Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 15-17)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱسْتَفْتَحُواْ } العامة على " اسْتفْتَحُوا " فعلاً ماضياً ، وفي ضميره أقوال : أحدها : أنه عائد على الرُّسلِ الكرام ، ومعنى الاستفتاح : الاستنصار كقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } [ الأنفال : 19 ] . وقيل : طلب الحكم من الفتاحة ، وهي الحكومة ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } [ الأعراف : 89 ] . الثاني : أن يعود على الكفار ، أي استفتح أمم الرسل عليهم ؛ كقوله تعالى : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الأنفال : 32 ] وقيل : عائد على الفريقين ؛ لأن كلاَّ طلب النصر على صاحبه . وقيل : يعود على قريش ؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا ، وهو على هذا مستأنف ، وأما علىغيره من الأقوال فهو عطف على قوله : " فأوحى إليهم " . وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن رضي الله عنهم " واستفتحوا " على لفظ الأمر أمراً للرسل بطلب النصرة ، وهي تقوية لعوده في المشهورة على الرسل ، والتقدير : قال لهم : لنهلكن ، وقال لهم : استفتحوا . قوله : " وخاب " هو في قراءة العامة عطف على محذوف ، وتقديره : استفتحوا ، فنصروا ، وخاب ، ويجوز أن يكون عطفاً على " استفتحوا " على أن الضمير فيه للكفار ، وفي غيرها على القول المحذوف وقد تقدم أنه يعطف الطلب على الخبر وبالعكس . إن قلنا : المستفتحون الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فنصروا وظفروا ، وهو قول مجاهد وقتادة ، وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ، ودعوا على قومهم بالعذاب ، كما قال نوح صلوات الله عليه ـ : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . وإن قلنا : المستفتحون الكفرة كان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنًّا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل ، وذلك أنهم قالوا : " اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا " نظيره : { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . " وخَابَ " ما أفلح . وقيل : خسر . وقيل : هلك كل جبّار عنيد . والجبَّارُ الذي لا يرى فوقه أحداً ، والجبريةُ طلب العلوْ بما لا غاية وراءه ، وهذا الوصف لا يكون إلا لله عزَّ وجلَّ ـ . وقيل : الجبَّار الذي يجبر الخلق على مراده ، والجبَّار هنا : المتكبر على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته ، ومنه قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } [ مريم : 14 ] . قال أبو عبيدة : " الأجْبَر يقال فيه جبريّة ، وجَبرُوَّة ، وجَبرُوت " . وحكى الزجاج : " الجِبْرُ ، والجِبْرِية ، والجِبَّارة ، الجِبْرِيَاءُ " . قال الواحديُّ : " فهذه سبع لغات في مصدر الجبَّار ، ومنه الحديث : " أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمَرهَا بِأمْرٍ فأبتْ عليْهِ ، فقال عليه الصلاة والسلام ـ : " دَعُوهَا فإنَّها جَبَّارةٌ " أي : مستكبرة " ، وأمَّا العنيد فقال أهلُ اللغة في اشتقاقه : قال البصريون : أصل العُنُود : الخلاف ، والتباعد ، والترك . وقال غيرهم : أصله من العَنْد وهو النَّاحية ، يقال : هو يمشي عنداً ، أي : ناحية فهو المُعانِدُ للحق بجانبه ، قاله مجاهد . وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه : هوالمعرض عن الحق . وقال مقاتلٌ : هو المتكبّر وقال قتادة : العَنِيدُ الذي أبى أن يقال : لا إلهَ إلاَّ الله . ثم ذكر كيفية عذابه فقال : " مِنْ وَرائِهِ " جملة في محلّ جر صفة لـ " جبَّارٍ " ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار ، و " جهنم " فاعل به . وقوله : " ويسقى " صفة معطوفة على الصفة قبلها . عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده ، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية . وقيل : عطف على محذوف ، أي : يلقى فيها ، ويُسْقَى . و " وَرَاءِ " هنا على بابها ، وقيل بمعنى أمام ، فهو من الأضداد ، وهذا عنى الزمخشري بقوله : " مِنْ بَيْنِ يَديْهِ " وأنشد : [ الوافر ] @ 3200ـ عَسَى الكَرْبُ الَّذي أمْسَيْتُ فِيهِ يَكونُ وَراءَهُ فَرجٌ قَرِيب @@ وهو قول أبي عبيدة وابن السِّكيت ، وقطرب ، وابن جريرٍ ؛ وقال الشاعر في ذلك : [ الطويل ] @ 3201ـ أيَرْجُو بنُو مَرْوان سَمْعِي وطَاعتِي وقَوْمُ تَميمٍ والفَلاةُ وَرَائِيَا @@ أي : قُدَّامي ؛ وقال الآخر : [ الطويل ] @ 3202ـ أليْسَ وَرائِي إنْ تَراخَتْ مَنيَّتِي لُزومُ العَصَا تُحْنَى عليْهَا الأصابِعُ @@ وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك ، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الخلف وقدام ، ويقال : المَوْتُ وراء كُلِّ أحدٍ ، وقال تعالى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] أي : أمامهم . وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد ، قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3203ـ … وليْسَ ورَاءَ اللهِ للْخَلْقِ مَهْرَبُ @@ ومعنى الآية : أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم . قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } في " صَديدٍ " ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّه نعت لـ " مَاءٍ " . وفيه تأويلان : أحدهما : أنه على حذف أداة التشبيه ، أي : ماء مثل صديد ، وعلى هذا فليس الماء الذي تشربونه صديداً ، بل مثله في النَّتنِ ، والغلظ ، والقذارة ، كقوله تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ } [ الكهف : 29 ] . والثاني : أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء ، وليس هو بماء حقيقة ، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء ، وهو قول ابن عطية ، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره . وفيه نظرٌ ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديدٌ بمعنى مصدود ، أخذه من الصَّدِّ ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه ، أي : يمتنع عليه كل أحد . الثاني : أنه عطف بيان لـ " مَاءٍ " ، وإليه ذهب الزمخشري ، وليس مذهب البصريين [ جريانه ] في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً . الثالث : أن يكون بدلاً ، وأعرب الفارسي " زَيْتُونةٍ " من قوله تعالى { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ] عطف بيان أيضاً . واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان ، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين . والصَّديد : ما يسيلُ من أجسادِ أهلِ النَّار . وقيل : ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ . قوله : " يتَجرَّعهُ " يجوز أن تكون الجملة صفة لـ " مَاءٍ " وأن تكون حالاً من الضمير في " يُسْقَى " ، وأن تكون مستأنفة ، وتجرَّع : " تَفعَّل " وفيه احتمالات : أحدها : أنه مطاوع لـ " جَرَّعْته " نحو " علَّمتهُ فتعلَّمَ " . والثاني : أنه يكون للتكلف ، نحو " تحَلَّم " ، أي : يتَكلَّف جرعهُ ، ولم يذكر الزمخشري غيره . الثالث : أنه دالٌّ على المهلة ، نحو تفهَّمتهُ ، أي : يتناوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم . الرابع : أنه بمعنى جرع المجرد ، نحو : عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه . والمعنى : يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة ، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ . قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } في " يَكادُ " قولان : أحدهما : أن نفيهُ إثبات ، وإثباتهُ نفيٌ ، فقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي : يسيغه بعد إبطاء ؛ لأن العرب تقول : ما كدت أقومُ أي : قمتُ بعد إبطاءٍ ، قال تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] أي : فعلوا بعد إبطاء ، ويدلّ على حصول الإساغة قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ } [ الحج : 20 ] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة . وقوله : " يَتجرَّعهُ " يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء . والقول الثاني : أنَّ " كَادَ " للمقاربة ، فقوله " وَلا يَكادُ " لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه ، فكيف تحصل الإساغة ؟ . كقوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] ، أي : لم يقرب من رؤياها ، فكيف يراها ؟ . فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على الإساغة ، فكيف يجمع بين القولين ؟ . فالجواب من وجهين : أحدهما : أنَّ المعنى : ولا يسيغ جميعه . والثاني : أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر ، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة ؛ لأنَّ الإساغة في اللغة : إجراء الشرب في [ الحلق ] بقبول النفس ، واستطابة المشروب ، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه ، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل : " لا يَكَادُ " على نفي المقاربة . قوله : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات . واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة . فمنها : ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ، كقوله تعالى : { يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] . ومنها : زوال القوة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [ النمل : 80 ] . ومنها : الحزن والخوف المكدران للحياة ، كقوله تعالى : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] . ومنها : النوم ، كقوله تعالى عزَّ وجلَّ { وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا } [ الزمر : 42 ] . وقد قيل : النوم : الموتُ الخفيف ، والموتُ : النوم الثقيل ، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل ، والسؤال ، والهرم ، والمعصية ، وغير ذلك ، ومنه الحديث " أوَّل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى " . وحديث موسى صلوات الله وسلامه عليه حين قال له ربه : " [ أمَا ] تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهَ فقَدْ أمَتُّهُ " . ولنرجع إلى التفسير ، فنقول : قيل : بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعضائه . وقيل : يأتيه الموت من الجهات السّت { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } فيستريح . قال ابن جريج : تعلق روحه عند حنجرته ، ولا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فَتَنْفَعهُ الحياة ، نظيره : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } [ طه : 74 ] . قوله : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } في الضمير وجهان : أظهرهما : أنه عائد على " كُلِّ جبَّارٍ " . والثاني : أنه عائد على العذاب المتقدم . قيل : العذاب الغليظ : الخلود في النار . وقيل : إنَّهُ في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله ، وتقدم الكلام على معنى " مِن وَرائهِ " .