Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 26-44)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ } الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد ؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوَّل لها ، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوَّل ، هو أولُ الحوادث ، وإذا كان كذلك ، وجب انتهاءُ الناس إلى إنسانٍ هو أول الناس ، وذلك الإنسان الأول ، غير مخلوقٍ من الأبوين ؛ فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى ـ . فقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، وأجمع المفسرون على أن المراد آدمُ صلوات الله وسلامه عليه ـ . ونقل في كتب الشِّيعة ، عن محمد بن علي الباقر ، أنَّه قال : قد انقضى قبل آدم صلوات الله عليه الذي هو أبونا ألف ألف آدم ، أو أكثر . قال ابنُ الخطيب رحمه الله ـ : " وهذا لا يقدحُ في حدوث العالم ، بل الأمر كيف كان لا بدَّ من الانتهاء إلى إنسانٍ أول ، هو أول الناس ، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم ، فلا طريق له إلاََّ من جهة السمع " . واعلم أنه تعالى قال : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، وقال هاهنا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ، فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً ، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً ، ثم خلقه منه ، وتركه حتى جفّ ، ويبس وصار له صلصلة . واعلم أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس أراد ، بل هو قادرٌ على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه ؛ إما لمحض المشيئة ، أو لما فيه من دلالة الملائكة ؛ لأنَّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلقِ الشَّيءِ من جنسه . وسمِّي إنساناً : إما لظهوره وإدراك البصر إياه ، وإمَّا من النسيان ؛ لأنه عهد إليه فنسِي . عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : بعث الله تعالى جِبْريلَ عليه السلام إلى الأرض ؛ ليأتيه بطينٍ منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص منِّي ؛ فرجع ولم يأخذ ، فقال يا ربِّ : أنها عاذتْ بك ، فأعذتها ، فبعث ميكائيل صلوات الله عليه فعاذت منه ، فأعاذها ؛ فرجع ، فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموتِ ، فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذُ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخلطه ، ولم يأخذ من مكان واحدٍ ، وأخذ من تربةٍ حمراء ، وبيضاء ، وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين . وسُمِّي آدم ؛ لأنه خلق من أديم الأرض ، وصعد به ، فقال الله تبارك وتعالى : " أما رَحِمْتَ الأرض حين تضرعت إليك " ؟ فقال : رأيتُ أمرك وأوجب من قولها ، فقال جل ذكره ـ : أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طيناً لازباً ، وهو يلتصقُ بعضه ببعضٍ ، ثم ترك ، حتى أنتن ، وصار حمأ مسنوناً ، وهو المنتنُ . ثم قال للملائكة : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } ، فخلقه الله بيده ؛ لئلا يتكبَّر إبليس عليه ، لقول الله تعالى : أتتكبَّر على ما علمت بيدي ، ولم أتكبر أنا عليه ؟ . فخلقه فكان جسداً من طينٍ أربعين عاماً ، فلما رأتهُ الملائكة ، فزعوا منه ، وكان أشدَّهم منه فزعاً إبليسُ فكان يمرُّ به ، فيضربه ؛ فيصوتُ الجسدُ كما يصوتُ الفخَّار ، وتكون له صلصلةٌ ؛ فذلك قوله : { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } [ الرحمن : 14 ] ، ويقول : لأمر ما خلقت ! ويدخل في فيه ، ويخرج من دبره ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه ؛ فإنه أجوف ، ولئن سُلِّطت عليه ، لأهلكنَّه ، فلمَّا نفخ فيه الروح ، ووصل إلى رأسه ، عطس ، فقالت الملائكة عليه السلام ـ : قُل : الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربُّك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت الروحُ جوفه ، اشتهى الطعام ؛ فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه ؛ عجلان إلى ثمار الجنَّة ، فذلك قوله تعالى : { خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] . قوله تعالى : { مِن صَلْصَالٍ } ، " مِنْ " : لابتداء الغاية ، أو للتبعيض ، والصلصالُ : قال أبو عبيدة , هو الطين المختلط بالرمل ، ثم يجفُّ ؛ فيسمع له صلصلةٌ ، أي : تصويت ، قال : والصلصلةُ : الصَّوتُ ؛ وأنشدوا : [ الكامل ] @ 3275ـ شَرِبَتْ أسَاوِيُّ القُطاةِ مِنَ الكَدرْ وسَرَتْ فَتَرْمِي أحْيَاؤهَا بِصَلاصِلِ @@ أراد : صوتَ أجْنحَةِ أفراخِهَا ، حين تطيرُ ، أو أصواتَ أفراخها . وقال الزمخشريُّ : " الطِّينُ اليابس الذي يُصلصِلُ من غير طبخٍ ، فإذا طبخ ، فهو فخار " . وقال أبو الهيثم : " هو صوتُ اللِّجامِ ، وما أشبهه ؛ كالقعقعة في الثوب " . وقال الزمخشري أيضاً ـ : قالوا : إذا توهَّمت في صوته مدًّا ، فهو صليلٌ ، وإن توهمت فيه خفاءً ، فهو صلصلةٌ ، وقيل : هو من تضعيف " صَلَّ " ، إذا أنتن انتهى . و " صَلْصَالٍ " هنا ، بمعنى مُصَلْصِل ؛ كزَلْزالٍ ، بمعنى مُزَلْزِل ، ويكون " فَعْلال " أيضاً مصدراً ، ويجوز كسره أيضاً ، وفي وزن هذا النَّوع ، أي : ما تكررت فاؤه ، وعينه خلافٌ . فقيل : وزنه : فَعْفَع ؛ كُرِّرتِ الفاء والعين ، ولا لام للكلمة ؛ قاله الفراء ، وغيره . وهو غلطٌ ؛ لأنَّ أقلَّ الأصول ثلاثة : فاءٌ ، وعينٌ ، ولامٌ . والثاني : أنَّ وزنه " فَعْفَل " ؛ وهو قول الفرَّاء . الثالث : أنه " فَعَّل " بتشديد العين ، وأسله " صَلَّل " فلما اجتمع ثلاثة أمثالٍ ، أبدل الثاني من جنس فاء الكلمة ، وهو مذهب كوفيٌّ ، وخصَّ بعضهم هذا الخلاف ، بما إذا لم يختل المعنى ، بسقوطِ الثالث ، نحو " لَمْلَمَ " و " كَبْكَبَ " فإنَّك تقول فيهما : " لَمَّ " ، و " كَبَّ " ، فلو لم يصحَّ المعنى بسقوطه ؛ نحو : " سَمْسَمَ " ، قال : فلا خلافَ في أصالة الجميع . قوله تعالى : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } فيه وجهان : أحدهما : أنه في محلِّ جر صفة لـ " صَلْصَالِ " ؛ فيتعلق بمحذوف . والثاني : أنه بدل من " صَلْصالٍ " بإعادة الجارِّ . والحَمَأ : الطِّينُ الأسودُ المنتنُ . قال الليث رحمه الله ـ : واحده " حَمَأة " بتحريك العين جمعله اسم جنسٍ ؛ وقد غلط في ذلك ؛ فإن أهل اللغة قالوا : لا يقال إلاَّ " حَمْأة " [ بالإسكان ] ، ولا يعرف التحريك ؛ نصَّ عليه أبو عبيدة ، وجماعة ؛ وأنشدوا لأبي الأسودِ : [ الوافر ] @ 3276ـ تَجِيءُ بمِلْئِهَا طُوْراً وطَوْراً تَجِيءُ بِحَمْأةٍ وقَلِيلِ مَاءِ @@ فلا يكون " الحَمَأة " واحدة " الحَمْأ " ؛ لاختلاف الوزنين . والمَسْنُون : المَصْبُوب ؛ من قولهم : سَنَنتُ الشَّرابَ ، كأنَّه لِرُطُوبتهِ جعل مَصْبُوباً ، كغيره من المائعات ، فكأن المعنى : أفرغ صورة إنسانٍ ، كما تفرغ الجواهر المذابة . قال الزمخشريُّ : وحقُّ " مَسْنُونٍ " بمعنى مصور : أن يكون صفة لـ " صَلْصالٍ " ؛ كأنه أفرغ الحمَأ ، فصوَّر منه تمثال شخصٍ . يعني أنه يصيرُ التقدير : من صلصالٍ مصوَّرٍ ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصَّريح ؛ إذا جعلنا : " مِنْ حَمَأ " صفة لـ " صَلْصَالٍ " ، أمَّا إذا جعلناه بدلاً منه ؛ فلا . وقيل : مسنونٌ : مصوَّرٌ من سنَّة الوجه ، وهي صورته ؛ قال الشاعر : [ البسيط ] @ 3277ـ تُرِيكَ سُنَّة وجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ … @@ وقال الزمخشريُّ : والمَسْنُونُ : المَحْكُوكُ ، مأخوذٌ من سننت الحجر ، إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سَنَنٌ ولا يكون إلاَّ مُنْتِناً . ومنه يسمَّى المسَن مسَنًّا ؛ لأنَّ الحديد يحكُّ عليه . وقيل : المسنونُ : المنسوب إليه ، والمعنى ينسب إليه ذريته ، وكأن هذا القائد أخذه من الواقع ، وقيل : هو من أسنَّ الماء إذا تغيَّر ، وهذا غلط ؛ لاختلافِ المادتين . رُوِيَ أنَّ الله تعالى خمَّر طينة آدم ، وتركه حتى صار متغيِّراً أسود ، ثم خلق منه آدم صلوات الله وسلامه عليه ـ . قوله : { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ } منصوب على الاشتغال ، ورجَّح نصبه ؛ لعطف جملة على جملة فعليةٍ . والجَّانُّ : أبُو الجنّ ، هو إبليس ؛ كآدم أبي الإنسِ ، وقيل : هو اسمٌ لجنسِ الجن . وقرأ الحسن : " والجَأن " بالهمز ، وقد تقدَّم الكلام في ذلك في أواخر الفاتحة . فصل قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما ـ : الجان أبو الجن ؛ كما أنَّ آدم أبو البشر ، وهو قول الأكثرين . وروي أيضاً عن ابن عباسٍ ، والحسن ، ومقاتل ، وقتادة رضي الله عنهم ـ : هو إبليس ، خلق قبل آدم . وقيل : الجانُّ أبو الجن ، وإبليس أبو الشياطين ، وفي الجنِّ : مسلمون ، وكافرون ، ويحيون ويموتون ، وأما الشيَّاطين ؛ فليس سفهم مسلمون ، ويموتون إذا مات إبليس . وذكر وهبٌ : أنَّ من الجن من يولد له ، ويأكلُونَ ، ويشربون بمنزلة الآدميِّين ، ومن الجن من هم بمنزلةِ الرِّيح : لاتوالدون ، ولا يأكلون ، ولا يشربون . قال ابن الخطيب : " والأصحُّ أن الشياطين قسمٌ من الجن ، فمن كان منهم مؤمنٌ ، فإنه لا يسمَّى بالشيطان ، ومن كان منهم كافرٌ ، سمِّي بهذا الاسم . وسمُّوا جنًّا ؛ لاستتارهم عن الأعين ، ومنه يسمَّى الجنينُ ؛ لاستتاره عن الأعين ، في بطن أمِّه ، والجنَّةُ : ما تَقِي صاحبها ، وتستره ، ومنه سمِّيت الجنة ؛ لاستتارها بالأشجار " . قوله تعالى : { مِن قَبْلِكَ } ، و " مِن نَارٍ " متعلقان بـ " خَلَقْنَاهُ " ؛ لأنَّ الأولى لابتداءِ الغاية ، والثانية للتبعيض ، وفيه دليلٌ على أنَّ " مِنْ " لابتداءِ الغاية في الزمان ، وتأويل البصريين له ، ولنظائره بعيد . فصل قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ : " يريد قبل خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه " . والسَّمومُ : ما يقتل من إفراطِ الحرّ من شمس ، أو ريح ، أو نار ؛ لأنها تدخل المسامَّ فتَقْتلُ . قيل : سُمِّيت سمُوماً ؛ لأنها بلطفها تدخل في مسامِّ البدن ، وهي الخروقُ الخفيَّة التي تكون في جلد الإنسان ، يبرز منها عرقه وبخار بطنه . وقيل : السَّمومُ ما كان ليلاً ، والحرورُ ما كان نهاراً . وعن ابن عباس : نارٌ لا دخان لها . قال أبو صالح : والصَّواعِقُ تكون منها ، وهي نار بين السماء وبين الحجاب ، فإذا أحدث الله أمراً ، خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به ، فالهَدَّةُ التي تسمعون ؛ خرق ذلك الحجاب . وقيل : نار السموم : لهب النَّار . وقيل : نارُ جهنَّم . وروى الضحاك ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما ـ : كان إبليس من جنسِ من الملائكة ، يقال لهم الجن ، خلقوا من نارِ السَّمومِ ، وخلقت الجنُّ الذين ذكروا من مارج من نارِ ، والملائكة خلقوا من نورٍ . وقيل : { مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } من إضافةِ الموصوف لصفته . قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ } الآية ، لما استدلَّ بحدوثِ الإنسان ؛ على وجود الإله القادر المختار ؛ ذلك بعده واقعته ، وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له ، والمراد بكونه بشراً ، أي : جسماً يباشر ويلاقى ، والملائكة ، والجن لا يباشرون ؛ للطف أجسامهم ، والبشرة : ظاهر الجِلدِ مِنْ كُلِّ حيوانٍ ، وتقدَّم ذكر الصلصالِ ، والحَمأ المَسْنُونِ . { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : شكلته بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية . وقيل : سوَّيتُ أجزاء بدنه : باعتدالِ الطَّبائعِ ، وتناسب الأمشاجِ ، نَفخْتُ فيه من روحي ؛ فصار بشراً حيًّا . والرُّوحُ : جسمٌ لطيفٌ ، يحيا به الإنسان ، وقيل : الرُّوحُ : هي الرِّيح ؛ لأنَّ النَّفخ أخذ الريح في تجاويف جسم آخر ؛ فظاهر قوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } يشعر بأنَّ الروح هي الريح ، وإلا لما صحَّ وصفها بالنَّفخ ، وسيأتي بقيةُ الكلام على الروح عند قوله : { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] ، وأضاف روح آدم صلوات الله وسلامه عليه إلى نفسه ، تشريفاً وتكريماً . قوله تعالى : { فَقَعُواْ لَهُ } ، يجوز أن تتعلق اللام بالفعل قبلها ، وأن تتعلق بـ " سَاجِدينَ " . فصل ظاهر قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } يدل على وجوب السجود على الملائكة ؛ لأنه مذكور بفاء التَّعقيب ؛ وذلك يمنعُ التَّراخي . قوله " أجْمَعُونَ " تأكيد ثانٍ ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت ؛ خلافاً لبعضهم . وقال سيبويه : قوله : { كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } " توكيدٌ بعد توكيدٍ " . وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال " فَسجَدَ الملائِكَةُ " احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال : كُلُّهم زال هذا الاحتمال ، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ، ثم بعد هذا بقي احتمال وهو أنَّهم : هل سجدوا دفعة واحدة ؟ أو سجد كل واحدٍ في وقت ؟ . فلما قال : أجْمَعُون ظهر أن الكلَّ سجدوا دفعةً واحدةً . ولما حكى الزجاج هل القول ، عن المبرد ، قال : " وقول الخليل ، وسيبويه أجودُ ؛ لأن " أجْمَعِينَ " معرفةٌ ؛ فلا يكون حالاً " . قال أبو البقاء : " لكان حالاً لا توكيداً " . يعنى أنَّه يفيد إفادة الحال مع أنه توكيدٌ ؛ وفيه نظر ؛ إذ لا منافاة بينهما بالنسبة إلى المعنى ، ألا ترى أنه يجوز : " جاؤوني جَمِيعاً " مع إفادته ، وقد تقدم تحريرُ هذا [ البقرة : 38 ] ، وحكاية ثعلب مع ابن قادم . قوله : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } تقدَّم الكلام على هذا الاستثناء في