Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 54-55)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } . لما تبيَّن للملكِ عذرُ يوسف وعرف أمانتهُ وعلمهُ ، قال : { ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } ، أي : أجعله خالصاً لنفسي . قال القرطبيُّ : " انظر إلى قولِ الملكِ أولاً حين تحقَّق علمهُ : " ائتُونِي بِهِ " ، فقط فلمَّا فعل يوسف ما فعل ، قال ثانياً : { ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } والاستخلاصُ : طلب خلوصِ الشَّيء من شوائبِ الإشراكِ " . قال القرطبي : " أسْتَخْلصهُ " جزم ؛ لأنه جواب الأمرِ ؛ وهذا يدل على أنَّ قوله : " ذلِكَ ليَعْلمَ " ، جرى في السجن ، ويحتمل أنه جرى عند الملك ، ثم قال في جلس آخر : " ائتُوني بِهِ " ؛ تأكيداً . واختلفوا في هذا الملك ، فقيل : هو العزيز ، وقيل هو الملك الأكبر . وهذا هو الأظهر لوجهين : الأول : لقول يوسف عليه الصلاة والسلام ـ : { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ } . الثاني : أن قوله : { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } يدلُّ على أنه قبل ذلك ، ما كان خالصاً له ، وكان خالصاً للعزيز ، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الملك هو الملك الأكبر . قوله : " فَلمَّا كَلَّمهُ " ، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملكِ ، والمفعول ضمير يوسف صلوات الله وسلامه عليه وهو الظاهر ؛ لأنَّ مجالس الملوكِ لا يحسنُ لأحدٍ أن يبدأ فيها بالكلام ، وإنما الملك هو الذي يبدأ ، ويجوز العكس ، وفي الكلام اختصارٌ تقديره : فجاء الرسول يوسف ، فقال له : أجب الملك الآن . فصل رُوِيَ أنَّه قام ، ودعا لأهلِ السِّجن ، فقال : اللَّهُمَّ اعطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعمِّ عليهم الأخبار ، فهم أعلمُ النَّاس بالأخبار في كل بلدٍ . فلما خرج من السِّجن ، كتب على السجن : هذا قبرُ الأحياءِ ، وبيتُ الأحزانِ ، وتجربة الأصدقاءِ ، وشماتةُ الأعداءِ ، ثمَّ اغتسل ، وتنظَّف من درنِ السِّجن ، ولبس ثِياباً حسنة وقصد الملكَ . وقال وهبٌ رحمه الله ـ : كَانَ يوسفُ يومئذ ابن ثلاثين سنة ، ولما دخل عليه دعا ، وقال : اللهمَّ إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذُ بعزَّتكَ وقُدرتِكَ من شرِّه ، ثمَّ سلَّم عليه العربيَّة ، فقال الملك : ما هذا اللسانُ ؟ قال : لِسانُ عمِّي ، إسماعيل ، ثم دعا لهُ بالعِبرانِيّةِ ، فقال : ما هذا اللسانُ ؟ قال : لِسانُ آبائي : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً ، وكُلمَّا كَلَّمَ يوسف بلسانٍ ، أجابه بذلك اللسان ؛ فأعجب الملك أمرهُ ، كان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة ، فلما رآه الملكُ حدثاً شابًّا ، قال للشرابي : هذا هو الذي علم تأويل رُؤياي ؟ قال : نعم ، فأقبل على يوسف ، فقال الملك : أحبُّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً . فأجابه بذلك الجواب شفاهاً ، وشهد قلبه بصحته ؛ فعند ذلك قال له الملك : { إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } يقال : فلانٌ مكينٌ عند فلانِ ، بَيِّنُ المكانة ، أي : المنزلة ، وهي حالةٌ يتمكن بها صاحبها مما يريد ، وقوله : " أمِينٌ " أي : قد عرفنا أمانتكَ ، وبراءتك مما نسبت إليه . واعلم أن قوله : " أمِينٌ " كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ ، والمناقبِ ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم ، أما القدرة ؛ فلأن يحصل بها المكنةُ ، وأما العلم ؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به ، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي ، وبما لا ينبغي ، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل ، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك ؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ ، وأما كونه أميناً ، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة ، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً ، وعلى كونه عالماً بمواضع الصَّلاح ، والفسادِ ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة ، لا لداعي الشَّهوة ، وكل من كان كذلك ، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء . ثم حكى سبحانه وتعالى أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال في هذا المقام : { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } قال المفسرون : لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه ، قال له الملك : فما ترى أيُّها الصديقُ ؟ فقال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً ، وتبني الخزائن ، وتجمع فيها الطَّعام ، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات ، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشُّغل ؟ فقال يوسف : { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ } ، أي : على خزائن أرض مصر . أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق . روى ابنُ عبَّاسٍ رضي البله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : " رحِمَ اللهُ أخي يوسف ، لو لَمْ يقُل : اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً " . قال ابن الخطيب : " وهذا من العجائب ؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن ، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه ، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ ، أخَّر الله ذلك المطلوب عنه ، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِ ، والتفويض إلى الله تعالى أولى . فإن قيل : لِمَ طلب يوسف الإمارة ، " والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة : يَا عَبْدَ الرَّحمنِ : لا تَسْألِ الإمَارَةَ " ؟ . وأيضاً : فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ ؟ وأيضاً : لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة ؟ وأيضاً : لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ ؟ وأيضاً : كيف مدح نفسه بقوله : " إني حفيظ عليم " ؟ مع أنه تعالى قال : { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] ، وأيضاً ما الفائدة في قوله : " إنِّي حفيظٌ عليمٌ " ؟ ولِمَ لَمْ يقل : إن شاء الله تعالى ـ ؛ لقوله تعالى { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الكهف : 23ـ24 ] ؟ . فالجواب : أن الأصل في جواب هذه المسألةِ : أنَّ التَّصرف في أمور الخَلقِ كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه : الأول : أنه كان رسُولاً حقًّا من الله تعالى إلى الخلق ، والرسول تجب عليه مصالحُ الأمةِ بقدر الإمكانِ . والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام علمَ بالوحي أنَّهُ سَيحْصُلُ القَحْطُ والضيقُ الشديد ، الذي ربَّما أفضى إلى هلاك الخلق ، فلعلَّه تعالى أمره بأن يدبِّر في ذلك الوقت ، ويأتي بطريقٍ في آجله يقلُّ ضَررُ ذلك القحْطِ في حق الخلق . الثالث : أنَّ السَّعي في إيصال النفع إلى المُستضعفين ، ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسنٌ في العقول . وإذا ثبت هذا ، فنقولُ : إنه صلى الله عليه وسلم مكلَّفاً برعاية المصالح من هذه الوجوه ، و ما كان يمكنه رعايتها إلاَّ بهذا الطريق ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به ، فهو واجبٌ ، فكان هذا الطريق واجباً ، ولمَّا كان واجباً ، سقطتِ الأسئلة بالكلية . وأما تركُ الاستثناءِ ، فقال الواحديُّ : " كان ذلك من خطيئةٍ أوجبتْ عُقوبةٌ وهو أنه تعالى أخَّر عنه حصول ذلك المقصودِ سنةً " . قال ابنُ الخطيب : " لعلَّ السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء ، لاعتقد الملكُ فيه أنه ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي ؛ فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء " . وأما قوله لِمَ مَدحَ نفسه ؟ فجوابه من وجوه : الأولك لا نُسلِّمُ أنه مدح نفسه ، بل بيَّن كونه موصوفاً بهاتين الصفتين الوافيتين بحصولِ هذا المطلوبِ ، فاحتاج إلى ذكر هذا الوصفِ ؛ لأنَّ الملك وإن علمَ كمالهُ في علومِ الدين ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر . ثم نقول : هبْ أنَّه مدح نفسه ، إلاَّ أنَّ مدح النفس لا يكونُ مذموماً ؛ إلا إذا قصد به الرجل التَّطاول ، والتفاخر ، والتوصل إلى ما لا يحلُّ ، وأمَّا على هذا الوجه ، فلا نسلِّم أنه يحرمُ ، وقوله تعالى { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 23 ] ، والمراد منه : تزكيةٌ النفس وهو يعلمُ كونها غير زَكيَّةٍ ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى بعده : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [ النجم : 23 ] أما إذا كان عالماً بأنه صدقٌ ، فهو غير ممنوعٍ منه ، والله أعلم . وأما القول : ما الفائدة في وصف نفسه بأنه حفيظٌ عليمٌ ؟ . قلنا : إنه جار مجرى أن يقول : حفيظٌ بجميع الوجوه التي منها يمكن الرجل تحصيل المالِ ، عليمٌ بالجهاتِ التي تصلح لأن يصرف المال إليها ، أو حفيظ للخزائن عليمٌ بوجوه مصَالِحهَا أو كاتبٌ حَاسِبٌ ، أو حفيظٌ لِمَا اسْتودَعْتَنِي ، عليمٌ بما وليتني ، أو حفيظ للحساب ، عليمٌ بالألسن ، أعلمُ لغة من يأتيني . وقال الكلبيُّ : " حفيظٌ بتقديره في السِّنين الخصبةِ ، عليم بوقت الجوعِ حين يقعُ في الأرض الجَدبةِ " . فقال الملك : من أحقُّ به مِنْكَ فولاَّهُ ذلك ، وقال له : { إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } ذُو مكانةٍ ومنزلةٍ ، أمينٌ على خزائنِ الأرض .