Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 9-14)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } الآية النَّبأ : الخبر ، والجمع الأنباء ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 3196ـ ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي … @@ قال أبو مسلم : " يحتمل أن يكون خطاباً من موسى صلوات الله وسلامه عليه [ لقومه ، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم ، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعال على لسان موسى عليه السلام ـ ] لقومه : يذكرهم أمر القرون الأولى ؛ ليعتبروا بأحوال المتقدمين " . روي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثمَّ قال : " كَذبَ النَّسَّابُونَ " . وعن عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبين عدنان ثلاثون [ أباً ] لا يعلمهم إلا الله وكان مالك ابن أنس رضي الله عنه يكره أن ينسب الإنسانت [ نفسه أباً أباً ] إلى آدم صلوات الله وسلامه عليه وكذلك في حق النبي صلوات الله وسلامه عليه ـ ؛ لأنه لا يعلم أولئك الآباء أحد إلا الله تعالى ، ونظيره : قوله تعالى { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] وقوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] وكان صلوات الله وسلامه عليه في نسبه لا يجاوز معد بن عدنان . وقال عليه الصلاة والسلام ـ : " تَعلَّمُوا من أنْسَابِكُم ما تصلُونَ بِه أرحَامَكُمْ وتعلمُوا مِنَ النُّجُوم ما تَسْتدِلُّونَ بِهِ على الطَّريقِ " . وقيل : المراد بقولهم : " لا يَعْلمُهمْ " أي : عددهم ، وأعمارهم ، وكيفياتهم . وقال عروة بن الزبير : " ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان ، وإسماعيل " . قوله : " قَوم نُوحٍ " بدل ، أو عطف . قوله : { وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } " يجوز أن يكون عطفاً من الموصول الأول ، أو على المبدل منه ، وأن يكون مبتدأ خبره : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } ، { جَآءَتْهُمْ } خبر آخر وعلى ما تقدم يكون : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } حالاً من " الَّذينَ " أو من الضمير في : " مِنْ بعْدِهمْ " لوقوعه صلة " . وهذا عَنَى أبو البقاءِ بقوله : حال من الضمير في : " مِن بَعْدهِمْ " ولا يريد به الضمير المجرور ؛ لأنَّ مذهبه منع الحال من المضاف ، وإن كان بعضهم جوزه في صوره وجوز أيضاً هو والزمخشري أن يكون استئنافاً . وقال الزمخشري : " والجملة من قوله : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } اعتراض " . ورد عليه أبو حيان : بأن الاعتراض إنما يكون بين جزءين ، أحدهما يطلب الآخر . ولذلك لما أعرب الزمخشريُّ : " والَّذينَ " مبتدأ ، و " لا يَعْلمُهُمْ " خبره ، قال : " والجملة من المبتدأ ، والخبر اعتراض " ، واعترضه أبو حيَّان أيضاً بما تقدَّم . ويمكنُ أن يجاب عنه في الموضعين : بأن الزمخشري يمكن أن يعتقد أن : " جَاءَتْهُم " حال مما تقدَّم ، فيكون الاعتراض واقعاً بين الحال وصاحبها ، وهو كلامٌ صحيحٌ . قوله تعالى : { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ } يجوز أن تكون الضمائر للكفار ، أي : فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ ، لقوله : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ } [ آل عمران : 119 ] قاله أبن عباس ، وابن مسعود ، والقاضي . قال القرطبيُّ : وهذا أصح الأقوال ، قال الشاعر : [ الرجز ] @ 3197ـ لَوْ أنَّ سَلْمَى أبْصرَتْ تَخَدُّدِي ودِقَّةً في عَظْمِ سَاقِي ويَدِي وبُعْدَ أهْلِي وجَفَاءَ عُوَّدِي عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بأطْرافِ اليَدِ @@ وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [ 119 ] فـ " في " على بابها من الظرفية ، أي : فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكاً ، واستهزاء ، فـ " فِي " بمعنى " عَلَى " وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم : إنَّا كَفرنا ، فـ " عَنْ " بمعنى " إلى " ويجوز أن يكون المرفوع للكفار ، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي : النّعم ، أي : ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل ؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال ، ويجوز أن يراد المعنى ، والمراد بالأيدي : الجوارح ، ويجوز أن يكون الأولان للكفَّار ، والأخير للرسل ، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل ، أي أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت ، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ . وقيل : " في " هنا بمعنى الباء . قال الفراء : " قد وجدنا من العرب من يجعل " في " موضع الباء ، يقال : أدخلتُ بالجنَّة ، أدخلت في الجنَّة " وأنشد : [ الطويل ] @ 3198ـ وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ @@ أي : أرغب بها . وقال أبو عبيد رحمه الله ـ : هذا ضرب مثل يقوله العربُ : رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به . ورد عليه : بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ . وقال أبو مسلم : المراد باليدِ : ما نطقت به الرُّسل من الحجج ؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يداً ، يقال لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] فالبينات التي ذكرها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقرَّروها لهم نعم وأياد ، وأيضاً : العهود التي أتوا بها مع القوم أيادي . وجمع اليد في القلة : أيْدِي ، وفي الكثرة أيَادِي . وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح ، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه . ونقل محمد بن جرير عن بعضهم : أنَّ معنى قوله تعالى : { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ } أي : سكتوا عن الجواب ، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : ردَّ يدهُ في فيه ، إذ لم يجبه ، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال : إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا : إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا : " إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِهِ " قوله تعالى : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } قرأ طلحة : " تَدعُونَّا " بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية ، والمعنى : في شكِّ مريب موقع في الريبة أي : ذي ريبة من أرابه ، والريبة : لقلق النفس ، وألاّ [ تطمئن ] إلى الأمر . فإن قيل : لما ذكروا أنهم قالوا : إنَّا كافرون برسالتكم ، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين ، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم . قوله تعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ } الآية لما قالوا للرُّسلِ : وإنا لفي شك ، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله ، وهو فاطر السموات ، والأرض وفاطر أنفسنا ، وأرواحنا ، وأرزاقنا إنَّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم ، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره ، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها ، فكيف قلتم : وإنَّا لفي شكٍّ ؟ . قوله : { أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ } استفهام بمعنى الإنكار ، وفي " شكٌّ " وجهان : أظهرهما : أنه فاعل بالجار قبله ، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام . والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره الجار ، والأولى أولى ؛ بل كان ينبغي أن يتعين ؛ لأنه يلزم من الثاني الفصل بين الصفة ، والموصوف بأجنبيّ ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوَّل ، فإن الفاصل ليس أجنبيًّا ، إذ هو فاعله ، والفاعل كالجزء من رافعه . ويدلُّ على ذلك تجويزهم : " مَا رَأيْتُ رجلاً أحْسنَ في عَيْنهِ الكُحْلُ مِنهُ في عَيْنِ زيْدٍ " بنصب " أحْسَنَ " صفة ورفع " الكُحْلُ " فاعلاً بـ " أفعل " ولم يضر الفصل به بين " أفْعَلَ " وبين " مِنْ " لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع : " أحْسَن " خبراً مقدماً ، و " الكُحْلُ " مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين " أفعل " وبين " من " بأجنبي . ووجه الاستشهاد في هذه المسألة : أنَّهم جعلوا المبتدأ أجنبيًّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا . وقرأ العامة " فاطِرِ " بالجر وفيه وجهان : النعت والبدلية . قال أبو البقاء وفيه نظر ؛ لأنَّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ولو جعله عطف بيان كان أسهل . قال الزمخشريُّ : " أدخلت همزة الإنكار على الظرف ؛ لأنَّ الكلام ليس في الشكِّ إنَّما هو في المشكوك فيه ، وأنَّه لا يحتمل الشَّك لظهور الأدلَّة ، وشهادته عليه " . قوله : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ } اللام متعلقة بالدُّعاءِ ، أي : لأجل غفران ذنوبكم ؛ كقوله : [ المتقارب ] @ 3199ـ دَعَوْتُ لمَّا نَابَنِي مِسْوراً فَلبَّى فَلَبَّيْ يدي مِسْورِ @@ ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك : " دعوتك لزيد " ، وقوله : " إذا تدعون إلى الإيمان " ، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم . لما استفهم بعمنى نفي ما اعتقدوه ، أردفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : { فاطر السموات والأرض } : أي خالق السماوات والأرض { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم } أي : ذنوبكم و " من " صلة ، وقيل : " من " تبعيضية ، وقيل : بمعنى البدل ، أي : بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى : { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ } [ التوبة : 38 ] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه . { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى } إلى حين استيفاء أجلكم ، ولا يعاجلكم بالعذاب ، قال بعض العلماء : إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل ، وذلك من وجوه : الأول : قال بعض العقلاء : إن من لطم وجه صبي لطمة ، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار ، وعلى وجود التكليف ، وعلى وجود دار الجزاء ، وعلى وجود النبي صلى الله عليه وسلم . أما دلالتها على وجود الصانع ؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني ؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها ، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل ، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى . وأما دلالتها على وجود التكليف ؛ فبأن الصبي يصيح ويقول : ضربني ذلك الضارب ، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ، ومندرجة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى . وأما دلالتها على وجود دار الجزاء فهو : أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللَّطمة ولا يتركه ، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل ، فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع العباد والأعمال أولى . وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية ، كم هي ؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه ويبين هذه الأحكام ؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة . الوجه الثاني في أنَّ الإقرار بوجود الصَّانع بديهي : وهو أنَّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة ، وتركيبات لطيفة موافقة للحكمة ، والمصلحة تستحيلُ إلاَّ من نقاش عالم ، وبانٍ حكيمٍ ، ومعلوم أنَّ آثار الحكمة في العالم العلوي ، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة ، فلمَّا شهدت الفطرة الأصليَّة بافتقار النَّقش إلى النَّقاش ، والبناء إلى البَاني ، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى . الوجه الثالث : أنَّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة ، فإنه بأصل فطرته ، وخلقته يتضرَّع إلى من يخلصه منها ، وما ذاك إلاَّ شهادة فطرته بالافتقار إلى الصَّانع القادر المدبر . الرابع : أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر ، أو لا يكون ، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته ؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره ، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج ، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه ، وذلك هو الصَّانع المختار . الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجود الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه ، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده ، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار . وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط ، فلأنه إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكونه مختاراً . أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار . وأما كان كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط ، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار . وأمَّا كون الإقرار [ بوجود ] المعاد أحوط ؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد ؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية ، وهي منقضية فانية ، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار ، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه ، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان ، والله أعلم . فصل لما استدلّ بكونه فاطر السموات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم ، والجود من وجهين : الأول : قوله : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } . قال الزمخشريُّ رحمه الله ـ : " لو قال قائل : ما معنى التبعيض في قوله تعالى : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } " ؟ . ثم أجاب : فقال ما جاء هكذا إلاَّ في خطاب الكفار ، كقوله تعالى { وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 3 ، 4 ] ، و { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ الأحقاف : 31 ] وقال في الخطاب للمؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] إلى أن قال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 12 ] قال : والاستقراء يدلُّ على صحَّة ما ذكرناه . ثم قال : وكان ذلك للتَّفرقة بين الخطابين لئلا يسوَّى بين الفريقين في المعاد . وقيل : أريد به : يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم . وقال الواحدي : قال أبو عبيدة : " مِنْ " زائدة ، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا : ليست بزائدة ، ففيها وجهان : أحدهما : أنه ذكر البعض ههنا ، وأراد الجمع توسعاً . والثاني : أن " مِنْ " ههنا للبدل ، أي : لتكون المغفرة بدلاً من الذُّنوبِ فدخلت " مِنْ " لتضمن المغفرة معنى إبدالها من الذُّنوبِ . وقال القاضي : ذكر الأصم أنَّ كلمة " مِنْ " ههنا تفيد التبعيض ، أي : أنكم إذا [ تبتم ] يغفر لكم الذُّنوب التي هي من الكبائر ، وأمَّا التي تكون من الصغائر ، فلا حاجة إلى غفرانها ؛ لأنها في أنفسها مغفورة . قال القاضي : وقد أبعد في هذا التأويل ؛ لأنَّ الكفار صغائرهم ، ككبائرهم لا تغفر إلا بالتَّوبة ، وإنما تكون الصَّغائر مغفورة من الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابهم فأمَّا من لا ثواب له أصلاً ، فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرة ، فلا يغفر له شيء ، ثم قال : وفيه وجه آخر : وهو أنَّ الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته ، وإيمانه ؛ فلا يغفر له شيء من ذنوبه ، فلا تكون المغفرة إلا لما ذكره وتاب عنه . فصل قال ابن الخطيب : دلت الآية على أنه تعالى يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن ، لأنه قال { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } وعد بغفران الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة ؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان ؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب . فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كلمة " مِنْ " صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول : المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريُّ ، أو نقول : المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم ، أو نقول : المراد منه الذنوب التي ذكرها الكافر عند إسلامه ، كما قاله القاضي . فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة ، أمَّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله عزَّ وجلَّ بأنَّها عبثٌ والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة . وأما قوله الواحدي : المراد من كلمة " مِنْ " ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة ؛ لأن حاصله أنَّ قوله تعالى جل ذكره { لِيَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي : يغفر لكم ذنوبكم ، وهذا عينُ ما نقله عن أبي عبيدة ، وحكى عن سيبويه إنكاره . وأما قوله : المراد منه إبدال السيئة بالحسنة ، فليس في اللغة أنَّ كلمة " مِنْ " تفيد الإبدال . وأما قول الزمخشري : المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات ، لأن هذا التبعيض إن حصل ، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً . وأما قول الأصم ، فقد سبق بطلانه . وأمَّا قول القاضي : فجوابه أنَّ الكافر إذا أسلم ؛ غُفِرَت ذُنوبُه بأسرها ، لقوله عليه السلام ـ : " التّائِبُ مِنَ الذنبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ " . وقال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] فثبت أنَّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط ، بل المراد ما ذكرناه هو أنَّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبةٍ ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان ، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى . قال تعالى : { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى } . قيل : المعنى : إن آمنتم ، أخر الله موتكم إلى أجل مسمى ، وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال . وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما ـ : يمنعكم في الدُّنيا باللذات إلى الموت . فِإن قيل : أليس قال : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] . فكيف قال هنا : { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى } ؟ . قلنا : تقدَّم الكلام في هذه المسألة في قوله : { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى } [ الأنعام : 2 ] في الأنعام . ولما ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام هذا الكلام للكفار قالوا : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } وهذا الكلام يشتمل على ثلاثة أنواع من الشبه : الأولى : أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن الواحد منهم رسولاً من الله تعالى مطلعاً على الغيب ، مخالطاً لزمرة الملائكة ، والباقون غافلون عن هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون : إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أيضاً أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة ، وهي الحاجة إلى الأكل ، والشرب ، والحديث والوقاع ، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } : أي في الصورة ولستم ملائكة ، وإنَّما تريدون بقولكم أن تصدُّونا عمَّا كان يعبد آباؤنا . وهذه الشبهة الثانية : وهي التمسك بالتقليد ، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم مطبقين على عبادة الأوثان . قالوا : ويبعد أن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خاطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين . الشبهة الثالثة : قالوا : المعجز لا يدلُّ على الصدق ؛ لأن الذي جاء به أؤلئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنَّها أمور معتادة ليست من باب المعجزات الخارجة عن قوَّة البشر ؛ فلذلك قالوا : " فأتُونَا بسُلْطانٍ مُبِينٍ " أي : بحجة بينة على صحَّة دعواكم . قوله " تُرِيدُونَ " يجوز أن يكون صفة ثانية لـ " بَشرٌ " وحمل على معناه ، لأنه بمنزلة القوم والرهط ، كقوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] وأن يكون مستأنفاً . وقوله : " أنْ تَصدُّونَا " العامة على تخفيف النون ، وقرأ طلحة بتشديدها كما شدد : " تدعونّا " وفيها تخريجان : أحدهما : ما تقدَّم في نظيرتها على أن تكون هي المخففة لا النَّاصبة ، واسمها ضمير الشأن ، وشذّ عدم الفصل بينها ، وبين الجملة الفعلية . والثاني : أنَّها ناصبة ، ولكن أهملت حملاً على " مَا " المصدرية كقراء : { أَن يُتِمَّ } [ البقرة : 233 ] . برفع " يُتِمُّ " وقد تقدَّم القول فيه . قوله تعالى : { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } الآية لما حكى عن الكفَّار طعنهم في النُّبوة حكى عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جوابهم فقالوا : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } سلموا أنَّ الأمر كذلك لكنهم بيَّنوا أن التماثل في البشرية لا يمنع من اختصاص بعض البشرِ بمنصب النبوة ؛ لأنَّ هذا المنصب يمُنُّ الله به على من يشاء من عباده ، وإذا كان كذلك سقطت شبهتكم . وأمَّا الجواب عن شبهة التقليد وهي قولهم : إطباقُ السلف لذلك الدين يدل على كونه حقًّا ، فجوابه عين الجواب المذكور ، وهو أنَّه لا يبعدُ أن يظهر للرَّجل الواحد مالم يظهر للخلق الكثير ؛ لأن التمييز بين الحق ، والباطل ، والصدق ، والكذب عطية من الله وفضل منه ؛ فلا يبعد أن يخص عبده بهذه العطية ، ويحرم الجمع العظيم منها . وأما الجواب عن الشبهة الثالثة وهي قولهم : إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها ، وإنما نريد معجزات قاهرة أقوى منها ، فأجابوا عنها بقولهم : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي : أنَّ المعجزة التي أتينا بها حجة قاطعة قوية ودليل تام ، وأمَّا الأشياء التي طلبتموها ، فأمورٌ زائدة والحكم فيه لله تعالى فإن أظهرها فله الفضل ، وإن لم يظهرها فله العدل ، ولا يحكم بعد ظهور قدر الكفاية . قوله : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ } يجوز أن يكون خبر : " كَانَ " " لَنَا " ، و : " أنْ نَأيِتَكُمْ " اسمها ، أي : وما كان لنا إتيانكم بسورة ، و { إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } حالٌ ، ويجوز أن يكون الخبر { إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } ، و " لَنا " تبيين . والظاهر أنَّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما أجابوا عن شبهاتهم بهذا الجواب أخذ القوم التَّخويف ، والوعيد فعند ذلك قال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا نخاف من تخويفكم بعد أن توكلنا على الله : { وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } . قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ } كقوله سبحانه : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 246 ] . والمعنى : وما لنا أن لا نتوكل على الله ، وقد عرفنا أنه لا ينال شيء إلا بقضائه وقدره : { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } بين لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة . قوله : " ولنَصْبِرنَّ " جواب قسم ، وقوله : { عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا } يجوز أن تكون " مَا " مصدرية ، وهو الأرجح لعدم الحاجة إلى رابط ادعي حذفه على غير قياس . والثاني : أنها موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدريج ؛ إذ الأصل : آذيتمونا به ، ثم حذف الباء فوصل الفعل إليه بنفسه وقرأ الحسن رحمه الله ـ : بكسر لام الأمر في " فَليتَوكَّل " وهو الأصل . والمراد بهذا التوكل على الله في دفع شر الكفار فلا يلزم التكرار وقيل : الأول لاستحداث التوكل ، والثاني طلب دوامه . قوله تعالى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ } الآية لما حكى عن الأنبياء صلوات لله وسلامه عليهم