Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 13, Ayat: 1-4)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } قال ابن عبَّاس : معناه أنا الله أعلمُ . وقال أيضاً في رواية عطاءٍ : أنَا اللهُ الملكُ الرَّحمنُ . وأمالها أبو عمرو والكسائي وفخمها عاصم ، وجماعةٌ . قوله { تِلْكَ آيَاتُ } يجوز في " تِلْكَ " أن تكون مبتدأ ، والخبر " آيَاتُ " ، والمشار إليه آيات السُّورةِ ، والمراد بـ " الكِتَابِ " : السُّورةُ . وقيل : إشارة إلى ما قصَّ عليه من أنباء الرسل ، وهذا الجملة لا محلَّ لها إن قيل : إن " المر " كلامٌ مستقلٌّ ، أو قصد به مجرَّد التنبيه ، وفي محل رفع على الخبر إن قيل : " المر " مبتدأ ، ويجوز أن يكون " تِلْكَ " خبراً لـ " المر " و { آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } بدل ، أو بيان ، وتقدم تقريرُ هذا أوَّل الكتابِ . قوله : { وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ } يجوز في أوجه : أحدها : أن يكون مبتدأ ، و " الحَقُّ " خبره . الثاني : أن يكون مبتدأ و " مِنْ ربِّكَ " خبره ، وعلى هذا فـ " الحَقُّ " خبر مبتدأ مضمر ، أي هو الحق . الثالث : أن " الحَقَّ " خبر بعد خبرٍ . الرابع : أن يكون " مِن ربِّك الحقُّ " كلاهما خبر واحد ، قاله أبو البقاءِ ، والحوفيُّ وفيه بعد ، إذ ليس هو مثل : " حُلْوٌ حَامضٌ . الخامس : أن يكون " الَّذي " صفة للكتاب . قال أبو البقاءِ : " وأدخلت الواو في لفظه ، كما أدخلت في " النَّازِلينَ والطيبين " يعني أنَّ الواو تدخل على الوصف ، والزمخشري يجيزه ، ويجعل الواو في ذلك تأكيداً ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحجر في قوله { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] . وقوله : ( في النازلين والطيبين ) يشير إلى بيت الخرنقِ بنت هفّان في مدحها لقومها : [ الكامل ] @ 3160ـ لا يَبْعدَنْ قَوْمِي الَّذينَ هُمُ سُمُّ العُداةِ وَآفةُ الجُزْرِ النَّازِلينَ بِكُلِّ مُعتَركٍ والطَّيبينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ @@ فعطف " الطَّيبين " على " النَّازلينَ " وهما صفتان لقومٍ معينين ، إلاَّ أن القوم بين الآية ، والبيت واضحٌ ، من حيث إنَّ البيت فيه عطف صفةٍ على مثلها ، والآية ليست كذلك . وقال أبو حيَّان : أن تكون الآية مما عطف [ فيه ] وصف على مثله ، فقال : وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون " والَّذِي " في موضع رفع عطفاً على " آيَاتُ " ، وأجاز هو ، وابن عطيَّة : أن يكون " والَّذي " في موضع خفضٍ ، وعلى هذين الإعرابين ، يكون " الحقُّ " خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحق ، ويكون " والَّذي " ممَّا عطف فيه الوصفُ على الوصفِ ، وهما لشيءٍ واحدٍ ، كما تقول : جاءني الظريف العاقلُ ، وأنت تريدُ شخصاً واحداً ، من ذلك قول الشاعر : [ المتقارب ] @ 3161ـ إلى المَلكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ولَيْثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ @@ قال شهابُ الدِّين : وأين الوصف المعطوف عليه ؛ حتى نجعله مثل البيت الذي أنشده . السادس : أن يكون " الَّذي " مرفوعاً نسقاً على " آيَاتُ " كما تقدَّمت حكايته عن الحوفي . وجوَّز الحوفي أيضاً : أن يكون " الحقُّ " نعتاً لـ " الَّذي " حال عطفه على " آيَاتُ الكِتَابِ " . فتلخَّص في " الحق " خمسة أوجه . أنَّهُ خبرٌ أوَّل ، أو ثان ، أو هو ما قبله ، أو خبراً لمبتدأ مضمر ، أو صفة لـ " الَّذي " إذا جعلناه معطوفاً على " آيَاتُ " . فصل قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه ـ : أراد بـ : الكِتابِ " القرآن ومعناه : هذه آيات الكتاب ، يعني : القرآن ، ثمَّ ابتدأ ، وهذا القرآن { وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذا زجرٌ وتهديدٌ . وقال مقاتلٌ : نزلت في مشركي مكَّة حين قالوا : إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه فردَّ قولهم . فصل تمسَّك نفاةُ القياس بهذه الآية وقالوا : الحكمُ المستنبطُ بالقياس غير ما نزل من عند الله تعالى وإلاَّ لكان من لم يحكم به كافر ، لقوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ، وبالإجماع لا يكفرُ ، فثبت أنَّ الحكم المثبت بالقياس غير نازلٍ من عند الله تعالى ـ ، وإذا كان كذلك ، وجب ألاَّ يكون حقًّا ، وإذا لم يكن حقًّا ، وجب أن يكون باطلاً ، لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] وأجيب : بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً ؛ لأنَّه تعالى أمر العملِ بالقياسِ ، فكان الحكمُ الَّذي دلَّ عليه القياس نازلاً من عند الله تعالى ـ . قوله تعالى { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ الآية : 2 ] لما ذكر أنَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون ، ذكر عقبهُ ما يدلُّ على صحَّة التَّوحيد ، والمعاد ، وهو هذه الآية . قوله : " اللهُ " قال الزَّمخشريُّ : " اللهُ " مبتدأ ، و { ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } خبره بدليل قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ } ويجوز أن يكون { ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } صفة ، وقوله : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } خبراً " . وقوله : " بِغَيْرِ عمدٍ " هذا الجار في محلِّ نصب على الحال من " السَّمواتِ " أي : رفعها خالية من عمدٍ ، ثمَّ في هذا الكلام وجهان : أحدهما : انتفاء العمدِ ، والرؤية جميعاً ، أي : لا عمد ؛ فلا رؤية ، يعني : لا عمد لها ؛ فلا ترى ، وإليه ذهب الجمهور . والثاني : أنَّ لها عمداً ، ولكنها غير مرئيَّة . وعن ابن عبَّاسٍ : ما يدريك أنَّها بعمدٍ لا ترى ، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم : " مَا رأيتُ رجُلاً صالحاً " ، ونحو : { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] [ الطويل ] @ 3162ـ على لا حِبٍ لا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ … @@ وقد تقدَّم هذا ، إذا قلنا : إنَّ " تَروْنَهَا " صفة أمَّا إذا قلنا : إنَّها مستأنفةٌ كما سيأتي ؛ فيتعيّن أن لا عمد لها . والعامة على فتح العين ، والميم ، وهو اسم جمع ، وعبارة بعضهم : أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة ، وفي مفرده احتمالان : أحدهما : أنَّه عماد مثل " إهَاب وأهُب " . والثاني : أنه عمودٌ ، كأدِيم وأدُم ، وقَضِيتم وقُضُم ، كذا قاله أبو حيَّان : وقال أبو البقاءِ : " جمع عماد ، أو عمود مثل : أدِيم وأدُم ، وأفِيق وأفُق ، وإهَاب وأهُب ، ولا خامس لها " ، فجعلوا فعولاً كفعيل في ذلك . وفيه نظر ؛ لأنَّ الأوزان لها خصوصية ، فلا يلزمُ من جمع " فعيل " على كذا أن يجمع عليه " فعول " ، فكان ينبغي أن ينظروه بأن : " فَعُولاً " جمع على " فَعَل " ، ثم قول أبي البقاءِ " ولا خامس لها " يعني أنه لم يجمع على : " فُعُل " إلاَّ هذه الخمسة " عِمادٌ وعَمُودٌ وأدِيمٌ وأفِيقٌ وإهَابٌ " . وهذا الحصرُ ممنوعٌ لما تقدَّم من نحو : قَضِيمٌ وقُضُمٌ ، ويجمعان في القلَّة على أعمدة . وقرأ أبو حيوة ، ويحيى بن وثاب : " عُمُد " بضمتين ، ومفرده يحتمل أن يكون عِمَاداً ، كشِهَاب ، وشُهُب ، وكِتَاب ، وكُتُب ، وأن يكون عَمُوداً ، كرسُولٍ ، ورُسُل وقد قرىء في السبع : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [ الهمز : 9 ] بالوجهين . وقال ابن عطية في " عَمَد " اسم جمع عمود ، والباب في جمعه " عُمُد " بضم الحروف الثلاثة ، كرسول ورُسُلٌ . قال أبو حيان : " وهذا وهمٌ ، وصوابه : بضمِّ الحرفين ؛ لأنَّ الثالث هو حرف الإعراب ، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمعِ " . والعِمَادُ والعَمود : ما يعمدُ به ، أي : يسند ، ويقال : عمدت الحائطَ أعمدهُ عَمْداً ، أي : أدْعمتهُ ، فاعْتمدَ الحائطُ على العِمَادِ ، والعَمَدُ : الأساطينُ قال النابغة : [ البسيط ] @ 3163ـ وخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعمَدِ @@ والعَمْدُ : قصد الشيء ، والاستناد إليه ، فهو ضدُّ السَّهو ، وعمودُ الصُّبْحِ : ابتداءُ ضوئهِ تشبيهاً بعمُودِ الحديدِ في الهَيئةِ ، والعُمْدَة : ما يُعْتمدُ عليه من مالِ وغيرهِ والعَمِيدُ : السَّيِّد الذي يعمدهُ النَّاسُ ، أي : يَقْصدُونَهُ . قوله " تَرَوْنَها " في الضَّمير المنصُوب وجهان : أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على : " عَمَدٍ " ، وهو أقرب مذكورٍ ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة لـ " عَمَدٍ " ، ويجيء فيه الاحتمالانِ المتقدِّمانِ من كون العمد موجودة لكنَّها لا ترى ، أو غير موجودة ألبتَّة . والثاني : أنَّ الضَّمير عائد على " السَّمواتِ " ، ثمَّ في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنَّها مستأنفة لا محلَّ لها ، أي : استشهد برؤيتهم لها لذلك ، ولم يذكر الزمخشري غيره . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من هاء : " تَرَوْنهَا " وتكون حالاً مقدرة ؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين ، والتقدير : رفعها مرئية لكم . وقرأ أبي : " تَرَوْنهُ " بالتَّذكير مراعة للفظ " عَمَدٍ " إذ هو اسمُ جمع ، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة لـ " عَمَدٍ " ، وزعم بعضهم أن " تَرَوْنَهَا " خبر لفظاً ، ومعناه الأمر ، أي روها ، وانظروا إليها لتعتبروا بها ، وهو بعيد ؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفاً ، لأن الطَّلب لا يقع صفة ، ولا حالاً . و " ثُمَّ " في " ثُمَّ اسْتَوَى " لمجرَّدِ العطف لا للترتيب ؛ لأنَّ الاستواء على العرشِ غير مرتب على رفع السموات . قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } علا عليه : { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } لمنافع خلقه ، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله عزَّ وجلَّ ـ . قال ابن عبَّاسٍ : للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى ، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً ، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } . وتحقيقه : أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ ، والبُطءِ ، وإذا كان كذلك ؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة ولمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك . وقيل : المراد بقوله : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } كونهما متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف تعالى في قوله : { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [ الانشقاق : 1 ] و { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [ القيامة : 9 ] كقوله تعالى : { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] . قوله : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله تعالى وفيهما وجهان : أظهرهما : أنهما مستأنفان للإخبار بذلك . والثاني : أنَّ الأول حالٌ من فاعل " سخَّر " ، والثاني حالٌ من فاعل : " يُدبِّرُ " . وقرأ النخعي ، وأبان بن تغلب : ( ندبر الأمر نفصل ) بالنون فيهما ، والحسن والأعمش : " نُفَصِّلُ " بالنون " يُدبِّرُ " بالياء . قال المهدويُّ : لم يختلف في : " يُدبِّرُ " يعني أنَّه بالياء ، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي ، وأبان بن تغلب . فصل قوله : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } يقضيه وحده ، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم ، والأولى حمله على الكل ، فهو يدبِّرهم بالإيجاد ، والإعدامِ والإحياءِ ، والإماتةِ ، والاعِتمادِ ، والانقيادِ ، ويدخل فيه إنزال الوحي ، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة ؛ لأنَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله تعالى ـ . والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته ، ومن المعلوم أنَّ من اشتغل بتدبير شيءٍ ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر ، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن ، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ تعالى يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح ، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير ، وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته ، وصفاته ، وعلمه ، وقدرته غير مشابه للمخلوقات ، والممكنات . قوله { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } يبين الدلالات الدَّالة على إلاهيته ، وعلمه ، وحكمه . واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان : أحدهما : الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ ، والشمس ، والقمر ، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره . والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة ، وهي الموتُ بعد الحياة ، والفقرُ بعد الغنى ، والهرم بعد الصحَّة ، وكون الأحمق في أهنأ العيش ، والعاقل في أشد الأحوال ، فهذا النَّوعُ من الموجودات ، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ . فقوله : { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز ، والتفصيل . ثم قال : { لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } لكي توقنوا بوعده ، وتصدِّقوا . واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ أيضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر ؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء ، وتدبيرها على عظمها ، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر ، والنشر أولى . وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ كرَّم الله وجهه ـ : كيف بحاسب الله الخلق دفعة واحدة ؟ قال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة . واعلم أنَّهُ تعالى كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة ، والنيرات الكوكبية في الجو العالي ، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ . واعلم أنَّ لفظ " اللِّقاءِ " يدل على رؤية اللهِ تعالى وقد تقدَّم تقريره . { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ } [ الآية : 3 ] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال : { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ } بسطها ، قال الأصم : المد : البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله : { مَدَّ ٱلأَرْضَ } ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً ، لا يقع البصر على منتهاه ، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها ، ودحاها من مكَّة من تحت البيت ، فذهبت كذا وكذا وقال آخرون : كانت مجتمعة عند بيت المقدس ، فقال لها : اذهبي كذا ، وكذا . قال ابن الخطيب : وهذا القول إنَّما يتمٌّ إذا قلنا : الأرض مسطحةٌ لا كرةٌ وأصحاب هذا القول ، احتجوا عليه بقوله تعالى : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] وهو مشكل من وجهين : الأول : أنَّه ثبت بالدليل أنَّ الأرض كرةٌ ، فإن قالوا : قوله تعالى : مد الأرض ينافي كونها كرة . قلنا : لا نسلم ؛ لأنَّ الأرض جسم عظيم ، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهدُ كالسَّطح ، والتَّفاوت الحاصل بينه ، وبين السَّطح ، لا يحصلُ إلاَّ في علم الله تبارك وتعالى إلا في قوله تعالى { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [ النبأ : 7 ] مع أن العالم من النَّاس يستقرُّون عليه ، فكذلك هنا . والثاني : أنَّ هذه الآية إنَّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصَّانع ؛ والشرط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً ، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنَّ الشيء إذا رأيت حجمه ، ومقداره ، صار ذلك الحجم ، وذلك المقدار عبرة ؛ فثبت أنَّ قوله : { مَدَّ ٱلأَرْضَ } إشارة إلى أنه تعالى هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيَّن لا يزيدُ ولا ينقص ، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً ممَّا هو الآن ، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه ، فاختصاصه بذلك المقدار المعيَّن لا بدَّ وأن يكون بتخصيص مخصَّصِ ، وتقدير مقدِّرٍ . قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي الجبالُ الثَّوابت ، وقاعدة هذا الوصف لا تطَّرد إلا الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث ، وأيضاً كثرة استعماله كالجوامد ، فجمع حائط حوائط ، وكاهل كواهل . وقيل : هو جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، والرسوُّ : الثبوت ، قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3164ـ بِهِ خَالدَاتٌ مَا يرِمْنَ وهَامِدٌ وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدةُ بالفِهْرِ @@ فصل قال ابن عباس رضي الله عنه ـ : كان أبو قبيسٍ أوَّل جبلٍ وضع على وجه الأرض . واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه : أولها : أنَّ طبيعة الأرض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم . قالت الفلاسفة : الجبال إنَّما تولّدت من البخارات ؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً ، ثم يقوى فيه تأثير الشمس ؛ فينقلب حجراً كما نشاهده ، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ ؛ فلهذا السبب تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالم : لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال ، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض ، فكان التسخين أقوى ، وشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الرطوبات ، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ ، كان البخارُ في جانب الشمال ، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال ، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال . وهذا ضعيفٌ من وجوه : الأول : أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام ، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعضِ ؟ . الثاني : أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه . الثالث : أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان ، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تسعة آلاف سنة ، وبهذا التقدير : أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت ، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ ، لكن ليس الأمرُ كذلك ؛ فعلمنا أنَّ السبب الذي ذكروه ضعيف . الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع : ما يحصلُ فيها من المعادن ، ومواضع الجواهر النفيسة ، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط ، والكبريت ، فتكون طبيعة الأرض واحدة ، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات . الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال : وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض ؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض ، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك ، فلا تزال تتكامل ، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها ، وقوتها تثقب ، وتخرج ، وتسيل على وجه الأرض ، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه ، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في أكثر الأمر كهذه الآية ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] . فصل قال القرطبي : في هذه الآية ردٌّ على من زعم أنَّ الأرض كالكرةِ لقوله : { مَدَّ ٱلأَرْضَ } ، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبداً بما عليها ، وزعم ابنُ الرَّوانديُّ : أنَّ تحت الأرض جسماً صاعداً كالرِّيحِ الصعادة ، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي ، والصعَّادي في الجرم والقوة فتوافقا . وزعم آخرون : أن الأرض مركبة من جسمين . أحدهما : منحدرٌ ، والآخر : مصدع فاعتدلا ، فلذلك وقفت ، والذي عليه المسلمون ، وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض ، وسكونها ، ومدِّها ، وأنَّ حركتها إنَّما تكونُ في العادةِ بزلزلةٍ تصيبها والله أعلم . قوله : { وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } يجوز فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعلق بـ " جَعَلَ " [ بعده ] ، أي : وجعل فيها زوجين اثنين من كلِّ صنفٍ من أصناف الثمرات ، وهو ظاهرٌ . والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من : " اثْنَيْنِ " ؛ لأنَّه في الأصل صفة لهُ . الثالث : أن يتمَّ الكلام على قوله : { وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } فيتعلق بـ " جَعَلَ " الأولى على أنه من باب عطف المفردات ، يعني عطف على معمول " جعل " الأولى تقديره : أنه جعل في الأرض كذا ، وكذا ومن كل الثمرات . قال أبو البقاء : ويكون " جَعل " الثاني مستأنفاً ، و " يُغْشِي اللَّيْلَ " تقدَّم الكلام فيه ، وهو إمَّا مستأنفٌ ، وإمَّا حال من فاعل الأفعال . فصل المعنى : ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين ، أي : صنفين اثنين : أصفر ، وأحمر ، وحلواً ، وحامضاً . وهذا النوعُ الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات . واعلم أن الحبَّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت ؛ فبسبب ذلك ينشقُّ أعلاها وأسفلها ، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصَّاعدة ، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في الأرض ، وهذا من العجائب ؛ لأنَّ طبيعة تلك الحبَّة واحدة وتأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب فيها واحد ، ثم إنه يخرج من الجانب الأعلى من تلك الحبَّة جرمٌ صاعدٌ إلى الهواء ، ومن الجانب الأسفل جرمٌ غائصٌ في الأرض ، ومن المحال أن يتولَّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أنَّ ذلك إنَّما كان بتدبير المدبِّر العليم الحكيمِ لا بسبب الطَّبع ، والخاصة ، ثم إنَّ الشجرة النَّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشباً ، وبعضها يكون نوراً ، وبعضها يكون ثمرة ، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسامٌ مختلفة الطَّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور ، فالقشرة الأعلى ، وتحته القشرة الخشبية ، وتحته القشرة المحيطة باللبَّ ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرَّقة تمتازُ عمَّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً وأيضاً : فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترج قشرهُ جارّ يابس ولحمه حارٌّ رطب ، وحامضه بارد يابس وبذره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حارّان رطبان ؛ فثبت أنَّ هذه الطَّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع ، وتأثيرات الأنجم ، والأفلاك على زعم من يدعيه لا بد وأن يكون بتدبير العليمِ القدير . فإن قيل : الزَّوجان لا بدَّ وأن يكونا اثنين ، فما الفائدة في قوله : " زَوْجيْنِ اثْنَيْنِ " ؟ . فالجواب : أنه تعالى أوَّل ما خلق العالم ، وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط ، فلو قال : " زَوْجَيْنِ " لم يعلم أنَّ المراد النوع ، أو الشخص فلما قال : " اثْنَيْنِ " علمنا أنه تعالى أوَّل ما خلق من كل زوجين اثنين [ لا أقل ولا أزيد ، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة ، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين ] بالشَّخص وهما : آدم وحواء عليهما السلام وكذلك القول في جميع الأشجار ، والزروع ، والله أعلم . النوع الرابع : الاستدلال بأحوال الليل ، والنهار ، وإليه الإشارة بقوله : { يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة . ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيستدلون ، والتَّفكر : تصرف القلب في طلب المعاني . قوله : { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } العامة على رفع : " قِطَعٌ " " وجَنَّاتٌ " إمَّا على الابتداء ، وإما على الفاعلية بالجار قبله . وقرىء " قِطَعاً متَجَاورَاتٍ " بالنصب ، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل . وقرأ الحسن : " وجَنَّاتِ " بكسر التَّاءِ وفيها أوجهٌ : أحدها : أنه جر عطفاً على " كُلِّ الثَّمراتِ " . الثاني : أنه نصب نسقاً على : " زَوحَيْنِ اثْنَينِ " قاله الزمخشري . الثالث : أنه نصبه نسقاً على : " رَواسِيَ " . الرابع : أنه نصبه بإضمار جعل ، وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله . قال أبو البقاء : " ولم يقرأ أحد منهم " وزَرْعاً " بالنصب " . قوله : { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } قرأ ابن كثيرٍ ، وأبو عمرو ، وحفص : بالرفع في الأربعة ، والباقون بالخفض ، فالرفع في " زَرْعٌ ونَخِيلٌ " للنسق على " قِطَعٌ " وفي " صِنْوانٌ " لكونه تابعاً لـ " نَخِيلٌ " ، و " غَيْرُ " لعطفه عليه . وعاب أبو حيَّان على ابن عطيَّة قوله : " عطفاً على : قِطَعٌ " . قال : وليست عبارة محررة ؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطفٍ ، وهو " صِنوانٌ " . قال شهابُ الدين : " ومثل هذا [ غير معيب ] ؛ لأنَّه عطف محقق غاية ما فيه أنَّ بعض ذلك تابع ، فلا يقدحُ في هذه العبارة ، والخفض مراعاة لـ " أعنابٍ " . وقال ابن عطيَّة : عطفاً على " أعْنابٍ " ، وعابها أبو حيان بما تقدَّم وجوابه ما تقدَّم . وقد طعن قومٌ على هذه القراءة ، وقالوا : ليس الزَّرعُ من الجنَّات ، وروي لك عن أبي عمر . وقد أجيب عن ذلك : بأنَّ الجنَّة احتوت على النَّخيل ، والأعناب ، لقوله تعالى { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ الكهف : 32 ] . وقال أبو البقاءِ : " وقيل : المعنى ، ونبات زرع فعطفه على المعنى " . قال شهاب الدين : " ولا أدري ما هذا الجوابُ ؛ لأنَّ الذي يمنعُ أن يكون الجنة من الزَّرعِ يمنع أن يكون من نبات الزَّرعِ ، وأي فرق " . والصنوان : جمع صنوٍ كقنوان جمع قنو ، وقد تقدَّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام . و " الصِّنْوُ " : الفرع يجمعه وفرعاً آخر أصل واحد ، وأصله المثل ، وفي الحديث : " عمُّ الرَّجل صِنْوُ أبيه " ، أي : مثله ؛ أو لأنهما يجمعهما أصل واحدٌ والعامة على كسر الصاد . وقرأ السلميُّ ، وابن مصرف ، وزيد بن عليٍّ : بضمها ، وهي لغة قيسٍ ، وتميم كذئب ، وذُؤبان . وقرأ الحسنُ ، وقتادة : بفتحها ، وهو اسم جمعٍ لا جمع تكسير ؛ لأنه ليس من أبنية " فعلان " ، ونظير " صنْوان " بالفتح " السَّعْدَان " هذا جمعه في الكثرةِ ، وأمَّا في القلَّة ، فيجمع على " أصْنَاء " كـ " جَمَل ، وأجْمَال " . قوله : { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ } قرأ ابنُ عامرٍ ، وعاصمٌ " يُسْقَى " بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا ، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدَّم ، وللتأنيث في قوله " وجَنَّاتٍ " ، ولقوله : " بَعْضَهَا " . قوله " ونُفَضِّلُ " قرأه بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل : الأخوان ، والباقون بنون العظمة ، ويحيى بن يعمر ، وأبو حيوة : " يُفَضَّلُ " بالياء منبيًّا للمفعول و " بَعضُهَا " رفعاً . وقال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أوَّل من نقط المصاحف ، وتقدَّم [ الخلاف ] في الأكل في البقرةِ . وفي " الأكلِ " وجهان : أظهرهما : أنَّه ظرفٌ [ لـ " نُفَضِّلُ " ] . والثاني : أنه حال من " بَعْضِهَا " ، أي : نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً ، أي : وفيه الأكل ، قاله أبو البقاءِ . وفيه بعد جهة المعنى ، والصناعة . فصل قوله : { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } قال الأصمُّ : أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة ، وأخرى سبخة ، وأخرى رملة ، وأخرى حصباء وحصى ، وأخرى تكون حمراء ، وأخرى تكونُ سوداء . وبالجملة : فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع ، والانخفاضِ ، والطبعِ ، والخاصيةِ أمر معلوم . " وجَنَّاتٍ " بساتين : { مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } تقدَّم الكلام على الصنو ، والصنوان ، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد ، " وغيْرُ صِنْوانٍ " هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها . قال المفسريون : الصنوان : المجتمع ، وغير الصنوان متفرق ، ولا فرق في الصنوانِ ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة . { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ } والماء : جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ . { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ } في الثَّمر ، والطَّعم ، جاء في الحديث : " ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ " قال : " الفارسي والدقلُ والحلوُ والحَامضُ " . قال مجاهد : كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد . وحكى الواحديُّ عن الزجاج : أنَّ الأكل : الثَّمر الذي يؤكل ، وحكى عن غيره أنَّ الأكل : المهيّأ للأكل . قال ابنُ الخطيب : " وهذا أولى ؛ لقوله تعالى في صفة الجنة : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] : وهو عامٌّ في جميع المطعومات " . قال الحسن : هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن ، فسطحها ؛ فصارت قطعاً متجاورات ، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها ، وشجرتها ، ونباتها ، وثمرها ، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها ، وكلٌّ يسقى بماء واحد ، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم عليه الصلاة والسلام فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة ، فترق قلوب قوم ، فتخشع ، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو . قال الحسنُ : والله ما جالس القرآن أحدٌ ، إلاَّ قام من عنده بزيادة ، أو نقصان ، قال الله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الذي ذكر : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . فصل قال ابنُ الخطيب : المقصُودُ من هذه الآية : إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية والحركات الكوكبية من وجهين : الأول : أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة ، وهي مع ذلك متجاورةٌ ، فبعضها سبخةٌ ، وبعضها طيِّبةٌ ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ ، وبعضها رمليةٌ ، وتأثير الشمس ، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة ؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير . الثاني : أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ ، ويكون تأثير الشمس فيها [ متساوياً ] ، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون ، والطَّعم ، والطَّبيعة ، والخاصية ؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب ، فتكون جميع حبَّاته ناضجة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه ، فإنها تبقى حامضة يابسة ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية ، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة ، والوجه الثاني في غاية السَّواد ، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة ، ويستحيل أن يقال : وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني ، وهذا يدلُّ دلالة [ قطعية ] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الاتِّصالات الفلكيَّة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ } ، ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . فصل قال القرطبي : هذه الآية تدلُّ على بطلان القول بالطبع ، إذ لو كان ذلك بالماء ، والتراب ، والفاعل له الطبيعة ؛ لما وقع الاختلاف . وذهب الكفرةُ لعنهم الله إلى أنَّ كلَّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثِّمار الخارجة من الأشجار ، وأقرُّوا بحدوثها ، وأنكروا الأعراض ، وقالت فرقةُ بحصول الثِّمار لا من صانع ، وأثبتوا للأعراض فاعلاً . والدَّليل على أنَّ الحادث لا بد له من محدثٍ : أنَّه يحدثُ في وقت ، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر ، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به ؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه ، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنَّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به ، لولا تخصيصه إيَّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده .