Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 50-53)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ } الآية . " اعلم أنَّ الساقي لما رجع إلى الملك ، وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه ، وعرف الملك أنَّ الذي قاله كائنٌ قال ائتُونِي به ، فلمَّا جَاءه الرسُول قال : أجب الملكَ ، فأبى أن يخرج مع الرسول ، حتَّى تظهر براءته ، فقال للرسول : ارْجِعْ إلى ربِّكَ ، أي : سيِّدك ، قال عليه الصلاة السلام ـ : " عَجِبْتُ مِن يُوسفَ وكَرمهِ وصَبْرهِ واللهُ يَغْفرُ لهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ البَقراتِ العِجِافِ والسِّمانِ ، ولوْ كُنْتُ مَكانَهَ ما أخْبرْتُهمْ حتَّى أشْترطَ أنْ يُخْرِجُونِي ولقَدْ عِجِبْتُ منهُ حِينَ أتاهُ الرَّسولُ فقَال لَهُ : ارْجِعْ إلى ربِّك ، ولوْ كُنْتُ مَكَانَهُ ولَبِثْتُ في السِّجن طول ما لبِثَ لأسْرعْتُ إلى الإجَابةِ وبَادرتُهُم البَابَ " " . قال ابن الخطيب : الذي فعله يوسف عليه الصلاة والسلام من الصَّبر ، والتَّوقٌُّف إلى أن يفحص الملك عن حاله ، هو الأليقُ بالحزم والعقل ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه لو خرج في الحالِ ، فربما كان يبقى في قلب الملك أثر ما ، فلما التمس من الملكِ أن يفحص عن حال تلك الواقعةِ ، دلَّ ذلك على براءته من التهمةِ ، فبعد خروجه لا يقدر أحدٌ أن يلطِّخه بتلك الرذيلة ، وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه . والثاني : أن الإنسان الذي يبقى في [ السجن ] اثنتي عشرة سنةً ، إذا طلبه الملك ، وأمر بإخراجه ، فالظاهر أنه يبادرُ إلى الخروج ، فحيث لم يخرج ، عرف منه أنه في نهايةِ العقلِ ، والصَّبر ، والثباتِ ؛ وذلك [ يكون ] سبباً لاعتقادِ البراءةِ فيه عن جميع أنواع التهم ، وأن يحكم بأنَّ كلَّ ما قيل فيه ، كان كذباً . الثالث : أن التماسهُ من الملك أن يفحص عن حاله من تلك النسوةِ ، يدل أيضاً على شدَّة طهارته ، إذ لو كان ملوثاً بوجه ما ، لكان يخاف أن يذكر ما سبق . الرابع : أنه قال للشَّرابي : " اذكُرْنِي عندَ ربِّكَ " فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن [ بضع ] سنين ، وهنا طلبهُ الملك فلم يلتفت إليه ، ولم يقمْ لطلبه وزناً ، واشتغل بإظهار براءته من التُّهمةِ ، ولعلَّه كان غرضه عليه الصلاة والسلام من ذلك ألاَّ يبقى في قلبه التفاتٌ إلى ردِّ الملك وقبوله ، وكان هذا العمل جارياً مجرى التَّلافي ، لما صدر منه من التوسُّلِ إليه ، في قوله : " اذْكُرنِي عِندَ ربِّك " ، وليظهر هذا المعنى لذلك الشرابي ؛ فإنه هو الذي كان واسطةً في الحالين معاً . قوله : { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ } قرأ ابن كثير ، والكسائي : " فَسَلهُ " ، بغير همز ، والباقون : بالهمز ؛ وهما لغتان . والعامة على كسر نونِ " النِّسوةِ " وضمها عاصم في رواية أبي بكرٍ رضي الله عنهما وليست بالمشهورة ، وكذلك قرأها أبو حيوة . وقرىء " اللاَّئِي " بالهمز ، وكلاهما جمع لـ : " الَّتي " ، و " الخَطْبُ " : الأمْرُ والشَّأن الذي فيه خطرٌ ؛ وأنشد [ الطويل ] @ 3115ـ ومَا المَرْءُ ما دَامتْ حُشَاشَةُ نَفْسهِ بمُدْرِك أطرْافِ الخُطوبِ ولا آلِ @@ وهو في الأصل مصدر : خَطَبَ يُخْطبُ وإنَّما يُخْطَبُ في الأمور العظام . فصل ما في الآية من لطائف أولها : أنَّ المعنى ؛ قوله تعالى { فَاسْأَلْهُ } سئل الملك { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ } ليعلم براءتي من تلك التهمة إلا أنَّه اقتصر على سؤال الملك عن تلك الواقعة ؛ لئلاًَ يشتمل اللفظ على ما يجرى مجرى أمر الملك بعمل أو فعلٍ . وثانيها : أنَّه لم يذكر سيدته مع أنها التي سعت في إلقائه في السجن الطويل ، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة . وثالثها : أنَّ الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عملٍ قبيحٍ عند الملك ، فاقتصر يوسف عليه الصلاة والسلام على مجرَّد قوله : { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ، وما شكى منهم على سبيل التَّعيين ، والتفصيل . ثم قال يوسف عليه الصلاة والسلام { إنّ ربي بكيدهن عليم } . وفي المراد بقوله " إنَّ ربِّي " وجهان : أحدهما : أنه هو الله تعالى فإنه هو العالم بخفيَّات الأمور . والثاني : المراد به الملك ، وجعله ربًّا ؛ لكونه مربِّياً ، وفيه إشارةٌ إلى كون ذلك الملك عالماً بمكرهنَّ وكيدهنَّ . واعلم أنَّ كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً : أحدها : أنَّ كل واحدٍ منهن طمعت فيه ، فلما لم يجدن المطلوب أخذن يطعن فيه ، وينسبنه إلى القبيح . وثانيها : لعلَّ كلَّ واحدةٍ منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقته سيدته على مرادها ، ويوسف علم أنَّ مثل هذه الخيانة في حقِ السَّيِّد المنعم لا تجوزُ . وأشار بقوله : { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } إلى مبالغتهنَّ في الترغيب في تلك الخيانة . وثالثها : أنه استخرج منهنَّ وجوهاً من المكرِ والحيل في تقبيح صورة يوسف عند الملك ، فكان المراد منهم اللفظ ذلك . ثم إنه تعالى حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك ، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ ، وقال لهُنَّ : " مَا خَطْبُكُنَّ " : ما شَأنُكُنَّ ، وأمركنَّ " إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ " ، وفيه وجهان : الأول : أن قوله { إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ } ، وإن كان صيغة جمع ، فالمراد منها الواحد ؛ كقوله جلَّ ذكره : { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] . والثاني : أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة ، ثم هاهنا وجهان : الأول : أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ راودتْ يوسف عن نفسه . والثاني : أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ راودتْ يوسف ؛ لأجل امرأة العزيز ، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه . وعند هذا السؤال { قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء } ، وهذا كالتأكيد ؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه ، وهو قولهنَّ : { مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] . وقوله " إذْ رَوادتنَّ " ، هذا الظرف منصوبٌ بـ " خَطْبُكُنَّ " ؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى : ما فعلتُنَّ ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ . وكانت امرأةُ العزيز حاضرة ، وكانت تعلم أن هذه المناظرات ، والتفحصات ، إنما وقعت بسببها ، ولأجلها . وقيل : إنَّ النسوة أقبلن على امرأة العزيز يقررنها . وقيل : خَافتْ أن يَشْهدْنَ عليها ؛ فأقرَّت ، وقالت : { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } أي : ظهر ، وتبيَّن : { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } ، في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] . هذه شهادةٌ جازمةٌ من تلك المرأة أنَّ يوسفَ صلوات الله وسلامه عليه راعى جانب العزيز حيثُ قال : { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ؛ ولم يذكر تلك المرأة ألبتة ؛ فعرفت المرأةُ أنَّهُ ترك ذكرها ؛ رعايةً ، وتعظيماً لجانبها ، وإخفاءً للأمر عليها ؛ فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن ، فلا جرم كشفت الغطاء ، واعترفت بأنَّ الذنب كُلَّه من جانبها ، وأنَّ يوسف كان مُبَرّأ عن الكل . حُكِيَ أنَّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي ، فادَّعت عليه المهر ، فأمر القَاضِي أن يَكْشفَ عَنْ وَجْهِها ؛ حتَّى يتمَكَّنَ الشُّهودُ من إقَامةِ الشَّهادةِ ، فقال الزَّوحُ : لا حَاجةَ إلى ذلِكَ ؛ فإنِّي مقرٌّ بصَداقِهَا في دَعْواهَا ، فقالت المرأةُ : أكْرمْتَنِي إلى هذا الحد ؟ اشْهَدُوا أنِّي أبْرَأتُ ذمَّتهُ من كُلِّ حقِّ لِي عليْهِ . قوله " الآنَ " منصوب بما بعده ، و " حَصْحَصَ " معناه : تبيَّن وظهر بعد خفاءٍ ، قاله الخليل رحمه الله ـ . وقال بعضهم : هو مأخوذٌ من الحصَّة ، والمعنى : بانتْ حصَّةُ الحق من حصَّة الباطل ، كما تتميَّزُ حِصَصُ الأرَاضِي وغيرها ، وقيل : بمعنى ثبت واستقرَّ . وقال الرَّاغب : " حَصْحَصَ الحقُّ " ، أي : وضَحَ ذلِكَ بانكِشافِ ما يُقهِره ، وحصَّ وحَصْحَصَِ ، نحو : كفَّ وكَفْكَفَ ، وكَبَّ وكَبْكَبَ ، وحصَّه : قطعهُ ؛ إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكمِ ؛ فمن الأولِ قول الشاعر : [ السريع ] . @ 3116ـ قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا … @@ ومنه : رجُلٌ أحَصّ : انقطع بعض شعره ، وامرأةٌ حصَّاءُ ، والحَصَّةُ : القطعة من الجملة ، ويستعمل استعمال النصيب . وقيل : هو مِنْ حَصْحَصَ البعير ، إذا ألقى ثفناته ؛ للإناخَةِ ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3117ـ فَحَصْحَصَ في صُمِّ القَنَا ثَفِنَاتِهِ ونَاءَ بِسلمَى نَوْءَة ثُمَّ صَمَّمَا @@ قوله تعالى : " ذَلِكَ " خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ ، أي : الأمرُ ذلك ، و " لِيَعْلمَ " ، متعلقٌ بضميرٍ ، أي : أظهر ذلك ؛ ليعلم ، أو مبتدأ ، وخبره محذوفٌ ، أي : ذلك الذي صرَّحتُ به عن براءته ، أمرٌ من الله لا بُدَّ منه ، و " لِيَعْلمَ " متعلقٌ بذلك الخبر ، أو يكون " ذَلِكَ " مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يتعلق به هذا الجار أيضاً ، أي : فعل الله ذلك ، أو فعلته أنا بتيسير الله . قوله : " بِالغَيْبِ " يجوز أن تكون الباءُ ظرفية قال الزمخشريُّ : أي مكان الغيب ، وهو الخفاء ، والاستتارُ وراء الأبواب السبعة المغلقةِ ، ويجوز أن تكون الباءُ للحالِ ، إمَّا من الفاعل ، على معنى : وأنا غائبٌ عنه خفي عن عينه . وإمَّا من المعفولِ على معنى : وهو غائب عني خفي عن عيني . " وأنَّ اللهَ " نسقٌ على " أنِّي " ، أي : ليعلم الأمرينِ ، وهذا من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه وبه بدأ الزمخشري ، كالمختار له . وقال غيره : إنه من كلام امرأة العزيزِ ، وهو الظَّاهرُ . فإن قلنا : هو من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام فمتى قالهُ ؟ . وروى عطاءٌ ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم ـ : أنَّ يوسف لما دخل على الملك ، قال " ذلكَ " ، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب . قال ابنُ الخطيب : " والأولى أنه صلوات الله وسلامه عليه إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه ، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك ، سوء أدبٍ " . فإن قيل : هذه الخيانة لو وقعت ، كانت في حقِّ العزيزِ ، فكيف قال : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ؟ . فالجوابُ : قيل : المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ ، فتكون الهاءُ في " أخُنْهُ " تعود على العزيز . وقيل : إنَّه إذا خان وزيره ، فقد خانه من بعض الوجوه . وقيل : إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن ـ ، قال : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ } ، العزيزُ { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } . ثم ختم الكلام بقوله : { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } ، ولعلَّ المراد منه : أني لو كنت خائناً ، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ ، وحيث خلصني منها ، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه . وإن قلنا : إن قوله : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } كلام امرأة العزيز ، فالمعنى : أني ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره ، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته ؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت : { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } ، أي : لما أقدمتُ على الكيدِ ، والمكرِ ، لا جرم افتضحْتُ ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً ، لا جرم أظهره الله عز وعلا ـ . قال صاحبُ هذا القولِ : الي يدلُّ على صحَّتهِ : أنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتَّى يقال : لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها : { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } ، ففي تلك الحالة قال يوسف : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن ، ويذكر تلك الحكاية . ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم ؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة . قال القرطبي : وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز : " الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ " أي : أقررتُ بالصدقِ ؛ { لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } بالكذب عليه ، ولم أذكره بسوءٍ ، وهو غائبٌ ، بل صدقتُ ، وزجرت عنه الخيانة ، ثم قالت : " ومَا أبرِّىءُ نَفسِي " ؛ بل أنا راودته ، وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع ؛ ولهذا قالت : { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وقيل : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ، مِنْ قولِ العزيز ، وإنِّي لم أغفل عن مجازاته على أمانته . { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } معناه : إنَّ الله لا يهدي الخائنين بكيدهم . فصل دلَّت هذه الآية على طهارةِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه من الذنب من وجوه : الأول : أن الملك لما أرسل إلى يوسف صلوات الله وسلامه عليه وطلبه ، فلو كان يوسف متهماً بفعلٍ قبيحٍ ، وقد كان صدر منه ذنبٌ ، وفحشٌ ؛ لاستحال بحسب العرفِ والعادةِ ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة ، وكان ذلك سعياً منه في فضيحةِ نفسه ، وفي حمل الأعداءِ على أن يبالغوا في إظهار عيوبه . والثاني : أنَّ النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ، ونزاهته ، { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] ، وفي المرة الثانية : { قُلنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ } . والثالث : أنَّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته ، حيثُ قالت : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ } [ يوسف : 32 ] ، وفي المرة الثانية قولها : { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه صادقٌ في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] . والرابع قول يوسف { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } . قال ابن الخطيب : " والحشويَّةُ يذكرون أنَّه لما قال هذا الكلام ، قال جبريل عليه السلام ـ : ولا حين هَمَمْتَ ، وهذا من رواياتهم الخبيثة ، وما صحَّت هذه الروايةُ في كتابٍ معتمدٍ ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريفِ ظاهر القرآن " . والخامس : قوله : { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } ، يقتضي أن الخائن لا بدَّ أن يفتضح ، فلو كان خائناً ، لوجب أن يفتضح ؛ ولما خلصه الله من هذه الورطة ، دلَّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين . ووجه آخر : وهو أنَّ في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسةً ، فإقدامه في قوله { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ، مع أنَّهُ [ خانه ] بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشةٍ عظيمةٍ ، وعلى كذبٍ عظيمٍ من غير أن يتعلق به مصلحة بوجهٍ ما ، والإقدامُ على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً ؛ لا يليق بأحدٍ من العقلاءِ ، فكيف يليق إسناده إلى سيِّد العقلاء ، وقدوة الأصفياء ، فثبت أنَّ هذه الآية تدلُّ دلالة قطعيَّة على براءته مما يقول الجُهَّال . قوله تعالى : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ } الآية اعلمْ أنَّ تفسير هذه الآية يختلف باخلاف ما قبلها ؛ لأنَّه إن قلنا قوله { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ، كلام يوسف ، كان هذا أيضاً كلام يوسف ، وإن قلنا : : إنه من تمام كلام المرأة ، كان هذا أيضاً كذلك ، وإذا قلنا : إنه من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام ، فقالوا : إنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ، قال جبريلُ عليه السلامُ ولا حين هَمَمْتَ ، فعند هذا ، قال يوسف عليه الصلاة والسلام ـ : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } ، أي : بالزِّنا ، { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } أي عصم ، { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ } لِلْهمِّ الذي همَّ به ، " رَحِيمٌ " ، أي لو فعلته ، لتابَ عليَّ . قال ابنُ الخطيب رحمه الله ـ : " هذا ضعيفٌ ؛ فإنَّا بينا في الآية الأولى برهاناً قاطعاً على براءته من الذنب " . فإن قيل : ما جوابكم عن هذه الآية ؟ . فنقول : فيه وجهان : الأول : أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه ، وتزكيتها ؛ وقال سبحانه { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] فاستدركه على نفسه بقوله : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ } ، والمعنى : فلا أزكِّى نفسي ؛ { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } ، ميَّالةٌ إلى القبائحِ ، راغبٌ في المعصيةِ . الثاني : أنَّ الآية لا تدلُّ ألبتة على شيءٍ مما ذكروه ؛ لأنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما قال : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة ، ولعدم ميل النفس ، والطبيعةِ ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ ، توَّاقةٌ إلى اللذات ، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة ، ما كان لعدم الرغبةِ ، بل لقيام الخوف من الله تعالى ـ . وإذا قلنا : إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ ، ففيه وجهان : الأول : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ } ، عن مراودته ، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] . والثاني : أنها لما قالت : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ، قالت : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ } ، من الخيانة مطلقاً ؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه ، وقلت : { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ يوسف : 25 ] ؛ وأودعته في السِّجن ، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان . فإن قيل : أيُّهما أولى ، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف ، أم جعله كلاماً للمرأة . قلنا : جعله كلاماً ليوسف مشكل ؛ لأنَّ قوله : " قالت امرأةُ العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ " كلامٌ موصولٌ بغضه ببعضٍ إلى آخره ، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ ، والبعض كلام يوسف ، تخلُّل الفواصل الكثيرة بين القولين ، وبين المجلسين بعيد . فإن قيل : جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً ؛ لأن قوله { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي ، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النَّفس ، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية . قوله : { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } فيه أوجهٌ : أحدها : أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في " أمَّارةٌ " كأنه قيل : إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي ، فيكون أراد بالنفس الجنس ؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ العصر : 2 ، 3 ] وإلى هذا نحا الزمخشريُّ رحمه الله فإنه قال : " إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة ؛ كالملائكة " . وفيه نظرٌ ؛ من حيث إيقاع " ما " على من يعقل ، والمشهور خلافه . قال ابن الخطيب : " ما " بمعنى " مَنْ " أي : إ لا من رحم ربي ، و " مَا " و " مَنْ " كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر ؛ قال تعالى : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] ، وقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] . والثاني : أنَّ " مَا " في معنى الزمان ؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِّ المقدر ، والمعنى : إنَّ النَّفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ ، إلاَّ وقت رحمة ربِّي إيَّاها بالعصمةِ . ونظره أبو البقاءِ بقوله : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } [ النساء : 92 ] ، وقد تقدَّم [ النساء : 92 ] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون " أنْ " واقعة موقع ظرف الزمان . والثالث : أنه مستثنى من معفولِ " أمَّارةٌ " ، أي : لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رحمه الله ، وفيه إيقاع " مَا " على العاقل . والرابع : أنه استثناء منقطع ، قال ابن عطيَّة : وهو قول الجمهور . وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً ، أي : ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة ؛ كقوله : { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } [ يس : 43 ، 44 ] . فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى ؛ لقوله تعالى ـ : { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } فدلَّ ذلك على أنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله ، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الرحمةُ له ، حصل ذلك الانصرافُ ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل ، والقدرةِ ، والألطافِ ، كما قاله القاضي رحمه الله ـ ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن ، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر ، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ .