Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 43-49)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } الآية . اعلم أنَّه تعالى عزَّ وجلَّ إذا أرادَ شيئاً ، هيّأ أسبابه ، ولما دنا فرجُ يوسف عليه الصلاة والسلام رأى ملكُ مصر في النوم سبع بقراتٍ سمانٍ خرجن من نهرٍ يابسٍ ، ثم خرج عَقِيبَهُنَّ سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غايةِ الهُزال ، فابتلعتِ العجافُ السِّمان ، ورأى سبعَ سُنبلاتٍ خُضرٍ ، قد انعقد حبُّها ، وسبعاً أخر يابساتٍ ، قد استحصدت ، فالتوتِ اليابساتُ على الخضرِ حتَّى غلبْنَ عليها ، فلم يبق من خضرتها شيءٌ ؛ فجمع الكهنة ، والسَّحرة ، والنجامة ، والمُعبِّرين ، وقصَّ عليهم رؤياه ؛ وهو قوله { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } ، أخلاط أحلامٍ مُشْتبهَةٌ أهاويلُ . فصل قال عليٌّ بنُ أبي طالب كرم الله وجهه ـ : " المعز والبقر إذا دخلت المدينة ، فإن كانت سماناً ، فهي سِني رخاءٍ ، وإن كانت عجافاً ، كانت شداداً ، وإن كانت المدينة مدينة بحرٍ ، وإبَّان سفرٍ ، قدمت سفنٌ على عددها ، وحالها ؛ وإلاَّ كانت فتناً مترادفةً كأنها وجوهُ البقر يشبه بعضها بعضاً ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الفتنِ : " كأنَّها صَياصِيُّ البقَرِ " ؛ لتشابهها ، إلاَّ أن تكون صفراً كلَّها ، فإنَّها أمراضٌ تدخل على النَّاس ، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون ، كان الناسُ ينفرون منها ، أو كان النارُ والدخانُ يخرج من أفواهها ؛ فإنها عسكر ، أو غارة أو عدوّ ، يضرب عليهم ، وينزلُ بساحتهم ، وقد تدلُّ البقرة على الزَّوجة ، والخادم ، والغلَّة والسَّنة : لما يكونُ فهيا من الغلَّةِ ، والولدِ ، والنباتٍ " . قوله : " سِمَانٍ " ، صفةٌ لـ " بَقَراتٍ " ، وهو جمعُ سمينةٍ ، ويجمع " سَمِين " أيضاً عليه يقال : رجالٌ سمانٌ ونساءُ سمان ؛ كما يقال : رجالُ كرامٌ ونساءٌ كرامٌ ، و " السِّمن " : مصدر سَمِنَ يَسْمَنُ فهو سَمِينٌ ، فالاسمُ والمصدر ، جاءا على غير قياسٍ ؛ إذا قياسهما " سَمَن " بفتح الميم فهو سَمِن بسكرها ؛ نحو فَرِحَ فرحاً فهو فرح . قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : هل من فرقٍ بين إيقاع سمانٍ صفة للتمييز : وهو بقراتٍ دون المُميَّزِ : سَبْعَ ، وأنَّ نقول : سبع بقرات سماناً ؟ قلتُ : إذا أوقعتها صفة لـ " بقَراتٍ " ، فقد قصدت إلى أن تميِّز السبع بنوعٍ من البقرات ، وهو السِّمان منهن ، لا بِجِنْسهِنَّ ، ولو وصفت السبع بها ، لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقراتِ لا بنوع منها ، ثم رجعت فوصفت المُميَّز بالجنس بالسمن . فإن قلت : هلا قيل : " سبع عجافٍ " على الإضافة . قلت : التمييز موضوع الجنسِ ، والعجافُ وصفٌ لا يقع البيان به وحده ، فإن قلت : فقد يقولون : ثلاثة فرسانٍ ، وخمسة أصحابٍ ، لبيانٍ ؛ قلتُ : الفارسُ ، والصاحبُ ، والرَّاكب ، ونحوها صفاتٌ جرت مجرى الأسماءِ ؛ فأخذت حكمها ، وجاز فيها ما لم يجز في غيرها ، ألا تراك ألا تقول : عندي ثلاثةً ضخامٌ ولا أربعةٌ غلاظٌ . فإن قلت : ذلك مما يشكل ، وما نحنُ بسبيله لا إشكال فيه ، ألا ترى أنه لم يقل : وبقرات سبع عجاف ؛ لوقوع العلم بأن المراد البقرات قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل ، وقد وقع الاستغناء عن قولك : سبع عجاف عمَّا تقترحهُ من التمييز بالوصف " انتهى . وهي أسئلةٌ وأجوبةٌ حسنة ، وتحقيق السؤال الأول وجوابه : أنه يلزمُ من وصفِ التَّمييز بشيء وصف المميز به ، ولا يلزم من وصف المميز وصف التمييز بذلك الشيء ؛ بيانه : أنك إذا قلت : " عندي أربعة رجالٍ حسانٍ " بالجر ، كان معناه : أربعةٌ من الرجال الحسانِ ؛ فيلزُم حسنُ الإربعةِ ؛ لأنهم بعض الرجالِ الحسانِ ، وإذا قلت : عندي أربعة رجالٍ حسانٌ برفع حسان كان معناه : أربعةٌ من الرجال حسان ، وليس فيه دلالة على وصف الرجال بالحسن . وتحقيق الثاني وجوابه : أنَّ أسماء العدد لا تضافُ إلى الأوصاف إلا في ضرورة وإنما يجاء بها تابعة لأسماء [ العدد ] ؛ فيقال : عندي ثلاثةٌ قُرشيُّونَ ، ولا يقال ثلاثة قرشيِّين بالإضافة إلا في شعرٍ ، ثم أعترض بثلاثةٍ فرسانٍ ، وأجاب بجريانِ ذلك مجرى الأسماء . وتحقيقُ الثالث : أنه إنَّما امتنع " ثلاثةُ ضخامٍ " ونحوه ؛ لأنه لا يعلم موصوفه ، بخلاف الآية الكريمة ، فإنَّ الموصوف معلومٌ ، ولذلك لم يصرحْ به . وأجاب عن ذلك : بأنَّ الأصل عدم إضافةِ العددِ إلى الصِّفة كما تقدم ، فلا يترك هذا الأصل مع الاستغناء عنه بالفرع . وبالجملةِ : ففي هذه العبارةِ قلقٌ ، هذا مُلخَّصُهَا . ولم يذكر أبو حيَّان نصه ولا اعترض عليه ، بل لخًّص بعض معانيه ، وتركهُ على إشكاله . فصل في اشتقاق " عجاف " جمعُ عجفاء : عِجَاف والقياس : عُجْف ؛ نحو : حَمْرَاء ، وحُمْر ؛ حملاً له على سمانٍ ؛ لأنَّه نقيضُه ، ومن دأبهم حملُ النظير على النظيرِ ، والنَّقيضِ على النقيض ، قاله الزمخشريُّ , والعَجَفُ : شدةُ الهزالِ الذي ليس بعده هزال ؛ قال : [ الكامل ] @ 3106ـ عَمْرُو الَّذي هَشَمَ الثَّريدَ لقَوْمِهِ ورِجَالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ @@ قال الليث : العَجَفُ : ذهابُ السِّمن ، والفِعْلُ : عجف يَعجفُ ، والذَّكرُ : أعْجفُ ، والأنثى : عَجْفاء ، والجمع عِجَافٌ في الذكران والإناث . وليس في كلام العربِ : أفْعَلُ ، وفعلاء ، وجمعها على : فِعَالٍ غَيْر أعْجَفَ ، وعِجَاف ، هي شاذة حملوها على لفظ سمانٍ ، وعجافٍ ؛ لأنهما نقيضان ، ومن عادتهم حملُ النَّظيرِ على النظير ، والنَّقيضِ على النَّقيضِ . وقال الرَّاغب : هو من قولهم : نَصْلٌ أعجفُ ، أي : رقيقٌ . وعَجَفَتْ نفسي عن الطَّعام وعن فلانٍ : إذا نبت عنهما ، وأعْجفَ الرَّجل أي : صارتْ [ إبله ] عِجَافاً . " وأخَرَ يَابِساتٍ " ، قوله : " وأخَرَ " نسقٌ على قوله " سَبْعَ " لا على " سُنْبُلاتٍ " ويكون قد حذف اسم العددِ ، من قوله : " وأخَرَ يَابِساتٍ " والتقدير : سَبْعاً أخَرَ ، وإنما حذف ؛ لأنَّ التقسيم في البقرات نقيضُ التَّقسيم في السنبلات . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : هل في الآية دليلٌ على أنَّ السنبلات اليابسة كانت كالخُضرِ ؟ قلت : الكلامُ منبيٌّ على انصبابه إلى هذا العددِ في البقراتِ السِّمان والعجافِ ، والسنبلات الخضرِ ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله : " وأخَرَ يَابسَاتٍ " بمعنى : وسبعاً أخر " انتهى . وإنَّما لم يَجُز عطفُ أخر على التمييز ، وهو " سُنْبُلاتٍ " ، فيكون أخر مجروراً لا منصُوباً ؛ لأنه من حيثُ العطف عليه يكونُ من جملة مميز سبع ومن جهة كونه أخر يكون مبايناً لسبع فتدافعا ولو كان ترتيبُ الآية الكريمة سبع سُنبلاتٍ خُضرٍ ويابِساتٍ ، لصحَّ العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى هذينِ الموضعين أعني : الاخضرار واليبس . وقد أوضح الزمخشريُّ هذا حيث قال : " فإن قلتَ : هل يجوز أن يعطف قوله " وأخَرَ يَابسَاتٍ " على " سُنْبُلاتٍ خُضرٍ " ، فيكون مجرور المحلِّ ؟ قلت : يؤدِّي إلى تدافع ؛ وهو أنَّ عطفها على " سُنبُلاتٍ خُضرٍ " يقتضي أن يكون داخلاً في حكمها فيكون معها مميز للسبع المذكور ، ولفظ " أخَر " يقتضي أن يكون غير السَّبْعِ ؛ بيانه تقول عنده سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصحّ لأنك ميَّزت السبعة برجالٍ موصوفين بالقيام والقعودِ على أنَّ بعضهم قيام ، وبعضهم قعودٌ ، فلو قلت : عنده سبعةٌ قيامٌ وآخرين قعودٌ ؛ تدافع ؛ ففسد " . قوله للرُّؤيَا فيه أربعة أقوالٍ : أحدهما : أن اللام فيه مزيدة ، فلا تعلق لها بشيء ؛ وزيدت لتقدم المعمول مقوية للعامل ؛ كما زيدت فيه إذا كان العامل فرعاً ؛ كقوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، ولا تزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورة ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3107ـ فلمَّا أنْ تَوافَيْنَا قَلِيلاً أنَخْنَا للكَلاكِلِ فارْتَمَيْنَا @@ يريد : أنخنا الكلاكِلَ ، فزيدت مع فقدان الشرطين ، هكذا عبارة بعضهم يقول : إلا في ضرورة . وبعضهم يقول : الأكثر ألاَّ تزاد ، ويتحرزُ من قوله تعالى { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، لأنَّ الأصل : ردفكُم ، فزيدتْ فيه اللامُ ، ولا تقدم ، ولا فرعيَّة ، ومن أطلق ذلك جعل الآية من باب التَّضمين ، وسيأتي في مكانه إن شاء الله تعالى ـ ، وقد تقدم من ذلك طرفٌ جيدٌ . الثاني : أن يضمَّن تعبرون معنى ما يتعدَّى باللام ، تقديره أي : إن كنتم تنتدبون لعبارةِ الرؤيا . الثالث : أن يكون " للرُّؤيا " خبرُ " كنتم " ؛ كما تقول : " كان فلانٌ لهذا الأمرِ " ، أي : إذا استقلّ به متمكِّناً منه ، وعلى هذا فيكون في " تَعْبرُونَ " وجهان : أحدهما : أنًَّهُ خبر ثانٍ لـ " كُنْتُمْ " . الثاني : أنه حالٌ من الضمير المُرتفعِ بالجار ؛ لوقوعه خبراً . الرابع : أن تتعلق اللام بمحذوفٍ على أنَّها للبيان ؛ كقوله تعالى { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ } [ يوسف : 20 ] تقديره : أعني فيه ، وكذلك هذا ، تقديره : أعني للرُّؤيا ، وعلى هذا يكون مفعولُ " تَعْبُرُونَ " محذوفاً تقديره : تعبرونها . وقرأ أبو جعفر : الرُّيَّا [ وبابها الرؤيا ] بالإدغام ؛ وذلك أنَّه قلب الهمزة واواً ؛ لسكونها بعد ضمةٍ ، فاجتمعت " واوٌ " ، و " ياءٌ " وسبقت إحداهما بالسكون ؛ فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياءُ في الياءِ . وهذه القراءة عندهم ضعيفةٌ ؛ لأن البدل غير لازمٍ ، فكأنَّه لم يوجد واوٌ ؛ نظراً إلى الهمزة . فصل في معنى " تعبرون " يقال : عَبَرْتُ الرُّؤيَا أعبرها عبارة ، وعبَرةً بالتخفيف ، قال الزمخشريُّ : " وهو الذي اعتمدهُ الأثباتُ ، ورأيتهم يُنْكِرُونَ " عَبَّرتُ " بالتشديد ، والتَّعبير والمُعبِّر " قال : وقد عثرتُ على بيتٍ أشده المبرِّد في كتاب الكاملِ لبعضِ الأعرابِ : [ السريع ] @ 3108ـ رَأيتُ رُؤيَا ثُمَّ عبَّرتُهَا وكُنْتُ للأحْلامِ عَبَّارَا @@ قال وحقيقة تعبير الرؤيا : ذكرُ عاقبتها ، وآخر أمرها ؛ كما تقول : عبرتُ النَّهر إذا قطعتهُ حتَّى تبلغ آخرَ عرضه . قال الأزهريُّ : " مأخوذٌ من العُبْرِ ، وهو جانبُ النَّهر ، ومعنى عبرتُ النَّهرَ والطريق : قطعتهُ إلى الجانب الآخر ، فقيل لعابرِ الرؤيا : عابرٌ ؛ لأنَّه يتأمل جانبي الرُّؤيا ، ويتفكرُ في أطرافها