Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 31-34)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما هدد الكفار ، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا ، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال . وفي " يُقِيمُوا " أوجه : أحدها : أنه مجزومٌ بلام محذوفة ، تقديره : ليقيموا ، فحذفت وبقي عملها ، كما يحذف الجار ويبقى عمله ، كقوله : [ الوافر ] @ 3222ـ مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا @@ يريد : لتفدِ . وأنشده سيبويه إلا أنَّه خصه بالشعرِ . قال الزمخشري : " ويجوز أن يكون : " يُقِيمُوا " ، و " يُنْفِقُوا " بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، وليكون هذا هو المقولُ ، قالوا : وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم ؛ لأنَّ الأمر الذي هو " قُلْ " عوض منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز " . ونحا ابنُ مالكٍ رحمه الله إلى قريب من هذا ، فإنَّه جعل حذف هذه اللاَّم على أضربٍ : قليل ، وكثير ومتوسط . فالكثير : أن يكون قبله قول بصيغة الأمر ، كالآية الكريمة . والقليل : ألا يتقدم قول ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3223ـ مُحَمَّدُ تَفْدِ … … @@ والمتوسطُ : أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر ، كقوله : [ الرجز ] @ 3224ـ قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا @@ الثاني : أن " يُقِيمُوا " مجزوم على جواب : " قُلْ " ، وإليه نحا الأخفش والمبرد . وقد رد النَّاس عليهما هذا ؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم : أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر . وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المراد بالعبادِ المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا ؛ امتثلوا . الثالث : أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ ، تقديره : قل لعبادي أقيموا وأنفقوا ، أي : يقيموا وينفقوا ، قاله أبو البقاءِ رحمه الله وعزاه للمبرّد ، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده ، وهو فاسدٌ من وجهين : أحدهما : أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل ، وإما في الفاعل ، أو فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل ، فهو خطأ ، كقولك : قُمْ يَقُمْ ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه : أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا . والوجه الثاني : أنَّ الأمر المقدر للمواجهة ، و " يُقِيمُوا " على لفظ الغيبة ، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً . قال شهاب الدين : " أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب ، وأمَّا الثاني ، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول : قل لعبدي أطعني يطعك ، وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال " . الرابع : أن التقدير : أن يقول لهم : أقيموا يقيموا ، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية ، وهذا هو القول الثاني . الخامس : قال ابن عطية : " يحتمل أن يكون " يُقِيمُوا " جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله " قُلْ " وذلك أن تجعل " قُلْ " في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة " . السادس : قال الفراء : الأمر معه شرط مقدر ، تقولُ : أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا ، وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط ، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ . السابع : قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر ، ومعناه : أقيموا . وهذا مردودٌ ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه . وأجيب عن هذا : بأنه بني لوقوعه موقع المبني ، كما بني المنادى في نحو : يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير . ولو قيل : بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابروا " . وفي معمول " قُلْ " ثلاثة أوجه : الأول : الأمر المقدر ، أي : قل لهم أقيما يقيموا . الثاني : أنه نفس " يُقِيمُوا " على ما قاله ابن عطية . الثالث : أنَّه الجملة من قوله : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } إلى آخره ، قاله ابن عطية . وفيه تفكيك النَّظم ، وجعل الجملة : { يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده ، أو يكون جواباً فصل به بين القولين ، ومعموله ، لكنه لا يترتب على قوله ذلك : إقامة الصلاة ، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا . وقرأ حمزة والكسائي : " لِعبَادِيْ " بسكون الياء ، والباقون بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين . قوله : { سِرّاً وَعَلانِيَةً } في نصبهما ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّهما حالان مما تقدم ، وفيهما الثلاث التأويلات في : زيْدٌ عدْلٌ ، أي : ذَوِي سرٍّ ، وعلانيةٍ ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة . الثاني : أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وقتي سر وعلانية . الثالث : أنهما منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سرِّ ، وإنفاق علانية . قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق بـ : " يُقِيمُوا " و " يُنْفِقُوا " أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم . وقد تقدَّم خلاف القراء في : " لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ " . والخِلال المُخالة ، وهي المُصاحبة ، يقال : خاللته خِلالاً ، ومخَالَّة ؛ قال طرفة : [ السريع ] @ 3225ـ كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ لا تَركَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه @@ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 3226ـ صَرفْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ @@ وقال الأخفش : خِلال جمع لـ " خلة " ، نحو " بُرمَة وبِرَام " . فصل قال مقاتلٌ : يوم لا بيع فيه ، ولا شراء ، ولا مخاللة ، ولا قرابة . وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [ 254 ] . فإن قيل : كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله : { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] ؟ . فالجواب : أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع ، ورغبة النفس ، و الآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة ، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبَّتهِ . قوله تعالى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } الآية لما وصف أحوال السعداء ، وأحوال الأشقياء ، وكانت العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله تعالى بذاته وصفاته ، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع ، وكمال علمه وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل : أولها : خلق السَّمواتِ . وثانيها : خلق الأرض . وثالثها : قوله : { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } . " مِنَ السَّماءِ " يجوز أن يتعلق بـ " أنْزلَ " ، و " مِن " لابتداءِ الغايةِ ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من " مَاءٍ " ؛ لأنه صفته في الأصل ، وكذلك " مِنَ الثَّمراتِ " في الوجهين . وجوَّز الزمخشري وابن عطية : أن تكون : " مِنْ " لبيان الجنس ، أي : ورزقاً هو الثمرات . ورد عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم ، وقد يجاب عنهما ؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب ، وقد تقدم ذلك في البقرة [ البقرة 23 ، 25 ] . ورابعها : قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } يجوز أن يتعلق " بأمْرهِ " بـ " تَجْرِي " أي : بسببه ، أو بمحذوف على أنَّها للحال ، أي : ملتبسة به . وخامسها : قوله { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ } . وسادسها ، وسابعها : { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ } دائبين حال من " الشمسِ والقَمرِ " ، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ . وثامنها وتاسعها : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } . وعاشرها : قوله تعالى : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } العامة على إضافة : " كُلِّ " إلى ما . وفي " مِنْ " قولان : أحدهما : أنَّها زائدة في المفعول الثاني ، أي : كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ . والثاني : أن تكون تبعيضية ، أي : آتاكم بعض جميع ما سألتموه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف ، تقديره : وآتاكم من كل ما سألتموه ، وهو رأي سيبويه و " مَا " يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والمصدر واقع موقع المفعول ، أي : مسئولكم ، فإن كانت مصدرية فالضمير في : " سَألتُموهُ " عائد على الله تعالى وإن كانت موصولة ، أو موصوفة كان عائداً عليها ، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى ، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف ، لأنه إما أن يقدر متصلاً سألتموهوه ، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه ، وكلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } . وقرأ ابن عباس ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، والحسن ، والضحاك ، وعمرو بن فائد وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع رضي الله عنهم في رواية : " مِنْ كُلِّ " منونة ، وفي " مَا " على هذه القراءة وجهان : أحدهما : أنَّها نافية ، وبه بدأ الزمخشري ، فقال : و " مَا سَألتْمُوهُ " نفي ومحله النَّصب على الحال ، أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائلين . قال شهاب الدين : ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله : " مِنْ كُلِّ " كقوله تعالى { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 16 ] . والثاني : أنها موصولة بمعنى الذي ، وهي المفعول الثاني لـ " آتَاكُمْ " . وهذا التخريج الثاني أولى ؛ لأنَّ في الأول منافاة في الظاهر لقراءة العامة . قال أبو حيَّان : " ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة ، وبين تلك قال : ويجوز أن تكون : " مَا " موصولة على : وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به ، فكأنكم طلبتموه ، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول : " مَا سَألتْمُوهُ " بمعنى ما احتجتم إليه " . فصل اعلم أنَّه تعالى بدأ بذكر خلق السموات ، والأرض ، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده . ثمَّ قال : { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها ، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه ، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود . واعلم أنَّ الماء إنَّما ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض ، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو ؛ وقيل : ينزل من السماء إلى السحاب ، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى : { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } . قال أبو مسلم رحمه الله ـ : لفظ " الثَّمراتِ " يقع في الأغلب على ما يحصل من الأشجار ، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات ، كقوله تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] . ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } [ إبراهيم : 32 ] نظيره { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [ الشورى : 32 ] . واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك ؛ لأنَّ الله تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض ، وبالعكس ، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ ، وهي الجمال ، أو بسفن البحر ، وهي الفلك . فإن قيل : ما معنى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ } مع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ ؟ . فالجوابُ : أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى عند أهل السُّنَّة ، فلا سؤال . وأمَّا عند المعتزلة : فلأنه تعالى خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد ، وسائر الآلات ، وعرف العباد صنعه التركيب ، وخلق الرياح ، وخلق الحركات القوية فيها ، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها ، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن . وأضاف التسخير إلى أمره ؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل ، وإنَّما يقال : أمر ، قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] وسخر الفلك مجازاً ؛ لأنها جمادات ، ولما كانت تجري على وجه الماء ، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر . ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ } ، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات ، فأنعم الله تعالى على الخلق بتفجير الأنهار ، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات ، وأيضاً : فماء البحر لا يصلحُ للشرب ، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار . ثم قال عز وجل { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } والانتفاع بهما عظيم قال الله سبحانه وتعالى { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] { وَقَمَراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [ يونس : 5 ] ، وتأثيرهما في إزالة الظلمة ، وإصلاح النبات والحيوان ، فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة . ثم قال : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } ومنافعهما مذكورة في القرآن ، كقوله { وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [ النبأ : 10 ، 11 ] ، وقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] . قال المتكلمون : تسخير الليل ، والنهار مجاز ؛ لأنهما عرضٌ ، والأعراض لا تسخَّر . ثم قال عزَّ وجلَّ ـ : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي : أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع ما لا يأتي على بعضها التَّعداد . ثمَّ قال { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } قال الواحديُّ : " النِّعْمةُ ههنا اسم أقيم مقام المصدر ، يقال : أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً ، ونِعْمةً ، أقيم الاسم مقام الإنعام ، كقوله : أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً ، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر " . وقال غيره : " النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به " . وخُتِمَت هذه الآية بـ { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ } ونظيرها في النحل بـ { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] لأن في هذه تقدم قوله عز وجل ـ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] وبعده { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } [ إبراهيم : 30 ] فجاء قوله { إِنَّ ٱلإنْسَانَ } شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك . والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات ، وبالغ فيها ، وذكر قوله جلّ ذكره { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء ، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين . وقال ابن الخطيب : " كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة ؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها ؛ فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما : كونك ظلوماً كفاراً ، ولي وصفان عند إعطائها وهما : كوني غفوراً رحيماً ، فكأنه تعالى يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ ، وإنت كنت كفاراً فأنا رحيم ، أعلم عجزك ، وقصورك ، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء " .