Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 35-42)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ } ، في [ فاعل " بدا " ] أربعةُ أوجه : أحسنها : أنَّه ضميرٌ يعود على " السَّجْن " فتح السِّين ، أي : ظهر لهم حبسُه ؛ ويدلُّ على ذلك اللَّفظ بـ " السِّجْن " في قراءةِ العامَّة ، وهو بطريقِ اللازمِ ، ولفظ " السَّجْن " في قراءة من فتح السين . والثاني : أنَّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل ؛ وهو " بَدَا " ، أي : بدا لهُم بداءٌ ، وقد صرَّح الشاعرُ به في قوله : [ الطويل ] @ 3105ـ … بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ @@ والثالث : أنَّ الفاعل مضمرٌ يدلُّ عليه السِّياقُ ، أي : لهم رأيٌ . والرابع : أنَّ نفس الجملة من " لَيَسْجننَّهُ " هي الفاعل ، وهذا من أصولِ الكوفيين ، وهذا يَقْتضِي إسنادَ الفعلِ إلى فعلٍ آخر ؛ واتفق النحاة على أنَّ ذلك لا يجوزٌ . فإذا قلت : " خَرَجَ ضَرَبَ " ، لم يفذْ ألبتة ، فقدَّروا : ثُمَّ بدا لهم سجنهُ ، إلاَّ أنه أقيمَ هذا الفعل مقام ذلك الاسم . قال ابنُ الخطيب : الاسمُ قد يكون خبراً ؛ كقولك : زيدٌ قائمٌ ، فـ " قائم " اسمٌ وخبرٌ ، فعلمنا أنَّ كون الشيءِ خبراً ، لا ينافي كونه مخبراً عنه ، وفي هذا الباب شكوكٌ : أحدها : أنَّا إذا قلنا : " ضَرَبَ فَعَلَ " ، والمخبر عنه بأنَّه فعل هو ضرب ، فالفعل صار مُخْبراً عنه . فإن قالوا : المخبر عنه هو هذه الصيغةُ ، وهذه الصيغة اسم ، فنقول : فعلى هذا التقدير ؛ يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل هو هذه الصيغة وهذه الصيغة اسم ، لا فعلٌ ، وذلك كذبٌ باطلٌ ، بل نقول : المخبر عنه بأنه فعلٌ : إن كان فعلاً ، فقد ثبت أنَّ الفعل يصحُّ الإخبار عنه ، وإن كان اسماً ، كان معناه : أنَّا أخبرنا عن الاسم بأنه فعلٌ ، وذلك باطلٌ . و " حتَّى " : غاية لما قبله ، وقوله : " ليَسْجُنُنَّهُ " ؛ على قول الجمهور : جوابٌ لقسم محذوفٍ ، وذلك القسم وجوابه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، أي : ظهر لهم كذا قائلين : والله ، لنَسْجُننَّهُ حتَّى حينٍ . وقرأ الحسن : " لتَسْجُنُنَّهُ " ، بتاء الخطاب ، وفيه تأويلان : أحدهما : أن يكون خاطب بعضهم بعضاً بذلك . والثاني : أن يكون خُوطبَ به العزيزُ ؛ تعظيماً له . وقرأ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه ـ : " عَتَّى " بإبدال حاءِ " حتَّى " عيناً ، وأقرأ بها غيره ، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه فكتب إليه : " إنَّ هَذَا القُرآنَ نَزلَ بلُغةِ قُريشٍ فأقْرىءِ النَّاس بلُغتِهِمْ " وإبدالُ الحاءِ عيناً لغةٌ هُذيلٍ . فصل في معنى الآية المعنى : ثُمَّ بَدَا للعزيزِ ، وأصحابه في الرأي ؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يقتصروا من أمر " يُوسفَ " على الإعراض عنه ، ثم بدا لهم أن يحبسُوه من بعد ما رأوا الآياتِ الدَّالة على براءةِ " يُوسفَ " من : قدِّ القميصِ ، وكلام الشَّاهِد ، وقطع النساءِ أيديهنَّ ، وذهابِ عقولهنَّ " ليَسْجُنُنَّهُ حتَّى حِينٍ " : إلى مُدَّةٍ يرون فيهَا رأيهم . وقال عطاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم ـ : إلى أن تنقطع قالة النَّاس ، قال عكرمةٌ : تِسْع سِنينَ ، وقال الكلبيُّ : خمس سنين . قال السديُّ : وذلك أنَّ المرأة قالت لزوجها : إنَّ هذا العبرانيَّ قد فَضحَنِي في الناس ؛ يُخْبرهم بأنِّي رَاودْتُه عن نفسه ، فإمَّا أن تأذن لي أن أخرج ، فأعتذرَ إلى الناسِ ، وإما أن تحبسه ، فحبسه . قال ابنُ عبَّاس عَثرَ يُوسفُ ثلاثَ عثراتٍ : حِينَ هَمَّ بها ؛ فسُجِنَ ، وحين قال : { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] ؛ { فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [ يوسف : 42 ] ، وحين قال لإخوته : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] ؛ { قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] . قوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانَ } [ يوسف : 36 ] قيل : هما غُلامانِ للملك الأكبر بمصر : أحدهما : خَبَّازٌ ، صاحبُ طعامه . والآخرُ : صاحبُ شَرابه ، غضب الملكُ عليهما فحَبسَهُما . قوله : " قَالَ أحَدهُمَا " : مُسْتأنفٌ لا محلَّ له ، ولا يجوز أن يكون حالاً ؛ لأنهما لم يقولا ذلك حال الدُّخولِ ، ولا جائزٌ أن تكون مقدَّرة ؛ لأنَّ الدخول لا يَئُولُ إلى الرؤيا ، و " إنِّي " وما في حيِّزه : في محل نصبٍ بالقول . و " أَرَانِي " : مُتعدِّيةٌ لمفعولين عند بعضهم ؛ إجراءً للحلمية مجرى العلمية ؛ فتكون الجملة من قوله : " أعْصِرُ " في محلِّ المفعول الثاني ، ومن منع ، كانت عنده في محلِّ الحالِ . وجرت الحلمية مجرى العلمية أيضاً في اتحاد فاعلها ، ومفعولها ضميرين متَّصلين ؛ ومنه الآيةٌ الكريمةُ ؛ فإنَّ الفاعل والمفعول مُتَّحدانِ في المعنى ؛ إذ هما للمتكلِّم ، وهما ضميران متصلان ، ومثله : رأيتك في المنام قائماً ، وزيدٌ رآه قائماً ، ولا يجوزُ ذلك في غير ما ذكر . لا تقول : " أكْرَمتُنِي " ، ولا " أكرمتَك " ، ولا " زيدٌ أكْرمَهُ " ؛ فإن أردت ذلك ، قل : أكْرمْتُ نَفْسِي ، أو إيَّاي ونفسكَ ، أوْ [ أكْرَمْتَ ] إيَّاك ونفسهُ ، وقَدْ تقدَّم تحقيق ذلك . وإذا دخلت همزةٌ النقل على هذه الحلمية ، تعدت لثالثٍ ، وتقدم هذا في قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً } [ الأنفال : 43 ] . والخَمْرُ : العِنَبُ ، أطلق عليه ذلك ؛ مجازاً ؛ لأنه آيلٌ إليه ؛ كما يطلق الشيء على الشيء ؛ باعتبار ما كان عليه ؛ كقوله { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ } [ النساء : 2 ] ، ومجاز هذا أقربُ ، وقيل : بل الخَمْرُ : العِنَبُ حقيقةً في لغةِ غسَّانٍ ، وإزْدِ عمان . وعن المُعْتَمر : لقيتُ أعْرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ ، فقلتُ : ما تحمل ؟ قال : خَمْراً . وقراءة " أبيِّ " ، وعبد الله : " أعْصِرُ عِنَباً " ، لا تدلُّ على الترادف ؛ لإرداتهما ؛ التفسير ، لا التلاوة ، وهذا كما في مصحف عبد الله : " فَوْقَ رأسِي ثَرِيداً " ، فإنه أراد التَّفسيرَ فقط . و " تَأكُلُ الطَّيْرُ " : صفةٌ لـ " خُبْزاً " ، و " فَوْقَ " يجوز أن يكون ظرفاً للحملِ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ ، حالاً من " خُبْزاً " إلاّ أنه في الأصل صفة له ، والضمير في قوله " نَبِّئْنَا بِتَأويلهِ " : قال أبو حيَّان : " عائدٌ على ما قَصَّا عليه ، أجري مُجْرَى اسم الإشارةِ ؛ كأنَّه قيل : تأويله ما رَأيْتَ " . وقد سبقه إليه الزمخشريُّ ، وجعله سُؤالاً ، وجواباً ، وقال غيره : إنَّما واحد الضمير ؛ لأن كلَّ واحدٍ سأل عن رُؤياه ؛ وكأن كلَّ واحد منهما قال : نبئنا مارأيتُ . و " تُرْزَقانِهِ " : صفةٌ لـ " طَعَامٌ " ، وقوله " إلاَّ نَبَّأتُكُمَا " : استثناء مفرَّغٌ ، وفي موضعِ الجملة بعدها وجهان : أحدهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وساغ ذلك من النكرةِ ؛ لتخصُّصها بالوصف . والثاني : أن تكون في محلِّ رفعٍ ؛ نعتاً ثانياً لـ " طَعَامٌ " . والتقدير : لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه مُنَبَّاً بتأويله ، أو مُنَبَّأٌ بتأويله ، و " قَبْلَ " الظاهرُ أنَّها ظرفٌ لـ " نَبَّأتُكُمَا " ، ويجوز أن يتعلق بتأويله ، أي : نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه . فصل قيل : إنَّ جماعة من أهل مصر ، أرادوا المكر بالملك ، فَضَمِنُوا لهذين الرجلين مالاً ، ليَسُمَّا الملك في طعامه ، وشرابه ، فأجاباهم ، ثمَّ إن الساقي نكل عنه ، وقبل الخبازُ الرشوة فسمَّ الطَّعام ، فلما أحضروا الطعام ، قال السَّاقي : لا تأكلْ أيُّها الملك ؛ فإنَّ الطعام مسمومٌ ، وقال الخبَّازُ : لا تشربْ أيها الملكُ ؛ فإنَّ الشراب مسمومٌ ، فقال الملك للساقي : اشربْ ، فشربهُ فلم يضرُّه ، وقال للخبَّاز : كل من طعامك ، فأبى ، فجرَّب ذلك الطعام على دابَّة ، فأكلتهُ : فهلكتْ ؛ فأمر الملك بحبسهما . وكان يوسف حين دخل السِّجن ، جعل ينشر علمه ، ويقول : إنِّي أعبِّر الأحلام ، فقال أحدُ الفتيين لصاحبه : هلُمَّ فلنجرب هذا العبد العبرانيَّ ، فتراءيا له ، فسألاه من غير أن يكونا رأياً شيئاً . قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه ـ : " مَا رَأيَا شَيْئاً وإنَّما تَحالَمَا ليُجَرِّبَا يُوسفَ " عليه السلام ـ . وقيل : بل رأيا حقيقة ، فرآهما يوسف عليه الصلاة والسلام وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فذكرا أنَّهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤية همَّتهما ، فقال يوسف صلوات الله ، وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين ـ : قُصَّا عليَّ ما رأيتما ! فقصَّا عليهن فعبَّر لهما ما رأياهُ ، وعرف حرفة كلِّ واحدٍ من منامه . وتأويلُ الشَّيء ، ما يرجعُ إليه ، وهو الذي يَئُولُ إليه آخرُ ذلك الأمر . ثم قالا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } : في أمر الدين ، أي : نراك تُؤثِرُ الإحسانَ ، وتأتي مكارمَ الأخلاق . وقيل : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } في علم التعبير ؛ وذلك أنَّه حين عبَّر لم يخطىء . [ وقيل : إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم ، فقالوا إنَّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب ] . فصل في حقيقة علم التعبير وحقيقة علم التَّعبير : أنه تعالى خلق جوهر النَّفس الناطقة ، بحيث يمكنها الصعودُ إلى عالم الأفلاكِ ، ومطالعةُ اللَّوحِ المحفوظِ ، والمانعُ لها من ذلك : اشتغالها بتدبير البدنِ ، فوقت يقلُّ هذا الاشتغال ، يقوى على هذه المطالعة ، فإن وقعت على حالةٍ من الأحوال ، تركت آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراكِ الرَّوحاني ، إلى علم الخيال ، فالمعبِّر يستدلُّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيَّة . قال صلوات الله وسلامه عليه ـ : " الرُّؤيَا ثلاثةٌ : رُؤيَا ما يُحدِّثُ الرَّجلُ بِهِ نفسهُ ، ورُؤيَا تحدثُ من الشَّيطانِ ، ورُؤيَا جُزءٌ مِنْ ستَّةٍ وأرْبَعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوَّةِ " . فصل في قوله يوسف ما أحبني أحد قط الإ دخل عليّ من حبه بلاء ، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له : رُويَ أنَّ الفتيين لمَّا رأيا يُوسُفَ ، قالا : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسفُ : ناشدتكما ، لا تُحِبَّاني ؛ فواللهِ ما أحبَّنِي أحدٌ قط ؛ إلاَّ دخل عليَّ مِنْ حبِّه بلاءٌ ، لقد أحَبَّتْنِي عمَّتي ، فدخل عليَّ بلاءٌ ، ثم أحبَّني أبِي ، فألقيتُ في الجبِّ ، وأحبَّتْنِي امرأةُ العزيز ، فحُبِسْتُ . فلما قصَّا عليه الرؤية ، كره يوسفُ أن يعبِّر لهما ما سألاه ، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما ، وأخذ في غيره ، من إظهار المعجزة ، والدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ . فقال : { لا يأتيكما طعام ترزقانه } قيل : أراد به في النوم ، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما ، إلاَّ نبأتكما بتأويله في اليقظةِ ، وقيل : أراد به في اليقظةِ ؛ فقوله { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في منازلكما تطعمانه ، وتأكلانه " إلاَّ نَبَّأتُكمَا " أخبرتكما " بتأويلهِ " بقدره ، ولونه ، والوقت الذي يصلُ إليكما ، قبل أن يصل ، وأيَّ طعام أكلتم ، وكم أكلتم ومتى أكلتم . وهذا مثلُ معجزةِ عيسى عليه الصلاة والسلام حيثُ قال : { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [ آل عمران : 49 ] . فقال : هذا فعلُ القوَّافين والكهنةِ ، فمن أين لك هذا العلم ؟ . فقال : ما أنا بكاهنٍ ، وإنما ذلك العلمُ مما علَّمني ربِّي . ثم قال : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } ، وفي سؤالٌ : وهو قوله : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } يوهمُ أنه صلوات الله وسلامه عليه كان في هذه الملَّة ؟ . والجوابُ من وجوه : الأول : أنَّ التَّرك عبارةٌ عن عدمِ التعرُّضِ للشيء ، وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه . والثاني : أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم ولعلَّه قبل ذلك كان لا يظهرُ التوحيد ، والإيمان ؛ خوفاً منهم ، ثم إنَّه أظهره في هذا الوقت ؛ فكان هذا جارياً مجرى تركِ ملَّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر . قوله : ( إني تركت ) يجُوز أن تكون هذه مستأنفة ، أخبر بذلك عن نفسه ، ويجوز أن تكون تعليلاً لقوله : { ذلك مما علمني ربي } ، أي : تركي عبادة غير الله ، سببٌ لتعليمه إيَّاي ذلك ، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإعراب ، و " لا يُؤمِنُونَ " : صفةٌ لـ " قومٍ " . وكرَّر " هُمْ " في قوله : { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } ؛ قال الزمخشريُّ : " للدَّلالة على أنهم خُصُوصاً كافرون بالآخرة ، وأنَّ غيرهم مؤمنون بها " . قال أبُوا حيَّان : " وليستْ " هُمْ " عندنا تدلُّ على الخُصوصِ " . قال شهابُ الدِّين : " لم يَقُل الزمخشريُّ إنها تدلُّ على الخُصُوصِ ، وإنَّما قال : " وتكرير " هُمْ " للدلالةِ على الخصوصِ " فالتكريرُ هو الذي أفاد الخصوص وهو معنًى حسنٌ " . وقيل : كرَّر " هُمْ " ؛ للتوكيد . وسكَّن الكوفيُّون الياء مِنْ : " آبَائِي " ، ورويت عن أبي عمرٍو ، وإبراهيم ، وما بعده : بدلٌ ، أو عطفُ بيانِ ، أو منصوبٌ على المدح . قوله { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ، لمَّا ادَّعى النبوة ، وتحدَّى بالمعجزة وهوعلمُ التَّعبير قرَّر كونه من أهل النبوة ، وأنَّ أباه وأجداده كانوا أنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّ الإنسان متى ادَّعى حرفة أبيه وجده ، لم يستبعد ذلك منه ، وأيضاً : فكما أنَّ درجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسحاق ، ويعقوب ، كان أمْراً مشهوراً في الدنيا ، فإذا ظهر أنَّهُ ولدهم ، عظَّموه ، ونظروا إليه بعينِ الإجلالِ ؛ فكان انقيادهم له أتمَّ وتتأثر قلوبهم بكلامه . فإن قيل : إنَّه كان نبيَّا ، فكيف قال : { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ } ، والنبيُّ لا بدَّ وأن يكون مختصاً بتشريعة نفسه ؟ . فالجواب : لعلَّ مراده أنَّ التوحيد كلا يتغيَّر ، ولعله كان رسُولاً من عند الله ؛ إلاَّ أنه كان على شريعةِ إبراهيم صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء المرسلين ـ . قوله : { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } فيه سؤال : وهو أنَّ حال كُلِّ من المكلفين كذلك ؟ . والجواب : ليس المراد بقوله : " مَا كَانَ لنَا " أنَّهُ حرَّم ذلك عليهم ، بل المرادُ أنه تبارك وتعالى طهَّره ، وطهر آباءه عن الكفر ؛ كقوله { مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] . قوله : " مِنْ شيءٍ " يحوز أن يكون مصدراً ، أي : شيئاً من الإشراك ، ويجوزُ أن يكون واقعاً على الشِّرك ، أي : ما كان لنا أن نُشرِكَ شيئاً غيره من ملكٍ ، أو إنسٍ ، أو جنٍّ ، فكيف بصنَمٍ ؟ . و " مِنْ " [ مزيدة ] على التَّقديرين ؛ لوجود الشرطين . ثم قال : " ذلِكَ " أي : التَّوحيد والعلمُ { مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ } ، بِمَا بيَّن لهم من الهدى ؛ { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } نعم الله على الإيمان . حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر ، وقال له : يا هذا : هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا ؟ فإنْ قلت لا ، فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته ، فكيف تشكرهُ على ما ليس فعلاً له ؟ . فقال له بشرٌ : إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا : القدرة ، والعقل ، والآلة ، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان ، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً ، فذلك باطلٌ ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ ، وقال : إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان ، بل اللهُ يشكرنا عليه ؛ كما قال تعالى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] فقال بشرٌ : " لمَّا صعب الكلامُ ، سهُلَ " . قال ابنُ الخطيب : " واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ ؛ بنص هذه الآية ؛ لأنَّه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ ، وتكمُل الدلالة " . قال القاضي : قوله : " ذلِكَ " إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ ، فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بإلطافه ، وتسهيله ، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة . والجواب : أنَّ " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى المذكورِ السابقِ ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل ؛ فكان هذا تركاً للظاهر ، وأمَّا صرفه إلى النبوة ، فبعيدٌ ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات ، وهو هنا عدمُ الإشراك . قوله تعالى : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ } : يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظرف ؛ إذ الأصل : يا صاحبيّ في السِّجن ، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمفعول به ، والمعنى : يا سَاكِني السِّجن ، وذكر الصُّحبة ، لطُولِ مقامهما فيه ؛ كقوله تعالى : { أَصْحَابُ النَّارِ } [ الأعراف : 44 50 ] . وقوله : { أَمِ ٱللَّهُ } ، هنا : متًّصلةٌ ؛ عطفت الجلالة على " أرْبَابٌ " . فصل اعلم أنه عليه الصلاة والسلام لما ادَّعى النبوة في الآية الأولى ، وكان إثباتُ النبوة مبنينًّا على إثبات الإلهيَّة ، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر ، وإنما الشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفلكية ، ويعبدونها ، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها ، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في المنع من هذه ، وكان الأمرُ على هذا إلى زمانِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين ـ . فلهذا السبب ، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام ؛ فقال : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } ، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام : أنه تعالى بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفساد في هذا العالم ؛ لقوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد ، وكونُ الإله واحدٌ ، يقتضي حصول الانتظام ، وحسن الترتيب قال هاهنا : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } . وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ ، توجب الخلل والفساد في العالم : أنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ ، لم نعلم من الذي خلقنا ، ورزقنا ، ودفع الآفاتِ عنَّا ؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك . ومعنى : كونهم متفرقين ، أي : شتَّى ، هذا من ذهب ، وهذا من فضةٍ ، وهذا من حديدٍ ، وهذا أعلى ، وهذا أوسط ، وهذا أدْنَى ، متباينون لا تضر ولا تنفعُ . { خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } ، " الوَاحِدُ " : لا ثاني لهُ ، " القَهَّارُ " الغالبُ عل الكلِّ . ثُمَّ عجز الأصنام ، فقال : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً } أي : من دون الله ، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين ؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن ، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك . فإن قيل : لم سمَّاها أرباباً ، وليست كذلك ؟ . فالجواب : لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك ، وأيضاً : الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ ، والتقدير ، والمعنى : أنَّها إن كانت أرباباً ، فهي خيرٌ أم الله الواحد القهار ؟ . فإن قيل : كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ ، وبين الله تعالى ـ ، حتَّى قيل : إنها خيرٌ أم اللهِ ؟ . فالجوابُ : أنَّهُ خرج على سبيل الفرض ، والمعنى : لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير ، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار ؟ . قوله تعالى : { إِلاَّ أَسْمَآءً } ، إما أن يراد بها المسميات ، أو على حذف مضاف ، أي : ذواتُ المُسمَّيات ، و " سَمِّتُمُوهَا " : صفةٌ ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما ، أي : سَمَّيتُمُوها آلهة . و " مَا أنْزَلَ " : صفةٌ لـ " أسْمَاء " ، و " مِنْ " : زائدةٌ في : " مِنْ سُلطَانٍ " ، أي : حُجَّةٍ . و " إن الحُكْمُ " : " إنْ " نافيةٌ ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء ؛ كقوله : { وَقَالَتِ اخْرُجْ } [ يوسف : 31 ] ، ونحوه ؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌ ، فهي فاصلةٌ بينهما . فصل قال في الآية : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } ، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات ، ثم قال في عقبه : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } ، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ ، وبينها تناقضٌ . والجوابُ : أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ ؛ وبيانه من وجهين : الأول : أن ذوات الأصنام ، وإن كانت موجودةً ، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية ، وإذا كان كذلك ، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَّة في الحقيقة غير موجودٍ ، ولا حاصلٍ . الثاني : رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب ، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام ، قالوا : نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم ، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم ، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها ؛ لاعتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك . فأجاب الله تعالى عنه ، فقال : أمَّا تسميتها بالآلهةِ ، فما أمر الله بذلك ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة ، ولا برهاناً ، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله ، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ . ثم إنه تعالى : { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } : لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم ؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه : الخلقُ ، والإحياءُ ، والعقلُ ، والرزقُ ، والهدايةُ ، ونَعمُ الله كثيرةٌ ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهٍ . ثم قال تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية ، والمناسباتِ الكوكبيَّة ؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ . ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان ، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ ، أنَّ المدبِّر [ لحدوث ] الحوادث في العالم ، هو الشمسُ والقمر ، وسائرُ الكواكب . ثم إنه تعالى إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ ، وعرف أنَّها في ذواتها ، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ ، مبدع قادرٍ ، قاهر ، عليم ، حكيمٍ ، فذلك الشخصُ يكون في غاية النُّدرةِ ؛ فلهذا قال : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . قوله " أمَرَ " يجوز أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالاً ، و " قد " معه مرادة عند بعضهم . قال أبو البقاءِ : وهو ضعيفٌ لضعف العامل فيه . يعني بالعامل : ما تضمنه الجَارُّ في قوله " إلاَّ الله " من الاستقرار . قوله تعالى : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي } ، العامَّة على فتح الياء ، من سقاه يسقيه ، وقرأ عكرمة في رواية " فيُسْقِي " بضم حرفِ المضارعة من " أسْقَى " وهما لغتان ، قال : سقاه ، وأسقاه ، وسيأتي أنَّهُما قراءتان في السبع ، و { نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، وهل هما بمعنَى أم بينهما فرقٌ ؟ . ونقل ابنُ عطيَّة ، عن عكرمة ، والجحدريِّ : أنَّهما قرءا " فيُسْقَى ربُّهُ " مبنيًّا للمعفول ، ورفع " ربُّهُ " ، ونسبها الزمخشريُّ لعكرمة فقط . فصل اعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قرَّر التوحيد والنبوة ، عاد إلى الجواب عن السُّؤالِ الذي ذكر ، ففسَّر رُؤياهما ، فقال : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا } ، وهو صاحبُ الشَّراب " فيَسْقِي ربَّهُ " : يعني الملك ، وأما الآخرُ : يعنى الخبَّاز ، فيدعوه الملكُ ، ويخرجه ، ويصلبه ؛ فتأكل الطيرُ مِنْ رأسه . قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه ـ : " لمَّا سَمِعَا قول يوسف صلوات الله وسلامه عليه قالا : مَا رَأيْنَا شَيْئاً إنَّما كُنَّا نلعَبُ " ، قال يوسف : " قُضِيَ الأمْرُ الذي فِيهِ تَسْتفتيَانِ " . فإن قيل : هذا الجوابُ الذي ذكره يوسف عليه الصلاة والسلام ذكره ؛ بناءً على أنَّ الوحي من قبل الله تعالى أو بناءً على علم التَّعبير . والأول باطلٌ ؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما نقل أنه إنَّما ذكره على سبيل التعبير ، وأيضاً قال الله : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا } ، ولو كان ذلك التعبير مبنيًّا على الوحي ، كان الحاصلُ منه القطعُ واليقينُ ، لا الظنُّ والتَّخمينُ . والثاني أيضاً باطلٌ ؛ لأن علم التعبير مبنيٌّ على الظنِّ ، والقضاءُ : هو الإلزامُ والجزمُ والحكمُ البتُّ ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنِّ والحسبانِ ؟ . والجواب : لا يبعد أن يقال : إنهما سألاه عن ذلك المنام ، صدقا فيه أو كذبا ، فإنَّ الله تعالى أوحى إليه أنَّ عاقبة كُلَّ واحدٍ منهما تكون على ذلك الوجهِ المخصوص ، فملا نزل الوحيُ بذلك الغيب عند ذلك السؤال ، وقع في الظنَّ أنَّه ذكره على سبيل [ التَّعبير ] . ولا يبعد أيضاً أن يقال : إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير . وقوله { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } ما عنى به أنَّ الذي ذكره واقعٌ لا محالة ، بل عنى أنَّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره . قوله : " قُضِيَ الأمْرُ " قال الزمخشريُّ : " ما اسْتفْتَيَا في أمرٍ واحدٍ ، بل في أمرين مختلفين ، فما وجهُ التوحيدِ ؟ قلتُ : المرادُ بالأمرِ ما أتهما به من سمِّ الملك ، وما سُجِنَا من أجله ، والمعنى : فُرغَ من الأمر الذي عنه تسألان " . قوله تعالى : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ } ، فاعلُ " ظنَّ " : يجوزُ أن يكون يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان تأويله بطريقِ الاجتهادِ ، وأن يكون الشَّرابي إن كان تأويله بطريقِ الوحي ، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين ؛ كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] و { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ } [ الحاقة : 20 ] قال الزمخشريُّ . يعني أنه إن كان الظنُّ على بابه ، فلا يستقيمُ إسناده إلى يوسف ؛ إلاَّ أن يكون تأويله بطريق الاجتهاد ، لأنه منتى كان بِطَريقِ الوحْيِ ، كان يَقِيناً ؛ فينسب الظنُّ حينئذٍ للشرابيّ لا ليوسف عليه الصلاة والسلام ـ . وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقينِ ، فيصح نسبتُه إلى يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان تأويله بطريق الوحْيِ . وذهب قتادة : إلى كونِ الظن على بابه وهو مسندٌ إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ـ ، فإنه قال : " الظنُّ هو على بابه ؛ لأنّ عبارة الرُّؤيا ظنٌّ " . قوله : " مِنْهُمَا " ، يجوزُ أن يكون صفةً لـ " نَاجٍ " ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ على أنَّهُ حالٌ من الموصول . قال أبو البقاءِ : " ولا يكونُ متعلقاً بـ " نَاجِ " لأنَّه ليس المعنى عليه " قال شهاب الدين : لو تعلق بـ " نَاجِ " لأفْهم أنَّ غيرهما نَجَا منهما ، أي : انفلت منهما ، والمعنى : أنَّ أحدهما هو النَّاجي ، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيدٌ توهُّمهُ . والضميرُ في " فَأنْسَاهُ " ، يعودُ على الشرابيِّ ، وقيل : على يوسف ؛ وهو ضعيفٌ . فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه قال يوسف عليه الصلاة والسلام للناجي من الرجلين : { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ، أي : عند الملك ، أي : اذكرني عنده أنَّهُ مظلومٌ من جهة إخوته ، لما أخرجوه ، وباعوه ، ثم إنَّه مظلوم في هذه الواقعة ؛ التي لأجلها حُبِسَ . ثم قال تعالى : { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } قيل : أنْسَى الساقي