البقرة . قال القرطبيُّ رحمه الله ـ : " الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي رضي الله عنه ـ ، حتَّى ولو قال له : عليَّ دينارٌ إلا ثوباً ، أو عَشْرة أثْوابٍ ، إلاَّ قفيز حِنطَةٍ ، وما جانس ذلك يكون مقبُولاً ، ويسقط عنه من المبلغ قيمة الثوبِ ، والحِنْطةِ ويستوي في ذلك : المكِيلات ، والمَوزونَات ، والمُقدَّرات " . وقال مالكٌ ، وأبو حنيفة رضي الله عنهما ـ : استثناء المكيل من الموزون ، والموزون من المكيل جائزٌ ؛ حتى لو استثنى الدَّراهم من الحنطةِ ، والحنطة من الدراهم ، قُبِلَ ، أمَّا إذا استثنى المقوَّماتِ من المكيلاتِ ، أو الموزوناتِ ، والمكيلاتِ من المقوماتِ ؛ فلا يصحُّ ؛ مثل أن يقول : له عشرة دنانير إلاَّ ثوباً ، أو عشرة أثواب إلاَّ ديناراً ، فيلزم المقرُّ جميع المبلغ . قوله تعالى : { أَبَىٰ أَن يَكُونَ } ، استئنافٌ ؛ وتقديره : أنَّ قائلاً قال : هلاَّ سجد ؟ فقيل : أبي ذلك ، واستكبر عنه . قوله تعالى : { قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } قال بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس ، على لسان بعض رسله ؛ وهذا ضعيف ؛ لأنَّ إبليس قال في الجواب : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ } ، فقوله : " خَلَقْتهُ " خطاب الحضورِ ، لا خطاب الغيبة ؛ فظاهره يقتضي أنَّ الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة . فإن قيل : كيف يعقل هذا ؛ مع أنَّ مكالمة الله تعالى من غير واسطةٍ من أعظم المناصب ، وأعلى المراتب ، فكيف يعقل حصوله لرأسِ الكفرِةِ ؟ . فالجواب : أنَّ مكالمة الله إنما تكون منصباً عالياً ، إذا كان على سبيل الإكرامِ والإعظام ، فأما إذا كان على سبيل الإهانة ، والإذلال ، فلا . وقوله : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ } لتأكيد النَّفي ، معناه : لا يصحُّ منَّي أن أسجد لبشر . وحاصل كلامه : أن كون بشراً يشعر بكونه جسماً كثيفاً ، وهو كان روحانيًّا لطيفاً ، فكأنه يقول : البشر جسماني كثيف ، وأنا روحاني لطيف ، والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف ، فكيف يكون للأدنى سجود للأعلى ؟ . وأيضاً : فآدم مخلوقٌ من صلصالٍ ، تولَّد من حمأ مسنون ، وهذا الأصل في غاية الدناءة ، وأصل " إبْليسَ " : هو النار ، والنار هي أشرف العناصر ؛ فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم ؛ فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم ، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدنى ؛ فهذا مجموع [ شبهة ] إبليس . { قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } ، وهذا ليس جواباً عن الشُّبهة على سبيل التصريح ، بل جواب على سبيل التنبيه . وتقديره : أن الذي قاله الله تعالى نصٌّ ، والذي قاله إبليس قياس ، ومن عارض النصَّ بالقياس ، كان رجيماً ملعوناً ، وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة الأعراف . والضمير في : " مِنْهَا " : قيل : من جنَّة عدنٍ ، وقيل : من السمواتِ ، وقيل : من زمرة الملائكةِ . { وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قال ابن عباسٍ رضي الله عنه ـ : يريد يوم الجزاء حيث يجازى العبادُ بأعمالهم . و { إِلَىٰ يَوْمِ } يجوز أن يتعلق بالاستقرار في : " عَليْكَ " ، ويجوز أن يتعلق بنفس اللعنة . فإن قيل : كلمة " إلى " تفيد انتهاء الغايةِ ؛ فهذا يشعر بأنَّ اللعن لا يحصل إلاَّ يوم الدِّين ، وعند القيامة يزول اللَّعن . فالجواب من وجوه : الأول : أن المراد التأبيد ، وذكر القيامة أبعد غاية تذكرها الناس في كلامهم ؛ كقولهم : { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } [ هود : 108 ] في التَّأبيد . والثاني : أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين ، من غير أن يعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم ، عذِّب عذاباً [ ينسى ] اللعن معه ، فيصير اللَّعن حينئذٍ كالزائلِ ؛ بسبب أنَّ شدَّة العذاب تذهل عنه . قوله : { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وهذا متعلق بما تقدم ، والتقدير : إذا جعلتني رجيماً إلى يوم القيامة ؛ فأنظرني ، أراد ألاَّ يموت ، والمراد من قوله : { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، يوم البعثِ ، والنُّشورِ ، وهو يوم القيامة ؛ فقال تعالى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } قيل : وقت النفخةِ الأولى حين يموت الخلائق ؛ لأن من المعلوم أن تموت الخلائق فيه . وقيل : سمِّي معلوماً ؛ لأنه لا يعلمه إلا الله تعالى ؛ لقوله عز وجل ـ : { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [ لقمان : 34 ] . وقيل : يوم الوقت المعلوم : يوم القيامة . فإن قيل : لمَّا أجابه الله إلى مطلوبه لزم ألاَّ يموت إلى وقت قيام القيامة ، [ و ] وقت قيام القيامة لا موت ، فلزم ألا يموت بالكلية فالجواب : يحمل قوله { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } : إلى ما يكون قريباً منه ، و [ الوقت ] الذي يموت فيه كلُّ المكلفين قريبٌ من يوم البعث . وقيل : { يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } لا يعلمه إلا الله . قيل : لم تكن إجابة الله تعالى له في الإمهالِِ إكراماً له ، بل كان زيادة في بلائه وشقائه . قوله : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } الباء للقسم ، و " مَا " مصدرية ، وجواب القسم { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } والمعنى : أقسم بإغوائك إيايّ ، لأزينن ؛ كقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] إلاَّ أنه في هذا الموضع أقسم بعزة الله تعالى وهي من صفاتِ الذات ، وفي قوله : { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } ، أقسم بإغواء الله ، وهو من صفات الأفعال ، والفقهاء قالوا : القسم بصفاتِ الذَّات صحيحٌ ، واختلفوا في القسم بصفاتِ الأفعال . ونقل الواحديُّ هنا عن بعضهم : أنَّ الباء هاهنا سببية ، أي : بسبب كوني غاوياً ، لأزيننَّ ؛ كقول القائل : " أقْسمَ فُلانٌ بِمعْصِيتهِ ، ليَدْخُلنَّ النَّار ، وبِطاعَتهِ ليَدْخُلنَّ الجَنَّة " . ومعنى : { أَغْوَيْتَنِي } : أضْللْتَنِي ، وقيل : خَيَّبْتَنِي من رحمتك ، { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } حبَّ الدنيا ، ومعاصيك . والضمير في : " لَهُمْ " لذرية آدم عليه السلام وإن لم يجر لهم ذكر ؛ للعلم بهم . و " لإْغْوِيَنَّهُمْ " : لأضلَّنَّهُم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : " المُخْلصِينَ " بكسر اللام ، والباقون : بفتح اللاَّم . ومعنى القراءة الأولى : أنهم أخلصوا دينهم عن الشَّوائب ؛ ومن فتح اللاَّم ، فمعناه : الذين أخلصهم الله بالهداية . فصل قال ابن الخطيب : " واعلم أنَّ الذي حمل " إبليس " على ذكر هذا الاستثناء ألاَّ يصير كاذباً في دعواه ، فلما احترز " إبليس " عن الكذب ، علمنا أنَّ الكذب في غاية الخساسةِ " . فصل قال رويمٌ : " الإخلاص في العمل : وهو ألاَّ يريد صاحبه عليه عوضاً في الدَّارين ، ولا عوضاً من المكلفين " . وقال الجنيد رضي الله عنه ـ : الإخلاص : سرُّ بين العبد ، وبين الله تعالى لا يعلمه ملكٌ فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، ولا هوًى فيميله . وذكر القشيريُّ ، وغيره عن النبي صلى الله علي هوسلم أنه قال : " سَألتُ جِبْريلَ عليه السلامُ عن الإخْلاصِ ما هُو ؟ فقالَ : سَألتُ ربَّ العِزَّةِ عَنِ الإخْلاصِ ما هُو ؟ فقال : سِرِّي اسْتودَعْتهُ قلبَ مَنْ أحْبَبْتهُ مِنْ عِبَادي " . قوله تعالى : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ } " هَذَا " إشارة إلى الإخلاص المفهوم من المخلصين . وقيل : إلى انتفاءِ تزْيينه ، وأغوائه على من مرَّ عليه ، أي : على رضواني ، وكرامتي . وقيل : " عَلى " بمعنى : " إلَى " ، نقل عن الحسنِ . وقال مجاهدٌ : الحقُّ يرجع إلى الله تعالى وعليه طريقه ، لا تعرج على شيءٍ . وقال الأخفش : يعني عليَّ الدَّلالةُ على الصراطِ المستقيم . وقال الكسائي : هذا على التَّهديد والوعيد ؛ كما يقول الرجل لمن يخاصمه : طريقتك علي أن لا تفلت منِّي ، قال تعالى : { لَبِٱلْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] . وقرأ الضحاك ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وابن سيرين ، ويعقوب في آخرين : " عليُّ " ، أي : عالٍ مرتفعٌ . وعبَّر بعضهم عنه : رفيع أن ينال " مُسْتقِيمٌ " أن يمال . قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أعلم أن إبليس لما قال { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } أوهم أنَّ له سلطاناً على غير المخلصين ، فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطانٌ على أحد من عبيد الله سواء كان مخلصاً أو غير مخلص ، لكن من اتبع منهم إبليس باختياره ؛ ونظيره قوله حكاية عن إبليس : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } [ إبراهيم : 22 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99 ، 100 ] فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً . قال الجبائيُّ : " هذه الآية تدلُّ على بطلان قول من زعم أنَّ الشيطان ، والجنَّ يمكنهم صرع الناس ، وإزالة عقولهم " . وقيل : الاستثناء متصلٌ ؛ لأنَّ المراد بـ " عِبَادي " العموم ، طائعهم ، وعاصيهم و حينئذ يلزم استثناء الأكثر من الأقلِّ . وأراد بالعباد الخلَّص ؛ لأنه أضافهم إليه إضافة تشريفٍ ، فلم يندرج فيه الغاوون ؛ للضمير في موعدهم . قال القرطبي : " قال العلماء في معنى قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } : يعني على قلوبهم " . وقال ابن عيينة : " يلقيهم في ذنب ثم أمنعهم بعفوي : أو : هم الذين هداهم الله ، واجتباهم ، واختارهم ، واصطفاهم " . فإن قيل : قد أخبر الله تعالى ، عن آدم ، وحواء صلوات الله وسلامه عليهما بقوله : { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ } [ البقرة : 36 ] وعن جملة من أصحاب نبيَّه { إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [ آل عمران : 155 ] . فالجواب : أنه ليس له سلطان على قلوبهم ، ولا موضع إيمانهم ، ولا يلقيهم في ذنب يؤولُ إلى عدم العفو ، بل يزيله بالتوبة ، ولم يكن خروج آدم عقوبة