Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 1-9)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { الۤرَ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } تقدَّم نظير { تِلْكَ آيَاتُ } أول الرعد ، والإشارة بـ " تِلْكَ " إلى ما تظمنته السورة من الآيات ، ولم يذكر الزمشخريُّ غيره . وقيل : إشارة إلى الكتاب السالف ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والمعنى : تلك آياتُ ذلك الكتاب الكامل في كونه كتاباً ، وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان . والمراد بـ " الكِتَابِ " والـ " قُرآن المبينِ " : الكتاب الذي وعد به محمد صلوات الله وسلام عليه ـ ، أي : مبين الحلال من الحرامِ ، والحقَّ من الباطل . فإن قيل : لِمَ ذكر الكتاب ، ثم قال : " وقُرْءَانٍ " ، وكلاهما واحدٌ ؟ . قيل : كلُّ واحدٍ يفيد فائدة أخرى ؛ فإنَّ الكتاب ما يكتبُ ، والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض . وقيل : المراد بـ " الكِتَابِ " التَّوراةُ والإنجيلُ ، فيكون اسم جنسٍ ، وبالـ " قرآن " : هذا الكتاب . قوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ } في " رُبَّ " قولان : أحدهما : أنها حرف جرٍّ ، وزعم الكوفيُّون ، وأبو الحسنِ ، وابنُ الطَّراوة : أنها اسمٌ ، ومعناها : التَّقليلُ على المشهور . وقيل : تفيد التكثير في مواضع الافتخار ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3253ـ فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهوْتَُ ولَيْلةٍ بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثَالِ @@ وقد أجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النَّظير . وفيها سبعة عشرة لغة وهي : " رُبَّ " بضمِّ الراءِ وفتحها كلاهما مع تشديد الباء ، وتخفيفها ، فهذه أربع ، ورويت بالأوجه الأربعة ، مع تاء التأنيث المتحركة ، و " رُب " بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء ، و " رُبُّ " بضم الراء والباء معاً مشددة ومخففة ، و " رُبَّت " . وأشهرها : " رُبَّ " بالضم والتشديد والتخفيف ، وبالثانية قرأ عاصمٌ ونافعٌ وباتصالها بتاء التأنيث ، قرأ طلحة بن مصرف ، وزيد بن علي : " رُبَّتما " ، ولها أحكام كثيرة : منها : لزوم تصديرها ، ومنها تنكير مجرورها ؛ وقوله : [ الخفيف ] @ 3254ـ رُبَّما الجَاملِ المُؤبل فِيهمْ وعَناجيجُ بَينهُنَّ المَهارِي @@ ضرورة في رواية من جرَّ " الجَاملِ " . ويجر ضمير لازم التفسير بعده ، ويستغنى بتثنيتها وجمعها ، وتأنيثها عن تثنية الضمير ، وجمعه ، وتأنيثه ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 3255ـ … ورُبَّهُ عَطِباً أنْقَذْتَ مِنْ عَطَبِهْ @@ والمطابقة ؛ نحو : ربَّهُما رجُلَيْنِ ، نادر ، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره ، نحو : رُبَّ رجُلٍ وأخيه ، وهل يلزم وصف مجرورها ؛ ومضيُّ ما يتعلق به على خلاف ، والصحيح عدم ذلك ؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند : [ مجزوء الكامل ] @ 3256ـ يَا رُبَّ قائلةٍ غَداً يَا لَهْفَ أم مُعاوِيَه @@ ومن مجيء المستقبل ، قوله : [ الوافر ] @ 3257ـ فَإن أهْلِكَ فرُبَّ فتًى سَيَبْكِي عَليَّ مُهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ @@ وقول هند : [ مجزوء الكامل ] @ 3258ـ يَا رُبَّ قَائلةٍ غَداً … @@ وقول سليم : [ الطويل ] @ 3259ـ ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ @@ فإن حرف التنفيس ، و " غداً " خلَّصاه للاستقبال . و " رُبَّ " تدخل على الاسم ، و " رُبَّما " على الفعل ، ويقال : ربَّ رجُلٍ جَاءنِي ، ورُبَّما جَاءنِي . و " ما " في " رُبمَا " ، تحتمل وجهين : أظهرهما : أنها المهيئة ، بمعنى أنَّ " رُبَّ " مختصة بالأسماءِ ، فلما جاءت هنا " ما " هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [ يونس : 27 ] في " إنَّ " وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل ؛ كقوله : [ الخفيف ] @ 3260ـ رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّل فِيهِمْ … @@ في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه . والثاني : أنَّ " مَا " نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها ، والعائد على " ما " محذوف تقديره : ربَّ شيء يوده الذين كفروا ، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها ، لم يحتج إلى تأويل ، ومن التزم ذلك قال : لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة ، فعبَّر عنه بالماضي ، تحقيقاً لوقوعه ؛ كقوله تعالى : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] ونحوه . قوله : " لَوْ كَانُوا " يجوز في " لَوْ " وجهان : أحدهما : أن تكون الامتناعيَّة ، وحينئذ ، يكون جوابها محذوفاً ، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه ، ومفعول " يوَدُّ " محذوف على هذا التقدير ، أي : ربما يودُّ الذين كفروا النجاة ، دلَّ عليه الجملة الامتناعية . والثاني : أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك ، كما تقدم تقريره في البقرة [ البقرة : 96 ] ؛ وحينئذٍ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة ، أي : يودُّون كونه مسلمين ، إن جعلنا " ما " كافة ، وإن جعلناها نكرة ، كانت " لَوْ " وما في حيِّزها بدلاً من " مَا " . فصل المعنى : يتمنَّى الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها . قال الضحاك : حال المعاينة . وقيل : يوم القيامة . والمشهور : أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار . روى أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ : ألَسْتُم مُسْلمينَ ؟ قالوا : بَلى ، قالوا : فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم ، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ ، قالوا : كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا ، [ فيغفر ] الله لَهُمْ ، بِفضْلِ رَحْمتهِ ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار ، فيَخْرجُونَ مِنْهَا ، فحينئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ " . فإن قيل : " رُبمَا " للتقليل ، وهذا التَّمني يكثر من الكفار . فالجواب : أنَّ " رُبمَا " يراد بها التكثير ، والمقصود إظهار الترفع ، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض ؛ فيقولون : ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ ، قال : [ البسيط ] @ 3261ـ أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ … @@ وقيل : التقليل أبلغ في التهديد ، والمعنى : أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل ، فكيف كثيره ؟ . وقيل : إنَّ شغلهم بالعذاب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً . فإن قيل : إذا كان أهل القيامةِ ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال ، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه ، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ . فالجواب : أحوالُ أهل الآخرةِ ، لا تقاس بأحوال الدنيا ؛ فإن الله تعالى يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه ، وينزع عن قلوبهم الحسد ، وطلب الزياداتِ ؛ كما قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الحجر : 47 ] . قوله تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } [ الحجر : 3 ] الآية ، أي دعْ يا محمد ، الكفَّار يأخذوا حظوظهم من دنياهم ، فتلك خلاقهم ، ولا خلاق لهم في الآخرةِ ، { وَيُلْهِهِمُ } يشغلهم " الأملًُ " عن الأخذ بحظِّهم من الإيمان والطَّاعة ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } إذا [ وردوا ] القيامة ، وذاقوا وبال [ صنعهم ] وهذا تهديدٌ ووعيدٌ . وقال بعض العلماء : " ذَرْهُمْ " ، تهديدٌ ، و { سَوْفَ يَعْلَمُونَ } ، تهديدٌ آخر ، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين ؟ ! والآية نسختها آية القتالِ . قوله : " وذَرْهُمْ " ، هذا الأمرُ لا يستعمل له ماضٍ إلا قليلاً ؛ استغناءً عنه بـ " تَرَكَ " ، بل يستعمل منه المضارع نحو : { وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] ، ومن مجيء الماضي قوله عليه الصلاة والسلام " ذَرُوا الحَبشَة ما وَذَرتْكُم " ، ومثله : دَعْ ويَدَعْ ، ولا يقال : ودَعَ إلا نادراً ، وقد قرىء : { مَا وَدَّعَكَ } [ الضحى : 3 ] مخففاً ؛ وأنشدوا : [ الرمل ] @ 3262أ سَلْ أمِيري مَا الذي غَيَّرهُ عَنْ وصَالِي اليَوْمَ حتَّى وَدَعهْ ؟ @@ و " يَأكلُوا " مجزومٌ على جواب الأمر ، وقد تقدم [ البقرة : 17 ، 278 ] أنَّ " تَرَكَ " و " وَذرَ " يكونان بمعنى " صيَّر " ، فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفاً ، أي : ذرهُم مهملين . قوله تعالى : { وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ } ، يقال : لهيتُ عن الشَّيء ألهي لُهِيَّا ؛ جاء في الحديث : أنَّ ابن الزبير رضي الله عنه كان إذا سمع صوت الرَّعدِ لَهِيَ عن الحديث . قال الكسائيُّ ، والأصمعيُّ : كلُّ شيءٍ تركتهُ ، فقد لهيتهُ ؛ وأنشد : [ الكامل ] @ 3262ب صَرمتْ حِبالَكَ فالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ @@ أي : اتركها ، وأعرض عنها . فصل في سبب شقاء العبد قال القرطبي : أربعةٌ من الشقاءِ ؛ جمودُ العين ، وقساوة القلبِ ، وطُولُ الأملِ ، والحرصُ على الدُّنيا . فطُول الأملِ : داء عضالٌ ، ومرض مزمن ، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه ، واشتدَّ علاجه ، ولم يفارقه داءٌ ، ولا نجع فيه دواء ، بل أعيا الأطبَّاء ، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء . وحقيقة الأمل : الحرص على الدنيا ، والانكباب عليها ، والحبُّ لها ، والإعراض عن الآخرة ، قال صلوات الله وسلامه عليه ـ : " نَجَا أوَّلُ هذهِ الأمَّة باليَقِينِ والزُّهْدِ ، ويهْلِكُ آخِرُهَا بالبُخْلِ والأمَلِ " . وقال الحسن : ما أطال عبدٌ الأمل ، إلا أساء العمل . قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } ، أي : من أهل قرية ، { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ } فيه أوجه : أظهرها : أنها واو الحال ، ثم لك اعتباران : أحدهما : أن تجعل الحال وحدها الجارَّ ، ويرتفع " كِتَابٌ " به فاعلاً . والثاني : أن تجعل الجارَّ مقدماً ، و " كِتَابٌ " مبتدأ ، والجملة حالٌ ، وهذه الحال لازمةٌ . الوجه الثاني : أنَّ الواو مزيدة ، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة : " إلاَّ لَهَا " بإسقاطها ، والزيادة ليست بالسهلةِ . الثالث : أن الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة ؛ تأكيداً ، قال الزمخشريُّ : والجملة واقعة صفة لـ " قَرْيَةٍ " ، والقياس : ألاَّ تتوسط هذه الواو بينهما ؛ كما قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسَّطت ، لتأكيد لصُوقِ الصفة بالموصوف ؛ كما تقول : " جَاءنِي زيْدٌ عليْهِ ثَوبهُ ، وجَاءنِي وعليْهِ ثوْبهُ " . وقد تبع الزمخشري في ذلك أبا البقاء ، وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله : { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] . قال أبو حيَّان رحمه الله ـ : " ولا نعلم أحداً قاله من النَّحويين " . قال شهاب الدين : " وفي محفوظِي أنَّ ابن جنّي سبقهما إلى ذلك " . ثم قال أبو حيان : " وهو مبنيٌّ على جواز أنَّ ما بعد " إلاَّ " يكون صفة ؛ وقد منعوا ذلك " . قال الأخفش : لا يفصل بين الصفة والموصوف بـ " إلا " ، ثم قال : وأما نحو : " مَا جَاءَنِي رجُلٌ إلاَّ راكِبٌ " على تقدير : إلاَّ رجلٌ راكبٌ ، ففيه قُبْح ؛ لجعلك الصفة كالاسم . وقال أبو علي : تقول ما مررتُ بأحَدٍ إلاَّ قائماً ، وقائماً حالٌ ، ولا تقول : إلاَّ قائمٌ ؛ لأنَّ " إلاَّ " لا تعترض بين الصِّفة والموصوف . قال ابن مالكٍ : وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله " مَا مَررْتُ بأحَدٍ إلاَّ زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ " : إنَّ الجملة بعد " إلاَّ " صفة لـ " أحَدٍ " ـ : إنه مذهبٌ لا يعرف لبصريِّ ، ولا كوفي فلا يلتفت إليه ، وأبطل قوله : " إنَّ الواو توسَّطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف " . قال شهابُ الدين رحمه الله ـ : قولُ الزمخشريِّ قويٌّ من حيث القياس ؛ فإنَّ الصفة في المعنى كالحال ، وإن كان بينهما فرقٌ من بعض الوجوه . فكما أنَّ الواو تدخل على الجملة الواقعة حالاً ؛ كذلك تدخل عليها واقعة صفة ، ويقويه أيضاً [ نصره ] به من الآية الأخرى في قوله : { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] . ويقويه أيضاً ـ : قراءة ابن أبي عبلة المتقدمة ، وقال منذرُ بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ ، هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو ، ومنه قوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] . فصل لما توعد مكذِّبي الرسل بقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } الآية أتبعه بما يؤكد الزجر ، وهو قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } في الهلاك والعذاب ، أي : أجلٌ مضروبٌ ، لا يتقدم العذاب عليه ، ولا يتأخر عنه ، والمراد بهذا الهلاك : عذاب الاستئصال ، وقيل : الموتُ . قال القاضي : والأول أقرب ؛ لأنه أبلغ في الزَّجر ، فبيَّن تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترَّ به العاقل . وقيل : المراد بالهلاك مجموع الأمرين . قوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } " مِنْ أمةٍ " فاعل " تَسْبِقُ " ، و " مِنْ " مزيدة للتأكيد ؛ كقولك : ما جَاءنِي من أحَدٍ . قال الواحدي : " وقيل : ليست بزائدةٍ ؛ لأنَّها تفيد التبعيض ، أي : هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة ، فيكون ذلك في إفادة عموم النَّفي ، آكد " . قال الزمخشري : " معنى : " سَبَقَ " : إذا كان واقعاً على شخصٍ ، كان معناه أنَّه [ جاز ] ، وخلف ؛ كقولك : سَبَقَ زيدٌ عمْراً ، أي : جَاوزَهُ وخَلفهُ وراءهُ ، ومعناه : أنه قصَّر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعاً على زمانٍ ، كان بالعكس في ذلك ، كقولك : سَبق فُلانٌ عام كذا ، معناه : أنه مضى قبل إتيانه ، ولم يبلغه ، فقوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } معناه : أنه لا يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده ، وإنَّما يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده ، وإنَّما يحصل في ذلك الوقت بعينه " . وحمل على لفظ " أمَّةٍ " في قوله : " أجَلهَا " ، فأفرد وأنَّث ، وعلى معناها في قوله : { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } ، فجمع وذكَّر ، وحذف متعلق " يَسْتَأخِرُون " وتقديره : عنه ؛ للدلالة عليه ، ولوقوعه فاصلاً . وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل من مات أو قتل ، فإنما مات بأجله ، وأنَّ من قال : يجوز أن يموت قبل أجله مخطىء . قوله : " وقَالُوا " ، يعنى مشركي مكَّة { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ } ، أي : القرآن ، وأراد به محمداً صلى الله وعليه وسلم . والعامة على : " نُزِّلَ " مشدَّداً ، مبنيًّا للمفعول ، وقرأ زيد بن علي : " نَزلَ " ، مخفَّفاً مبنيًّا للفاعل . { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } وذكروا نزول الذِّكر ؛ استهزاء ، وإنما وصفوه بالجنون ، إما لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يظهر عليه عند نزول الوحي ، حالةٌ شبيهةٌ بالغشي ؛ فظنُّوا أنَّها جنونٌ ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } [ الأعراف : 184 ] . وإما لأنهم كانا يستبعدون كونه رسولاً حقًّا من عند الله ؛ لأن الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره ، فربما قال : به جنون . قوله : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ } ، " لَوْ مَا " : حرف تحضيضٍ ؛ كـ " هَلاًّ " ، وتكون أيضاً حرف امتناع لوجودٍ ، وذلك كما أنَّ " لولا " متردِّدةٌ بين هذين المعنيين ، وقد عرف الفرق بينهما ، وهو أنَّ التحضيضيَّة لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3263ـ … لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا @@ والامتناعية لا يليها إلا الأسماء : لفظاً أو تقديراً عند البصريين . وقوله : [ الوافر ] @ 3264ـ ولَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً لمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالِي @@ مؤولٌ ؛ خلافاً للكوفيين . فمن مجيء " لَوما " حرف امتناعٍ قوله : [ البسيط ] @ 3265ـ لَوْمَا الحيَاءُ ولَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكمَا بِبعْضِ ما فِيكُمَا إذْ عِبْتُما عَورِي @@ واختلف فيها : هل هي بسيطة أم مركبة ؟ . فقال الزمخشري : " لَوْ " ركبت مع " لا " ، ومع " مَا " ؛ لمعنيين ، وأمَّا " هَلْ " فلم تركَّب إلاَّ مع " لا " وحدها ؛ للتحضيض . واختلف أيضاً في " لَوْمَا " هل هي أصلٌ بنفسها ، أم فرعٌ على " لَوْلاَ " وأنَّ الميم مبدلة من اللام ، كقولهم : خاللته ، خالمته ، فهو خِلِّي وخِلْمِي ، أي : صديقي . وقالوا : استولى على كذا ، [ واسْتَوَى ] عليه ؛ بمعنًى ، خلاف مشهور ، وهذه الجملة من التحضيض ، دالةٌ على جواب الشرط بعدها . فصل في معنى الآية المعنى : لو كنت صادقاً في ادَّعائك النُّبوَّة ، لأتيتنا بملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدَّعيه من الرسالة ؛ ونظيره قوله تعالى في الأنعام : { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ } [ الأنعام : 8 ] ويحتمل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا خوَّفهُم بنزول العذاب ، قالوا : لو ما تأتينا بالملائكة الذين ينزلون العذاب ، وهو المراد من قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ } [ العنكبوت : 53 ] . ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم بقوله : { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } فإذا كان المراد الأول ، كان تقرير الجواب : أنَّ إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحقِّ ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار ، أنه لو أنزل عليهم ملائكة ، لبقوا مصرِّين على كفرهم ، فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ، ولا يكون حقًّا ، فلهذا السبب ما أنزل الله تعالى الملائكة . قال المفسرون : المراد بالحق هنا الموت ، أي : لا ينزلون إلا بالموتِ ، أو بعذابٍ الاستئصال ، ولم يبق بعد نزولهم إنظارٌ ، ولا إمهال ، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة ؛ فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة ، وإن كان المراد استعجالهم بنزول العذاب فتقرير الجواب : أنَّ الملائكة لا تنزل إلاَّ بعذاب الاستئصال ، ولا تفعل بأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ بل يمهلهم لما علم من إيمان بعضهم ، ومن إيمان أولاد الباقين . قوله : { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ } ، قرأ أبو بكر رضي الله عنه ـ : " ما تُنزَّلُ " بضمِّ التاء ، وفتح النون ، والزاي مشدَّدة ، مبنيًّا للمفعول ، " المَلائِكةُ " : مرفوعاً لقيامه مقام فاعله ، وهو موافقٌ لقوله تعالى : { وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] ؛ لأنها لا تنزل إلاَّ بأمر من الله تعالى فغيرها هو المنزِّلُ لها ، وهو الله تعالى ـ . وقرأ الأخوان ، وحفص : بضمِّ النون الأولى ، وفتح الثانية ، وكسر الزاي مشددة مبنيًّا للفاعل المعظم نفسه وهو الباري جل ذكره ـ . " المَلائِكةَ " ، نصباً : مفعول به ؛ وهو موافق لقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ } [ الأنعام : 111 ] ، ويناسب قوله قبل ذلك : " ومَا أهْلَكْنَا " ، وقوله بعده : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] ، وما بعده من ألفاظ التَّعظيم . والباقون من السبعة ما تنزَّلُ بفتح التاء والنون والزاي مشددة ، و " المَلائِكةُ " مرفوعة على