مبتدأ ، والموصول خبره ، أشارت إليه إشارة البعيد ، وإن كان حاضراً ؛ تعظيماً له ، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها . وجوَّز ابنُ عطية : " أن يكون " ذَلِكَ " إشارةً إلى حبِّ يوسف عليه الصلاة والسلام والضمير في " فِيهِ " عائدٌ على الحبِّ ، فيكون " ذَلِكَ " إشارةً إلى غَائبٍ على بابه " . يعنى بالغائب : البَعيِدَ ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً . وقال ابن الأنباري : " أشارت بصيغةِ " ذَلِكَ " إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ " . وقال الزمخشريُّ : " إنَّ النسوة كُنَّ قلن : إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ ، فلمَّا رأينه ، وقعن في تلك الدَّهشة ، قالت : هذا الذي رأيتموهُ ، هو العبد الكنعاني الذي لُمتُنَّنِي فيه ، يعني : أنكنَّ لم تصورنه بحقِّ صورته ، فلو حصلت في خيالكُنَّ صُورتهُ ، لتركتن هذه الملامةَ " . واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة ، في شدَّة محبَّتها له ، كشف عن حقيقة الحال ؛ فقالت : { ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ } وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة والسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ . وقال السديُّ : " فاسْتَعْصمَ " بعد حلِّ السَّراويل . قال ابن الخطيب : " وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب ؟ ! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت ، فقالت : { ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ } أي : فامتنع ، وإنما صرَّحت به ؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ ، وقد أصابهنَّ ما أصابها ، من رُؤيته . قوله : " فاسْتَعْصمَ " في هذه السين وجهان : أحدهما : أنها ليست على بابها من الطلب ، بل " اسْتَفْعَل " هنا بمعنى " افْتَعَل " فاستعصم و " اعْتصَمَ " واحدٌ وقال الزمخشريُّ : " الاستعصام بناءُ للمبالغة يدلُّ على الامتناع البليغ ، والتحفُّظ الشَّديد ، كأنه في عصمةٍ ، وهو مجتهدٌ في الزيادة فيها ، والاستزادة منها ، ونحوه : اسْتمْسَكَ ، واسْتوْسَعَ الفتقُ ، واسْتجْمَعَ الرَّأيُ ، واستفحل الخَطْبُ " فردّ السين إلى بابها من الطلبِ ، وهو معنًى حسنٌ ، ولذلك قال ابن عطية : " معناه طَلبَ العِصْمَةَ ، واسْتمْسَكَ بها وعصاني " قال أبو حيان : ذكره التَّصريفيُّون في " اسْتَعْصَم " : أنه موافقٌ لـ " اعْتَصَم " ، و " اسْتَفْعَلَ " فيه : موافق لـ " افتعل " وهذا أجودُ من جعل " استعفل " فيه للطلبِ ؛ لأن " اعْتَصَمَ " يدلُّ على اعتصامه ، وطلبُ العصمةِ لا يدلُّ على حصولها ، وأما أنه بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الاجتهادِ في الاستزادة من العصمة ، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لـ " اسْتَفْعَلَ " ، وأما " اسْتَمْسكَ ، واسْتَجْمَعَ الرأي ، واسْتوْسَعَ الفَتْقُ ، فـ " اسْتَفْعَل " فيه لموافقةِ " افْتَعَلَ " ، والمعنى : امتسك ، واتسع ، واجتمع ، وأما " اسْتَفْحَلَ الخَطْبُ " فـ " فاستَفْعَلَ " فيه موافقة لـ " تَفعَّل " أي : تفَحَّل الخطب نحو " اسْتَكْبرَ وتَكبَّرَ " . قوله : " مَا آمُرُهُ " في " مَا " وجهان : أحدهما : مصدريةٌ . والثاني : أنها موصولةٌ ، وهي مفعولٌ بها بقوله : " يَفْعَل " ، والهاءُ في " آمُرُهُ " تحتمل وجهين : أحدهما : العودُ على " مَا " الموصولة ، وإذا جعلناها بمعنى الذي . الثاني : العودُ على يوسف . ولم يجوِّز الزمخشريُّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت " ما " مصدرية ، فإنه قال : فإنْ قلت : الضميرُ في : " مَا آمُرُهُ " راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف ؟ قلتُ : بل إلى الموصول ، والمعنى : ما آمرُ به ، فحذف الجار ؛ كما في قوله : [ البسيط ] @ 3102ـ أمَرْتُكَ الخَيْرَ … … @@ ويجوز أن تجعل " ما " مصدرية ، فيعود على يوسف ، ومعناه : ولئنْ لم يفعل أمري إيَّاه ، أي : موجبُ أمري ، ومُقْتَضَاهُ " . وعلى هذا ، فالمفعولُ الأول محذوفٌ ، تقديره : ما آمره به ، وهو ضمير يوسف عليه السلام . قوله : { وَلَيَكُوناً } قرأ العامة بتخفيف نون " وليَكُوناً " ، ويقفون عليها بالألف ؛ إجراءً لها مجرى التنوين ، ولذلك يحذفونها بعد ضمةٍ ، أو كسرةٍ ، نحو : هل تقومون ؛ وهل تقومين ؟ في : هل تقومن ؟ والنونُ الموجودة في الوقف ، نونُ الرفع ، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها ، وقد تقرر فيما تقدَّم أنَّ نون التوكيدِ تثقَّل ، وتخفف ، والوقفُ على قوله : " ليُسْجَنَنَّ " بالنُّونِ ؛ لأنَّها مشددةٌ ، على قوله : " وليَكُوناً " بالألف ؛ لأنها مخففةٌ ، وهي شبيهةٌ بنون الإعراب في الأسماءِ ؛ كقولك : رأيتُ رجلاً ، وإذا وقفت قلت : رجلا ، بالألف ، ومثله : { لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ } [ العلق : 15 ] . و " مِنَ الصَّاغرينَ " من الأذلاَّءِ ، وقرأت فرقة بتشديدها وفيها مخالفةٌ لسوادِ المصحف ؛ لكتبها فيه ألفاً ؛ لأن الوقف عليها كذلك ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3103ـ وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْربنَّهَا ولا تَعْبُدِ الشَّيطانَ واللهَ فاعْبُدَا @@ أي : فاعْبُدنْ ، فأبدلها ألفاً ، وهو أحدُ الأقوالِ في قول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 3104ـ قِفَا نَبْكِ … … @@ وأجرى الوصل مجرى الوقف .