وينتقل من أحد الطَّرفين إلى الآخر " . قال بعضُ أهل اللغة : العينُ ، والباءُ ، والراءُ ، تضعها العرب : لجوار الشيء ، ومضيفه ، وقلَّة تمكنه ، ولبثه ، وهو فعل ، يقال : عبر الرؤيا : أخرجها من حال النَّوم إلى حال اليقظةِ ، كعبور البحر من جانب إلى جانبٍ . وناقة عبراء سفار ، أي : يقطعُ بها الطريق ويعبرُ . والشِّعرى : العبُورُ ؛ لأنها عبرت المجرَّة . والاعتبارُ بالشيء : هو التَّمثيلُ بينه وبين حاكيه . والعبرةُ : الدَّمعةٌ ؛ لعبورها العين ، وخروجها من الجفنِ . والعَنْبَرُ : منه ؛ لأنَّ نونه زائدةٌ ، وهو عبر لحي طفاوة على الماء لا يعرف معدته . والعَنْبَرُ أيضاً سمكةٌ في البحرِ ، والعنبرُ : اسمُ قبيلة ، والعنبرُ : شدَّة الشتاء . قال بعضهم : ثلاثةُ أشياء لا يعرف معدنها : أحدها : العَنْبَرُ يجيءُ ظفاؤه على وجه الماءِ . وثانيها : المومياء بأرض فارس ، ومعناه : مُومٌ ، أي : شمعُ الماء لا يعرف من أين يجيءُ ، ولا من أين ينبع ، يُعْمَلُ له حوضٌ في البحر وينصب عليه مصفاة كالغربال يجري منه الماء ، وينبع منه وتبقى المومياء ؛ فتؤخذ إلى خزانة السُّلطان . وثالثها : الكهلُ : وهو نوعٌ من الخَرزِ أصفر يطفُو على وجهِ الماءِ في بحر المغرب وبحر طبرستان ، ولا يعرف معدنه . قوله جلَّ وعلا : { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } ، خبر متبدإ مضمر ، أي : هي أضغاث ، يعنون : ما قصصته علينا ، والجملة منصوبةٌ بالقول . والأضغاثُ : جمع ضِغْث بكسر الضاد وهو ما جمع من النبات ، سواءٌ كان جنساً واحداً ، أو أجناساً مختلطة . قال بن الخطيب : بشرط أن يكون مما قام على ساقٍ ، وهو أصغرُ من الحزمة ، وأكبر من القبضة ، فمن مجيئه من جنسٍ واحدٍ ، قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } [ ص : 44 ] ، ويُروى أنه أخذ عثكالاً من نخلةٍ ، وفي الحديث : " أنَّه أتي بمريضٍ وحب عليْهِ الحدُّ ففعل به ذلِكَ " . وقال ابن مقبل : [ الكامل ] @ 3109ـ خَودٌ كأنَّ فِراشَهَا وضِعَتْ بِهِ أضْغَاثُ ريْحَانٍ غَداةَ شَمالِ @@ ومن مجيئه من أخلاط النبات قولهم في أمثالهم : " ضِغثٌ على إبَّالةٍ " . وقال الرَّاغب رحمه الله ـ : الضَّغْثُ : قبضة ريحانٍ ، أو حشيشٍ ، أو قصبان ، وقد تقدم أنه أكثر من القبضةِ . واستعمال الأضغاث هنا من باب الاستعارة ، فإن الرؤيا إذا كانت مخلوطةً من أشياء غير متناسبةٍ ، كانت شبهية بالضِّغثِ . والإضافة في { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } ، إضافةٌ بمعنى " مِنْ " ، والتقدير : أضغاثُ من أحلام . والأحلامُ : جمعُ حلم ، وهو الرؤيا ، والفعل منه حلمتُ أحلم ، بفتح اللام في الماضي وضمها في الغابر حُلُماً ، وحُلْماً : مثقلٌ ، ومخففٌ . قوله تعالى : " بتأويل " الباء متعلقةٌ بـ " عَالمِينَ " ، والباءُ في " بِعَالمِينَ " لا تعلق لها ؛ لأنها زائدة إمَّا في خبر الحجازيَّة أو التَّميميَّة ، وقولهم ذلك يحتمل أن يكون نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً ، وأن يكون نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصة دون المنام الصَّحيح . وقال أبو البقاءِ : أي : بتأويل أضغاثِ الأحلام لا بد من ذلك ؛ لأنَّهم لم يدَّعوا الجهل [ بتعبير ] الرؤيا انتهى . وقوله " الأحلام " وإنَّما كان واحداً ، قال الزمخشريُّ : " كما تقولُ : فلان يركب الخيل ، ويلبسُ عمائمَ الخزِّ ، لمن لا يركبُ إلا فرساً واحداً ، ولا يتعمَّمُ إلاَّ بعمامةٍ واحدةٍ تأكيداً