Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 23-29)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } [ الآية : 23 ] أعلم أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام كان في غاية الجمال ، فلما رأته المرأةُ ؛ طمعت فيه . " وَرَاوَدتْهُ " ، أي طالبته برفقٍ ولين قول ، والمُراودَةُ : المصدرُ ، والرِّيادةُ : طلب النِّكاحِ ، يقال : رَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها ، وراودته عن نفسه ، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء ، ومشى رويداً ، أي : برفقٍ في مِشْيتهِ ، والرَّودُ : الرِّفقُ في الأمورِ ، والتَّأنِّي فيها ، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك . والمِرْودةٌ هذه الآية منه ، والإرادة منقولة من رَادَ يَرُوُد إذا سعى في طلب حاجة ، وتقدَّم ذلك في البقرة : [ 26 ] . وتعدى هنا بـ " عَنْ " ؛ لأنه ضمن معنى خادعتهُ ، أي : خادعته عن نفسه ، والمفاعلة هنا من الواحدِ ، نحو : داويت المريض ، ويحتملُ أن تكون على بابها ، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق ، هي تطلبُ منه الفعل ، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ . والتشديدُ في " غَلّقتْ " للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ ، أي : أغلقت الأبواب وكانت سبعةً . قال الواحدي : " وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق ، يقال : غلق في الباطل ، وغلق في غضبه ، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف ، فيقال : أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه ، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [ هذا الفعل ] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً ، ومع الخوف الشديد " . قوله : " هَيْتَ لَكَ " اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة ، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ ؟ . فقيل : معربةٌ من القبطيَّة بمعنى : هلمَّ لك ، قاله السديُّ . وقيل : من السِّريانيَّة ، قاله ابن عبَّاس ، والحسن . وقيل : من العبرانية ، وأصلها : هَيْتَلخَ أي : تعاله فعربه القرآن ، قاله أبو زيدٍ الأنصاري . وقيل : هي لغة حورانيَّة وقعت [ إلى أهل ] الحجاز ، فتكلموا بها ، معناها : تعال ، قاله الكسائي والفراء ، وهو منقولٌ عن عكرمة . والجمهور على أنَّها عربيةٌ . قال مجاهدٌ : هي كلمةٌ حثِّ ، وإقبال . ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعليتها وفي بعضها اسميتها ، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها . فقرأ نافع ، وابن ذكوان : " هِيْتَ " بكسر الهاءِ ، وسكون الياءِ ، وفتح التَّاء . وقرأ ابن كثير " هَيْتُ " بفتح الهاء ، وسكون الياء ، وتاء مضمومة . وقرأ هشام " هِئْتُ " بكسر الهاءِ ، وهمزة ساكنة ، وتاء مفتوحة ، أو مضمومة . وقرأ الباقون : " هَيْتَ " بفتح الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مفتوحة . فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ . وقرأ ابن عباسٍ ، وأبو الأسود ، والحسنُ ، وابن محيصن بفتح الهاء ، وياء ساكنة وتاء مكسورة . وحكى النحاس : أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة . وقرأ ابن عباس رضي الله عنه أيضاً : " هُيِيْتُ " بضمِّ الهاءِ ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة " حُيِيْتُ " . وقرأ زيد بن علي ، وابن إبي إسحاق : بكسر الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مضمومة ، فهذه أربع قراءات في الشاذ ، فصارت تسع قراءات . وقرأ السلمي ، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً ، يعنى تهيأت لك ، وأنكره أبو عمرو ، والكسائي ، ولم يحك هذا عن العربِ ، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاسٍ " هُيِيْتُ " بزنة ، " حُيِيْتُ " وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء ، أم بالهمز ، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً ، نحو : أين ، وكيف ، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها بـ " حَيْثُ " ، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين كـ : " جَيْر " ، وفتح الهاء ، وكسرها لغتان ، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس " هُيِيْتُ " بزنة : " حُيِيْتُ " فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من " هَيَّأتُ الشَّيءَ " . ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء ، وضمَّ التاء ، فتحتمل أن تكون فيه اسم فعل [ بنيت على ] الضم ، كـ " حَيْثُ " ، وأن تكون فعلاً مسنداً لضمير المتكلم ، من : هاء الرَّجل يَهيءُ ، كـ " جَاء يَجِيءُ " ، وله حينئذ معنيان : أحدهما : أن يكون بمعنى : حسُنت هيئته . والثاني : أن يكون بمعنى تَهَيَّأ ، يقال : " هَيُئْتُ ، أي : حَسُنَتْ هَيْئتي ، أوْ تَهَيَّأتُ " . وجواز أبو البقاءِ : أن تكون " هِئْتَ " هذه من : " هَاءَ يَهَاءُ " كـ " شَاءَ يَشَاءُ " . وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز ، وفتح التَّاء ، فقال الفارسي : يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي ؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف ، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله : " وَرَاودَتْهُ " ، و " أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ " ، وتابعه على ذلك جماعة . وقال مكي بنُ أبي طالب : " يجبُ أن يكون اللفظ " هِئْتَ لي " أي : تهَيَّأتْ لِي ، ولم يقرأ بذلك أحدٌ ، وأيضاً : فإنَّ المعنى على خلافه ؛ لأنَّه [ لم يزل ] يفرُّ منها ، ويتباعد عنها ، وهي تراوده ، وتطلبه ، وتقدُّ قميصه ، فكيف تخبر أنه تهيأ لها ؟ " . وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى : تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حَسُنَتْ هَيْأتُكَ . و " لَكَ " متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ ، كأنها قالت : القول لك ، أو الخطاب لك ، كهي في " سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ " . قال شهابُ الدِّين : " واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً ، فإنَّها حينئذٍ تتعلق بالفعل ، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر " . وقال أبو البقاءِ : " والأشبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلاً ، لأنَّ ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عليه الصلاة والسلام " . وهو فاسدٌ لوجهين : أحدهما : أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها ، وإنَّما تَهيَّأتْ لهُ . الثاني : أنه قال : " لَكَ " ، ولو أراد الخطاب لقال : " هِئْتَ لي " ، وتقدم جوابه وقوله : " إنَّ الهمزة بدلٌ من الياءِ " . هذا عكس لغة العرب ، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها ، نحو : " بِير " و " ذِيب " ولا يقلبون الياء المكسور ما قبلها همزة ، نحو : مِيل ، ودِيك ، وأيضاً : فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع ، وابن ذكوان محتملة ؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة ، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها ، كالكلام في قراءة هشامٍ . واعلم أنَّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشامٍ ، وأمَّا ضمُّ التاء فغير مشهورٍ عنه . ثمَّ إنَّهُ تعالى أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام ، قال يوسف عليه الصلاة والسلام { مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } " مَعاذَ اللَّهِ " منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ ، أي : أعوذُ بالله معاذاً ، يقالُ : عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [ وعِيَاذةً ] ، ومعاذاً ، وعوْذاً ؛ قال : [ الطويل ] @ 3075ـ مَعاذَ الإلهِ أن تكُونَ كَظبْيةٍ ولا دُمْيةٍ ولا عَقِيلةِ ربْرَبِ @@ قوله " إنَّهُ " يجوز أن تكون الهاء ضمير الشَّأن ، وما بعده جملة خبرية له ، ومراده بربه : سيِّده ، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى ، و " ربِّي " يحتمل أن يكون خبرها ، و " أحسنَ " جملةٌ حاليةٌ لا زمةٌ ، وأن تكون مبتدأ ، " وأحْسنَ " جملة خبرية له ، والجملة خبر لـ " إنَّ " وقرأ الجحدريُّ ، وأبو الطفيل الغنوي " مَثْويَّ " بقلب الألف ياء ، وإدغامها كـ " بُشْرَيَّ " و " هُدَيَّ " . و : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ ؛ فعلى قولنا : إنَّ الضمير في قوله : { إِنَّهُ رَبِّيۤ } يعود إلى زوجها قطفير ، أي : إنه ربِّي سيِّدي ، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها : { أَحْسَنَ مَثْوَايَ } ، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل : إنها راجعةٌ إلى الله تبارك وتعالى أي : أنَّ الله ربي أحسن مثواي ، أي : تولاَّنِي ، ومن بلاء الجبّ عافاني : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } يعني : إن فعلتُ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي ، فأنا ظالمٌ ، ولا يفلحُ الظالمُونَ . وقيل : أراد الزناة ؛ لأنهم ظالمون لأنفسهم ؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه . فصل ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات : الأول : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان حراً ، وما كان عبداً ، فقوله : { إِنَّهُ رَبِّيۤ } يكون كذباً ، وذلك ذنبٌ وكبيرة . والجواب : أنه عليه الصلاة والسلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً . وأيضاً : إنَّه ربه ، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة ، فعنى بقوله : { إِنَّهُ رَبِّيۤ } كونه مربياً وهو من باب المعاريض الحسنةِ ، فإنَّ الظَّاهرِ يحملونه على كونه ربًّا ، وهو كأنه يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه . السؤال الثاني : ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء : أحدها : قوله : " مَعَاذ اللهِ " . والثاني : قوله : { إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } . والثالث : قوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض ؟ . والجواب : هذا الترتيب في غاية الحسن ؛ لأن الانقياد لأمر الله تعالى وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه ، وألطافه في حق العبدِ ، فقوله : { مَعَاذَ ٱللَّهِ } إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ . وأيضاً : حقوق الخلق واجبة الرعاية ، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي ، فيقبحُ معامله [ إنعامه ] بالإساءة . وأيضاً : صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب ، وهذه اللذَّة قليلة ، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة ، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها ، لقوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه : الترتيب . السؤال الثالث : هل يدلُّ قوله عليه الصلاة والسلام " مَعاذَ اللهِ " على صحَّةِ القضاء والقدر ؟ . والجوابُ : أنه يدل دلالة ظاهرة ؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل ، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل ، والقدرة وإزاحة الأعذار ، وإزالة الموانع وفعل الألطاف ؛ لأن كل هذا قد فعله الله تعالى ـ ، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل ، أو طلباً لتحصيل الممتنع ، وأنَّه محالٌ ، فعلمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة ، وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية ، وهو المطلوبُ . ويدلُّ على ذلك : " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع بصره على زينب قال : " يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك " وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة ، وإزالة داعية المعصية ، فكذا هنا . وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ـ : " قَلْبُ المُؤمنِ بَيْنَ أصْبُعيْنِ من أصَابع الرَّحْمنِ " قال : والمراد من الأصبعين : داعية الفعل وداعية التَّركِ ، وهَاتانِ الدَّاعيتانِ لاَ يَحْصُلانِ إلا بِخلْقِ الله تعالى وإلا لافْتقرَتْ إلى داعيةٍ أخرى ، ولزم التَّسلسلُ ؛ فثبت أن قول يوسف عليه الصلاة والسلام ـ : " مَعَاذَ اللهِ " من أدل الدَّلائلِ على صحَّة القول بالقضاءِ ، والقدرِ . قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ الآية : 24 ] جواب " لولاَ " ما تقدَّم عليها ، وقوله : " وهَمَّ بِهَا " عند من يجيزُ تقديم جواب أدوات الشرط عليها ، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك ، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً ، كقولهم : " أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ " ، أي : فعلت ، فأنت ظالمٌ ، ولا تقول : إن " أنت ظَالمٌ " هو الجوابُ ، بل دلَّ عليه دليلٌ ، وعلى هذا فالوقف عند قوله : " بُرْهَانَ ربِّه " والمعنى : لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها ، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه ، فلم يحصل منه همٌّ ألبتَّة ، كقولك : لولا زيدٌ لأكرمتك ، فالمعنى : إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد ، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد ، وهو : كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة . قال الزمخشري : " فإن قلت : قوله : " وهمَّ بِهَا " داخل تحت القسم في قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أم خارج عنه ؟ . قلت : الأمران جائزان ، و من حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم ، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ويبتدىء قوله : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ . فإن قلت : لِمَ جعلت جواب " لَوْلاَ " محذوفاً يدلٌّ عليه : " هَمَّ بِهَا " ، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً ؟ . قلت : لأن " لوْلاَ " لا يتقدم عليها جوابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ ، وللشَّرطِ صدر الكلام ، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين ، مثل كلمة واحدة ، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ ؛ فهو جائزٌ " . فقوله : " وأما حذف بعضها … إلخ " جواب عن سؤال مقدرٍ ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء ؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء . فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك ، وهو كما قال ، ثم قال : فإن قلتَ لمَ جعلتَ " لَوْلاَ " متعلقة بـ " هَمَّ بِهَا " وحدة ، ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر ، ولكن بالمعاني ، ولا بد من تقدير المخالطةِ ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً ، فكأنه قيل : همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما ؟ قلتُ : نعم ما قلت : ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } اهـ . والزجاج لم يرتض هذه المقالة ، أي : كون قوله : " لَوْلاَ " متعلقة بـ " هَمَّ بِهَا " فإنه قال : ولو كان الكلام " لَهمَّ بِهَا " لكان بعيداً ، فيكف مع سُقوطِ الكلام ؟ [ يعني ] الزجاج أنه : لا جائز أن يكون " هَمَّ بِهَا " جواباً لـ : " لَوْلاَ " ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ ؛ لأنه مُثبتٌ ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى ، وهي تقديمُ الجواب عليها . وجواب ما قاله الزجاجُ : ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم . وأما قوله : [ ولو كان ] الكلام : " ولهمَّ بِهَا " فغيرُ لازم ؛ لأنَّه متى كان جواب " لَوْ " ، و " لَوْلاَ " مثبتاً جاز فيه الأمران : اللام وعدمها ، وإن كان الإتيانُ باللاَّم هو الأكثر . وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال : " قول من قال : إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ، وأن جواب " لَوْلاَ " في قوله : " وهَمَّ بَهَا " ؛ وأنَّ المعنى : لولا أن رأى البرهان لهم بها ، فلم يهمَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال : وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب ، وأقوال السَّلف " . فقوله : " يردُّه لسانُ العرب " فليس كذلك ؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] فقوله : { إِن كَادَتْ } إمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك ، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب ، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان . وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه ، والغرض أن اللاَّم لم توجد . فصل الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه ، فهَمُّهَا : عزمُها على المعصية ، وأما همُّه : فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه حلَّ الهميان ، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ . وعن مجاهدٍ رحمه الله أنَّه حلّ سراويله ، وجعل يعالجُ ثيابه ، وهذا قولُ سعيد بن جبير ، والحسن ، وأكثر المتقدمين رضي الله عنهم ـ . وقيل غير ذلك . وقال أكثرُ المتأخِّرين : إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقالوا : تم الكلام عند قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } على التَّقديمِ ، والتَّأخير ، أي : لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها ، لكنه رأى البُرهان ، فلم يهمّ . قال البغويُّ : " وأنكره النُّحاة ، وقالوا : إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ " لَوْلاَ " عن الفعلِ فلا يقولون : قُمْتُ لولا زيدٌ ، وهي تريدُ : لولا زيدٌ لقُمْتُ " . وذكر ابنُ الخطيبِ عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ : " قال المفسِّرُون : هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً ، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه ؛ زالت كلُّ شهوة عنه . قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال : طمعت فيه ، وطمع فيها " . ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب ، ولم يذكُر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة ، ورُويَ أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا قال : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [ يوسف : 52 ] قال له جبريل عليه السلام : ولا حين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك : " ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي " . وقال بعضُ العلماءِ رضي الله عنهم ـ : الهَمُّ همَّان : همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل . وهمٌّ يخطرُ بالبالِ ، ويبرز إلى الفعل ، فالأوَّلُ مغفورٌ ، والثاني : غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ، فهمُّهُ عليه الصلاة والسلام كان خُطُوراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها { وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 25 ] . ويشهد للثاني قوله عليه الصلاة والسلام " إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتولُ في النَّار ، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ ؟ قال : لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ " . قال ابن الخطيب : وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين ، والمتكلِّمين : إنَّ يُوسفَ عليه الصلاة والسلام كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ ، والهَمّ المُحرَّم ، وبه نقولُ ، وعنه نذبُّ ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوهاً : الأول : أن الزِّنا من منكراتِ الكبائرِ ، والخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً : الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان ، وبقي مكفيَّ المؤنةِ ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إلى زمان شبابه ، وكما قوَّته ، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال ، وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بجميع الجهالات ، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله ، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ ، لا ستنكف منه ، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ } وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ماهيَّة السُّوء ، وماهية الفحشاء مصروفةٌ عنه ، والمعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع السوء ، والفحشاء ، وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية ، ثم يمدحه ، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم ، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب ، وأفحش الأعمال ، ثم يذكره بالمدح العظيم ، والثناءِ البالغ عقيبه ، فإنَّ ذلك مستنكرٌ جدًّا ، فكذا هاهنا . وأيضاًَ : فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ ، أو هفوةٌ ؛ استعظموا ذلك ، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ ، والتوبة ، والتَّواضع ، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة ، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ ، والاستغفار ، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع ، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ، ولا معصية . وأيضاً : فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة ، فقد شهد ببراءة يوسف عليه الصلاة والسلام عن المعصية ، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف والمرأة وزوجها ، والنسوة الشهود ، ورب العالم ، وإبليس . فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فادَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] و { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : 33 ] وأما المرأة ، فاعترفت بذلك ، وقالت للنسوة : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } [ يوسف : 32 ] وقالت : { الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 51 ] وأمَّا زوج المرأة فقوله : { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } [ يوسف : 28ـ 29 ] . وأمَّا الشهود فقوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف : 26 ] . وأمَّا شهادة الله تعالى بذلك فقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات : أولها : قوله : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ } . وثانيها : قوله : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ } . والثالث : قوله : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا } مع أنه تعالى قال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا } [ الفرقان : 63 ] . والرابع : قوله : " المُخْلصِينَ " ، وفيه قراءتان تارة باسم الفاعل ، وأخرى باسم المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه ، واصطفاه لحضرته ، وعلى كل [ وجه ] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه . وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82ـ83 ] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ ، وما أضله عن طريق الهدى ، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء . وإذا عرفت هذا فنقول : الكلام على ظاهر هذه الآية [ يقع ] في مقامين : المقام الأول : أن نقول : إنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام ما همَّ بها ، لقوله تعالى : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، وجواب " لَوْلاَ " ههنا مقدمٌ ، وهو كما يقالُ : قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك ، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين : الأول : أن تقديم جواب " لَوْلاَ " شاذٌّ ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ . الثاني : [ أنَّ ] " لَوْلاَ " يجابُ جوابها باللاَّمِ ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال : ولقد همَّت به ، ولهم بها لوْلاَ . وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً ، وهو : أنَّهُ لو لم يوجد الهمُّ لما كان لقوله : { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة . واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ ؛ لأنَّا [ لا ] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب " لَوْلاَ " حسنٌ جائزٌ ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب ، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال : " إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ " ، والذي همَّ بشأنه أعنى ؛ فكان الأمر في جواز التقديم ، والتَّأخير مربوطاًً بشدَّة الاهتمام ، فأمَّا تعيينُ بعض الألفاظِ بالمنع ، فذلك ممَّا لا يليقٌ بالحكمةِ ، وأيضاً ذكرُ جوابِ " لَوْلاَ " باللاَّم جائزٌ ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] . وأما قوله : لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله : { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة . فنقولُ : بل فيه أعظم الفوائدِ : وهو بيان أنَّ ترك الهمِّ بها ما كان لعدم رغبته في النِّساءِ ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، ثم نقول : الذي يدلُّ على أنَّ جواب : " لَوْلاَ " ما ذكرناه أن " لَوْلاَ " تستدعي جواباً ، وهذا المذكور يصلح جواباً له ؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال : إنَّا نضمر له جواباً ، وتركُ الجواب ذكر في القرآن ، فنقول : لا نزاع أنه ذكر في القرآن ، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً . وأيضاً : فالجواب إنَّما يحسن تركه ، وحذفه ، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه ، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً ؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب ، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات ، يحسن إضمار كل واحد منها ، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ . المقام الثاني : سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول : إن قوله : " وهمَّ بِهَا " لا يمكنُ حمله على ظاهره ؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد ، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات ؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور ، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه : الأول : المراد أنه عليه الصلاة والسلام همَّ بدفعها عن نفسه ، ومنعها من ذلك القبيح ؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ ، فوجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به ، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة ، والتَّمتُّع ، وأليق بالرسُولِ المبعوث إلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته ، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقال : هَمَمْتُ بفلان ، أي : قصدته ودفعته . فإن قيل : فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله : { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة قلنا : بل فيه أعظمُ الفوائد ، وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته ، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله ، فأعلمه الله تعالى أنَّ الامتناع من ضربها أولى ، لصون النَّفس عن الهلاك . الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لو اشتغل بدفعها عن نفسه ، فرُبَّما تعلقت به ، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام ، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام ، لكان يوسف هو الخائنُ ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة ، والله تعالى أعلمه بهذا المعنى ، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه ، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية . الوجه الثاني في الجواب : أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة ، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه : لا يهمُّنِي هذا ، وفيما يشتهيه : هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا . والمعنى : لقد اشتهته ، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود . الثالث : أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس ؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال ، إذا تزينت ، وتهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي ، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة ، وبين النفس ، والعقل محادثات ، ومنازعات ، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة ، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة ، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية ، ومثاله : أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم في الصيف الصَّائف ، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج ، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه ، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل ، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه ، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف ، وتعديد أسماءِ المفسرين ، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين . واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم : " ما كَذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ " فقلت : الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [ طريق ] الاستنكار : إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ ، فقلت له : يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ، ولا شك أن صون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب . إذا عرفت هذا الأصل ، فنقولُ للواحدي : ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين ، أو كاذبين . والله أعلم . فصل اختلفوا في البرهان ما هو ؟ . فقال المحققون المثبتون للعصمة : رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ : الاول : أنه حجَّة الله تعالى في تحريم الزِّنا ، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب . الثاني : أن الله تعالى طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة ، بل نقول : إنه تعالى ـ ، طهر نفوس المتصلين بهم عنها ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } [ الأحزاب : 33 ] والمراد برؤية البرهان : هو حصولُ ذلك الإخلاص ، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات . الثالث : أنه رأى مكتوباً في سقف البيت : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] . الرابع : أنَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكابِ الفواحشِ ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح ، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها ، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] وايضاً : فإن الله تعالى عيَّر اليهود بقوله { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] وما كان عيباً في حق اليهود ، كيف ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات . وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً : الأول : أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ ، والياقوت في زاوية البيت ، فسترته بثوبٍ ، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ـ ، [ ولم ؟ قالت : أستحي من إلهي أن يراني على المعصية ، فقال يوسف : ] أتستحين من صنم لايسمعُ ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت ، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً ، قال هذا هو البُرهَانُ . الثاني : نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّهُ تمثَّل له يعقوب ، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له : لا تعمل عمل الفُجَّار ، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فاستحى منه . قالوا : وهو قول عكرمة ، ومجاهدٍ ، الحسن ، وسعيد بن جبير . وروى سعيد بن جبير رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما تمثَّل له يعقوب ، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله . الثالث : قالوا : إنَّه سمع في الهواء قائلاً : يا بْنَ يعقوب ، لا تكن كالطَّير له ريش ، فإذا زنا ذهب ريشه . الرابع : نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج . قال ابنُ الخطيب : " ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال : هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له : إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها ، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه ، وأيضاً : فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية ، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً . وأيضاً : روي أن جبريل عليه الصلاة والسلام امتنع من دخول حجرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه بسبب وقع هناك بغير علمه ؛ قالوا : فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [ عليه ] أربعين يوماً ، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل ، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ـ ، ولو أنَّ أفسق الخلق ، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة ، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه ؛ وترك [ ذلك ] العمل وهاهنا يعقوب عليه الصلاة والسلام عضّ على أنامله ، فلم يلتفت ، ثمَّ إنَّ جبريل عليه الصلاة والسلام على جلالة قدره دخل عليه ، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره " . فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين ، والخذلان في طلب اليقين . فصل والفرق بين السوء ، والفحشاء من وجهين : الأول : أنَّ السوء : جناية اليد ، والفحشاء : الزِّنا . الثاني : السُّوء : مقدمات الفاحشة من القُبلةِ ، والنَّظر بالشَّهوة . والفحشاءُ : هو الزنا . قوله : " وكَذلِكَ " في هذه الكاف أوجه : أحدها : أنَّها في محل نصبٍ ، وقدَّره الزمخشريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه . وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك ، وقدَّره ابنُ عطيَّة : جرت أفعالنا ، وأقدارنا كذلك ، وقدره أبو البقاء : نراعيه كذلك . الثاني : أن الكاف في محل رفع ، فقدَّره الزمخشريُّ ، وأبو البقاء : الأمر مثل ذلك ، وقدَّره ابنُ عيطة : عصمته كذلك . وقال الحوفيُّ : أمر البراهين بذلك ثمَّ قال : والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها . الثالث : أنَّ في الكلام تقديماً ، وتأخيراً ، تقديره : همَّت به ، وهمَّ بها كذلك ثم قال : لولا أن رأى برهان ربه ، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة . وليس بشيءٍ ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم ، والتَّأخير لا معنى لما ذكره . قال أبو حيَّان : وأقولُ : إنَّ التقدير : مثل تِلْك الرُّؤية ، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا ، لنصرف عنه ، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي ، أو الرُّؤيةِ ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله : { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، و " لِنَصْرفَ " متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف ، ومصدر " رَأى " " رُؤيةٌ ورأيٌ " ؛ قال : [ الرجز ] @ 3067ـ ورَأيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أبَاكَا [ يُعْطِي الجَزيلَ فعَليْكَ ذَاكَا ] @@ وقرأ الأعمش " ليَصْرِفَ " بياء الغيبةِ ، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى قوله تعالى : { ٱلْمُخْلَصِينَ } قرأ هذه اللفظة [ حيث وردت ] إذا كانت معرفة بأل مكسورة اللام : ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر أي : الذين أخلصوا دينهم لله على اسم الفاعلِ ، والمفعول محذوفٌ ، والباقون بفتحها على أنَّه اسم مفعولٍ من أخلصهم الله ، أي : اجتباهم ، واختارهم ، وأخلصهم من كلِّ سوءٍ ، ويحتمل أن يكون لكونه من ذرية إبراهيم قال فيهم : { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ ص : 46 ] . وقرأ الكوفيُّون في مريم { إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } [ مريم : 51 ] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المتقدم والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم . قوله تعالى : { وَٱسُتَبَقَا ٱلْبَابَ } [ الآية : 25 ] " البَابَ " منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً ، إذ أصلُ " اسْتبَقَ " أن يتعدَّى بـ " إلى " ، وإما على تضمين " اسْتَبقَ " معنى ابتدر ، فينصب مفعولاً به . قوله تعالى : { وَقَدَّتْ } يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على " اسْتبقَا " أي : استبق ، وقدت ، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال ، أي : وقد قدَّت . والقدّ : الشَّقُّ مطلقاً ، قال بعضهم : القدُّ : فيما كان يشقُّ طولاً والقطُّ : فيما كان يشقُّ عَرْضاً . قال ابن عطية " وقرأت فرقة : وقَطّ " قال أبو الفضل بنُ حربٍ : رأيت في مصحف " وقطَّ مِنْ دبُرٍ " أي : شقَّ . قال يعقوب : القطُّ في الجلدِ الصحيح ، والثوب الصحيح ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 3077ـ تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ @@ فصل قال العلماء رضي الله عنهم وهذا الكلامُ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني ، وذلك أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى برهان ربِّه ، خرج حينئذ هارباً ، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه ، فجذبته إليها حتى لا يخرج " وقدَّتْ قَميصَهُ " [ أي ] : فشققته المرأة من دبر . والاستباقُ : طلبُ السَّبْق ، أي : يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب ، وخرج ، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب ، والمرأة تعدو خلفه ، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص ، فتعلقت به فقدته من خلفه ، فلمَّا خرجا " ألْفَيَا " ، أي : وجدا " سيِّدهَا " ، وإنما لم يقل سيدهما ؛ لأنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة " لَدى البابِ " أي : عند البابِ ، والمرأة تقول لبعلها : سيِّدي . فإن قيل : فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة . فالجواب : أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرأة من الوطء والخلوةِ ، والمباشرةِ ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة ، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه . قال القرطبيُّ : " والقبط يسمون الزوج سيداً ، ويقال : ألفاه ، وصادفهُ ، وواله ووَالطَه ، ولاطَهُ ، كلٌّ بمعنى واحدٍ " . فعند ذلك ، خافتِ المرأةُ من التُّهمةِ ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالفعلِ القبيح ، { وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } يعنى الزِّنا ، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت : { إلاَّ أن يُسجنَ } ، أي : يحبس ، { أوْ عذابٌ أليمٌ } أي : يُعَاقبُ بالضَّربِ . قوله : " مَا جزاءُ " يجوز في " مَا " هذه أن تكون نافية ، وأن تكون استفهاميَّة ، و " مَنْ " يجوز أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة . قوله : { إلاَّ أن يُسجنَ } خبر المبتدأ ، ولما كان " أن يُسْجنَ " في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر ، وهو قوله : " أوْ عذابٌ " . و " أوْ " تحتملُ معانيها ، وأظهرها التنويع . وقرأ زيد بن عليّ : ( أو عذاباً أليماً ) بالنصب ، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل ، أو أن يعذَّب عذباً أليماً . قوله : " هِيَ " ، ولم يقل هذه ، ولا تلك ، لفرط استحيائه ، وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور . فصل قال ابن الخطيب : في الآية لطائف : إحداها : أن حُبَّها الشَّديد ليوسف ، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع ، وذلك لأنَّها بدأت بذكر السِّجن ، وأخرت ذكر العذاب ؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب ، وأيضاً : لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين ، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت : { إلاَّ أن يُسجنَ } والمرادُ أن يسجن يوماً ، أو يومين ، أو أقل على سبيل التخفيف ، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبَّر عنه بهذه العبارة ، بل يقال : يجبُ أن يجعل من المسجونين ، كما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام حين هدَّدهُ { لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ] وأيضاً : لما شاهدت من يوسف أنه استعصم ، مع أنه كان في عنفوان العمر ، وكمال القوة ، ونهاية الشهوة ، وعظم اعتقادها في طهارته ، ونزاهته ، فاستحيتْ أن تقول : إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ . وأيضاً : يوسف عليه الصلاة والسلام أراد أن يضربها ، ويدفعها عن نفسه [ وكان ] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء ، فقولها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } له ظاهر وباطن ، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء ، وظاهره دفعه لها ومنعها ، فأرادت بقولها : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } فعل نفسها بقلبها ، أو في ظاهر الأمر ، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي ، ولما لطَّخت عرض يوسف بهذا الكلام ؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال : { هي راودتني عن نفسي } واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف : منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم ، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ . ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج ، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه . ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه ، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس . ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة ، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر . ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح ، بل ذكرت كلاماً مجملاً ، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر ، ولو كان مطاوعاً لها ، ما قدر على التَّصريح ، فإنَّ الخائنَ خائفٌ . وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة ، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب ، وأن المرأة هي المذنبة ، وهو قوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } فقوله : " مِنْ أهْلِهَا " صفة لـ : " شَاهِدٌ " ، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل ، إذْ لا يجوزُ قام القائم ، ولا : قعد القاعدُ ، لعدم الفائدةِ . واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ : الأول : أنه كان ابن عمَّها ، وكان رجلاً حكيماً ، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان مع زوجها ، يريد أن يدخل عليها ، وفقال الحكيمُ : { إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ } ، فأت صادقة ، والرَّجلُ كاذبٌ ، { وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ } ، فالرَّجلُ صادقٌ ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه ، قال ابن عمِّها : { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ أي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف : " أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ ، وقال لها : { وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } ، وهذا قولُ السدي ، وطائفة من المفسرين . قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات ، وله أصلٌ في الشَّرعِ ، قال تعالى : { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه ، وقال تعالى : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ : " انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ " . قال السهيلي : كان عامر بن الظرب العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به ، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحكم به ؟ فرأته جارية له ترعى ، وكان اسمها سخيلة ، فقالت له : ما لك ، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه ، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء ، فقالت له : " اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة ، وحكم بذلك القول . القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، وسعيد بن جبيرٍ ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد ، أنطقه اللهُ . قال ابن عبًّاس رضي الله عنه ـ : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف ، وعيسى ابن مريم عليه السلام ، وصاحبُ جريج الرَّاهب . قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه : الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام ، لكان مجرد قوله : " إنَّها كَاذبةٌ " كافياً ، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف ، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ . الثاني : أنه تبارك وتعالى قال : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه ، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه ، لا أن يشهد عليه ، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية ، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل ، ولو كان هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد ، لكان قوله حجَّة قاطعة ، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها ، وبين ألا يكون ، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه . الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف ، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة ، وإحاطته بها . القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص ، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد : " قُدَّ قيمصه من دُبُر " ، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل . واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال ، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا ، والمرأة غضبت عليه ، فهرب الرجل ، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل ، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً ، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً . جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين ، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى ، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها ، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات ، والمرجّحات . قوله : " إنْ كَانَ … " هذه الجملة الشرطية ، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره : " فقال " إن كان عند البصريين ، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين . قوله " مِنْ دُبرٍ … " ، و " مِنْ قُبُلٍ … " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين ، والجر والتنوين ، بمعنى : من خلف ، من قدام ، أي : من خلف القميص ، وقدامه وقرأ الحسن ، وأبو عمرو في رواية بتسكين العين تخفيفاً ، وهي لغة الحجاز ، وأسد ، وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات ، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وابن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائهما على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما كـ " قَبلُ ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة ، فجعلوهما غاية ، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه ، بعد ما كان المضاف إليه غايته ، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان ، وليسا بظرفين . قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية ، وإنما هذا البناء في الظروف . وقال الزمخشري : " والمعنى : من قبل القميص ، ومن دُبرهِ ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ " ، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين ، فمنعهما الصرف للعلمية ، والتَّأنيث ، وقد تقدم [ البقرة : 235 ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط ، هل تبقى على معناها من المضي ، وإليه ذهب المبرِّدُ ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟ . قوله : " فَكذَبَتْ " ، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ " ، لأنها تقرب الماضي من الحالِ ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاً ، فأما إذا كان جامداً ، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً ، ولا تقديراً . قوله : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ } : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته ، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها : " إنَّهُ " ، هذا الصَّنِيعُ ، أو قولك { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } { مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } وقيل : هذا من قول الشاهد . فإن قيل : إنه تعالى قال : { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم ، وأيضاً : فكيدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟ . فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة ، والسموات ، والكواكب خلقة ضعيفة ، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين ، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكْرِ ، والحِيل ، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب ، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال . ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف : " أعْرِضْ عَنْ هَذَا " الحديث ، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر ، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد . ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري " ، أي : اطلبي من زوجك المغفرة ، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك . قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف ، حتى كفى بادرته وحلم عنها . قال الزمخشري : " وإنما قال : { مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين ، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك . قال البغوي رحمه الله ـ : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين ، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى : { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } [ التحريم : 12 ] ، بيانه قوله : { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } [ النمل : 43 ] . قوله تعالى : " يُوسُفُ " ، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ . قال الزمشخريُّ : " لأنه منادى قريب مقاطن للحديث ، وفيه تقريبٌ له ، وتلطيفٌ بمحله " انتهى . وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه ، إلا الجلالة المعظمة ، واسم الجنس غالباً ، والمستغاثَ ، والمندوب ، واسم الإشارة عند البصريين ، وفي المضمر إذا نودِيَ . والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ـ ؛ لكونه مفرداً معرفةً ، وقرأ الأعمش بفتحها ، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه ، وعلى تقدير ثبوتها ، فقال أبو البقاء : فيها وجهان : أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر : [ الخفيف ] @ 3078ـ … يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي @@ يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به ، فحقه النصب ؛ كالبيت الذي أنشده ، واتفق أن يوسف لا ينصرف ، ففتحته فتحةُ إعرابٍ . والثاني ، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة ، ثم وصل ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء ، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها : " يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حكي : " اللهُ أكبرَ ، أشْهَدَ ألاّ " ، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر " ، وفي " أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم ، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث ، على السَّاكن قبله ، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك . والذي حكوه الناسُ ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف ، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : 1 ] . وقرىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً ، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ ، و " أعْرضَ " جملة من فعلٍ وفاعلٍ خبره . قال أبو البقاءِ : وفيه ضعفٌ ؛ لقوله : " واسْتَغْفرِي " ، وكان الأشبه أن يكون بالفاء : " فاسْتَغفِري " .