توكلهم على الله في دفع شرور أعدائهم حكى عن الكفار أنهم بالغوا في لسفاهة وقالوا : { لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي لا بد من أحد الأمرين . قوله : " لنخرجنكم " جواب قسم مقدر ، كقوله : " ولنصبرن " وقوله : " أو لتعودن " في " أوْ " ثلاثة أوجه : أحدها : أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين . والثاني : أنها بمعنى " حتَّى " . والثالث : أنها بمعنى " إلاَّّ " كقولهم : لألزمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي حَقِّي . والقولان : الأخيران مردودان ، إذ لا يصح تركيب " حتَّى " ولا تركيب " إلاَّ " مع قوله " لتَعُودُن " بخلاف المثال المتقدم ، والعود هنا يحتمل أن يكون على بابه أي : لترجعن و " في ملَّتنا " متعلق به ، وأن يكون بمعنى الصيرورة ، فيكون الجار في محل نصب خبراً لها . فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها . فالجواب من وجوه : أحدها : أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنَّما نشئوا في تلك البلاد ؛ وكانوا من تلك القبائل وفي أول الأمر ما ظهروا المخالفة مع الكفار ، بل كانوا ساكتين إلى حين الوحي فظن القوم أنهم كانوا على ملتهم لسكوتهم ، فلهذا قالوا : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } . وثانيها : أن هذا الكلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين . وثالثها : قال الزمخشريُّ : " العَوْدُ هنا بمعنى الصِّيرورة كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون : " صَارَ " ولكن عاد : ما عدت أراه ، وعاد لا يكلمني ما عاد لفلان مالٍ " . ورابعها : أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أنَّ المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ، فغلبوا في الخطاب الجماعة ، ولا بأس أن يقال : إنهم قبل ذلك الوقت كانوا على دين أولئك الكفار . وخامسها : لعل أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا قبل إرسالهم على ملَّة من الملل ، ثم إنه تعالى نسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي تلك الأقوام على تلك الشريعة المنسوخة مصرين عليها ، وعلى هذا التقدير ، فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعودوا إلى تلك الملّة . ولما ذكر الكفَّار هذا الكلام أوحى الله عزَّ وجلَّ أليهم { لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ } . قوله : " لنُهْلِكنَّ " جوب قسم مضمر ، وذلك القسم وجوابه فيه وجهان : أحدهما : أنه على إضمار القول ، أي : قال لنهلكن . والثاني : أنه أجرى الإيحاء مجرى القول ؛ لأنه ضرب منه . وقرأ أبو حيوة " ليُهْلِكنَّ " و " ليُسْكِننَّكُمْ " بياء الغيبة مناسبة لقوله : " ربُّهُمْ " والمراد بالأرض : أرض الظالمين ، وديارهم ، وأموالهم وقال عليه الصلاة والسلام ـ : " مَنْ أذَى جَارهُ ورَّثهُ اللهُ دارهُ " وهذه الآية تدلُّ على أن من يتوكل على الله في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه . قوله : { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } " ذلِكَ " مبتدأ ، وهو مشار به إلى توريث الأرض ، ولمَنْ خَافَ " هو الخبر ، و " مَقامِي " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مقحم ، وهو بعيد ؛ إذ الأسماء لا تقحم . الثاني : أنه مصدر مضاف للفاعل . قال الفراء : " مَقامِي " مصدر مضاف لفاعله أي : مقامي عليه بالحفظ . الثالث : أنه اسم مكان . قال الزجاج : " مكان وقوفه بين يدي الحساب ، كقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ الرحمن : 46 ] فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، كقولك : نَدِمْتُ على ضَربِكَ ، أي : على ضَرْبِي أيَّاك ، و " خَافَ وعِيدِ " أي : عقابي ، أثبت الياء هنا ، وفي " ق " في موضعين : { كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : 14 ] ، { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وصلاً ، وحذفها وقفاً ورش ، والباقون وصلاً ووقفاً " . فصل في تفسير المقام وجوه : الأول : موقفي وهو موقف الحساب ؛ لأنَّه الذي يقف فيه العباد يوم القيامة ، كقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ النازعات : 40 ] . الثاني : أن المقام مصدر كالقيام ، يقال : قَامَ قِيَاماً ، ومقَاماً ، أي : لمن خاف مقامي ، أي : مقام العباد عندي ، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول . الثالث : لمن خاف مقامي ، أي : لمن خافني ، وذكر المقام هنا ، كقولك سلامٌ على المَجْلسِ الفُلاني ، والمراد : السَّلام على فلان . قوله : { وَخَافَ وَعِيدِ } قال الواحدي : الوعيد اسمٌ من أوْعَد إيعَاداً وهو التَّهديد . قال ابن عباس : خاف ما أوعدت من العذاب . وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الخوف من الله تعالى غير الخوف من وعيده ؛ لأنَّ العطف يقتضي المغايرة .