في الوصف ، ويجوز أن يكون قصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها " . والتأويلُ : هو ما يَئُولُ الشيء إليه ، أي : يرجعُ الشيء إليه ، ومنه تأوَّل وهو معنى التفسير ؛ لأنَّ التأويل تفسير اللفظ الراجع إلى المعنى . فصل اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف صلوات الله وسلامه عليه من السِّجن ؛ وذلك أنَّ الملك لمَّا رأى ذلك ، قلق واضطرب بسببه ؛ لأنه شاهد أن الناقِصَ الضَّعيف استولى على الكاملِ ، فشهدت فطرته بأن هذا أمرُ عداوةٍ ومقدّرٍ بنوع من أنواع الشرِّ ، إلا أنه ما عرف كيفية الحالِ فيه . والشيء إذا صار معلوماً من وجهٍ ، وبقي مجهُولاً من وجه آخر عظم شوقُ النفس إلى تمام تلك المعرفةِ ، وقويتِ المعرفةُ في إتمام الناقصِ لا سيِّما إذا كان الإنسان عظيمَ الشَّأنِ ، واسِعَ المملكةِ ، وكان ذلك الشيء دالاًّ علَى الشرِّ من بعض الوجوه ، فبهذا الطريق قوَّى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم ، بتفسير هذه الرؤيا ، وأنه تعالى عجَّز المُعبِّرين الحاضرين عن جواب هذه المسألة ؛ ليصير ذلك سبباً لخلاصِ يوسف عليه الصلاة والسلام من تلك المحنةِ . واعلم أنَّ القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير ؛ بل قالوا إنَّ علم التعبير على قسمين : منه ما يكون الرؤيا فيه منتظمة ، فيسهلُ الانتقال من الأمور المتخيلةِ إلى الحقائق العقلية . ومنه ما يكون مختلطاً مضطرباً ، ولا يكون فيه ترتيبٌ معلومٌ ، وهو المسمَّى بالأضغاث . فقالوا : إنَّ رؤيا الملكِ من قسم الأضغاث ، ثُمَّ أخبرُوا أنهم غير عالمينَ بتعبير هذا القسم ، وفيه [ إبهام ] أنَّ الكامل في هذا العلم ، والمُتبحِّر فيه يهتدي إليها ، فعند هذه المقالة تذكَّر السَّاقي واقعة يوسف عليه الصلاة والسلام لأنه كان يعتقدُ فيه كونه مُتَبحِّراً في هذا العلم . قوله : " وادَّكَرَ " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّها جملة حالية ، إمَّا من الموصول ، وإما من عائده ، وهو فاعل نَجَا . والثاني : أنها عطف على نَجَا فلا محل لها ؛ لنسقها على ما لا محل له . والعامَّةُ على ادَّكَرَ بدالٍ مهلمة مشدَّدة ، وأصلها : اذْتَكَرَ ، افْتَعَلَ ، من الذكر فوقعت تاءُ الافتعال بعد الدال ؛ فأبدلت دالاً ، فاجتمع متقاربان ؛ فأبدل الأول من جنس الثاني ، وأدغم . قال الزمخشريُّ : وادَّكَرَ بالدال هو الفصيحُ . وقرأ الحسن البصريُّ : بذالٍ معجمة . ووجَّهوها بأنه أبدل التَّاء ذالاً ؛ من جنس الأولى ، وأدغم ، وكذا الحكمُ في مُدِّكِر كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ . والعامةُ : على ( أمة ) بضم الهمزة ، وتشديد الميم ، وتاء منونةٍ ، وهي المدة الطويلة . وقرأ الأشهب العقيليُّ : بكسر الهمزة ؛ وفسَّروها بالنعمةِ ، أي : بعد نعمةٍ [ أنعم بها ] عليه ؛ وهي خلاصه من السِّجن ، ونجاته من القَتلِ ؛ وأنشد الزمخشريُّ لعديِّ : [ الخفيف ] @ 3110ـ ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإمْـ ـمَةِ وارتْهُمُ هُناكَ القُبُورُ @@ وأنشد غيره : [ الطويل ] @ 3111ـ ألاَ لاَ أرَى ذَا أمَّةٍ أصْبَحَتْ بِهِ فَتتْرُكُه الأيَّامُ وهيَ كَما هِيَا @@ وقرأ ابن عبَّاس ، وزيدُ بنُ عليّ ، وقتادة ، الضحاك ، وأبو رجاء رضي الله عنهم " أَمَه " فتح الهمزة وتخفيف الميم منونة وهي المدة من الأمة وهو النسيان يقال أمِه يَأمَهُ أمَهاً بفتح الميم وسكونها ، والسكون غير مقيسٍ ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 3112ـ أمِهْتُ وكُنْتُ لا أنْسَى حَدِيثاً كَذاكَ الدَّهْرُ يُودِي بالعُقُولِ @@ وقرأ مجاهدٌ ، وشبل بن عزرة : بعد أمْه بسكون الميم ، وتقدَّم أنه مصدر لـ " أَمِهَ " على غير قياسٍ . قال الزمخشري : " ومن قرأ بسكون الميم ، فقد خُطِّىءَ " . قال أبو حيَّان : " وهذه على عادته في نسبةِ الخطأ إلى القراء " . قال شهابُ الدِّين رحمه الله ـ : لَمْ ينسبْ إليهم خطأ ؛ وإنما حكى أنَّ بعضهم خطَّأ هذا القارىء ؛ فإنه قال : " خُطِّىءَ " بلفظ ما لم يسمَّ فاعله ولم يقل : فقد أخطأ ، على أنَّه إذا صحَّ أنَّ من ذكره قرأ بذلك فلا سبيل إلى نسبة الخطأ إليه ألبتَّة . وبَعْدَ منصوب بـ " ادَّكَرَ " وقوله أنَا أنَبِّئُكمْ هذه الجملة هي المحكية بالقول . وقرأ العامة أنَبِّئُكُمْ من الإنْباءِ ، وقرأ الحسن أنا آتِيكُم مضارع أتى من الإتيانِ ، وهو قريب من الأول . فصل لمَّا اعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب ، فذكر الشَّرابيُّ قول يوسف { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] ، { بَعْدَ أُمَّةٍ } بعد حينٍ ، بعد سَبْعِ سنينَ ، وذلك أنَّ الحينَ إنَّما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة ، كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم ، فالحين كان أمة من الأيام والسَّاعاتِ . فإن قيل : قوله { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } يدل على أنّ الناسي هو الشرابي ، وأنتم تقولون : إنَّ النَّاسي هو يوسف عليه السلام ـ . فالجواب : قال ابنُ الأنباري : ادَّكرَ بمعنى : ذَكَرَ وأخْبَر ، فهذا لا يدلُّ على سبقِ النسيان ، فلعلَّ الساقي إنما لم يذكر يوسف عليه السلام عند الملكِ ، خوفاً عليه من أن يكون ادِّكَاراً لذنبه الذي من أجله حُبس ، فترك للشر ، ويحتمل أن يكون حصل النسيانُ ليوسف صلوات الله وسلامه عليه [ وحصل ] أيضاً لذلك الشرابي . رُوِيَ أنَّ الغلام جثا بين يدي الملك ، وقال إنَّ بالسجْنِ رجُلاً يُعبِّر الرؤيا . " فأرْسِلُون " خطابٌ ، إما للملك ، والجمع ، أو للملك وحده ؛ على سبيل التعظيم ، وفيه اختصارٌ ، تقديره : فأرسلْنِي إيها الملكُ إليه ، فأرسله فأتى السِّجن . قال ابن عباس رضي الله عنه ـ : ولم يكن السجنُ في المدينة . فقال : يُوسُف ، أي : يا يُوسف " أيُّها الصِّديقُ " والصِّدِّيقُ : هو المبالغ في الصدقِ ، وصفهُ بهذه الصفة ؛ لأنه لم يجرب عليه كذباً ، وقيل : لأنه صدق في تعبير رؤياه ، وهذا يدلُّ على أنَّ الساقي والخباز لم يكذبا على يوسف في منامهما ، ولم يذكراه امتحاناً له ، كما زعم بعضهم ثم إنَّه أعاد السؤال باللفظ الَّذي ذكره الملكُ ؛ فإن تعبير الرُّؤيا قد تخلتفُ باختلافِ الألفاظِ ؛ كما هو مذكورٌ في علم التعبير لعَلِّي أرجعُ إلى النَّاس بفتواك ؛ لأنه عجز سائرُ المُعبِّرين على الجواب ، فخاف أن يعجز هو أيضاً ؛ فلهذا السبب قال : { لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون } منزلتك من العلم . قوله : " تَزْرعُونَ " ظاهر هذا ، إخبار من يوسف عليه الصلاة والسلام بذلك . وقال الزمخشريُّ : تَزْرعُونَ خبرٌ في معنى الأمر ؛ كقوله { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ } [ الصف : 11 ] ، وإنما خرج الأمر في صورة الخبر ؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به فيجعل كأنَّه وجد ، فهو مخبر عنه ؛ والدليلُ على كونه في معنى الأمر قوله : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } . قال أبو حيان : ولا يدلُّ الأمر بتركه في سنبله على أنَّ تَزْرعُونَ في معنى : ازْرَعُوا ، بل تَزْرعُونَ إخبار غيب ، وأمَّا فَذرُوهُ فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أن يفعلوه . وهذا هو الظاهرُ ، ولا مدخل لأمر الله لهم بالزراعةِ ، لأنهم يزرعون على عادتهم أمرهم ، أو لم يأمرهم ، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإنسان أن يفعله كقوله في سُنبلهِ . قوله دَأباً قرأ حفصٌ : بفتحِ الهمزة ، والباقون : بسكونها ؛ وهما لغتان في مصدر : دَأبَ يدأبُ دأباً ، أي : دَاومَ على الشيء ولازمه . وقيل : بجدٍّ ، واجتهادٍ ؛ وهذا كما قالوا : ضأنُ وضَأن ، ومعَز ومَعْز : بفتحِ العين وسكونها . قال أبو علي الفارسي : الأكثروُ في " دَأبَ " الإسكانُ ، ولعلَّ الفتح لغةٌ وفي انتصابه أوجه . أحدها : وهو قول سيبويه : أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : تدْأبُون دأباً . والثاني : وهو قول أبي العبَّاس رضي الله عنه ـ : أنه منصوبٌ بـ " تَزْرعُونَ " ؛ لأنه من معناه ، فهو من باب : قعدت القُرْفُصَاء . وفيه نظرٌ ؛ لأنه ليس نوعاً خاصًا به بخلافِ القرفصاء مع القعودِ . والثالث : أنه مصدر واقعٌ موقع الحال ، فيكون فيه الأوجه المعروفةُ ، إما للمبالغة وإما وقوعه موقع الصِّفة ، وإما على حذف مضاف ، أي : دائبين أو ذوي دأبٍ ، أو جعلهم نفس الدَّأب ؛ مبالغة . وقد تقدم الكلامُ على الدَّأب في " آل عمران " عند قوله عز وجل { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } [ آل عمران : 11 ] . قوله : { فَمَا حَصَدتُّمْ } ، ما : يجوز أن تكون شرطيَّة أو موصولة . قوله : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } أمرهم بترك الحنطةِ في السنبل ؛ لتكون أبقى على الزمان ، ولا تفسد . قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } ، أي تدرسون قليلاً ؛ للأكل ، أمرهم بحفظ الأكثر ، والأكل قدر الحاجة . وقرأ أبو عبد الرحمن يَأكُلونَ بالغيبة ، أي : الناسُ ، ويجوز أن يكون التفاتاً . فصل قال القرطبيُّ : " هذه الآية أصلٌ في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ للأديان ، والنفوس ، والعقول والأنساب ، والأموال ، فكل ما يضمن تحصيل شيء من هذه الأمور ، فهو مصلحةٌ وكل ما يفوت شيئاً منها ، فهو مفسدةٌ ؛ ودفعه مصلحةٌ ، ولا خلاف أنَّ مقصود الشرائع إرشادُ النَّاس إلى مصالحهم الدُّنيويَّة ، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى ، وعبادته [ الموصلتين ] إلى السعادةِ الأخرويَّة ، ومراعاةُ ذلك فضلٌ من الله ورحمة " . قوله تعالى : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ } حذف المميز ، وهو الموصوف ؛ لدلالة ما تقدَّم عليه ، ونسب الأكل إليهن ، مجازاً ؛ كقوله : { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] لمَّا كان الأكل ، والإبصار فيهما ، جعلا كأنهما واقعان منهما ، مبالغة . و " الشِّدادُ " : الصِّعابُ التي تشتدُّ على الناس ؛ فلذلك سمَّى السنين المجدبة شداداً . يَأكُلْنَ ، أي : يُفْنِين ، ويهلكن الطعام إلاَّ قليلاً ممَّا تُحْصِنُون : تحرزُونَ ، وتدَّخِرُونَ ؛ للبذر . " والإحصانُ : الإحرازُ ، وهو [ إبقاء ] الشيء في الحصنِ ، يقال : أحْصَنَهُ إحصاناً ، إذا جعله في حِرْزٍ " . قوله [ تعالى ] : { يُغَاثُ ٱلنَّاسُ } يجوز أن تكون الألف عن واوٍ ، وأن تكون عن ياءٍ : إما من الغوث ، وهو الفرج ، وفعله رباعي ، يقال : أغَاثَنا اللهُ إذَا أنْقذنَا من كرْبٍ أو غمٍّ ، ومعناه : يغاثُ الناسُ من كَرْبِ الجَدبِ . وإما من الغيثِ ، وهو المطرُ ، يقال : أغْيَثَت الأرض ، أي : أمطرتْ ، وفعله ثلاثي ، يقال : أغَاثَنَا الله من الغَيْثِ ، وقالت أعرابيةٌ : غِثْنَا ما شِئْنَا ، أي : أمْطِرنا ما أردْنَا . فصل يقال : أسْنَتُوا ، أي : دخلوا في سنةٍ مجدبة : " وقال المفسِّرون : السبعة المتقدمةُ : هي الخصبُ وكثرةُ النِّعم ، والسَّبعة الثانية : هي القَحْطُ ، وهي معلومةٌ من الرؤيا ، وأمَّا حالُ هذه السنةِ ، فما حصل في ذلك المنام ما يدلُّ عليه ، بل حصل ذلك مِنَ الوَحْيِ " . قال قتادةُ رحمه الله ـ : زادهُ الله علمَ سنةٍ . فإن قيل : لما كانت العِجافُ سَبْعاً ، دلَّ على أنَّ السنين المجدبة لا تزيدُ على هذا العدد ، ومن المعلوم أنَّ الحاصل بعد انقضاء القحطِ ، هو الخصبُ ، فكان هذا أيضاً من مدلُولاتِ المنامِ ، فلم قلتم : إنَّه حصل بالوحي والإلهام ؟ . فالجواب : هَبْ أنَّ تبدل القحْطِ بالخصب معلومٌ ، وأما تفصيلُ الحال فيه ، وهو قوله : { فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } لا يعلمُ إلا بالوحي . قوله يَعْصِرونَ قرأ الأخوان : " تَعْصِرُونَ " بالخطاب ، والباقون بياء الغيبة ، وهما واضحتان ؛ لتقدم مخاطبٍ أو غائبٍ ، فكلُّ قراءةٍ ترجعُ إلى ما يليقُ بها . و " يَعْصِرُونَ " يحتمل أوجهاً : أظهرها : أنه من عصر العِنبِ ، والزيتونِ ، والسمسمِ ، ونحو ذلك . والثاني : أنَّه من عصر الضَّرع ، إذا حلبه . والثالث : أنه من العصرةِ ، وهي النجاةٌ ، والعُصْر : المنجي . وقال أبو زيد في عثمان رضي الله عنه ـ : [ الخفيف ] @ 3113ـ صَادِياً يَسْتغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ولقَدْ كَان عُصْرةَ المَنجُودِ @@ [ ويعضدُ ] هذا الوجه مطابقة قوله : { فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ } يقال : عَصَرَه يَعْصِرهُ ، أي : أنجاه . وقرأ جعفر بن محمدٍ ، والأعرج : " يُعْصَرُونَ " بالياء من تحت ، وعيسَى بالتاءِ من فوقُ ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعولِ ، وفي هاتين القراءتين تأويلان : أحدهما : أنها من عصره ، إذا أنجاه : قال الزمخشريُّ : " وهو مطابق للإغاثةِ " . والثاني : قاله قُطربٌ أنَّهما من الإعْصارِ ، وهو إمطار السحابةِ الماء ؛ كقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] ، وقال الزمخشريُّ : وقُرىء : " يُعْصَرُون ، تُمْطرُونَ " ، من أعصرتِ السَّحابةُ ، وفيه وجهان : إمَّا أن يضمَّن أعصرت معنى مُطِرَت ، فيعدَّى تعْدِيتَه ، وإما أن يقال : الأصلُ : أعْصِرَتْ عليهم ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى ضميرهم أو يسندُ الإعصارُ إليهم ؛ مجازاً ، فجعلوا معصرين . وقرأ زيد بن عليّ : " تِعِصّرُون " بكسر التاء ، والعين ، والصاد مشددة ، وأصلها يعْتَصِرُون ، فأدغم التاء في الصاد ، وأتبع العين للصادِ ، ثمَّ أتبعَ التاء للعين وتقدم [ تقريره ] في قوله { إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } [ يونس : 35 ] . ونقل النقاشُ قراءة " يُعَصِّرُونَ " بضمِّ الياء ، وفتح العين ، وكسر الصَّاد مشددة ؛ من " عَصَّر " للتكثير ، وهذه القراءة ، وقراءة زيدٍ المتقدمة ، تحتملان أن يكونا من العصرِ للنبات ، أو الضَّرع ، أو النَّجاة ؛ كقول الشاعر : [ الرمل ]