Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 83-87)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } هذا الإضراب لا بدَّ له من كلامٍ قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه ، والتقدير : فرجعوا إلى أبيهم ، وذكروا له ما قال كبيرهم ، فقال يعقوب : ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة ، { بل سولت } : زيَّنَتْ { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أي حمل أخيكم إلى مصر ، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف . وقيل : { سولت لكم أنفسكم } أنَّه سرق ، ما سرق . { فصبر جميل } وتقدَّم الكلام على نظيره ، وقال هناك : { والله المستعان على ما تصفون } وقال ههنا { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } . قال بعضهم : يعنى يوسف ، وبنيامين ، وأخاهم المقيم بمصر . وإنَّما حكم بهذا الحكم ؛ لأنَّه لما طال حزنه وبلاؤه علم أنَّ الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب ، فقال ذلك على سبيل حسن الظنِّ برحمة الله تعالى . وقيل : لعلَّه كان قد أخبر من بعد محنته بيوسف أنه حي ، أو ظهرت له علامات على ذلك . ثم قال : { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } العليم بحقائقِِ الأمْرِ ، الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل ، والإحسان . وقيل : العليم بحزني ، ووجدي على فقدهم ، الحكيم في تدبير خلقه . قوله تعالى : { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يٰأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } الآية . لما سمع يعقوب كلام بنيه ، ضاق قلبه ، وهاج حزنهُ على يوسف ، فأعرض عنهم : { وقال يا أسفى على يوسف } يا حزنا على يوسف . والأسفُ : أشدُّ الحُزْنِ ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه : الأول : أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع ، قال متمّم بن نويرة : [ الطويل ] @ 3133ـ فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكِ فقُلْتُ لَهُ : إنَّ الأسَى يَبْعَثُ الأسَى فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ @@ وذلك ؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّ عليه حزنه على أخيه مالك ، فلاموهُ ؛ فأجاب : إنَّ الأسى يبعث الأسى . الثاني : أنَّ ينيامين ، ويوسف كانا من أمٍّ واحدة ، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة ، فكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام ، فلما وقع ما وقع ، زال ما يوجبُ السَّلوة ، فعظم الألم . الثالث : أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب ، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ . الرابع : أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ ، فلم يبحث عنها وأمَّا واقعة يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه ، وأما السَّببُ الحقيقي ، فلم يعلمه . وأيضاً : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم حياة هؤلاء ، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي ، أو ميت ، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته . قوله : { يٰأَسَفَا } الألف منقلبة عن ياء المتكلم ، وإنَّما قلبت ألفاً ؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم ، ونداؤه على سبيل المجازِ ، كأنَّه قال : هذا أوانُك فاحضر ، نحو : " يَا حَسْرَتَا " . وقيل هذه ألف الندبة ، وحذفت هاء السَّكت وصلاً . قال الزمخشريُّ : والتَّجانس بين لفظتي الأسف ، ويوسف ممَّا يقعُ مطبوعاً غير متعمل فيملح ، ويبدع ، ونحوه : { ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] { يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 10 ] { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [ النمل : 22 ] . قال شهابُ الدِّين : ويسمَّى هذا النَّوع تجنيس التَّصريف ، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى ، وقد تقدَّم [ الأنعام : 26 ] . وقرأ ابن عباسٍ ، ومجاهدٌ " مِنَ الحَزَن " بفتحتين ، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون . فالحُزْن ، والحَزَن ، كالعُدْمِ ، والعَدَم ، والبُخْل والبَخَل ، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ . وقال الواحديُّ : اختلفوا في الحُزْنِ ، الحَزَن ، فقال قومٌ : الحُزْن : البُكاء والحَزَن ضد الفرحِ ، وقال قومٌ : هما لغتان ، يقال : أصَابهُ حُزْنٌ شديدٌ وحَزنٌ شديدٌ ، إذا كان في مواضع النَّصب ، فتحوا الحاء ، والزَّاي كقوله : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً } [ التوبة : 92 ] ، وإذا كان في موضع الرفع ، والخفض فبضم الحاءِ ، كقوله : { مِنَ ٱلْحُزْنِ } وقوله : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ } قال : هما في موضع رفع بالابتداء . و " كَظِيمٌ " يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول ، كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] وبه فسَّرهُ الزمخشريُّ ، فإن كان بمعنى الكَاظِم فهو الممسك على حزنه فلا يظهره ، وإن كان بمعنى المكظُومِ ، فقال ابنُ قتيبة : " معناه المملوء من الهمّ ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور ، من كَظَمَ السِّقاء ، إذا اشتدّ على ملئه ، ويجوز أن يكون بمعنى مَمْلُوء من الغيظِ على أولاده " . فصل تقدَّم الكلام على الأسفِ ، وأمَّا قوله : { وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ } فقيل : إنَّه لما قال : { يٰأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ } غلبه البُكَاءُ ، وعند غلبةِ البُكاءِ يكثرُ الماء في العين ، فتصير العينُ كأنها ابيضَّت من بياض ذلك الماءِ ، فقوله : { وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ } كناية عن غلبة البكاءِ . رواه الواحدي عن ابن عبَّاسٍ . وقال مقاتلٌ : كناية عن العمى ، فلم يبصر بهما شيئاً حتى كشفهُ اللهُ تعالى بقميص يوسف عليه الصلاة والسلام بقوله : { فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } [ يوسف : 93 ] ، وقال : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً } [ يوسف : 96 ] : ولأنَّ الحزن الدَّائم ، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى ؛ لأنَّه يوجب كُدُورة على سوادِ العين . وقيل : ما عمي ، ولكنَّه صار بحيثُ يدرك إدراكاً ضعيفاً ؛ كما قال : [ الطويل ] @ 3134ـ خَلِيليَّ إنِّي قَدْ غَشِيتُ مِنَ البُكَا فهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقلَةٌ اسْتَعِيرُهَا @@ قيل : ما صحَّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون سنةن وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب عليه الصلاة والسلام ـ . قوله : " تَفْتَؤ " هذا جواب القسم في قوله : " تَاللهِ " وهو على حذف لا أي : لا تفتؤ كقول الشَّاعر : [ البسيط ] @ 3135ـ تَاللهِ على الأيَّامِ ذُو حَيَدٍ بمُشْمَخرِّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ @@ أي : لا تبقى ، ويدلُّ على حذفها : أنَّهُ لو كان مثبتاً ؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التَّوكيد معاً عند البصريين ، أو إحداهما عن الكوفيين ، وتقول : واللهِ أحبُّك : تريد لأحبك ، وهو من التَّوريةِ ، فإن كثيراً من النَّاس يتبادر ذهنه إلى إثباتِ المحبَّة ، و " تَفْتَأ " هنا ناقصة بمعنى لا تزال . قال ابنُ السِّكيت : " ما زِلتُ أفعله ، ما فَتِئت أفعلهُ ، ما بَرحْتُ أفْعَلُه ، ولا يتكلم بهنَّ إلاَّ في الجحد " . قال ابن قتيبة : " يقال : مَا فترت ومَا فَتِئت ، لغتان ، ومعناه : ما نسيته ، وما انقطعتُ عنه " ، وإذا كانت ناقصة ؛ فهي ترفع الاسم ، وهو الضمير ، وتنصب الخبر ، وهو الجملة من قوله : " تَذْكرُ " أي : لا تزالُ ذاكراً له ، يقال : ما فَتِىء زيدٌ ذاهباً ؛ قال أوس بن حجرٍ : [ الطويل ] @ 3136ـ فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارهَا سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي ريَاحٍ تُرَفَّعُ @@ وقال أيضاً : [ الطويل ] @ 3137ـ فَمَا فَتِئَتْ خَيلٌ تَثوبُ وتدَّعِي ويَلحَقُ منهَا لاحِقٌ وتُقطَّعُ @@ وعن مجاهدٍ : لا تفتر ؛ قال الزمخشريُّ : كأنه جعل الفُتُوء ، والفُتُورَ أخوين ، كما تقدَّم عن ابنِ قتيبة ، وفيهما لغتان : " فَتَأ " على وزن " ضَرَبَ " ، و " أفْتَأ " على وزن " أكْرَمَ " ، وتكون تامَّة بمعنى : " سَكَنَ وأطْفَأ " كذا قاله ابنُ مالكٍ . وزعم أبُو حيَّان : أنه تصحيفٌ منه ، وإنَّما هي فَثَأ بالثَّاءِ المثلثة ، ورسمت هذه اللَّفظة " تَفْتَؤ " بالواو ، والقياس " تَفْتَأ " بالألف ، وكذلك يوقف لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخطِّ ، والقياس . قوله : " حَرَضاً " : الحَرَضُ : الإشفاءُ على الموت ، يقال منه : حَرَضَ الرَّجلُ يحرُض حرضاً بفتح الرَّاء ، فهو حرض بكسرهَا ، فالحرض مصدر من هذه المادَّة فيجيء في الآية الأوجه التي في " رجُلُ عدلٌ " كما تقدم . ويطلق المصدر من هذه المادَّة على : " الجُثث " إطلاقاً شائعاً ؛ ولذلك يستوي فيه المفرد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث ، تقول : هو حرضٌ ، وهما حرضٌ وهُم حَرَضٌ ، وهي حَرَضٌ ، وهُنَّ حَرَضٌ ؛ ويقال : رجلٌ حُرُضٌ بضمتين ، نحو : جُنُب ، وشُلُل . ويقال : أحْرَضهُ كذا ، أي أهلكهُ ؛ قال : [ البسيط ] @ 3138ـ إنِّي أمرؤُ لجَّ بِي حُبٌّ فأحْرَضنِي حتَّى بَلِيتُ وحتَّى شَفَّنِي السَّقمُ @@ فهو محرض … قال الشَّاعر : [ الطويل ] @ 3139ـ أرَى المَرْءَ كالأذْوَادِ يُصْبحُ مُحْرَضاً كإحْرَاضِ بكرٍ في الدِّيارِ مَريضِ @@ وقرأ بعضهم " حَرِضاً " بكسر الرَّاء . وقال الزمخشريُّ : " وجاءت القراءة بهما جميعاً " يعنى بفتح الراء ، وكسرها . وقرأ الحسن : " حُرُضاً " بضمتين ، وقد تقدَّم أنه كـ : " جُنُبٍ ، وشُلُلٍ " ، وزاد الزمخشريُّ : " وغُرُب " . وقال الراغب : الحَرَض : ما لا يعتدُّّ به ، ولا خيرَ فِيهِ ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك : حَرَض ، قال تعالى : { حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً } [ يوسف : 85 ] ، وقد أحرصهُ كذا قال الشَّاعر : [ البسيط ] @ 3140ـ إنِّي امْرُؤٌ لجَّ بِي همٌّ فأحْرَضْنِي @@ والحُرْضَة : من لا يأكلُ إلاَّ لحم الميسر لنذالتهِ ، والتَّحريضُ : الحثُّ على الشَّيء بكثرة التَّزيينِ ، وتسهيل الخطب فيه ، كأنَّه إزالة الحرض نحو : قَذَّيتُه ، أي : أزلتُ عنه القَذَى ، وأحرضتهُ : أفسدتهُ ، نحو : أقذيتهُ : إذا جعلت فيه القَذَى " انتهى " . والحُرُضُ : الأشنانُ ، لإزالته الفساد ، والمِحْرضَة : وعاؤه ، وشذوذها كشذوذ : مُنْخُل ، ومُسْعُط ، ومُكْحُلة . وحكى الواحديُّ عن أهل المعاني : أنَّ أصل الحَرَض : فساد الجسم ، والعقل للحزن ، والحبِّ ، وقولهم : حرَّضتُ فلاناً على فلانٍ ، تأويله : أفسدته وأحميته عليه ، قال الله تعالى : { حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } [ الأنفال : 65 ] . وإذا عرفت هذا فوصف الرَّجُل بأنه حرض إمَّا أن يكون المراد منه : ذو حرض فحذف المضاف ، أو المراد منه : أنَّه لما تناهى في الفسادِ ، والضعف ؛ فكأنَّه صار عين الحرضِ ، ونفس الفسادِ ، وأمَّا الحَرِض بكسر الراء فهو الصِّفة كما قرىء بها وللمفسِّرين فيه عباراتُ : أحدها : الحَرَض ، والحَارِضُ ، وهو الفساد في جسمه ، وعقله . وثانيها : قال نافع بن الأزرق : سئل ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما فقال : الفاسد الرَّأي . وثالثها : أنه هو الذي يكون لا كالأحياء ، ولا كالأموات . وذكر أبو روق أنَّ أنس بن مالك قرأ : { حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً } بضمِّ الحاء وسكون الرَّاء . ثم قال تعالى : { أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } من الأموات ، والمعنى : لا تزال تذكر يوسف بالحزن ، والبكاء عليه حتى تصير بحيث لا تنتفع بنفسك ، أو تموت من الغمّ ، وأرادوا بذلك منعه من كثرةِ البُكاءِ ، والأسف . فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنَّهم لم يعلموا ذلك قطعاً ؟ . فاالجواب : أنَّهم بنوا الأمر على الظَّاهر . قال المفسِّرون : القائل هذا الكلام ، وهو قوله : { تالله تفتؤ تذكر يوسف } هم إخوة يوسف ، وقال بعضهم : ليسوا الإخوة ، بل الجماعة الذين كانوا في الدَّار من أولاده وخدمه ، فقال يعقوب عليه الصلاة والسلام ـ : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } والبَثُّ : أشدُّ الحزن ، كأنَّه لقوته لا يطاق حمله ، فيبثه الإنسان ، أي : يفرِّقه ، ويذيعه وقد تقدَّم [ آل عمران : 186 ] أنَّ أصل هذه المادَّة الدلالة على الانتشار ، وجوَّز فيه الرَّاغب هنا وجهين : أحدهما : أنه مصدر في معنى المفعولِ ، قال : " أي : غمّي الذي يبثه عن كتمانٍ ، فهو مصدر في تقدير مفعول ، أو يعني غمِّي الذي بثَّ فكري ، فيكون في معنى الفاعل " . وقرأ الحسن وعيسى " وحَزَنِي " بفتحتين ، و قتادة بضمتين ، وقد تقدم . فصل المعنى : أن يعقوب عليه السلام لما رأى غلظتهم ، قال : إنَّما أشكو شدَّة حزني إلى الله ، وسمَّى شدَّة الحزن بثًّا ؛ لأنَّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه ، أي : [ يظهره ] . وقال الحسن : بَثِّي ، أي : حاجتي ، والمعنى : أنَّ هذا الذي أذكره لا أذكره معكم ، وإنَّما أذكره في حضرةِ الله تعالى والإنسان إذا ذكر شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين . وروي أنَّهُ قيل له : يا يعقوب : ما الذي أذهب بصرك ، وقوَّس ظهرك ؟ قال : أذهب بصري بكائي على يوسف ، وقوس ظهري حزني على أخيه ؛ فأوحى الله إليه : أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني ، فعند ذلك قال : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ } ثم قال : { وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : أعلمُ من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون ، وهو أنَّه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه ، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقَّع رجوع يوسف إليه ، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوهاً : أحدها : أنَّ مالك الموت أتاهُ فقال له : يا مالك الموتِ ! هل قبضت روح ابني يوسف قال : لا يا نبيَّ الله ، ثمَّ أشار إلى جانب مصر ، وقال : اطلبهُ هاهنا . وثانيها : أنه علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنَّها صادقةٌ ، وأنا وأنتم سنسجد له . وثالثها : لعلَّه تعالى أوحى إليه أنَّه سيوصله إليه ، ولكنَّه تعالى ما عيَّن الوقت ؛ فلهذا بقي في القلب . ورابعها : قال السديُّ : لما أخبره بنوه بسيرة الملك ، وحاله في أقواله ، وأفعاله ؛ طمع أن يكون هو يوسف ، وقال : لا يبعدُ أن يملك الكفَّار مثلُ هذا . وخامسها : علم قطعاً أن بنيامين لا يسرقُ ، وسمع أنَّ الملك ما آذاه ، ولا ضربه ؛ فغلب على [ ظنه ] أنَّ ذلك الملك هو يوسف عليه السلام ، فعند ذلك قال : { يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه } أي : استقصوا خبره بحواسِّكم ، والتَّحَسُّسُ : طلب الشَّيء بالحاسَّة . قال ابنُ الأنباريِّ " يقالُ : تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ ، ولا يقال : من فلان ، وقيل : ههنا من يوسف ؛ لأنه أقيم : " مِنْ " مقام : " عَنْ " قال : ولا يجوز أن يقال : " مِنْ " للتبعيض ، والمعنى : تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف ، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة " مِنْ " لما فيها من الدلالة على التبعيض " . والتحسُّسُ : يكون في الخيرِ والشَّر ، وقيل : بالحاء في الخير ، وبالجيم في الشَّر ، ولذلك قال هاهنا : " فتَحَسَّسُوا " ، وفي الحجرات : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } [ الحجرات : 12 ] . وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجيم هنا . ثم قال : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ } وتقدَّم الخلاف في قوله : { وَلاَ تَيْأَسُواْ } . وقرأ الأعرج : " ولا تَيْسُوا " وقرأ العامة : " رَوْحِ اللهِ " بالفتح ، وهو رحمته وتنفيسه . قال الأصمعيُّ رحمه الله " الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى ، فيسكن إليه ، وتركيب الرَّاء ، والواو ، والحاء يفيد الحركة ، وهو الاهتزازُ ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان ، ويلتذُّ بوجوده فهو روح " . قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ : { لا تيأسو من روح الله } أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله ، وقيل : مِن فَرِجِِ اللهِ . وقرأ الحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة رضي الله عنهم بضمِّ الراء . قال الزمخشريُّ : " لا تَيْأسوا ، أي : من رحمته التي يحيى بها العباد " . وقال ابن عطية : وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى ؛ ومن هذا قول الشاعر : [ الطويل ] @ 3141ـ … وفِي غَيْرِ من قَدْ وَارتِ الأرضُ فاطْمَعِ @@ ومن هذا قول عبيد بن الأبرص : [ مخلع البسيط ] @ 3142ـ وكُلُّ ذِي غيبَةٍ يَئُوبُ وغَائِبُ المَوتِ لا يَئُوبُ @@ وقرأ أبي : مِنْ رحْمةِ اللهِ ، و " عِنْدَ اللهِ " : " مِنْ فضلِ الله " تفسير لا تلاوة . وقال أبو البقاء : " والجمهور على فتح الرَّاء ، وهو مصدر في معنى الرَّحمة إلا أنَّ استعمال الفعل منه قليل ، وإنِّما يستعمل بالزِّيادة ، مثل أراح ، وروَّح ، ويقرأ بضمِّ الرَّاء ، وهي لغةٌ فيه ، وقيل : هو اسم للمصدر ، مثل الشُّربِ والشَّرب " . ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } قال ابن عبَّاس : إن المؤمن من من الله على خير يرجوه في البلاءِ ، ويحمده في الرَّخاء . واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصلُ إلاَّ إذا اعتقد الإنسان أنَّ إله العالم غير قادر على الكمالِ ، أو غير عالم بجميع المعلوماتِ ، أو ليس بكريمٍ ، بل هو بخيلٌ ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، والمعنى : أنَّ اليأس لا يحصل إلاَّ لمن كان كافراً ، والله أعلم . فصل روي عن عبدالله بن يزيد بن أبي فروة : أنَّ يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عليه الصلاة والسلام حين حبس بنيامين : " من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك مصر ، أما بعد : فإنا أهلُ بيتٍ ، وكل بنا البَلاءُ ، أما جدّي إبراهيم عليه الصلاة والسلام فشُدَّتْ يداه ، ورجلاه ، وألقي في النَّار ؛ فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وأمَّا أبي فشدَّت يداه ورجلاه ، ووضع السِّكين على قفاه ؛ ففداه الله ، وأمَّا أنا فكان لي ابنٌ ، وكان أحبَّ أولادي إليّ ، فذهب به إخوته إلى البرِّيةِ ، ثم أتوني بقميصه ملطّخاً بالدَّم ، فقال : أكله الذِّئب ؛ فذهبت عيناي ، ثمَّ كان لي ابن ، وكان أخاه من أمه ، وكنت أتسلى به ، وإنِّك حبسته ، وزعمتَ أنَّه سرق ، وإنَّا أهل بيتٍ لا نسرقُ ، ولا نَلِدُ سَارقاً ، فإن ردَدْتَهُ عليّ ، وإلاَّ دَعوتُ علَيْكَ دعْوة تُدرِكُ السَّابعَ من وَلدِك " . فلما قرأ يوسف لم يتمالك البُكاء ، [ وعيل ] صبره ، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى . قال ابن الخطيب : في الآية سؤالات : الأول : أنَّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدِّ العظيم لا يليقُ إلا لمنْ كان غافلاً عن الله تعالى ـ ؛ لأنَّ من عرف اللهِ ؛ أحبه ، من أحبَّ اللهَ لم يتفرغْ قلبه بحب شيءٍ سوى اللهِ تعالى وأيضاً : القلبُ الواحدُ لا يسع الحب المستغرب لشيئين ، فلمَّا كان قلبه مستغرقاً في حبّ ولده ؛ امتنع أن يقال : إنَّه كان مستغرقاً في حبّ الله تعالى ـ ؟ . السؤال الثَّاني : أنَّه عند استيلا ء الحزن الشَّديد عليه ؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر اللهِ تعالى والتفويض ، والتَّسليم لقضائه . وأما قوله : { يا أسفى على يوسف } ، فذلك لا يليقُ بأهل الدِّين والعلم فضلاً عن أكابرِ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ؟ . السؤال الثالث : لا شكّ أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه ، وجده ، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك ، ثم وقعت له واقعةٌ هائلة في أعزِّ أولاده ، لم تبق تلك الواقعة خفيَّة ، بل لا بدَّ ، وأن تبلغ في الشُّهرة إلى حيث يعرفها كل أحدٍ ، لا سيما ، وقد انقضت المدَّة الطويلة فيها ، وبقي يعقوب على حزنه الشديد ، وأسفه العظيم ، وكان يوسف في مصر ، وكان يعقوب في بعض [ بوادي ] الشَّام قريباً من مصر ، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية . السؤال الرابع : لِمَ لَمْ يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنَّه من الحياة صلاة الله عليهما وفي السَّلامة ولا يقال : إنه كان يخاف إخوته ؛ لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً يمكنه إرسال الرسول إليه ، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله ؟ . السؤال الخامس : كيف جاز ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يضع الصَّواعَ في وعاءٍ أخيه ، ثم يستخرجه ويلصقُ به تهمة السرقة مع أنَّه كان بريئاً عنها . السؤال السادس : كيف رغب في إلصاق هذه التُّهمة له ، وحبسه عند نفسه مع أنَّهُ كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى ؟ . والجواب عن الأول : أنَّ مع مثل هذه المحبة الشَّديدة يكون كثير الرُّجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدُّعاء ، والتضرُّع ، وذلك يكون سبباً لكمال الاستغراق وعن الثاني : أنَّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة ، فتارة كان يقول { يا أسفى على يوسف } وتارة كان يقول : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } وأما بقية الأسئلة ، فالقاضي أجاب عنها فقال : هذه الوقائعُ الَّتي نقلت إلينا إمَّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن ، فإن كان الأوَّل ، فلا إشكالَ وإن كان الثاني فنقول : كان الزَّمان زمان الأنبياء ، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعدٍ ، فلم يمتنع أن يقال : إنَّ بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه والسلام ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم .