Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 51-77)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } القصَّة : لما قرَّر أمر النبوة ، أردفه بدلائل التوحيد ، ثمَّ عقبه بذكر أحوال القيامةِ ، وصفة الأشقياء ، والسعداء ، أتبعه بذكر قصص الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ـ ، ليكون سماعها مرغِّباً للعبادة الموجبة للفوز بدرجاتِ الأولياءِ ، ومحذراً عن المعصية الموجبةِ لاستحقاقِ دركاتِ الأشقياءِ . فقوله : " ونَبِّئْهُم " ، هذا الضمير راجعٌ إلى قوله عز وجل : " عِبَادِي " ، أي : ونبِّىء عبادي ، يقال : أنْبأتُ القوم إنباءً ونَبَّأتهُم تَنْبئةً إذا أخبرتهم . قوله : " عَن ضَيْفِ " ، أي [ أضياف إبراهيم ] ، والضَّيْفُ في الأصل مصدر ضَافَ يضيفُ : إذا أتى إنساناً يطلب القوى ، وهو اسمٌ يقع على الواحدِ ، والاثنين ، والجمع ، والمذكر ، والمؤنَّث . فِإن قيل : كيف سمَّاهم ضيفاً ، مع امتناعهم من الأكلِ ؟ . فالجواب : لمن ظنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلب الضِّيافة ، جاز تسميتهم ذلك . وقيل : من دخل [ دار ] إنسان ، والتجأ إليه سمِّي ضيفاً ، وإن لم يأكل ، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه يكنَّى أبا الضيفان ، كان لقصره أربعة أبوابٍ ، لكي لا يفوته أحدٌ . وسمِّي الضيف ضيفاً ؛ لإضافته إليك ، ونزوله عليك . قال القرطبي رحمه الله ـ : " ضَافهُ مَالَ إليه ، وأضَافهُ : [ أماله ] ، ومنه الحديث : حِينَ تضيفُ الشَّمسُ للغُروبِ . وضَيفُوفَةُ السَّهم ، والإضافةُ النَّحوية " . قوله : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } في " إذْ " وجهان : أحدهما : أنه مفعول لفعل مقدر ، أي : اذكر إذ دخلوا . والثاني : أنه ظرف على بابه ، وفي العامل فيه وجهان : أحدهما : أنه محذوف ، تقديره : خبر ضيف . والثاني : أنه نفس " ضَيْفِ " ، وفي توجيه ذلك وجهان : أحدهما : أنه لما كان في الأصل مصدراً اعتبر ذلك فيه ، ويدلُّ على اعتبار مصدريته بعد الوصف به : عدم مطابقته لما قبله تثنية ، وجمعاً وتأنيثاً في الأغلب ، ولأنه قائم مقام وصفه ، والوصف يعمل . والثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : أصحاب ضيف إبراهيم ، أي : ضيافته ، فالمصدر باقٍ على حاله ، فلذلك عمل . قال أبو البقاء بعد أن قدر أصحاب ضيافته : والمصدر على هذا مضاف إلى المفعول . قال شهابُ الدِّين : وفيه نظر ، إذ الظَّاهر إضافته لفاعله ؛ لأنه النبي صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : { فَقَالُواْ سَلاماً } ، أي نُسلِّم لك سلاماً أو سلَّمتُ سلاماً ، أو سلمُوا سَلاماً ، قاله القرطبي رحمه الله تعالى . قال : { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي : خائفون ؛ لأنهم لم يأكلوا طعامه ، وقيل : لأنهم دخلوا بغير إذن ، وبغير وقت . قوله : " لا تَوجَلْ " العامة على فتح التاء من " وجِلَ " كـ : " شَرِبَ " يَشربُ ، والفتح قياس " فَعِلَ " إلا أن العرب آثرت [ يفعل بالكسر ] في بعض الألفاظ إذا كانت واواً ، نحو : " نَبِقَ " وقرأ الحسن : " لا تُوجَل " مبنياً للمفعول من الإيجال . وقرىء : " لا تَأجَلْ " ، والأصل : " تَوْجل " كقراءة العامة ، إلاَّ أنه أبدل من الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها ، وإن لم تتحرَّك كقولهم : " تَابةٌ " ، و " صَامةٌ " في " تَوْبة " ، و " صَوْمة " وسمع : اللَّهُم تقبَّل تَابتِي ، وصَامتِي . وقرىء أيضاً : " لا تُواجِل " من المواجلة . ومعنى الكلام : لاتخف ؛ " إنَّا نَبشِّرُكَ " ، قرأ حمزة : " إنَّا نَبْشُركَ " بفتح النون وتخفيف الباء ، والباقون بضم النون ، وفتح الباء ، و " إنَّا نُبشِّرُكَ " استئناف بمعنى التعليل للنهي عن الوجل ، والمعنى إنَّك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل . واعلم أنَّهم بشروه بأمرين : أحدهما : أنَّ الولد ذكرٌ ، والثاني : أنه عليمٌ . فقيل : بشَّروه بنبوته بعده . وقيل : عليم بالدِّين ، فعجب إبراهيم أمره و { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ } قرأ الأعرج : " بشَّرتُمونِي " بإسقاط أداة الاستفهام ، فيحتمل الإخبار ، ويحتمل الاستفهام ، وإنما حذفت أداته للعلم به . وِ " على أنْ مسَّنيَ " في محل نصبٍ على الحال . وقرأ ابن محيصن : " الكُبْر " بزنة " فُعْل " . قوله : " فبمَ تبشّرون " " بِمَ " متعلقٌ بـ " تُبشِّرُون " ، وقدم وجوباً ؛ [ لأنه ] استفهام وله صدر الكلام . وقرأ العام : بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع ؟ ولم يذكر مفعول التبشير ، وقرأ نافع بكسرها ، والأصل : تبشروني فحذف الياء مجتزئاً عنها بالكسرة . وقد غلطه أبو حاتم ، وقال : هذا يكون في الشعر اضطراراً . وقال مكي : " وقد طعن في هذه القراءة قومٌ لبُعدِ مخرجِها في العربيَّة ؛ لأنَّ حذف النون التي تصحبُ الياء لا يحسنُ إلاَّ في الشِّعر ، وإن قُدِّر حذف النون الأولى حذفت [ علم ] الرفع من غير ناصب ، ولا جازم ؛ ولأنَّ نون الرفع كسرها قبيحٌ ، إنَّما حقُّها الفتح " . وهذا الطعن لا يلتفت إليه ، لأنَّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءاً عنها بالكسرة ، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ } [ الزمر : 64 ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ـ . ووجهه : أنَّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع ، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ ، فمنهم من أدغم ، ومنهم من حذف ، ثم اختلف في المحذوفة ، هل هي الأولى ، أو الثانية ، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [ الأنعام : 80 ] . وقرأ ابن كثير بتشديدها مكسورة ، أدغم الأولى في الثانية ، وحذف ياء الإضافة ، والحسن : أثبت الياء مع تشديد النون ، ورجح قراءة من أثبت مفعول : " يُبشِّرُون " وهو الياء . قوله : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } " بَشَّرْناكَ " ، و " بالحقِّ " متعلق بالفعل قبله ، وضعف أن يكون حالاً ، أي : قالوا بَشَّرنَاكَ . ومعنى : " بالحَقِّ " هنا استفهام بمعنى التعجُّب ، كأنه قيل : بأيِّ أعجوبةٍ تبشروني ؟ . فِإن قيل : كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به ؟ . فِأجاب القاضي : بأنه أراد أن يعرف أنه تعالى هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة ، أو يقلبه شابًّا ، ثم يعطيه الولد ؟ . وسبب هذا الاستفهام : أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة ، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ . فإن قيل : فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم ، فلم قالوا : { بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ } ؟ . قلنا : إنهم بيَّنوا أنه تعالى بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ ، وقولهم { بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ } لا يدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } . وأجاب غيره : بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه ، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه ، وسروره ، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له ، والمزيل لقوَّة فهمه ، وذكائه ، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت . وقيل أيضاً : إنه يستطيب تلك البشارة ، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة ، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق ، كقوله : { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] وقيل أيضاً : استفهم : أبأمرِ الله تبشروني ، أم من عند أنفسكم ، واجتهادكم ؟ . قوله : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما يريد بما قضى الله تعالى . وقوله : { فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ } نهي لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن القنوطِ ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه ، كقوله جلَّ وعزَّ { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 48 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ القصص : 78 ] . قوله : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ } هذا استفهام معناه النفي ، ولذلك وقع بعد الإيجاب بـ " إلاّ " . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي : " يَقْنِطُ " بكسر عين هذا المضارع حيث وقع ، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها ، وفي الماضي لغتان " قنط " بكسر النون ، " يَقنَطُ " بفتحها ، وقنط " يقْنِطُ " بكسرها ، ولولا أن القراءة سنة متبعة ، لكان قياس من قرأ : { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [ الشورى : 28 ] والفتح في الماضي هو الأكثر ، ولذلك أجمع عليه . قال الفارسي : فتح النون في الماضي ، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات ، ويرجحُ قراءة " يَقْنَطُ " بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات " فلا تكن من القنطين " كفَرِحَ يفرح فهو فَرِحٌ . والقُنُوط : شدَّة اليأسِ من الخَيرِ ، وحكى أبو عبيدة : " قَنُطَ " يَقْنُطُ بضمِّ النون . قال ابن الخطيب : " وهذا يدلُّ على أنَّ " قَنَطَ " بفتح النون أكثر ؛ لأن المضارع من " فَعَل " يجيء على " يَفْعِلُ ويَفْعُل " مثل : فَسقَ : ويَفْسِقُ ، ويَفْسُقُ ، لا يجيء مضارع فَعَلَ على يَفْعَلُ " . فصل جواب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حق ؛ لأنَّ القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلاَّ عند الجهل بأمور : أحدها : أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه . وثانيها : أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياج ذلك العبد إليه . وثالثها : أن يجهل كونه تعالى منزّهاً عن البخل ، والحاجة . والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضَّلالِ ، والقُنوط من رحمة الله كبيرة ، كالأمن من مكرهِ . قوله تعالى : { فَمَا خَطْبُكُمْ } الخطب : الشأن ، والأمر ، سألهم عمَّا لأجله أرسلهم الله تعالى ـ . فِإن قيل : إنَّ الملائكة لما بشَّروه بالولد الذَّكر العليمِ ، كيف قال لهم بعد ذلك " فَمَا خَطْبُكمْ " ؟ . فالجواب : قال الأصم : معناه : ما الذي وجهتم له سوى البُشْرَى ؟ . وقال القاضي : إنه علم أنه لو كان المقصود أيضاً البشارة ، لكان الواحد من الملائكة كافياً ، فلمَّا رأى جمعاً من الملائكة ؛ علم أنَّ لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة ، فلا جرم قال : " فَما خَطْبكُمْ " ؟ . قيل : إنَّهم قالوا : إنَّا نُبشِّرُكَ بغُلامٍ عَليم لإزالة الخوف ، والوجل ، ألا ترى أنّه لما قال : { إنا منكم وجلون } قالوا له : { لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم } ، فلو كان المقصود من المجيء هو البشارة ؛ كانوا ذكروا البشارة في أوَّل دخولهم ، فلمَّا لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم صلوات الله وسلام عليه أنَّ مجيئهم ما كان لمجرَّد البشارة ، بل لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض ، قال : { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } مشركين ، وإنَّما اقتصوار على هذا القدر ، لعلم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بأنَّ الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين ، كان ذلك لأهلاكهم . ويدل على ذلك قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قوله " إلا آل لُوطٍ " فيه وجهان : أحدهما : أنه استثناء متصل على أنه مسثنى من الضمير المستكن في : " مُجرمِينَ " بمعنى أجرموا كلهم إلاَّ آل لوطٍ ؛ فإنَّهم لم يجرموا ، ويكون قولهم " إنَّا لمنجوهم " استئناف إخبار بنجاتهم ، لكونهم لم يجرموا ولكون الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وإنجاء هؤلاء . والثاني : أنه اسثناء منقطع ؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين آلبتَّة . قال أبو حيان : وإذا كان استثناء منقطعاً ، فهو مما يجبُ فيه النصب ؛ لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن توجه العامل إلى المستثنى منه ؛ لأنهم لم يرسلوا إليهم ، إنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصَّة ، ويكون قوله : " إنَّا لمُنجَّوهُمْ " جَرَى مَجْرى خبر لكن في اتِّصاله بـ " آل لُوطٍ " ؛ لأن المعنى : لكنَّ آل لوط منجوهم ، وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدَّر بلكن ، إذ لم يكن بعده ما يصحُّ أن يكون خبراً : أنَّ الخبر محذوف ، وأنه في موضع رفع لجريان : " إلاَّ " ، وتقديرها بـ " لَكِن " . قال شهابُ الدِّين : " وفيه نظرٌ ؛ لأن قوله لا يتوجه إليه العامل أي : لا يمكن ، نحو : ضحك القوم إلا حمارهم ، وصهلت الخيلُ إلا الإبل . وأمَّا هذا ، فيمكن الإرسال إليهم من غير منع ، وأمَّا قوله : لأنهم لم