ذكر يوسف للملك ، تقديره : فأنساه الشيطان ذكره لربه . ورجَّح بعضُ العلماء هذا القول ، فقال : لو أنَّ الشيطان أنْسَى يوسف ذكر الله ، لما استحقَّ العقاب باللَّبثِ في السِّجْنِ ؛ إذ النَّاسي غيرٌ مُؤاخذٍ . وقد يجابُ عن ذلك بأنَّ النِّسيانَ قد يكونُ بمعنى التَّركِ ، فلما ترك ذكر اللهِ ، ودعاهُ الشَّيطانُ إلى ذلك ، عوقب . وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، فدلَّ على أن النَّاسي هو السَّاقِي لا يوسف ، مع قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] ، فكيف يصحُّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان ، وليس له على الأنبياء سلطان ؟ . وأجيب عن هذا بأن النسيان لا عصمة للأنبياء عنه ، إلاَّ في وجه واحد وهو الخبرُ من الله تعالى ، فيما يلقَّونه ؛ فإنَّهم مَعْصُومُون فيه ، وإذا وقع منهم النيسان حيثُ يجوزُ وقوعه ، فإنَّه ينسبُ إلى الشيطان ؛ وذلك إنَّما يكونُ فميا أخبر الله عنهم ، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم ، قال عليه السلام : " نَسِيَ آدمُ فنَسِيَتْ ذُريته " وقال : " إنَّما أنا بشرٌ ، أنْسَى كما تَنْسَوْن " . وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما وعليه الأكثرون : " أنسى الشيطانُ يوسف ذكر ربِّه ؛ حتَّى ابتغى الفرج من غيره ، واستعان بمخلوقٍ ؛ وتلك غفلة عرضتْ ليُوسفَ مِنَ الشَّيطانِ " . " فَلبِثَ " : مكث " في السِّجنِ بضْعَ سِنينَ " قال صلى الله عليه وسلم : " يَرْحَمُ اللهُ أخِي يُوسفَ ؛ لوْ لَمْ يقُلْ : " اذْكرنِي عِنْدَ ربِّكَ " ؛ ما لبثَ فِي السِّجن " ومما يدلُّ على أنَّه المراد قوله : { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف . واعلم أنَّ الاستعانة بغيرِ الله في دفع الظلم ، جائزةٌ في الشريعة ، لا إنكار عليه . وإذا كان كذلك ، فلم صار يوسف عليه الصلاة والسلام مُؤاخذاً بهذا القدر ؟ وكيف لا يصيرُ مؤاخذاً بالإقدام على الزِّنا ؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [ أولى ] ؟ . فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدرِ ، ولمْ يؤاخذه في تلك القضية ألبتَّة ، وما عابهُ ، بل ذكره بأعظمِ وجوهِ المدحِ والثناءِ علمنا أنَّهُ عليه الصلاة والسلام كان مُبَرَّأ ممَّا نسبوهُ إليهِ . فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه قال الزجاجُ : " اشتقاقُ البضْعِ من بَضعْتُ بمعنى قَطعْتُ " . قال النَّواوي : " والبِضْعُ بكسر الباء ، وقد تفتح : ومعناه القطعةُ من العدد " . قال الفراء : لا تذكرُ إلاَّ مع عشرةٍ ، أو عشرينَ إلى التِّسعينَ ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعةِ ، قال : وهكذا رأيتُ العرب يقولون ، وما رأيتهم يقولون : بضعٌ ومائةٌ ، قال : وإنما يقالُ نيِّفٌ مائة ؛ والقرآنُ يردُّ عليه . ويقال : بضعُ نسوة ، وبضعةُ رجالٍ . روى الشعبيُّ رضي الله عنه " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهُ : كم البِضْعُ ؟ قال : مَا دُونَ العَشرة " . وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما ـ : " مَا دُونَ العشرة " . وقال مجاهدٌ رضي الله عنه ـ : مابين الثَّلاث إلى السَّبع . وقيل إلى الخمسِ . وقال قتادةُ رضي الله عنه ـ : مابين الثَّلاث إلى التِّسعِ . وأكثر المفسرين على أن البِضْعَ في هذه الآية سبعُ سنينَ ، وقد لبث قبلهُ خمس سنين فجملته ، اثنتا عشرة سنة . قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما ـ : " لما تضرَّع يوسفُ صلوات الله وسلامه عليه لذلك الرجلِ ، كان قد قرُبَ وقتُ خروجه ، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنينَ " . وقيل : البِضْعُ : فوق الخمسةِ ودُون العشرة . وقد تقدم عند قوله { بِضَاعَةً } [ يوسف : 19 ] ، والبَعْضُ قد تقدَّم أنه من هذا المعنى ، عند ذكر البعوضةِ . وفي المدَّة التي أقامها يوسف في السجن أقوالٌ : أحدها : قال ابنُ جريجٍ ، وقتادة ، ووهبُ بنُ منبِّه : أقام أيوبُ في البلاءِ سبعَ سنينَ ، وأقام يوسفُ في السِّجن سبع سنينَ . وقال ابن عباسِ : اثنتَيْ عَشْرة سنة . وقال الضحاكُ : أرْبع عشرة سنة .