Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 80-82)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ } " اسْتَفْعَلَ " هنا بمعنى " فَعِلَ " المجرَّد يقال : يَئِسَ ، واسْتَيْأس [ بمعنى ] نحو " عَجِبَ واسْتَعْجَبَ ، وسَخِرَ ، واسْتَسْخَرَ . وقال الزمخشري : وزيادة التَّاء والسِّين في المبالغة نحو ما مرَّ في : " اسْتَعْصَمَ " وقرأ البزيُّ عن ابن كثير بخلاف عنه : " اسْتَأيَسُوا " بألف بعد التاء ثم ياء وكذلك في هذه السورة : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ } [ يوسف : 87 ] إنَّه لا يَيْأسُ { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ } [ يوسف : 110 ] ، وفي الرعد : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ } [ الرعد : 31 ] الخلاف واحد . فأمَّا قرأءة العامة : فهي الأصل ، إذ يقال : يَئِسَ ، فالفاء ياء ، والعين همزة وفيه [ لغة ] أخرى ، وهي القلبُ [ الرعد : 31 ] بتقديم العين على الفاءِ ، فيقال : أيِسَ ، ويدلُّ على ذلك شيئان : أحدهما : المصدر الذي هو اليأسُ . والثاني : أنَّه لو لم يكن مقلوباً للزم قلبُ الياءِ ألفاً ، لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، ولكن منع من ذلك كون الياءِ في موضع لا تعلُّ فيه ما وقعت موقعه ، وقراءة ابن كثير من هذا ، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة ، إذ صارت كهمزة رأس ، وكأس ، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة السَّاكنة حتى علَّةِ وهذا كما تقدَّم أنه يقرأ " القرآن " بالألف ، وأنَّه يحتملُ أن يكون نقل حركة الهمزة ، وإن لم يكن من أصله النقل . قال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلمات الخمسِ الَّتي وقع فيها الخلافُ " وكذلك رسمت في المصحف ، يعني كما قرأها البزيُّ يعنى بالألف مكان الياءِ ، وبياء مكان الهمزة " . وقال أبو عبد الله : واختلفت هذه الكلمات في الرَّسم ، فرسم : " يَأيَس " ، " ولا تَأيسُوا " بألف ، ورسم الباقي بغير ألف . قال شهابُ الدين : " وهذا هو الصَّوابُ ، وكأنَّه غفلة من أبي شامة " . ومعنى الآية : " فلمَّا أيسُوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا " . وقال أبو عبيدة : " اسْتَيْأسُوا " : استيقنوا أنَّ الأخ لا يرد إليهم . قوله : { خَلَصُواْ نَجِيّاً } قال الواحديُّ : يقال : خلص الشَّيء يخلصُ خلوصاً إذا انفصل من غيره ، ثم فيه وجهان : أحدهما : قال الزجاج ، خلصوا : أي : انفردوا ، وليس معهم أخوهم . وقال الباقون : تميزوا عن الأجانب ، وهذا هو الأظهر ، أي : خلا بعضهم ببعضٍ يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم . وأمَّا قوله : " نَجِيًّا " حال من فاعل : " خَلصُوا " أي : اعتزلوا في هذه الحالِ وإنَّما أفردت الحال ، وصاحبها جمع ، إمَّا لأن النَّجيَّ فعيلٌ بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المُخالِط والمُعاشِر ، كقوله { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] أي : مناجياً وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً ، يقال : هُم خَليطُكَ وعَشِيرتُك ، أي : مخالطوك ومعاشروك وإما لأنَّه صفة على فعيل بمنزلة صَدِيق ، وبابه يوحد ، لأنه يزنة المصارد كالصَّهيل ، والوجيب والذَّميل ، وإمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى التَّناجي كما قيل : النَّجْوى بمعناه ، قال تعالى : { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [ الإسراء : 47 ] ، وحينئذ يكون فيه التَّأويلات المذكورات في : " رجُلٌ عدلٌ " وبابه ، ويجمع على " أنْجِيَة " ، وكان من حقِّه إذا جعل وصفاً أن يجمع على " أفْعِلاء " ، كـ " غَنِيّ " ، وأغْنِيَاء " و " شَقِيّ ، وأشْقِيَاء " ؛ ومن مجيئه على " أنجِيَة " قول الشاعر : [ الرجز ] @ 3131ـ إنِّي إذَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ واضْطَرَبَ القَوْمُ اضطِرابَ الأرْشِيَهْ هناك أوصيني ولا تُوصِي بِيَهْ @@ وقول لبيد : [ الكامل ] @ 3132ـ وشَهِدْتُ أنْجِيةً الأفَاقةِ عَالِياً كَعبي وَأرْدَافُ المُلوكِ شُهُودُ @@ وجمعه كذلك يقوي كونه جامداً ، إذ يصيرُ كرغيب ، وأرغِفَة . وقال البغويُّ : النَّجِي يصلحُ للجماعة ، كما قال ههنا ، وللواحد كما قال : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] وإنما جاز للواحد والجمع ؛ لأنه مصدر جعل نعتاً كالعدل ، ومثله : النَّجوى يكونُ اسماً ، ومصدراً ، قال تعالى { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [ الإسراء : 47 ] أي : مُتنَاجِين ، وقال حل ذكره { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ } [ المجادلة : 7 ] وقال في المصدر { إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ } [ المجادلة : 10 ] . قال ابن الخطيب : " وأحسنُ الوجوه أن يقال : إنَّهم تمحَّضُوا تناجياً ؛ وأنَّ من كمل حصول أمرٍ من الأمُورِ فيه وصف بأنَّه صار غير ذلك الشَّيء فلما أخذوا في التَّناجي على غاية الجدِّ ؛ صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التَّناجِي في الحقيقة " . " قالَ كَبيرُهمْ " في العقل ، والعلم لا في السنِّ ، وهو " يَهُوذَا " ، قاله ابن عباسٍ ، والكلبي . وقال مجاهدٌ : شمعون ، وكانت له الرِّئاسةُ على إخوته . وقال قتادة ، والسديُّ ، والضحاك : وهو روبيلُ ، كان أكبرهم في السنِّ ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف عليه السلام ـ . { أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً } : عهداً : { مِّنَ ٱللَّهِ } ، وأيضاً : نحنُ متَّهمُونَ بواقعة يوسف . قوله { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ } في هذه الآية وجوه ستة : أظهرها : أنَّ " مَا " مزيدة فيتعلَّق الظَّرف بالفعل بعدها ، والتقدير : ومن قبل هذا فرَّطتم ، أي : قصَّرتم في حقِّ يوسف ، وشأنه ، وزيادة " مَا " كثيرة ، وبه بدأ الزمخشري وغيره . الثاني : أن تكون " مَا " مصدرية في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبر الظَّرف المتقدم قال الزمخشريُّ : على أنَّ محل المصدر الرَّفع بالابتداء ، والخبر الظرف وهو " مِنْ قَبْلُ " ، والمعنى : وقع من قبل تفريطكم في يوسف عليه الصلاة والسلام وإلى هذا نحا ابنُ عطيَّة أيضاً فإنَّه قال : ولا يجوز أن يكون قوله : " مِنْ قَبْلُ " متعلقاً بـ : " مَا فَرَّطْتُمْ " ، وأنَّ " مَا " تكون على هذا مصدرية ، والتقدير : ومن قَبْلِ تفريطكم في يوسف واقعٌ ، أو مستقرٌّ وبهذا المقدر يتعلق قوله : " مِنْ قَبْلُ " . قال أبو حيَّان : هذا وقول الزمخشريُّ راجعان إلى معنى واحد ، وهو أن " مَا فرَّطتُمْ " يقدَّرُ بمصدرٍ مرفوع بالابتداء ، و : " مِنْ قَبْلُ " في موضع الخبر وذهلا عن قاعدة عربيَّة ، وحقَّ لهما أن يذهلا وهي أنَّ هذه الظروف التي هي غايات إذا بُنيت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرَّت ، أو لم تجرَّ ، تقول : يومُ السَّبت مُباركٌ والسَّفر بعدهُ ، ولا تقول : والسَّفر بَعد و " عَمْرٌو وزيْدٌ خَلفهُ " ولا يجوز : عمرٌو وزيدٌ خلف ، وعلى ما ذكراه يكون : " تَفْريطُكُم " مبتدأ ، و " مِنْ قَبْلُ " خبر وهو مبنيُّ وذلك لا يجوز ، وهو مقررٌ في علم العربيِّة " . قال شهابُ الدِّين : " قوله : " وحُقَّ لهُمَا أنْ يَذْهَلا " تحامل على هذين الرجلين ، وموضعهما من العلم معروفٌ ، وأمَّا قوله : " إنَّ الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً " ، فمسلَّم ، قالوا : لأنَّه لا يفيد ، وما لا يفيد ، لا يقع خبراً ، ولذا لا يقع صفة ، ولا صلة ، ولا حالاً والآية الكريمةُ من هذا القبيل لو قلت : " جاء الذي قبل " أو " مررت برجل قبل " لم يجز لما ذكرت . ولقائلٍ أن يقول : إنَّما امتنع ذلك ؛ لعدم الفائدة ، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضافِ إليه المحذوف ، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه أن يقع ذلك الظَّرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبراً ، وصفة ، وصلة ، وحالاً والآية الكريمة من هذا القبيل ، أعني ممَّا علم فيه المضاف إليه كما مرَّ تقريره " . ثمَّ هذا الرَّد الذي ردّ به أبو حيَّان سبقه إليه أبو البقاءِ ، فقال : " وهذا ضعيف ؛ لأن " قَبْل " إذا وقعت خبراً أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة " . الثالث : أنها مصدرية أيضاً ، في محل رفع بالابتداء ، والخبر هو قوله " فِي يُوسفَ " أي : وتفريطكم كائن ، أو مستقر في يوسف ، وإلى هذا ذهب الفارسي كأنه استشعر أن الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً ؛ فعدل إلى هذا ، وفيه نظر ؛ لأنَّ السِّياق ، والمعنى يجريان إلى تعلق : " فِي يُوسفَ " بـ " فَرَّطْتُمْ " ، فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدِّي إلى تهيئة العامل [ للعمل ] ، وقطعه عنه . الرابع : أنَّها مصدرية أيضاً ، ولكن محلها النَّصب على أنَّها منسوقة على " أنَّ أباكُمْ قد أخَذَ " أي : ألم تعلموا أخذ أبيكم الميثاق ، وتفريطكم في يوسف . قال الزمخشري : " كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً ، وتفريطكم من قبل في يوسف " وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً . قال أبو حيَّان : " وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيِّد ؛ لأنَّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو حرفٍ واحد ، وبين المعطوف ؛ فصار نظير : ضَربْتُ زيداً ، وبِسَيفٍ عمراً ، وقد زعم الفارسيُّ أنه لا يجوز ذلك إلاَّ في ضرورة الشِّعر " . قال شهابُ الدِّين : هذا الرَّدُّ سبقه إليه أبُو البقاءِ ، ولم يرتضه وقال : " وقيل : هو ضعيفٌ ؛ لأنَّ فيه الفصل بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ ، وقد بينا في سورة النِّساء أن هذا ليس بشيء " . قال شهاب الدين : " يعني أنَّ منع الفصل بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ ليس بشيءِ ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا ، وتقريره في سورة النساء ، كما أشار إليه أبو البقاء " . ثمَّ قال أبو حيَّان : " وأمَّا تقديرُ الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف ؛ فلا يجوز ؛ لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل عليه ، وهو لا يجوز " . وقال شهابُ الدِّين : " ليس في تقدير الزمخشريِّ شيء من ذلك ؛ لأنَّه لمَّا صرح بالمقدر أخَّر الجارين ، والمجرورين عن لفظ المصدر المقدَّر كما ترى ، وكذا هو في سائر النسخ ، وكذا ما نقله عنه الشيخ بخطهِ ، فأين تقديمُ المعمولِ على المصدر ولو رد عليه ، وعلى ابن عطيَّة بأنه يلزمُ من ذلك تقديمُ معمولِ الصِّلةِ على الموصول لكان ردًّا واضحاً ، فإنَّ : " مِنْ قَبْلُ " متعلق بـ " فَرَّطْتُمْ " ، وقد تقدَّم الكلامُ على ما المصدرية ، وفيه خلافٌ مشهورٌ " . الخامس : أن تكون مصدرية أيضاً ، ومحلها النصب عطفاً على اسم : " أنَّ " أي : ألم تعلموا أنَّ أباكم ، وأن تفريطكم من قبل في يوسف ، وحينئذٍ يكون في خبر " أنَّ هذه المقدرة وجهان : أحدهما : هو : " مِنْ قَبْلُ " . والثاني : هو " فِي يُوسَفُ " واختاره أبو البقاء ، وقد تقدَّم ما في كلِّ منهما ، ويردُّ على هذا الوجه الخامس ما ردَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد عرف ما فيه . السادس : أن تكون موصولة اسمية ، ومحلُّها الرفع ، والنَّصب على ما تقدَّم في المصدريَّة . قال الزمخشريُّ : بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه ، أي : قدَّمتموهُ في حقِّ يوسف من الجنايةِ ، ومحلُّها الرَّفع ، أو النَّصب على الوجهين . يعنى بالوجهين رفعها بالابتداء ، وخبرها " مِنْ قبل " ، ونصبها على مفعولِ " ألمْ تَعْلمُوا " ، فإنَّهُ لم يذكر في المصدرية غيرهما ، وقد تقدَّم ما اعترض به عليهما ، وما قيل في جوابه . فتحصل في " مَا " ثلاثة أوجه : الزيادة ، وكونها مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وأن في محلها وجهين : الرفع ، أو النصب . قوله تعالى : { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } برح هنا تامة ، ضمنت معنى أفارقُ فـ : " الأرْضَ " معفول به ، ولا يجوز أن تكون تامَّة من غير تضمين ؛ لأنها إذا كانت كذلك ؛ كان معناها : ظهر أو ذهب ، ومنه : بَرحَ الخفاءُ ، أي : ظهر ، أو ذهب ، ومعنى الظهور لا يليق ، والذهابُ لا يصلُ إلى الظَّرف المخصوص إلاَّ بواسطةِ " في " : تقول : " ذَهَبْتُ في الأرضِ " ولا يجوز ذهبتُ الأرْضَ ، وقد جاء شيءٌ لا يقاس عليه . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكون ظرفاً " . قال شهابُ الدِّين : " يحتمل أن يكون سقط من النُّسخِ لفظ " لاَ " ، وكان : " ولا يجوز أن يكون ظرفاً " . واعلم أنه لا يجوز في " أبْرَحَ " هنا أن تكون ناقصة ؛ لأنَّه لا ينتظم من الضمير الذي فيها ، وما " من الأرض " مبتدأ أو خبرٌ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : أنَا الأرض لم يجز من غير " فِي " بخلاف " أنَا في الأرْضِ وزيدٌ في الأرْضِ " . قوله : { أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ } في نصبه وجهان : أظهرهما : عطفه على : " يَأذَنَ " . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار " أنْ " في جواب النَّفي ، وهو قوله : { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } أي : لنْ أبْرحَ الأرْضَ إلاَّ أن يحكم ، كقولهم : لالزَمنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حقِّي ، أي : إلا أن تَقْضِيَنِي . قال أبو حيَّان : " ومَعْنَاهُ ومعنى الغاية مُتقَارِبَان " . قال شهابُ الدِّين : " وليْسَ المعنى على الثَّاني ، بل سِياقُ المعنى على عطفه على " بَأذَنَ " فإنه غيًّا الأمر بغايتين : أحداهما خاصة ، وهي إذْنُ أبيه والثانية عامة ؛ لأنَّ إذن أبيه له في الانصراف هو من حكم الله عزَّ وجلَّ " . فصل اعلم أنَّهم لما أيسوا من تخليصه ، وتناجوا فيما بينهم ، قال كبيرهم : { أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً } أي : عهداً { مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ } هذا فرَّطتم في شأن يوسف ، ولم تحفظوا عهد أبيكم ، { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } التي أنا بها ، وهي أرض مصر ، فلن أفارق أرض مصر { حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ } في الانصراف إليه والخروج منها { أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي } بالخروج منها بردّ أخي إليّ ، أو خروجي ، وترك أخي ، أو بالانتصاف ممَّن أخذ أخي . وقيل : أو يحكم الله لي بالسَّيف ، وأقاتلهم واسترد أخي { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل ، والحق ، فحينئذ تفكَّروا في الأصوب ما هو ؟ فظهر لهم أنَّ الأصوب هو الرُّجوع ، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة ، فقال الأخ المحتبس بمصر لإخوته : { ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ } بنيامين " سَرَقَ " . قرأ العامة : " سَرَقَ " مبنيًّا للفاعل مخففاً ، وابن عباس ، وأبو رزين ، والضحاك ، والكسائي في رواية " سُرِّقَ " بضمِّ السِّين ، كسر الرَّاء مشدداً مبنيًّا للمفعول يعني : نسب إلى السَّرقة ، كما يقال : خَوَّنته ، أي : نسبته إلى الخِيانةِ ، قال الزجاج : " سُرِّقَ " يحتمل معنيين : أحدهما : علم منه السرقة ، والآخر : اتهم بالسَّرقة . قال الجوهريُّ : " والسَّرِق والسَّرِقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق ، والمصدر : سَرَق ، يَسْرِق ، سَرَقاً بالفتح " . وقرأ الضحاك : " سَارِق " جعله اسم فاعل . { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } فإنَّا رأينا أخراج صاع من متاعه . وقيل : معناه { وَمَا شَهِدْنَآ } أي : ما كانت منَّا شهادة في عمرنا على الشَّيء إلاَّ بما علمنا ، وليست هذه الشَّهادة منَّا ، إنَّما هو خبرٌ عن صنيعِ ابنكَ بزعمهم . فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنَّه سرق من غير بينة ، لا سيَّما وقد أجابهم بالنَّفي فقال : الذي جعل الصَّواع في رحلي ، وهو الذي جعل البضاعة في رحالكم ؟ فالجواب من وجوهٍ : أحدها : أنهم شاهدوا أنَّ الصواع كان موضوعاً في [ محلٍّ ] لم يدخله غيرهم ، فلمَّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله ؛ غلب على ظنهم أنَّه هو الذي أخذ الصواع . وأما قوله : " وضَعَ الصُّواعَ في رحْلِي الذي وضع البِضاعَة في رحالكم " فالفرق ظاهرٌ ؛ لأنهم لمَّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأمَّا الصُّواع ، فلم يعترف أحدٌ بأنه هو الذي وضع الصُّواعَ ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق ؛ فشهدوا بناء على غلبة الظَّنِّ ، ثمَّ بينوا أنهم غيرُ قاطعين بهذا الأمر بقولهم : { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } . وثانيها : تقدير الكلام : { إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ } في قول الملك ، وأصحابه ، ومثله كثيرٌ في القرآن ، قال تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] أي : عند نفسك وأمَّا عندنا فلا فكذا هاهنا . وثالثها : أنَّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السَّرقة ، ومثل هذا المعنى قد يسمَّى سرقة ، فإن إطلاق أحد الشَّيئين على الشبيه الآخر جائزٌ ، ومثله في القرآن { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . ورابعها : أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة ، لا سيَّما ، وقد شاهد سائرهم ذلك . وخامسها : قراءة ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه المتقدمة " سُرِّقَ " أي : نسب إلى السَّرقة ، فهذه لا تحتاجُ إلى تأويلٍ ، إلاَّ أنه تقدَّم أنَّ أمثال هذه القراءة لا تدفعُ السَّؤال ؛ لأنَّ الإشكال إنَّما يندفعُ إذا كانت القراءة الأولى باطلة ، وهذه القراءة حقّ أمَّا إذا كانت الأولى حقّ ، كان الإشكال باقياً صحَّت القراءة ، أو لم تصحّ ، فلا بدّ من الرجوعِ إلى أحدِ الوجوه المذكورة . فصل دلَّ قولهم : { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } على أنَّ الشَّهادة غير العلم ؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشَّهادةِ مغايرة للعلم ، ولقوله عليه الصلاة والسلام ـ : " إذَا عَلمْتَ مثلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ " … وليست الشَّهادةٌ عبارةً عن قوله " اشْهَد " ؛ لأنه إخبار عن الشَّهادة ، والإخبار عن الشَّهادة غير الشهادة . وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : الشَّهادةُ عبارةٌ عن الحكم الذِّهنيِّ وهو الذي يسميه المتكلمون بـ " الكلام " النفسي " . فصل قال القرطبيُّ : تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [ وجه ] حصل العلمُ بها فإنَّ الشَّهادة مرتبطةٌ بالعلم عقلاً وشرعاً ، فلا تسمعُ إلاَّ ممَّن علم ، ولا تقبلُ إلاَّ منهم ، وهذا هو الأصل في الشَّهادات . ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة ، وشهادة المستمع جائزةٌ ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة ، وكذلك الشَّهادة على الخطّ أي : إذا تبيَّن أنه خطُّه ، أو خطُّ فلان صحيحةٌ ، فكلُّ من حصل له العلم بشيء ؛ جاز أن يشهد به ، وإن لم يشهدهُ المشهودُ عليه . قال الله تعالى : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ] وقال عليه الصلاة والسلام ـ : " ألاَ أخْبِرُكمْ بِخيْرِ الشُّهداءِ ؟ الذي يأتِي بشهادة قَبْل أنْ يُسْألَها " . قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } قال مجاهدٌ وقتادة : وما كنا نعلم أنَّ ابنك يسرق ، ويصيِّر أمرنا إلى هذا ، ولو علمنا بلك ما ذهبنا به معنا ، وإنَّما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل . وقال عكرمة : لعلَّ الصُّواع دفن في اللَّيلِ ، فإنَّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات . وقيل : رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله ، أمَّا حقيقة الحالِ ، فغير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى . وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ما كنا لليله ، ونهاره ، ومجيئه ، وذهابه حافظين . وقيل : إنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام قال لهم : فهبْ أنه سرق ، ولكن كيف علم الملكُ أن شرع بني إسرائيل أنَّه من سرقَ يُسترقُّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم ، فقالوا عند ذلك : إنَّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها ، فقوله : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي : ما كنا نعلم أن الواقعة تصيبنا . فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله ؟ . فالجواب : لعلَّ ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً ، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنَّه كافراً . قوله تعالى : { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } يحتمل ثلاثة أوجهٍ : أشهرها : أنه على حذف مضافٍ ، أي : واسألْ أهل القرية ، وأهل العِير ، وهو مجازٌ شائعٌ ، قاله ابن عطيِّة وغيره . وقال أبو عليِّ الفارسي : ودافع جواز هذا في اللغةِ كدافعِ الضَّروراتِ ، وجاحد المحسوسات ، وهذا على خلافٍ في المسألةِ ، هل الإضمار من باب المجازِ ، أو غيره ؟ المشهور أنه قسم منه ، وعليه أكثر النَّاسِ . قال أبو المعالي : قال بعض المتكلمين : " هذا من الحذف ، وليس من المجاز إنَّما المجازُ لفظة استعيرت لغير ما هي له ، قال : وحذف المضاف هو عينُ المجاز وعظمه ، هذا مذهب سيبويه وغيره ، وحكي أنَّه قول الجمهور " . وقال ابن الخطيب : إن الإضمار ، والمجاز [ قسمان لا قسيمان ] ، فهما متباينان . الثاني : أنَّه مجاز ، ولكنه من باب إطلاق اسم المحل على الحال للمجاورة كالراوية . الثالث : أنَّه حقيقة لا مجاز فيه ، ولذلك قال أبو بكر الأنباري : المعنى : واسْألِ القرية والعير ؛ فإنَّها تجيبك ، وتذكر لك صحَّة ما ذكرنا ؛ لأنك من أكابر الأنبياء ، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد ، والبهائم . وقيل : إنَّ الشيء إذا ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً فقد يقال فيه : سل السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه ، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ ، والمراد من القرية : مصر ، وقيل : قرية على باب مصر قال ابن عباس رضي الله عنه : هي قرية من قرى مصر ، كانوا ارتحلوا منها . وأما قوله : { وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي القافلة التي كُنَّا فيها . قال المفسِّرون : كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب . قال ابنُ إسحاق : عرف الأخ المحتبس بمصر أنَّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لمَا كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه السلام ، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم . ثم إنَّهم لما بالغوا في التَّأكيد ، والتقرير قالوا : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } يعنى سواء نسبتنا إلى التُّهمة ، أم لم تنسب ؛ فنحن صادقون ، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم ؛ لأنَّ هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ، بل الإنسان ، إذا قدم ذكر الدَّليل القاطع على صحَّة الشيء ، فقد يقول بعده : وأنَّا صادق في ذلك ، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدَّلائل ، والبينات . فصل قال القرطبي : " دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [ خلاف ] ما هو عليه ، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة ، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه ، حتَّى لا يبقى متكلِّم ، وقد فعل هذا نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا ، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد : " على رسلكما ، إنّما هي صفيّة بن حييّ " ؛ فقالا : سبحان الله ! وكبر عليهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدم مُجْرَى الدَّم ، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا ، أو قال : شَيْئاً " متفقٌ عليه . فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه ، ولم يخبره بمكانه ، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه ، ففيه معنى العقوق ، وقطيعة الرَّحمِ ، وقلَّة الشَّفقةِ ؟ . فالجواب : أنَّه فعل ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب ، فيضاعف له الأجر ، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين . وقيل : إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته ؛ لأنَّهُ لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً ، فيكتموه عن أبيه ، والأول أصح .