Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 99-101)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } الآية قال أكثر المفسرين المراد : أبوه وخالته " ليَّا " وكانت أمه قد ماتت في نفاسها ببنيامين وقال الحسنُ : أبوه وأمه ، وكانت حية . وروي : أنَّ الله تعالى أحيَا أمّه حتَّى جاءت مع يعقوب إلى مصر حتَّى سجدت له تحقيقاً لرؤيا يوسف . وقيل : إن الخالة أم كما أنَّ العم أبٌ ، قال تعالى : { إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] ، ومعنى { آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } ضمهما إليه ، واعتنقهما . فإن قيل : ما معنى دخولهما عليه قبل دخولهم مصر ؟ . فالجواب : أنَّهُ حين استقبلهم أنزلهم في خيمة ، أو بيت هناك ، فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال : { ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } ، أي : أقيموا بها آمنين ، سمَّى الإقامة دخولاً ؛ لاقتران أحدهما بالآخر . قال السديُّ في هذا الاستثناء قولان : الأول : أنه عائدٌ إلى الأمن إلى الدخول ، والمعنى : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ، كقوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] . وقيل : إنَّه عائدٌ إلى الدُّخول كما تقدَّم . وقيل : " إنْ " هنا بمعنى : " إذْ " يريدُ : إن شاء الله ، كقوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] أي : إذ كنتم مؤمنين . ومعنى قوله : " آمِنينَ " أي على أنفسكم ، وأموالكم ، وأهليكم لا تخافون أحداً ، وكان فيما سلف يخافون ملك مصر ، وقيل : آمنين من القحطِ والشّدة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف . { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } من باب التَّغليب ، يريد : أباه وأمه أو خالته { عَلَى ٱلْعَرْشِ } قال أهل اللغة : العرشُ : السَّريرُ الرَّفيعُ ، قال تعالى : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] . والرفع : هو النقل إلى العلو ، و " سُجَّداً " حال . قال أبو البقاء : " حال مقدرةٌ ؛ لأنَّ السجود يكون بعد الخُرُورِ " . فإن قيل : إن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف فحقُّه عظيم ، قال تعالى : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] فقرن حق الوالدين بحق نفسه ، وأيضاً : فإنَّه كان شيخاً كبيراً [ والشاب ] يجبُ عليه تعظيم الشيخ وأيضاً : كان من أكابر الأنبياء ، ويوسف ، وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه . وأيضاً : فإن جدّ يعقوب ، واجتهاده في تكثير الطّاعات أكثر من جد يوسف ، واجتماع هذه الجهات الكثيرةِ يوجب المبالغة في خدمة يعقوب ، فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب ؟ . فالجواب من و جوه : الأول : روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ : أنَّ المراد بهذه الآية أنهم خرُّوا سجداً لأجل وجدانه ، فيكون سجود شكر لله تعالى لأجل وجدانه يوسف ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } . وذلك يشعر بأنهم صعدوا على السرير ، ثمَّ سجدوا لله ، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قل الصُّعود على السَّرير ؛ لأنَّ ذلك أدخل في التَّواضع . فإن قيل : هذا التَّأويلُ لا يطابق قوله : { يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] . والمراد منه قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] قيل : معناه لأجلي ، لطلب مصلحتي ، وللسعي في إعلاء منصبي ، وإذا احتمل هذا سقط السؤال . الثاني : أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمته . وهذا تأويلٌ حسنٌ ، فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليتُ إلى الكعبة ؛ قال حسَّانُ رحمه الله ـ : [ البسيط ] @ 3153ـ ألَيْسَ أوَّل من صَلَّى لِقبْلتِكُمْ وأعْرَفَ النَّاس بالآثَارِ والسُّنَنِ @@ فدلَّ على أنَّه يجوز أن يقال : فلانٌ صلَّى للقلبةِ ، فكذلك يجوز أن يقال : سجد لِلْقِبْلةِ . وقوله : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } أي جعلوه كالقبلة ثمَّ سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه . الثالث : التَّواضع يسمى سجوداً ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3154ـ … تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوَافِرِ @@ فالمراد هنا التَّواضعُ ، وهذا يشكلُ بقوله تعالى : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } والخرور مشعر بالإتيان بالسُّجود على أكمل الوجوه . وأجيب : بأنَّ الخرور يعني به المرور فقط ، قال تعالى : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ الفرقان : 73 ] يعنى : لم يمروا . الرابع : أن يقال الضمير في قوله : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التَّهنئةِ ، والتقدير : ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما ، وأمَّا الإخوةُ وسائر الدَّاخلين ، فخروا له ساجدين . فإن قيل : هذا لا يلائم قوله : { يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } . فالجواب : أن تعبير الرُّؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرُّؤيا بحسب الصُّورةِ ، والصِّفة من كُلِّ الوجوه ، فسجودُ الكواكب والشَّمس والقمر معبر بتعظيم الأكابر من النَّاس ولا شك أنَّ ذهاب يعقوب من كنعان مع أولاده إلى مصر نهاية التعظيم له ، فكفى هذا القدر من صَّحة الرُّؤيا ، فأمَّا كون التَّعبير مساوياً في الصُّورةِ والصِّفة ، فلم يوجبه أحد من العقلاءِ . الخامس : لعلَّ الفعل الدَّال على التَّحية في ذلك الوقت ، كان هو السُّجودُ وكان مقصودهم من السجود تعظيمه ، ثمَّ نسخ ذلك في شرعنا . وهذا بعيد ؛ لأنَّ المبالغة في التَّعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب ، فلو كان الأمر كما قلتم ، لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه الصلاة والسلام . السادس : لعلَّ إخوته حملتهم الأنفة ، والاستعلاءُ على ألاّ يسجدوا له على سبيل التَّواضع ، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران النَّفس ، وظهور الأحقاد القديمة بعد كُمونِها ، فيعقوب عليه الصلاة والسلام مع جلالته وعظم قدره بسبب الأبوة والشَّيخوخة ، والتَّقدُّم في الدِّين ، والعلم ، والنبوة فعل ذلك السُّجود حتَّى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال تلك الأنفة ، والنفرة عن قلوبهم . السابع : لعلَّ الله تعالى أمر يعقوب بتلك السَّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [ كما أمر الملائكة بالسجود لآدم صلوات الله وسلامه عليه لحكمة لا يعلمها إلا هو ] ، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنَّه لما علم أنَّ الله أمره بذلك سكت . ثم إنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى هذه الحالة : { وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } ، وهي قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : 4 ] وهذا يقوّي الجواب السَّابع . والمعنى : أنَّه لا يليق بمثلك على حالتك ، في العلم ، والدين ، والنبوة أن تسجد لولدك إلا أنَّ هذا أمر أمرت به ، وأن رؤيا الأنبياء حقٌّ ، كما أنَّ رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده كان سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظةِ ، لذلك صارت هذه الرُّؤيا التي رآها يوسف سبباً لوجوب السُّجودِ على يعقوب . قوله : { مِن قَبْلُ } يجوز أن يتعلق بـ " رُؤيَايَ " أي تأويل رؤياي في ذلك الوقت ويجوز أن يكون العامل فيه : " تأوِيلُ " ؛ لأن التَّأويل كان من حين وقوعها هكذا والآن ظهر له ، ويجوز أن يكون حالاً من : " رُؤيَايَ " قاله أبو البقاء . وقد تقدَّم أنَّ المقطوع عن الإضافة لا يقع حالاً . قوله : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } حال من : " رُؤيَايَ " ، ويجوز أن تكون مستأنفة وفي " حَقًّا " وجوه : أحدها : أنه حال . والثاني : أنه مفعول ثانٍ . والثالث : أنه مصدر مؤكد لفعل من حيث المعنى ، أي : حقَّقها ربي حقاً بجعله . قوله : " أحْسنَ بِي " " أحْسنَ " أصله أن يتعدَّى بإلى ، قال تعالى : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] فقيل : ضمن معنى : " لَطفَ " متعدّياً بالباءِ ، كقوله تعالى : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وقول كثير عزَّة : [ الطويل ] @ 3155ـ أسِيئِي بِنَا ، أو أحْسِنِي لا مَلُومةً لَديْنَا ولا مَقْليَّةً إنْ تَقلَّتِ @@ وقيل : بل يتعدى بها أيضاً ، وقيل : هي بمعنى " إلى " وقيل : المفعول محذوف . تقديره : أحسن صنعه بِى ، فـ : " بي " متعلقة بذلك المحذوف ، وهو تقدير أبي البقاءِ . وفيه نظرٌ ؛ من حيث حذف المصدر ، وإبقاء معموله ، وهو ممنوع عند البصريين . و " إذْ " منصوب بـ " أحْسَنَ " ، أو المصدر المحذوف ، قاله أبو البقاء وفيه النظر المتقدِّمُ . والبَدْوُ : ضد الحضارة ، وهو من الظُّهورِ ، بَدَا يَبْدُوا : إذ سكن البادية . يروى عن عمر رضي الله عنه : " إذَا بَدوْنَا جَفوْنَا " أي : تخلقنا بأخلاق البدويين . قال الواحديُّ : البدو بسيطٌ من الأرض يظهرُ فيه الشخص من بعيدٍ ، وأصله من بَدَا يَبْدُوا بَدْواً ، ثم سمي المكان باسم المصدر ، ويقال : بَدْوٌ وحَضَر ، وكان يعقوب وولده بأرض كعنان أهل مواشٍ وبريَّةٍ . وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه ـ : [ كان يعقوب قد تحوَّل إلى بدا وسكنها ] ومنها قدم على يوسف ، وبها مسجد تحت جبلها . قال ابن الأنباري " بدا " اسم موضع معروف ، يقال : بين شعيب عليه السلام وبدا ، وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثيرٌ : [ الطويل ] @ 3156ـ وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْباً إلى بَدَا إليَّ وأوْطَانِي بِلادٌ سِواهُمَا @@ والبدو على هذا القول معناه : قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا ، يقال : بَدَا القَوْمُ بدواً إذا أتوا بَدَا ، كما يقال : غَارَ القوم غَوْراً ، إذا أتوا الغُوْر ، وكان معنى الآية : وجاء بكم من قصد بدا ، وعلى هذا القول كان يعقوب ، وولده حضريِّين ، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا . فصل اعلم أن قوله { يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } وهو قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : 4 ] ، { وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ } أنعم عليَّ { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ } ولم يقل من الجُبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالاً للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ } [ يوسف : 92 ] ولو ذكر الجبّ كان تثريباً لهم ؛ ولأن نعمة الله عليه في أخراجه من السجن أعظم ؛ لأنَّه بعد الخروج من الجُبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك ولأنه لما خرج من الجُب وقع في المضار بسبب تهمة المرأة ، ولما خرج من السِّجن ، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التُّهمة . وقال الواحديُّ : " النِّعمة في إخراجه من السجن أعظم ؛ لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب هَمَّ به ، وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ، ورغبة النَّفس ، وهذا وإن كان في محل العفو في حقّ غيره إلا أنه كان سبباً للمؤاخذة في حقه ؛ لأنَّ حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين " . فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق الله تعالى ـ ؛ لأنَّه أضاف إخراجه من السجن إلى [ الله تعالى ] ومجيئهم من البدو إليه ، وهذا صريحٌ في أن فعل العبد فعل الله تعالى فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنَّما حصل بإقدار الله ، وتدبيره ، فذلك عدولٌ عن الظَّاهر . ثم قال : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ } أفسد وأغوى ، وأصله من نَزَغَ الرَّاكض الدَّابة حملها على الجَرْي إذا نخسها . احتجَّ الجبائيُّ ، والكعبيُّ ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية : على بُطلانِ الجبر قالوا لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه أضاف الإحسان إلى الله تعالى وأضاف النَّزْغَ إلى الشَّيطان ، ولو كان ذلك أيضاً من الرحمن ، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة . الجواب : أنَّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز ؛ لأنَّ عندكم الشِّيطان لا يتمكَّن من الكلام الخفيّ ، كما أخبر الله عنه ، فقال : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } [ إبراهيم : 22 ] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك ، وأيضاً : فإن كان إقدام المرءِ على المعصية بسبب الشَّيطان ، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر ؛ لزم التسلسل وهو محالٌ ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر ، فليقل مثله في حق الإنسان ، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في الذَّم في الدُّنيا ، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر ، والفسق لا بد له من موقع ، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال : ذلك من الله تعالى ويؤيد ذلك قوله : { أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ } وهذا صريحٌ في أنَّ الكل من الله تعالى ـ . ثم قال : { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } " لطيف " أصله أن يتعدَّى بالباء ، وإنَّما يتعدى باللاَّم لتضمنه معنى مدبر ، أي : أنت بلطفك لما تشاءُ . والمعنى : أنه ذو لطف لما يشاء ، وقيل : بمن يشاء ، وحقيقته اللُّطفِ : الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق . والمعنى : أن اجتماع يوسف ، وإخوته مع الأُلْفِ ، والمحبَّة ، وطيب العيشِ ، وفراغ البال كان في غاية البُعدِ عن العقول ، إلا أنه تعالى لطيفٌ ، فإذا أراد حصول شيءٍ سهل أسبابه ، فحصل ، وإن كان في غايةِ البعدِ عن الحصولِ . { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } يعني أنَّ كونه لطيفاً في أفعاله إنَّما كان لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها ، فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب . فصل اختلفوا في مقدار الوقت ما بين الرُّؤيا واجتماعهم . فقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سبعون ، وقال الأكثرون : أربعون ، ولذلك يقولون : إنَّ تأويل الرُّؤيا إنَّما صحَّت بعد أربعين سنة . وقيل : ثماني عشرة سنة وبقي في العبودية ، والملك ، والسجن ثمانين سنة ، ثمَّ وصل إليه أقاربه ، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة . وقال : أقام يعقوبُ بمصر عند يوسف أربعاً وعشرين سنة ، ثم مات بمصر ، فلما حضرته الوفاة أوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن عد أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ومضى به حتَّى دفنه بالشَّام ، ثم رجع إلى مصر . قال سعيد بن جبيرٍ : نُقل يعقوب في تابوت من ساج إلى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيصُو ، فدفنا في قبرٍ واحدٍ ، وكانا ولدا في بطنٍ واحدٍ ، وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة ، وعاش يوسف بعد ذلك عشرين سنة ، وقيل : ستين سنة ومات وهو ابن مائة عشرين سنة ، وفي التوراة مائة وعشرين ، وولد له إفرائيم ، وميشا وولد لإفرائيم نون ولاوي ، ويوشع فتى موسى عليه الصلاة والسلام ورحمة امرأة أيوب عليه الصلاة والسلام وأنه تمنى الموت . وقيل : ما تمنَّاه نبيُّ قبله ، ولا بعده فتوفَّاه الله طيباً طاهراً ، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحبُّ أن يدفنه في محلتهم ، فرأوا أن الأصلح أن يعمل له صندوقاً من مرمر ، ويجعلوه فيه ، ويدفنوه في النِّيل ليمر الماء عليه ، ويصل إلى مصر ، وبقي هناك إلى أن بعث موسى عليه الصلاة والسلام ـ ، فأخرج عظامه من مصر ، ودفنه عند أبيه . قوله تعالى : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ } الآية قرأ عبد الله : ( آتيتن وعلمتن ) بغير ياء فيهما . وحكى ابنُ عطية أن أبا ذر قرأ : " أتَيْتَنِي " بغير ألف بعد الهمزة ، و " مِن " في " مِنَ المُلْكِ " ، وفي : " مِنْ تَأويلِ " للتبعيض والمفعول محذوف أي : عظيماً من الملك ، فهي صفة لذلك المحذوف . وقيل : زائدة . وقيل : لبيان الجنس ، وهذان بعيدان . و " فَاطِرَ " يجوز أن يكون نعتاً لـ " ربِّ " ويجوز أن يكون بدلاً أو بياناً ، أو منصوباً بإضمار أعني أو نداء ثانياً . فصل لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام عَلِمَ أنَّ نعيم الدُّنيا لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة ، فقال : { رب قد ءاتيتني من الملك } يعني ملك مصر ، والملك اتساع المقدور لمن له السياسة ، والتدبير . { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } يعني تعبير الرؤيا . قوله : { فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } يعني : يا فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما ـ : ما كنت أدري ما معنى الفاطر حتى احتكم إليَّ اعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فَطرتَهَا وأنا ابْتدأت حَفْرهَا . وقل أهلُ اللغة : أصلُ الفَطْر : الشَّقُّ ، يقال : فطرت نابُ البعير ، إذا بدا ، وفطرتُ الشَيء ، فانفطر ، إذا شَقَقْتهُ ، فانشقَّ ، وتفطَّرتِ الأرض بالنَّبات والشَّجر بالورق ، إذا تصدَّعتْ . هذا أصله في اللغة ، ثمَّ صارت عبارة عن الإيجاد ؛ لأنَّ ذلك الشيء في حال عدمه كأنَّه في ظلمة وخفاءٍ ، فلمَّا دخل في الوجود ، صار كأنَّه انشقَّ ، وخرج ذلك الشيء منه . { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } أي : اقبضني إليك مسلماً ، وألحقني بالصالحين يريد بآبائي النبيين . قال قتادة : لم يسأل نبيٌّ من الأنبياء الموت إلا يوسف ، وبه قال جماعة من المفسرين . وقال ابن عباس رضي الله عنه في رواية عطاء : يريد : إذا توَفَّيْتني ، فتوفَّني على الإسلام . فصل دل قوله { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } على أنَّ الإيمان من الله ؛ لأنَّه لو كان من العبد ، لكان تقديره : كأنَّه يقول : افعل يا مَنْ لا يَفْعَل . قالت المعتزلة : إذا كان الفعل من الله ، فكيف يجوزُ أن يقال للعبد : افعل مع أنَّك لست فاعلاً ؟ فيقال لهم : إذا كان تحصيل الإيمان ، وابقاؤه من العبد لا من الله ، فكيف يطلب ذلك من الله تعالى ـ . قال الجبائي والكعبي : معناه : أطلب اللُّطف في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه ، وهذا الجواب ضعيفٌ ، لأن السؤال وقع عن الإسلام ، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر ، وأيضاً : فكُلّ ما كان في مقدور الله من الإلطاف ، فقد فعله ، كان طلبه من الله محالاً . فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون أنَّهم يموتون لا محالة على الإسلام ، فكان هذا الدُّعاء طلباً لتحصيل الحاصل ، وأنَّه لا يجوز . فالجواب : أن كمال حال المسلم : أن يستسلم لحكم الله على وجه يستقرُّ قلبه على ذلك الإسلام ، ويرضى بقضاء الله ، وتطمئن النفس ، وينشرح الصدر في هذا الباب ، وهذه حالةٌ زائدة عن الإسلام الذي هو ضدُّ الكفر ، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى . فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان من أكابر الأنبياء ، والصَّلاح أول درجات المؤمنين ؛ فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية ؟ . قال ابن عبَّاس رضي الله عنه وغيره : يعني بـ " آبَائهِ " : إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ، ودرجاتهم ، ومراتبهم . " روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل عليه السلام عن ربِّ العزَّة قال : " مَنْ شغلهُ ذِكرِي عَن مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفضلَ ما أعْطِي السَّائلين " " . فلهذا من أراد الدعاء ، لا بُدَّ وأن يقدِّم عليه الثَّناء على الله تعالى فههنا يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا أراد الدعاء قدَّم عليه الثناء ، فقال { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ } ثم دعا عقبه ، فقال : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } وكذلك فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] إلى قوله : { يَوْمَ ٱلدِّينِ } [ الشعرا : 82 ] فهذا ثناءٌ ثمَّ قال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } [ الشعراء : 83 ] إلى آخر كلامه .