يرسلوا إليهم فصحيح ؛ لأنَّ حكم الاستثناء كلَّه هكذا ، وهو أن يكون خارجاً عمَّا حكم به على الأوَّل ، لكنَّه لو سلط عليه لصحَّ ذلك بخلاف ما تقدَّم من أمثلتهم " . قوله : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ الأخوان : " لمُنْجُوهمْ " مخففاً ؛ وكذلك خففا أيضاً فعل هذه الصيغة في قوله تعالى في العنكبوت { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ العنكبوت : 32 ] ؛ وكذلك خففا أيضاً قوله فيها : { إِنَّا مُنَجُّوكَ } [ العنكبوت : 33 ] فهما جاريتان على سننٍ واحدٍ . وقد وافقهما ابن كثير ، وأبو بكر على تخفيف : " مُنجوكَ " كأنهما جمعا بَيْنَ اللغتين ، وباقي السبعة بتشديد الكل . والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من : نَجَّى وأنْجى ، وأنزلَ ، ونزَّل ، وقد نطق بفعلهما ، قال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } [ العنكبوت : 65 ] وفي موضع { أَنجَاهُمْ } [ يونس : 23 ] . قوله : { ٱمْرَأَتَهُ } فيه وجهان : أحدهما : أنه استثناء من " آل لُوطٍ " . قال أبو البقاء رحمه الله ـ : " والاستنثاء إذا جاء بعد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدأ كقولك : " لهُ عِندِي عشرةٌ إلا أربعة إلا درهماً " فإن الدرهم يستثنى من الأربعة ، فهو مضاف إلى العشرة ، فكأنك قلت : أحد عشر إلاَّ أربعة ، أوعشرة إلاَّ ثلاثة " . والثاني : أنها مستثناةٌ من الضمير المجرور في قوله " لمُنَجوهمْ " . وقد منع الزمخشري رحمه الله الوجه الأول ، وعيَّن الثاني فقال : " فإن قلت : قوله : " إلا امرأتهُ " مِمَّ استثني ؟ وهل هو استثناء من استثناء ؟ . قلت : مستثنى من الضمير المجرور في قوله : " لمُنَجُّوهم " ، وليس من الاستثناء في شيء ؛ لأن الاستثناء من الاستثناء إنَّما يكون فيما اتَّحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأتهُ ، كما اتَّحد في قول المطلِّق : أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنين إلا واحدة ، وقول المقرّ : لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً ، وأما الآية فقد اختلف الحكمان ؛ لأنَّ : " آل لوطٍ " متعلق بـ " أرْسَلْنَا " أو بـ " مُجرمِينَ " ، و " إلاَّ امْرأتهُ " قد تعلَّق بقوله : " لمُنجوهم " فأنَّى يكون استثناء من استثناء " . قال أبو حيَّان : ولما استسلف الزمخشري أنَّ " امرأتهُ " استثناء من الضمير في " لمُنجُّوهم " أبى أن يكون استثناء من استثناء ، ومن قال : إنه استثناء من استثناء ، فيمكن [ تصحيح قوله ] بأحد وجهين : أحدهما : أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في " لمُنَجوهُم " ، وهو عائدٌ على " آل لوطٍ " صار كأنَّه مستثنى من : " آل لوطٍ " ؛ لأنَّ المضمر هو الظاهر . والوجه الآخر : أن قوله " إلاَّ آل لوطٍ " لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين ، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } تأكيداً لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى : إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب ، ونجاتهم مرتبة على [ عدم ] الإرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظير ذلك : قام القومُ إلاَّ زيداً لم يقم أو إلاَّ زيداً فإنه لم يقم ، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلاَّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه ، فـ : " إلاَّ امْرَأتهُ " على هذا التدقير الذي قرَّرناه مستثنى من : " آلَ لُوطٍ " ؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد . قوله " قدَّرْنَا " قرأ أبو بكر ههنا ، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال ، والباقون بتشديدها ، وهما لغتان : قَدَّر ، وقَدَر . قوله : " إنَّها " كسرت من أجل اللاَّم في خبرها ، ولولاها [ لَفُتِحَتْ ] ، وهي معلقة لما قبلها ؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه ، وإمَّا لأنه مترتب عليه . قال الزمخشري : " فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله : { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ } ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب ؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم " . قال أبو حيَّان رحمه الله تعالى " وكسرت " إِنَّهَا " إجراء لفعل التقدير مجرى العلم " . وهذا لا يصحُّ علة لكسرها ، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها . فصل معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره ، يقال : قدر هذا الشيء بهذا ، أي : اجعله على مقداره ، وقدَّر الله سبحانه الأقوات ، أي : جعلها على مقدار الكفاية ، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله عليه ، وقَدرَ عليه ، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير ، والشر . وقيل : معنى : " قَدَّرْنَا " كتبنا . وقال الزجاج : دبرنا . فإن [ قيل ] لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزَّ وجلَّ ؟ فالجواب : إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا [ وأمرنا بكذا ] ، والمدبر ، والآمر هو الملك لا هم ، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك ، فكذا هنا . قوله تعالى : { إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ } في موضع مفعول ، التقدير : قضينا أنها تتخلف ، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك ، فتلحق بالهالكين . قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } القصة لما بشروا إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بالولد ، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليه السلام ، وإلى آله ، وإنَّ لوطاً ، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله . فقالوا : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ؛ لأنهم لما هجموا عليه ؛ استنكرهم ، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه . وقيل : خاف ؛ لأنهم كانوا شبايا مرداً حسان الوجوه ، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم ، فقال هذه الكلمة . وقيل : إنَّ النكرة ضدّ المعرفة ، فقوله : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ، أي : لا أعرفكم ، ولا أعرف أنكم من أي الأقوام ، ولأي غرض دخلتم عليّ ، فقال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } . قوله : { بَلْ جِئْنَاكَ } إضراب عن الكلام المحذوف ، تقديره : ما جئناك بما ينكر ، { بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا [ كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } ] . وقد تقدَّم الخلاف في قوله : " فأسْرِ " قطعاً ووصلاً في هود : [ 81 ] . وقرأ اليماني فيما نقل ابن عطية ، وصاحب اللوامح : " فَسِرْ " من السير . وقرأت فرقة بفتح الطاء ، وقد تقدَّم في يونس أنَّ الكسائي ، وابن كثير قرآه بالسكون في قوله " قِطْعاً " والباقون بالفتح . قوله : قالت الملائكة { بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } يشكون أنه نازلٌ بهم ، وهو العذاب ؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب ، فلا يصدقونه ، ثمَّ أكدوا ذلك بقولهم : { وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } قال الكلبيُّ : بالعذاب ، [ وقيل باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو العذاب ] ثم أكدوا هذه التَّأكيد بقولهم { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } . { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱللَّيْلِ } والقِطْعُ والقَطع : آخر الليل ؛ قال : [ الخفيف ] @ 3280ـ افْتَحِي البَابَ وانظُرِي في النُّجُومِ كَم عليْنَا مِن قِطْعِ ليْلٍ بَهِيمِ @@ { وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } ، أي سر خلفهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } لئلا ترتاعوا من أمر عظيم فأنزل بهم من العذاب . وقيل : معناه الإسراع ، وترك الاهتمام لما خلف وراءه ، كما يقول : امض لشأنك ، ولا تعرج على شيءٍ . وقيل : المعنى لو بقي [ منه ] متاعٌ في ذلك الموضع ، فلا يرجعن بسببه ألبتَّة . وقيل : جعل الله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوطٍ . { وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ : يعني " الشَّام " . وقال المفضل : حيث يقول لكم جبريل . وقال مقاتل : يعني زغر . وقيل : " الأرْدن " . قوله : { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } " حَيْثُ " على بابها من كونها ظرف مكان مبهمٍ ، ولإبهامها تعدي إليها الفعل من غير واسطةٍ ، على أنه قد جاء في الشِّعر تعديته إليها بـ " في " كقوله : [ الطويل ] @ 3281ـ فَأصْبحَ في حَيْثُ التَقيْنَا شَريدُهمْ طَليقٌ ومكْتوفُ اليَديْنِ ومُزْعِفُ @@ وزعم بعضهم أنها هنا ظرف زمانٍ ، مستدلاً بقوله : { بِقِطْعٍ مِّنَ ٱللَّيْلِ } ثم قال { وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } أي : في ذلك الزَّمان . وهو ضعيف ، ولو كان كما قال ، لكان التركيب وامضوا حيث أمرتم على أنه لو جاء التَّركيب كذا لم يكن فيه دلالة . قوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ } ضمَّن القضاء معنى الإيجاء ؛ فلذلك تعدَّى تعديته " إلى " ، ومثله { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] . و " ذَلكَ الأمْرَ " " ذَلِكَ " مفعول القضاءِ ، والإشارة به إلى ما وعد من إهلاكِ قومه ، و " الأمْرَ " إمَّا بدلٌ منه ، أو عطف بيانٍ له . قوله : { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ } العامة على فتح " أنَّ " وفيها أوجه : أحدها : أنها بدل من " ذَلِكَ " إذا قلنا : " الأمْرَ " عطف بيان . الثاني : أنَّها بدلٌ من " الأمْرَ " سواء قلنا : إنه بيان أو بدل مما قبله . الثالث : أنه على حذف الجار ، أي : بأنَّ دابر ، ففيه الخلاف المشهور . وقرأ زيد بن علي ، والأعمش بكسرها ؛ لأنه بمعنى القول . وعلَّله أبو حيان : بأنه لمَّا علق ما هو بمعنى العلم ؛ كسر . وفيه النظر المتقدم . ويؤيِّد إضمار القول قراءة ابن مسعودٍ : وقلنا إنَّ دابر هؤلاء . ودابرهم : آخرهم " مَقطوعٌ " مستأصل ، يعني مستأصلون عن آخرهم ؛ حتى لا يبقى منهم أحد " مُصْبحينَ " ، أي في حال ظهور الصبح ، فهو حال من الضمير المستتر في : " مَقطُوعٌ " ، وإنَّما جمع حملاً على المعنى ، وجعله الفرَّاء ، وأبو عبيدة خبراً لكان المضمرة ، قالا : تقديره : إذا كانوا مصبحين ، نحو " أنْتَ مَاشِياً أحسنُ مِنْكَ رَاكِباً " . وهو تكلفٌ ، و " مُصْبحِينَ " داخلين في الصَّباحِ . قوله : { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ } ، أي : مدينة لوط ، يعني : " سدُوم " " يَسْتبشِرُونَ " حالٌ ، أي : يستبشرون بأضياف لوطٍ ، يبشر بعضهم بعضاً في ركوب الفاحشة منهم . قيل : إنَّ الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم . وقيل : أخبرتهم امرأة لوطٍ بذلك ؛ فذهبوا إلى دارِ لوطٍ ؛ طلباً منهم لأولئك المردِ . فقال لهم لوط صلوات الله وسلامه عليه ـ : " هَؤلاءِ ضَيْفِي " وحق على الرجل إكرام ضيفه ، " فلا تَفْضحُونِ " فيهم . يقال : فَضحَهُ يَفضحُه فَضْحاً ، وفَضِيحَةً ، إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار ، والفَضِيحُ والفَضِيحةُ : البيان ، والظُّهورُ ، ومنه : فَضِيحَةُ الصُّبْحِ ؛ قال الشاعر : [ البسيط ] @ 3282ـ وَلاحَ ضَوءُ هِلالِ اللَّيْلِ يَفْضحُنَا مِثْلَ القُلامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفُرِ @@ إلا أنَّ الفضيحة اختصت بما هو عارٌ على الإنسان عند ظهوره . ومعنى الآية : أن الضيف يجب إكرامه ، فإذا قصدتموه بالسُّوءِ كان ذلك إهانة بي ، ثمَّ أكد ذلك بقوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تخجلون ، فأجابوه بقولهم : { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } ، أي : عن أن تضيِّف أحداً من العالمين . وقيل : ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة ؛ فإنا نركبُ منهم الفاحشة . قوله : { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } يجوز فيه أوجه : أحدها : أن يكون { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } مفعولاً بفعل مقدرٍ ، أي : تزوَّجُوا هؤلاء ، و " بَناتِي " بدلٌ ، أو بيانٌ . الثاني : أن يكون { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } مبتدأ وخبراً ، ولا بدَّ من شيء محذوف تتمُّ به الفائدة ، أي : فتزوَّجُوهنَّ . الثالث : أن يكون " هَولاءِ " مبتدأ ، و " بَناتِي " بدلٌ ، أو بيان والخبر محذوف ، أي : هُنَّ أطهر لكم كما جاء في نظيرتها . وتقدَّم الكلام على هذه المعاني في هود . قوله { لَعَمْرُكَ } مبتدأ محذوف الخبر وجوباً ، ومثله : لايْمُن الله ، و " إنَّهُمْ " ، وما في حيزه جواب القسم ، تقديره : لعمرك قسمي ، أو يميني إنهم ، والعُمُرُ والعَمْر بالفتح والضم هو البقاء ، إلا أنَّهم التزموا الفتح في القسم . قال الزجاج : لأنه أخفُّ عليهم ، وهم يكثرون القسم بـ " لعَمْرِي ولعَمْرُكَ " . وله أحكام كثيرة : منها : أنه متى اقترن بلام الابتداء ؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء ، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدَّه . ومنها : أنه يصير صريحاً في القسم ، أي : يتعيَّن فيه ، بخلاف غيره نحو : عَهْدُ اللهِ ومِثاقُه . ومنها : أنه يلزم فتح عينه . فإن لم يقترن به لام الابتداء ، جاز نصبه بفعلٍ مقدرٍ ، نحو : عَمْرُ اللهِ لأفعلنَّ ، ويجوز حينئذٍ في الجلالة وجهان : النَّصبُ والرفع فالنصب على أنه مصدرٌ مضاف لفاعله ، وفي ذلك معنيان : أحدهما : أن الأصل : أسألك بعمرك الله ، أي : بوصفك الله تعالى بالبقاء ، ثم حذف زوائد المصدر . والثاني : أن المعنى : بعبادتك الله ، والعَمْرُ : العِبادةُ . حكى ابن الأعرابي : إنِّي عمرتُ ربِّي ، أي : عبدته ، وفلان عامر لربِّه ، أي : عابده . وأمَّا الرفع : فعلى أنه مضاف لمفعوله . قال الفارسي رحمه الله : معناه : [ عَمَّرك ] الله تعميراً ، وقال الأخفش : أصله : أسْألك بِيُعمرك الله ، فحذف زوائد المصدر ، والفعل ، والياء ، فانتصب ، وجاز أيضاً ذكر خبره ، فتقول : عمرك قسمي لأقومن ، وجاز أيضاً ضمُّ عينه ، وينشد بالوجهين قوله : [ الخفيف ] @ 3283ـ أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلاً عَمركَ الله كيْفَ يَلتقِيَانِ هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما استقلَّتْ وسُهَيْلٌ إذا اسْتقل يَمانِي @@ ويجوز دخول باء الجر عليه ؛ نحو : بعمرك لأفعلنَّ ؛ قال : [ الوافر ] @ 3284ـ رُقيَّ بِعمْرِكُم لا تَهْجُرينَا ومَنِّينَا المُنَى ثُمَّ امْطُلينا @@ وهو من الأسماء اللازمة للإضافة ، فلا يقطع عنها ، ويضاف لكل شيء ، وزعم بعضهم : أنه لا يضاف إلى الله تعالى ـ . قيل : كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا في الانقطاع ، وقد سمع إضافته للباري تعالى . قال الشاعر : [ الوافر ] @ 3285ـ إذَا رَضِيَتْ عليَّ بَنُو قُشيْرٍ لعَمْرُ الله أعْجَبنِي رِضَاهَا @@ ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلِّم ، قال لأنه حلف بحياة المقسم ، وقد ورد ذلك ، قال النابغة : [ الطويل ] @ 3286ـ لعَمْرِي وما عمْرِي عليَّ بِهيِّنٍ لقد نَطقَتْ بُطلاً عليَّ الأقَارعُ @@ وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه ، فقالوا : وعملي ، وهي رديئة . " إنَّهُمْ " العامة على كسر " إنَّ " لوقوع اللام في خبرها ، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي له " أنَّ " فتحها ، وتخريجها على زيادة اللام ، وهي كقراءة ابن جبيرٍ ( ألا أنهم ليأكلون الطعام ) بالفتح . وقرأ الأعمش : " سَكْرهُمْ " بغير تاء ، وابن أبي عبلة " سَكرَاتهِمِ " جمعاً ، والأشهب : " سُكْرتِهِم " بضم السين . و " يَعْمَهُونَ " حال إمَّا من الضمير المستكن في الجار ، وإمَّا من الضمير المجرور بالإضافة ، والعامل إمَّا نفس سكرة ، لأنَّها مصدر ، وإمَّا معنى الإضافة . فصل قيل : إن الملائكة عليهم السلام قالت للوطٍ صلوات الله وسلامه عليه " لعَمُركَ إنَّهم لَفِي سَكرتِهمْ يَعْمَهُونَ " : يتحيَّرون . وقال قتادة : يلعبون فكيف يعقلون قولك ويتلفتون إلى نصيحتك ؟ . وقيل : إنَّ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحدٍ . روى أبو الجوزاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال ما خلقَ الله نفساً أكرم على الله من محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وما أقْسمَ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياتهِ . قال ابن العربي : قال المفسرون بإجماعهم : أقسم الله تعالى ها هنا بحياةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم تشريفاً له ، أنَّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون ، وقال القاضي عياضٌ : اتفق أهل التفسير في هذا : أنَّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم وأصله ضمُّ العين من العمر ، ولكنها فتحت بكثرة . قال ابن العربي : ما الذي يمنعُ أن يقسم الله تعالى بحياة لوطٍ ، ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكلُّ ما يعطيه الله للوطٍ من فضل ، يعطي ضعفه لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه أكرم على الله منه ؛ أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلَّة ، وموسى التكليم ، وأعطى ذلك لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فإذا أقسم بحياة لوطٍ ، فحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أرفعُ ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكرٌ لغير ضرورةٍ . قال القرطبيُّ : ما قاله حسنٌ ، فإنَّه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم ، كلاماً معترضاً في قصَّة لوط . قال القشيريُّ : يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوطٍ ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون ، أي لمَّا وعظ لوطٌ قومه وقال : هؤلاء بناتي ، قالت الملائكة : يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، ولا يدرون ما يحلُّ بهم صباحاً . فإن قيل : فقد أقسم الله تعالى بالتِّين ، والزَّيتونِ ، وطور سنين ، وما في هذا من الفضل ؟ قيل له : ما من شيء أقسم الله به ، إلاّ وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده ، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم . ثم قال : { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ } ، ولم يذكر في الآية صيحة من هي فإن ثبت بدليل قوي أن تلك صيحة جبريل قيل به وإلا فليس في الآية دليلٌ على أنه جاءتهم صيحة مهلكة . قوله " مُشْرقينَ " " حال من مفعول " أخَذتْهُمْ " ، أي داخلين في الشروق ، أي : بزوغِ الشَّمسِ . يقال : شَرَق الشارق يَشْرُق شُرُوقاً لكل ما طلع من جانب الشرق ، ومنه قوله : ما ذرَّ شَارِقٌ ، أي طلع طَالعٌ فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا . والضمير في : " عَاليهَا وسَافِلهَا " للمدينة . وقال الزمخشريُّ : " لقرى قوم لوط " . ورجح الأول بأنه تقدَّم ذكر المدينة في قوله { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ } فعاد الضمير إليها بخلاف الثاني ، فإنه لم يتقدَّم لفظ القرى . { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } تقدم الكلام على ذلك كله في هود : [ 82 ] . قوله { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " آيَاتٌ " وأجود أن يتعلق بنفس " آيَاتٌ " ؛ لأنَّها بمعنى العلامات . والتوسُّم : تفعل من الوسم ، والوسمُ أصله : التَّثبت ، والتَّفكر مأخوذ من الوسمِ ، وهو التَّأثير بحديد في جلد البعير ، أو غيره . وقال ثعلب : الوَاسِمُ النَّاظر إليك من [ قرنك ] إلى قدمك ، وفيه معنى التَّثبيت . وقال الزجاج : حقيقة المتوسِّمين في اللغة : المتثبتون في نظرهم حتَّى يعرفوا سمة الشيء ، وصفته وعلامته وهو استقصاءُ وجوه التَّعرف قال : [ الكامل ] @ 3287ـ أوَ كُلما وردَتْ عُكاظَ قَبيلَةٌ بَعَثَتْ إليَّ عَريفَهَا يَتوسَّم @@ وقيل : هو تفعُّل من الوسمِ ، وهو العلامة ، توسَّمتُ فيك خيراً ، أي : ظهر لي مِيسَمُهُ عليك . قال ابن رواحة يمدحُ النبي صلى الله عليه وسلم : [ البسيط ] @ 3288ـ إنِّي تَوسَّمْتُ فِيكَ الخَيْرَ أعْرفهُ واللهُ يَعْلمُ أنِّي ثَابتُ البَصرِ @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 3289ـ تَوسَّمْتهُ لمَّا رَأيْتُ مَهَابَةٌ عَليْهِ ، وقُلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشمِ @@ ويقال : اتَّسمَ الرَّجلُ ، إذا اتَّخذَ لِنفْسِه عَلامةً يُعرف بِهَا ، وتوسَّم : إذا طلبَ كلأ الوسمي ، أي : العُشْبَ النَّابت في أوَّل المطر . واختلف المفسِّرون : فقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما للنَّاظرين . وقال مجاهدٌ للمتفرِّسين ، وقال قتادة للمعتبرين ، وقال مقاتلٌ للمتفكرين . قوله : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ } الظاهر عود الضمير على المدينة ، أو القرى وقيل على الحجارة وقيل : على الآيات ، والمعنى : بطريقٍ واضح قال مجاهد هذا طريق معلم ، وليس بخفيّ ، ولا زائلٍ . ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } ، إي : كل من آمن بالله ، ويصدق بالأنبياء ، والرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ؛ عرف أنَّما كان انتقامُ الله من الجُهَّال لأجل مخالفتهم ، وأمَّا الذين لا يؤمنون ؛ فيحملونه على حوادث [ العالم ] ، وحصول القرانات الكوكبية ، والاتصالات الفلكية .