Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 10-15)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا } مفعوله محذوف ، أي : أرسلنا رُسُلاً { مِن قَبْلِكَ } فـ { مِن قَبْلِكَ } يجوز أن يتعلق بـ " أرْسَلْنَا " ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه نعتٌ للمعفو ل المحذوف . و { فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ } ، قال الفراء : هو من إضافة الموصوف لصفته ، والأصل : في الشِّيعِ الأوَّلين ؛ كصَلاةِ الأولى ، وجَانبِ الغربي وحقِّ اليَقينِ ، وجين القيمة . والبصريون : يؤولونه على حذف [ الموصوف ] ، أي : في شيعِ الأممِ الأولين ، وجانب المكان الغربي ، وصلاةِ السَّاعةِ الأولى . والشِّيعُ : قال الفراء : الشيَّاعُ واحدهم : شِيعَة ، وشِيعَةُ الرجُلِ : أتْباعهُ ، والشِّيعَةُ : وهم القوم المجتمعة المتفقة ، سموا بذلك ؛ لأن بعضهم يُشَايعُ بعضاً ، وتقدم الكلام على هذا الحرف عند قوله تعالى : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } [ الأنعام : 65 ] . قوله : { وَمَا يَأْتِيهِم } قال الزمخشري : " حكاية حال ماضية ؛ لأنَّ " مَا " لا تدخل على المضارع إلاَّ وهو في موضعِ الحالِ ، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال " . وهذا الذي ذكره هو الأكثر في لسانهم ؛ لكنَّه قد جاءت ما مقارنة للمضارع المراد به الاستقبال ؛ كقوله تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ } [ يونس : 15 ] ، وأنشدوا للأعشى يمدحُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم : [ الطويل ] @ 3266ـ لَهُ نَافِلاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُهَا ولَيْسَ عطَاءُ اليَوْمِ مَانِعَهُ غَدا @@ وقال أبُو ذؤيب : [ الكامل ] @ 3267ـ أوْدَى بَنِيَّ وأوْدَعُونِي حَسْرَةً عِنْدَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً مَا تٌقلِعُ @@ قوله : " إلا كانوا " هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من مفعول " تَأتيهم " ، ويجوز أن تكون صفة لـ " رسُولٍ " فيكون في محلِّها وجهان : الجرُّ باعتبار اللفظ ، والرفع باعتبار الموضع ، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مُقدَّرةٌ . فصل في معنى الآية المعنى : أنَّ عادة هؤلاء الجهَّال مع جميع الأنبياء والرسول صلوات الله وسلامه عليهم الاستهزاءُ بهم ؛ كما فعلًُوا بك ؛ ذكره تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم . واعلم أنَّ السَّبَبَ الذي يحمِلُ هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة : إما لأنَّ الانتقال من المذاهب يشقُّ على الطِّباع . وإمَّا لكونِ الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكون فقِيراً ، وليس له أعوان ، ولا أنصارٌ ؛ فالرؤساءُ يَثقُل عليهم خدمة من يكون بهذه الصِّفة . وأمّا خذلانُ الله تعالى لهم ، فبإلقاء دواعي الكفرِ والجهلِ في قلوبهم ، وهذا هو السبب الأصليّ . قوله : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } ، يجوز في الكاف أن تكون مرفوعة المحلِّ على خبرها مبتدأ مضمر ، أي : الأمر كذلك ، و " نَسْلكهُ " مستأنف ، ويجوز أن تكون منصوبة المحل ، إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : مثل ذلك السلك ؛ ويجوز نسلكه ، أي : نسلكُ الذكر ، إما حالاً من المصدر المقدَّر ، والهاء في " نَسْلكُهُ " يجوز عودها للذكر ، وهو الظاهر ، وقيل : يعود للاستهزاء ، وقيل : على الشركِ . والهاء في " بِهِ " يجوز عودها على ما تقدم من الثَّلاثة ، ويكون تأويلُ عودها على الاستهزاء والشرك ، أي : لا يؤمنون بسببه . وقيل : للرسول صلوات الله وسلامه عليه وقيل : للقرآن . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكون حالاً ، أي : لا يؤمنون مستهزئين " كأنه جعل " بِهِ " متعلقاً بالحالِ المحذوفة قائمة مقامها . وهو مردودٌ ، لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلة أو خبراً ، تعلَّق بكون مطلق لا خاصِّ ، وكذا الظرف . ومحل " لا يُؤمِنُونَ " النَّصب على الحالِ ، ويجوز ألاَّ يكون لها محلٌّ ؛ لأنها بيان لقوله { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } ، وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } استئنافٌ ، والسَّلكُ : الإدخال ، يقال : سَلكْتُ الخَيْطَ في الإبْرةِ ، والرُّمحَ في المَطْعُونِ ومنه { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] . قال أبو عبيدة ، وأبو عبيد : يقال : سَلكْتهُ وأسْلَكتهُ ، أي : نظمته ، قال : [ الوافر ] @ 3268ـ وكُنْتُ لِزازَ خَصْمكَ لَمْ أعَرِّدْ وقَدْ سَلكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ @@ وقال الآخر في " أسْلكَ " : [ البسيط ] @ 3269ـ حتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدةٍ شَلاًّ كَمَا تَطْردُ الجَمَّالةُ الشُّردا @@ فصل في المعنى الإجمالي للآية قال الزجاج : المعنى : قد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضَّلال في قلوبهم . وقيل : إنه تهديدٌ لكفار مكة ، أي : قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من القرون الماضية ، والأول أليق بظاهر اللفظ . قوله تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ } الآية ، هذا هو المراد في سورة الأنعام ، في قوله تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } [ الأنعام : 7 ] الآية يعني : أنَّ الذين يقولون : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ } [ الحجر : 7 ] ، فلو أنزلنا الملائكة ، " فظلُّوا فيه " أي : فظلت الملائكة فيها " يَعْرجُونَ " ، وهم يرونها عياناً . و " ظلَّ " هذه الناقصة ، والضمير في " فظَلُّوا " يعود على الملائكةِ ، وهو الصحيح وقال الحسن رضي الله عنه ـ : يعود على الكفَّار المفتح لهم الباب . وقرأ الأعمش ، وأبو حيوة " يَعْرجُونَ " بكسر الراء ؛ وهي لغةُ هذيل في عَرَجَ : يَعْرِجُ ، أي : صعد . قوله : { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } قرأ ابن كثير : " سُكِرَتْ " مبنياً للمفعول ، مخفَّف الكاف ، وباقي السبعة كذلكـ إلا أنهم شدَّدوا الكاف ، والزهري : بفتح السين ، وكسر الكاف خفيفة مبنياً للفاعل . فأما القراءة الأولى : فيجوز أن تكون بمعنى المشددة ؛ فإن التخفيف يصلح للقليل والكثير ، وهما مأخوذتان من : السِّكر ، بكسر السين ، هو السَّدُّ . والمعنى : حُبِسَتْ أبصارنا ، وسُدَّت ، وقيل : بمعنى : أخذت ، وقيل : بمعنى : سُحِرَت ، وقيل المشدد من : سَكِرَ الماءُ بالكسر ، والمخفف من سَكُرَ الشَّراب بالضم . والمشهور أن " سَكِرَ " لا يتعدى فكيف بُنِي للمفعول ؟ . فقال أبو علي : " ويجوز أن يكون سمع متعدِّياً في البصر " . والذي قاله المحقِّقون من أهل اللغةِ : أنَّ " سَكِر " إن كان من : " سَكِرَ الشَّرابُ ، أو مِنْ سَكِرَ الرِّيحُ " فالتضعيف فيه للتعدية ، وإن كان من " سَكِرَ الماءً " فالتضعيف فيه للتكثير ؛ لأنه متعد مخفَّفاً ، وذلك أنه يقال : سَكرَت الرِّيحُ تَسْكرُ سَكْراً ، إذا رَكدَت ، وسَكِرَ الرَّجلُ منَ الشِّرابِ سَكْراً ، إذا رَكَدَ ، ولم ينقد لحاجته . فهذان قاصران فالتضعيف فيها للتعدية ، ويقال : سَكِرتُ الماء في مجاريه : إذا منعتهُ من الجَرْي ، فهذا متعدِّ ، فالتضعيف فيه للتكثير . وأما قراءةٌ ابن كثير : فإن كانت من " سَكِرَ الماءُ " فهي واضحةٌ ؛ لأنه متعدِّ ، وإن كانت من " سَكُرَ الشَّرابُ أو سَكِرَ الرِّيحُ " فيجوز أن يكون الفعل استعمل لازماً تارة ، ومتعدياً أخرى ، نحو : " رَجَعَ زيْدٌ ، ورَجَعه غَيْرُه ، وسَعِدَ وسَعِدَه غَيْرُه " وقال الزمخشريُّ : " وسُكِّرَتْ : حُيِّرت أو حبست من السَّكرِ أو السُّكر ، وقرىء : " سُكرَتْ " بالتخفيف ، أي : حُبسَتْ كمَا يُحْبَسُ المُهْرُ عنِ الجري " ، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين ، وقراءة التخفيف محتملة لمعنى واحدٍ . وأما قراءة الزهريِّ ، فواضحةٌ ، أي : غطيت ، وقيل : هي مطاوع : أسْكرتُ المكان فَسَكرَ : أي : سَددْتهُ فانْسَدَّ . { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } ، أي عمل فينا السِّحْرُ ، وسحرنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكِّين في وجود ما يشهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ؛ ولو جاز حصول الشكِّ في ذلك ، كانت السَّفسطةٌ لازمة ، ولا يبقى حينئذٍ اعتمادٌ على الحس والمشاهدة ؟ . أجاب القاضي رحمه الله ـ : بأنه تعالى ما وصفهم بالشكِّ فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسانُ على الكذب على سبيل العنادِ والمكابرة ، ثم سأل نفسه ، أيصحُّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات ؟ . وأجاب : بأنه يصحُّ ذلك ، إذا جمعهم عليه غرضٌ صحيحٌ معتبر من مواطأةٍ على دفع حجَّةٍ أو غلبة خصم ، وأيضاً : فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين ، سألُوا الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكةِ ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساءِ القوم ، وكانوا قليلي العددِ ، وإقدامُ العددِ القليلِ على ما يجري مجرى المكابرة ، جائزٌ . قوله : " فظلُوا " يقال : ظلّ فُلانٌ نَهارهُ يفعل كذا : إذا فعلهُ بالنَّهارِ ، ولا تقول العربُ : " ظَلّ يَظَلّ " إلاَّ لكلِّ عملٍ بالنهارِ ؛ كما لا يقولون : بَاتَ يَبِيتُ إلا بالليل ، والمصدر الظُّلُول . والعُروجُ : الصُّعودُ ، يقال : عَرَج يَعْرجُ عُرُوجاً ، ومنه : المَعَارجُ ، وهي المصاعدُ التي يصعد عليها . فإن قلنا : إن الضمير في : " فَظلُّوا " للملائكة ، فقد تقدم بيانه ، وإن قلنا : يعود على المشركين ، فقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما ـ : " فظلَّ المشركون يصعدون في تلك المعارج ، وينظرون إلى ملكوتِ الله سبحانه وتعالى وقدرته ، وسلطانه ، وإلى عباده ، وملائكته عليهم السلام لشكُّوا في تلك الرؤية ، وأصرُّوا على جهلهم وكفرهم ؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاقِ القمرِ ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنُّ والإنس أن يأتوا بمثله " .