على ما تقدم بيانه في البقرة . وأما أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عليه في " آل عمران " ، ثم إنَّ قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } يحتمل أن يكون حاصلاً فيمن حفظ الله ، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات ، وقد يكون ي تسليطه تفريج كربه ، وإزالة غمه ؛ كما فعل ببلالٍ ، إذ أتاه يهديه ، كما يهدَّى الصبيُّ حتى نام ، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس ، وفزعوا ، وقالوا : ما كفَّارةُ ما صَنعنَا في تَفْريطِنَا في صَلاتِنَا ؟ فقال لهُم النبيُّ صلى الله عليه سلم " ليْسَ في النَّوْمِ تَفْرِيطٌ " ؛ ففرَّج عَنْهُم . وقال ابن عطيَّة : تأكيد فيه معنى الحال من الضمير في " مَوْعِدهُم " ، والعامل فيه معنى الإضافة ، قاله أبو البقاء " . وفي مجىء الحال من المضاف إليه ، خلافٌ ، ولا يعمل فيها الموعد ، إن أريد به الكان ، فإن أريد به المصدر ، جاز أن يعمل ؛ لأنه مصدرٌ ، ولكن لا بدَّ من حذف مضاف ، أي : مكان موعدهم . قوله تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون خبراً ثانياً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من " جَهنَّم " ؛ لأن " إنَّ " لا تعمل في الحال ، قال ابو البقاء . وقياس ما ذكروه في " لَيْتَ ، وكأنَّ ، ولعلَّ " من أخواتها من إعمالها في الحال ؛ لأنَّها بمعنى : تمنيَّتُ وشبهت ، وترجيت أن تعمل فيها " إنَّ " أيضاً ؛ لأنَّها بمعنى أكدتُ ، ولذلك عملت عمل الفعل ، وهي أصل الباب . فصل قال عليٌّ كرم الله وجهه ـ : هل تدرون كيف أبواب النَّار ؟ ووضع إحدى يديه على الأخرى ، أي : سبعةٌ أبوابٍ ، بضعها فوق بعض ، وإنَّ الله تعالى وضع الجنان على العرض ، ووضع النِّيران بعضها على بعض . قال ابن جريج : النار سبع دركاتٍ : أولها جهنَّم ، ثمَّ لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية . قال الضحاك : الطبقة الأولى : فيها أهل التوحيد ، يعذَّبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها ، والثانية : لليهود والثالثة : للنَّصارى ، والرابعة : للصابئين ، وروي أن الثانية : للنصارى ، والثالثة : لليهودِ ، والرابعة للصابئين ، والخامسة : للمجوسِِ ، والسادسة : للمشركين ، والسابعة : للمنافقين ؛ قال تعالى : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } [ النساء : 145 ] . قوله : " مِنهُمْ " يجوز أن يكون حالاً من " جُزءٌ " ؛ لأنَّه في الأصل صفة له ، فلما قدمت ، انتصبت حالاً ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في الجارِّ ، وهو : " لكُلِّ بابٍ " ، والعامل في هذه الحال ، ما عمل في هذا الجارِّ ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في : " مَقسُومٌ " ؛ لأنَّ الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ، و لا يجوز أن تكون صفة لـ " بابٍ " ؛ لأنَّ الباب ليس من النَّاس . وقرأ أبو جعفر : " جُزٌّ " بتشديد الزَّاي من غير همزٍ ، فكأنه ألقى حركة الهمزة على الزَّاي ، ووقف عليها فشدَّدها ؛ كقولك : " خَبّ " في " خبءُ خالد " ثم أجري الوصل مجرى الوقف . والجُزْءُ : بعض الشيء ، والجمع : أجزاء ، وجَزَّأتهُ : جعلته أجزاء . والمعنى : أنه تعالى يُجزِّىء أتباع إبليس أجزاءَ ، أي : يجعلهم أقساماً ، ويدخل في كل باب من أبواب جهنَّم طائفة ؛ والسبب في ذلك : أنَّ مراتبَ الكفر مختلفةٌ بالغلظةِ والخفة .