الفاعلية ، والأصل : تَتنَزَّلُ ، بتاءين ، فحذفت إحداهما ، وقد تقدم تقريره في : { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، ونحوه ، وهو موافق لقوله سبحانه وتعالى : { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا } [ القدر : 4 ] . وقرأ زيد بن علي : " مَا نَزلَ " مخففاً مبنيًّا للفاعل ، و " الملائكةُ " مرفوعة على الفاعلية ، وهو كقوله : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] . قوله : { إِلاَّ بِٱلحَقِّ } يجوز تعلقه بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : متلبسين بالحق ، وجعله الزمخشري رحمه الله نعتاً لمصدر محذوف ، أي : إلاَّ تنزُّلاً ملتبساً بالحقِّ . قوله " إذَنْ " قال الزمخشري : " إذَنْ حرف جواب وجزاء ؛ لأنها جواب لهم ، وجزاء الشرط مقدر ، تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين ، وما أخر عذابهم " . قال صاحب النظم : " لفظة " إذَنْ " مركبة من " إذْ " ، وهو اسم بمنزلة " حِينَ " ؛ تقول : أتيتك إذْ جِئْتنِي ، أي : حِينَ جِئْتنِي ، ثم ضم إليه " إنْ " فصار : ِإذْ أنْ ، ثم استثقلوا الهمزة ؛ فحذفوها ، فصار " إذَنْ " ، ومجيء لفظة " أنْ " دليل على إضمار فعلٍ بعدها ، والتقدير : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا " . قوله : " نَحْنُ " إما مبتدأ ، وإما تأكيدٌ ، ولا يكون فصلاً ؛ لأنه لم يقع بين اسمين ، والضمير " لَهُ " للذكر ، وهو الظاهرُ ، وقيل : للرسول صلوات الله وسلامه عليه قاله الفراء ، وقوَّاه ابن الأنباري ، قال : لما ذكر الله الإنزال ، والمنزل ، دلَّ ذلك على المنزل عليه ، فحسنت الكناية عنه ؛ لكونه أمراً معلوماً ، كما في قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] فإنَّ هذه الكناية عائد على القرآن ، مع أنه لم يتقدم ذكره ؛ وإنما حسنت الكناية لسبب معلوم ، فكذا هاهنا ، والأول أوضحُ " . فإذا قلنا : الكناية عائدة إلى القرآن ، فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن ؟ . فقيل : بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر يعجز الخلق عن الزيادة ، والنقصان فيه ، بحيث لو زادوا فيه أو نقصوا عنه ، يغير نظم القرآن . وقيل : صانه ، وحفظه من أن يقدر أحدٌ من الخلق على معارضته . وقيل : قيَّض جماعة يحفظونه ، ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاءِ التكليفِ . وقيل : المراد بالحفظِ : هو أنَّه لو أنَّ أحداً حاول بتغيير حرفٍ أو نقطةٍ ، لقال له أهل الدنيا : هذا كذب ، وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتَّفق له لحنٌ أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى ـ ، لقال له كل الصبيان : أخطأت أيُّها الشيخ ، واعلم أنه لم يتفق لشيءٍ من الكتب مثل هذه الحفظ ؛ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف ، والتحريف ، والتغيير ، إما في الكثير منه ، أو في القليل ، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التَّحريف ، مع أنَّ دواعي الملاحدة ، واليهود ، والنصارى ، متوفرة على إبطاله وإفساده ، فذلك من أعظم المعجزات . فإن قيل : لم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف ، وقد وعد الله عز وجل بحفظه وما حفظ الله عز وجل فلا خوف عليه ؟ . فالجواب : أنَّ جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه ، فإنه تعالى لما أراد حفظه ، فيَّضهُم لذلك ، وفي الآية دلالةٌ قويةٌ على كون البسملةِ آية من كل سورة ؛ لأن الله تبارك وتعالى قد وعد بحفظ القرآن ، والحفظُ لا معنى له إلاَّ أن يبقى مصُوناً عن التغيير وعن الزيادة ، وعن النقصان فلو لو تكن التسمية آية من القرآن ، لما كان مصوناً من التغيير والزيادة ، ولو جاز أن يظنَّ بالصحابة رضي الله عنهم أنهم زادوا ، لجاز أيضاً أن يظنَّ بهم النقصان ؛ وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجَّة ، وهذا لا دليل فيه ؛ لأن أسماء السور أيضاً مكتوبةٌ معهم في المصحف ، وليست من القرآن بالأجماع .