Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 5-7)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } الآية لما ذكر الدَّليل على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدلُّ على المعادِ . قال ابن عبَّاس رضي الله عنهماـ : " إنْ تعجب من تكذيبهم إيَّاك بعد ما حكموا عليك بأنَّك من الصَّادقين ، فهذا عجبٌ " . وقيل : إن تعجب يا محمَّدُ من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرًّا ، ولا نفعاً بعد ما عرفوا الدلائل الدَّالة على التوحيد ، فهذا عجبٌ . وقيل : تقدير الكلام : وإن تعجب يا محمد صلوات الله عليه فقد تعجبت في موضع العجب ، لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبِّر السموات ، والأرضيين ، وخالق الخلق أجمعين ، وأنَّه هو الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها ، وأنَّه الذي سخر الشَّمس ، والقمر على وفق مصالح العباد ، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب ، والغرائب ، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة ، كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته ؛ لأنَّ القادر على الأقوى يكون قادراً على الأضعفِ بطريق الأولى ، وهذا تقرير موضع التَّعجُّب . قوله : { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } يجوز فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر مقدم ، و " قَوْلُهمْ " مبتدأ مؤخَّرٌ ، ولا بد من حذف [ صفة ] لتتمْ الفائدة ، أي : فعجب أي عجب ، أو غريب ، ونحوه . الثاني : أنه مبتدأ ، وسوَّغ الابتداء ما ذكر من الوصف المقدر ، ولا يضر حينئذٍ كون خبره معرفه ، هذا كما أعرب سيبويه : كم مالك وخير من أقصد رجلاً خير منه أبوه مبتدأين لمسوغ الابتداء بهما ، وخبرهما معرفةٌ ، قاله أبو حيَّان . وللنزاع فيه مجال ؛ على أنَّ هناك علّة لا تتأتى هنا ، وهي : أنَّ الذي حمل سيبويه على ذلك من المسألتين أن أكثر ما تقع موقع " كَمْ " ، وخبر " مَا " هو مبتدأ ؛ فلذلك حكم عليهما بحكم الغالب بخلاف ما نحنُ فيه . الثالث : أنَّ " عَجَبٌ " مبتدأ بمعنى معجب ، و " قَوْلُهمْ " فاعل به ، قاله أبو البقاء . ورد عليه أبو حيَّان : بأنهم نصُّوا على أنَّ " فعلاً وفعَلة وفُعْلاً " ينوبُ عن " مَفْعُول " في المعنى ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مَرَرْتُ بِرجُل [ ذبح ] كَبْشَهُ ولا غَرَفَ مَاءهُ ولا قَبضَ مالهُ ، وأيضاً فإنَّ الصفات لا تعمل إلاَّ إذا اعتمدت على أشياء مخصوصة وليس منها هنا شيء . والعَجَبُ : تغير النَّفس برؤية المستبعد في العادة . وقال القرطبيُّ : العَجَبُ تغير النفس بما يخفى أسبابه . قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يجوز في هذه الجملة الاستفهامية وجهان : أظهرهما : أنَّها منصوبة المحل لحكايتها بالقول . والثاني : أنَّها ، وما في حيزها في محل رفع بدلاً من : " قَوْلهِمْ " وبه بدأ الزمخشريُّ وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم ويكونُ بدل كلِّ من كُلِّ ؛ لأنَّ هذا هو نفس " قَوْلُهُم " ، و " إذَا " هنا ظرفٌ محضٌ ، وليس فيها معنى الشَّرط ، والعاملُ فيها مقدر يفسره { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } تقديره : أئذا كُنَّا تراباً نبعث ، أو نحشر ، ولا يعمل فيها : { خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ لأن ما بعد " إذَا " لا يعملُ فيما قبلها ، ولا يعمل فيها " كُنَّا " لإضافتها إليها . واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافاً منتشراً ، وهو في أحد عشر موضعاً في تسع سور من القرآن ولا بد من تعيينها ، [ وبيان ] مراتب القرَّاء فيها ، فإن ضبطها عسر ليسهل ذلك بعون الله تعالى ـ . فأولها : ما في هذه السورة . والثاني ، والثالث : الإسراء وهما : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ] موضعان . الرابع في المؤمنون : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ المؤمنون : 82 ] . الخامس في النمل : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } [ النمل : 67 ] . السادس في العنكبوت : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ } [ العنكبوت : 28 ، 29 ] . السابع في " الم " السجدة : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ السجدة : 10 ] . الثامن ، والتاسع في الصافات موضعان [ الصافات : 16 ] . العاشر : في الواقعة : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الواقعة : 47 ] . الحادي عشر في النازعات : { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } [ النازعات : 10 ، 11 ] . فهذه هي المواضع المختلف فيها ، وأمَّا ضبط الخلاف فيها بالنِّسبة إلى القراء فيه طريقان : أحدهما : بالنِّسبة إلى ذكر القرَّاءِ . والثاني : بالنسبة إلى ذكر السُّور . فاعلم أنَّ هذه المواضعِ تنقسم قسمين : قسم منها سبعة مواضع لها حكم واحد ، وقسم منها أربعة مواضع ، لكلِّ منها حكم على حدته . أمَّا القسمُ الأوَّل فمنه في هذه السورة ، والثاني ، والثالث في : " سُبْحَانَ " والرابع : في " المؤمنون " ، والخامس : في " الم " السجدة ، والسادس ، والسابع : في الصافات وحكمها : أنَّ نافعاً ، والكسائي يستفهمان في الأول ، ويخبران في الثاني ، وأن ابن عامر يخبر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، والباقين يستفهمون في الأول والثاني . وأما القسم الثاني ، فأوله ما في سورة النمل ، وحكمه : أن نافعاً يخبر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، وأن ابن عامر والكسائي بعكسه ، وأن الباقين يستفهمون فيهما . الثاني : ما في العنكبوت ، وحكمه : أن نافعاً ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفصاً يخبرون في الأول ، ويستفهمون في الثاني ، والباقون ، يستفهمون فيهما . الثالث : ما في سورة الواقعة ، وحكمه : أن نافعاً ، والكسائي يستهفمان في الأول ، ويخبران في الثاني ، والباقون يستفهمون فيهما . الرابع : ما في سورة النازعات ، وحكمه : أن نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ، ويخبرون في الثاني ، والباقين يستفهمون فيهما . وأما الطريق الآخر بالنسبة إلى القراء ؛ فإنهم فيها على أربع مراتب : الأولى : أن نافعاً قرأ بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عكس . المرتبة الثانية : أنَّ ابن كثير ، وحفصاً قرآ بالاستفهام في الأول والثاني إلا الأول من العنكبوت فقرآه بالخبر . المرتبة الثالثة : أنَّ ابن عامرٍ قرأ بالخبر في الأوَّل ، والاستفهام في الثَّاني إلا في النمل ، والواقعة ، والنازعات ، فقرأ في النمل ، والنازعات بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما . المرتبة الرابعة : الباقون وهم : أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر رضي الله عنهم أجمعين قرءوا بالاستفهام في الأول ، والثاني ، ولم يخالف أحدٌ منهم أصله . قال شهاب الدين : " وإنما ذكرت هذين الطريقين لعسرهما ، وصعوبة استخراجهما من كتب القراءات . فأمَّا وجه قراءة من استفهم في الأوَّل ، والثاني ؛ فقصد المبالغة في الإنكار ، فأتى به في الجملة الأولى ، وأعاده في الثانية تأكيداً له ، ووجه من أتى به مرة واحدة : حصول المقصود به ؛ لأنَّ كل جملة مرتبطة بالأخرى ، فإذا أنكر في إحداهما حصل الإنكارُ في الأخرى ، وأمَّا من خالف أصله في شيءٍ من ذلك ، فلاتباع الأثر " . فصل هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه : أنَّك تعجبُ من إنكارهم النَّشأة الأخرى مع إقرارهم بابتداءِ الخلق ، فعجب أمرهم ، وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزَّ وجلَّ وقد تقرَّر في القلوب أنَّ الإعادة أهون من الابتداء ، فهذا موضع العجب . ثم قال : { أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } وهذا يدلُّ على أنَّ من أنكر البعث والقيامة فهو كافرٌ ، وإنما لزم من إنكار البعثِ الكفر بالله تعالى ؛ لأنَّ إنكار البعث لا يتمُّ إلا بإنكار القدرة ، والعلم ، والصدق ، وأما إنكار القدرة فكقوله : الله غير قادر على الإعادة ، وأما إنكار العلم فكقوله : الله غير عالم بالجزيئات ، فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي ، وأمَّا إنكار الصِّدق فكقولهم : إنَّه أخبر عنه ، ولكنه لا يفعل ؛ لأنَّ الكذب جائز عليه ، وكل ذلك كفرٌ بالله تعالى ـ . ثم قال : { وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ } قال الأصمُّ : المراد بالأغلالِ : كفرهم وذلهم ، وانقيادهم للأصنام ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } [ يس : 8 ] ؛ وقال الشاعر : [ البسيط ] @ 3165ـ … لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيَادُ @@ ويقال للرَّجلُ : هذا غلٌّ في عنقك للعمل الرَّديء ، معناه : أنَّهُ [ ملازم ] لك ، وأنت مُجازًى عليه بالعذابِ . قال القاضي : هذا وإن كان محتملاً ؛ لكن حمل اللفظ على الحقيقة أولى . قال ابن الخطيب : " أقول على نصرة الأصم ، بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحالِ ، وذلك غير حاصل ، فإنهم يحملون هذا اللفظ على أنَّه سيحصل هذا المعنى ، ونحنُ نحمله على أنه حاصلٌ في الحالِ ، والمراد بالأغلال ما ذكره فكلُّ واحدٍ منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه ، فلمَ كَانَ قولكم أقوى ؟ " . وقيل : المعنى : أنَّهُ تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 71 ] إلى قوله : { ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } [ غافر : 72 ] . ثم قال : { وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } والمراد منه التَّهديد بالعذاب المخلد المؤبّد ، وذلك يدلُّ على أنَّ العذاب المؤبَّد ليس إلا للكفَّار ؛ لأن قولهم : { هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } يدلُّ على أنَّهم هم الموصوفون بالخُلودِ لا غيرهم فدل على أنَّ أهل الكبائر لا يخلدون في النَّارِ . فإن قيل : العجبُ هو الذي لا يعرف بسبب ، وذلك في حق الله تعالى محالٌ ، فكيف قال : " فعجَبٌ قَولُهُمْ " ؟ . فالجواب : المعنى : فعجب عنك . فإن قيل : قرأ بعضهم : " بَل عَجِبْتُ " بإضافة العجب إلى نفسه . فالجواب : أنَّا قد بيَّنا أنَّ مثل هذه الألفاظ يجبُ تنزيهها عن مبادئ الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض ونهاية التعجب أن الإنسان إذا تعجّب من الشيء أنكره ، فكان التعجب في حقِّ الله تعالى محمولاً على الإنكار . قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } واعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة ، وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلَّما هددهم بعذاب القيامة ، أنكروا القيامة ، والبعث ، والنشر كما تقدَّم في الآية الأولى ، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه ، وذلك أنَّ مشركي مكَّة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم يوقلون : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . قوله " قَبْلَ الحَسَنةِ " فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلقٌ بالاستعجالِ ظرفاً لهُ . والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنَّه حال مقدرة من السيئة ، قاله أبو البقاء . قوله : " وقَدْ خَلتْ " يجوز أن تكون حالاً وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون مستأنفة . والعامة على فتح الميم ، وضم المثلثة الواحدة مثله ، كـ " سَمُرَة ، وسَمُرَات " و " صَدُقَة وصَدُقَات " وهي العقوبة الفاضحة . قال ابن عباس : " العقوبات المتأصلاتُ كمثلات قطع الأذن ، والأنف ، ونحوهما " . سُمَّيت بذلك لما بين العقاب ، والمعاقب عليه من المماثلة ، كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، ولأخذها من المثال بمعنى القصاصِ . يقال : أمثلتُ الرَّجل من صاحبه ، وأقصصته بمعنى واحدٍ ، أو لأخذها من ضربِ المثل لعظم شأنها . وقرأ ابن مصرف " المَثْلات " بفتح الميم ، وسكون الثاء ، وقيل : وهي لغة الحجاز في مثله . وقرأ ابن وثاب : بضم الميم ، وسكون الثاء ، وهي لغة تميم . وقرأ الأعمش ، ومجاهد بفتحهما ، وعيسى بن عمرو ، وأبو بكر في رواية بضمهما . فأما الضم ، والإسكان : فيجوز أن يكون أصلاً بنفسه لغة ، وأن يكون مخففاً في قراءة من ضمهما ، وأما ضمهما فيحتمل أيضاً أن يكون أصلاً بنفسه لغة ، وأن يكون اتباعاً من قراءة الضم ، والإسكان نحو " العُشْر في العَشَر " وقد عرف ما فيه . قال ابنُ الأنباري : " المَثُلَة : العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً ، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة ، وهو من قولهم : مثل فلانٌ بفلانٍ : إذا قبح صورته إمَّا بقطع أنفه ، أو أذنه ، أو سمل عينيه ، أو بقر بطنه ؛ فهذا هو الأصل ، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مُثْلَه " . وقال الواحدي : " وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب عليه ، ومماثلاً له سمي بهذا الاسم " . والمعنى : يستعجلونك بالعذابِ الذي لم نعاجلهم به ، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية ، أفلا يعتبرون بها . ثم قال { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } وهذا يدلُّ على أنه سبحانه وتعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ، لأن قوله : { لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } ، أي : حال اشتغالهم بالظلم كما يقال : رأيت الأمير على أكله ، أي حال اشتغاله بالأكل ، وهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم ، ومعلوم أنَّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً ؛ فدلَّ هذا على أنه تعالى قد يغفر الذُّنوب قبل الاشتغالِ بالتوبة ، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر ؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في حق غير الكفرة ، وهو المطلوبُ . ويقال : إنَّهُ تعالى لم يقتصر على قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } بل عطف عليه قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر ، ويحمل الثاني على الكفَّار . قال المفسريون : " لَذُو مَغْفرةٍ " لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبين إذا تابوا . وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : أرجى آية في القرآن هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } إذا أصرُّوا على الكفر . وروى حمَّاد بن سلمة عن عليِّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال : لما نزلت : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لَوْلاَ عَفْوُ اللهِ ورَحْمتهُ وتَجاوُزهُ لمَا هَنأ أحَدا عَيْشٌ ولوْلاَ عِقابهُ ووَعِيدهُ وعَذابَهُ لاتَّكلَ كُلُّ أحدٍ " . فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصَّغائر لأجل أنَّ عقوبتهم مكفرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد إنَّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا ، وأنه تعالى إنَّما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتَّوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ، ويكون المراد من هذه المغفرة [ تأخير العقاب ] إلى الآخرة ، بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه ؛ لأنَّ القوم طلبوا تعجيل العذاب ، فيجب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السُّؤال . ثم يقال : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { لَذُو مَغْفِرَةٍ } إمهالهم بالتَّوبة ، ولا يعجل بالعقوبة ، فإن تابوا ، فهو ذو مغفرة ، وإن لم يتوبوا ؛ فهو شديد العقاب ؟ . فالجواب عن الأوَّل : أن تأخير العذاب لا يسمى مغفرة ، وإلاَّ لوجب أن يقال : إنَّ الكفار كلهم مغفور لهم ؛ لأنَّ الله تعالى أخَّر عقابهم إلى الآخرة . وعن الثاني : أنَّ الله تمدَّح بهذا ، التَّمدُّح إنما يحصل بالتفضيل ، أما أداء الواجب ، فلا تمدح فيه ، وعندكم يجب غفران الصغائر . وعن الثالث : أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة ؛ فسقطت الأسئلةُ . قوله : { عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } حال من " النَّاسِ " والعامل فيها ، قال أبو البقاءِ " مَغْفرةٍ " يعني : أنه هو العامل في صاحبها . قوله تعالى : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } الآية لما بين تعالى أنَّهم طعنوا في النبوة بسبب طعنهم في الحشر والنشر ثم طعنوا في النبوَّة أيضاً بسبب طعنهم في صحَّة ما ينذرهم به من نزول العذابِ ، بين أيضاً أنهم طعنوا في نبوَّته ، وطلبوا منه المعجزة . والسَّببُ في كونهم أنكروا كون القرآن معجزة : أنهم قالوا هذا كتابٌ مثلُ سائر الكتب ، وإتيان الإنسان بتصنيف معين لا يكون معجزاً ، وإنَّما يكون المعجز مثل معجزات موسى . واعلم أنَّ من الناس من زعم أنَّهُ لم يظهر معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم سوى القرآن ، قالوا : لأن هذا الكلام إنَّما يصحُّ إذا طعنوا في كونِ القرآنِ معجزاً ولم يظهر معجزاً غيره ؛ لأنه لو ظهر معجز غيره لم يحسن أن يقال : { لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } وهذا يدلُّ على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان له معجزة سوى القرآنِ . والجواب : عنه من وجهين : الأول : لعلََّ المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها من حنين الجزع ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير الطعام القليل ؛ فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه ، مثل : فلقِ البَحْرِ لموسى ، وقلب العصا ثُعْبَاناً . فإن قيل : فما السبب في أنَّ الله منعهم ، وما أعطاهم ؟ . فالجواب : أن الله تعالى لما أظهر المعجزة الواحدة ، فقد تَمَّ الغرض ، فيكون طلب الثاني تحكماً ، وظهور القرآن معجزة ، فما كان مع ذلك حاجة إلى معجزات آخر . وأيضاً : فلعلَّه تعالى علم أنَّهم يصرُّون على العناد بعد ظهور المعجزة الملتمسة وكونهم يصيرون حينئذٍ يستوجبون عذاب الاستئصال ، فلهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم ، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله : { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] فبيَّن أنَّه لم يعطهم مطلوبهم ، لعلمه أنَّهم لا ينتفعون به . وأيضاً : ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له ، وهو أنَّه كلَّما أتى بمعجزة جاء آخر ، وطلب معجزة أخرى ، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو باطلٌ . والوجه الثاني : لعلَّ الكفار قالوا ذلك قبل مشاهدة سائر المعجزات . ثم قال : " إنَّما أنْتَ منذرٌ " مخوف . قوله : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّ هذا الكلام مستأنف مستقبل من مبتدأ ، وخبر . والثاني : أنَّ " لكُلِّ قَوْمٍ " متعلقٌ " هَادٍ " ، و " هاد " نسق على " مُنْذِرٌ " ، أي : إنَّما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم ، وفي هذا الوجه الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف بالجار وفيه خلاف تقدم . ولما ذكر أبو حيان هذا الوجه ، لم يذكر هذا الإشكال ، ومن عادته ذكره ردًّا به على الزمخشري . الثالث : أنَّ " هادٍ " خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : إنَّما أنت منذرٌ ، وهو لكلِّ قوم هادٍ ، فـ " لكُلِّ " متعلقٌ به أيضاً . ووقف ابن كثير على " هَادٍ " [ الرعد : 33 ] [ الزمر : 23 ، 36 ] و " واقٍ " حيث وقعا ، وعلى " والٍ " نا و " باقٍ " [ النحل : 96 ] [ الرعد : 34 ، 37 ] في النحل بإثبات الياء ، وحذفها الباقون . ونقل ابن مجاهد عنه : أنه يقف بالياء في جميع الياءات . ونقل عن ورش : أنَّه خير في الوقف بين الياء ، وحذفها . والباب : هو كل منقوصٍ منونٍ غير منصرف ، واتفق القراء على التوحيد في " هَادٍ " . فصل إذا جعلنا " ولكُلِّ قوم هادٍ " كلاماً مستأنفاً ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى خصَّ كلَّ قوم بنبيٍّ ، ومعجزة تلائمهم ، فَلمَّا كان الغالب في زمن موسى عليه السلام السحر ؛ جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقهم ، ولما كان الغالب في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام الطب ، جعل معجزته ما كان من تلك الطريقة ، وهي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمة ، والأبرص ، ولما كان الغالبُ في زمان محمد صلى الله عليه وسلم الفصاحة ، والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان ، وهو فصاحة القرآن ، فلمَّا لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنَّها أليق بطبائعهم ، فبأن لا يؤمنون بباقي المعجزات أولى ، هذا تقرير القاضي ، وبه ينتظم الكلام . وقيل : المعنى أنهم إذا جحدوا كون القرآن معجزة لا تضيق قلبك بسببه ، و " إنَّما أنْتَ مُنذِرٌ " ، أي ما عليك إلاَّ الإنذار ، وأمَّا الهداية فليست إليك ، فإنَّ : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قادر على هدايتهم . والمعنى : أنَّ الهداية من الله . فصل قيل : المنذر ، والهادي شيءٌ واحدٌ ، والتقدير : إنَّما أنتَ مُنذِرٌ { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } منذر على حدةٍ ، ومعجزة كل واحد غير معجزة الآخر . وقيل : المنذر محمد صلى الله عليه وسلم والهادي : هو الله تعالى قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك . وقال عكرمة : الهادي محمد صلى الله عليه وسلم يقول : أنت منذر ، وأنت هاد لكل قوم ، أي : داع .