Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 87-99)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات ، وأن يكون سبعاً من السُّورِ ، وأن يكون سبعاً من الفوائد ، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين . والثاني : صيغة جمع ، واحدة مثناة ، والمثناةُ : كل شيءٍ يُثَنَّى ، أي : يجعل اثنين من قولك : ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً ، أي : عَطفْتهُ ، أو ضممت إليه آخر ، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي ؛ لأنها تثنى بالفخذ ، والعضد ؛ ومثاني الوادي معاطفه . وإذا عرف هذا ، فقوله : { سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ، وهذا القدر مجملٌ ، ولا سبيل إلى تعيينه ، إلا بدليلٍ منفصلٍ ، وللنَّاس فيه أقوال : أحدها : قال عمرُ ، وعليٌّ ، وابن مسعودٍ ، وأبو هريرة ، والحسن ، وأبو العالية ، ومجاهدٌ والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة رضي الله عنهم ـ : إنه فاتحة الكتاب . روى أبو هريرة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فاتحة الكتاب ، وقال : " هِيَ السَّبْعُ المَثانِي " " . وإنَّما سمِّيت بالسَّبع ؛ لأنها سبعُ آياتٍ ، وفي تمسيتها بالمثاني وجوه : أولها : قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما والحسن ، وقتادة : لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ . ثانيها : قال الزجاج : لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها . وثالثها : لأنها قسمت قسمين : نصفها ثناءٌ ، ونصفها دعاءٌ ، كما ورد في الحديث المشهور . ورابعها : قال الحسين بن الفضل : لأنَّها نزلت مرَّتين ، مرة بمكَّة ، ومرة بالمدينة . وخامسها : لأنَّ كلماتها مثناة ، مثل : { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الفاتحة : 3ـ7 ] . وفي قراءة عمر : ( غير المغضوب عليهم وغير الضالين ) . نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال : كان ابن مسعودٍ رضي الله عنه لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب ؛ رأى أنَّها ليست من القرآن . قال ابن الخطيب : " لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم " ، ويشكل هذا بقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] ، وكذلك قوله تعالى : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . وللخَصْم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلَّ ، ثمَّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام ، وأمَّا إذا ذكر شيءٌ آخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً ، وها هنا ذكر سبع المثاني . ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير . ويجاب عليه : بأنَّ بعض الشَّيء مغاير لمجموعه ، فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف ؟ . واعلم أنَّه لمَّا كان المراد بالسَّبع المثاني هو الفاتحة ؛ دلَّ على أنَّها أفضل سور القرآن ، لأن إفرادها بالذِّكر مع كونها جزءاً من القرآن ؛ يدلُّ على مزيد اختصاصها بالفضيلة ، وأيضاً : لما أنزلها مرَّتين دلَّ ذلك على أفضليتها ، وشرفها ، ولما واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرءاتها في جميع الصلوات طول عمره ، وما أقام [ سورة أخرى ] مقامها في شيءٍ من الصلوات ، دل ذلك على وجوب قراءتها ، وألاَّ يقوم شيء من القرآن مقامها . القول الثاني : السَّبع المثاني : هي السبع الطوال ، قاله ابن عمر ، وسعيد بن جبيرٍ في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما وإنما سميت السبع الطوال مثاني ؛ لأنَّ الفرائض ، والحدود ، والأمثال والخبر ، والعبر ثنيت فيها . وأنكر الربيع هذا القول ، وقال : الآيةُ مكية ، وأكثر هذه السورة مدنيَّة ، وما نزل منها من شيءٌ في مكَّة ، فكيف تحمل هذه الآية عليها ؟ . وأجاب قومٌ عن هذا بأنه تعالى جلَّ ذكره أنزل القرآن كلَّه إلى سماءِ الدنيا ، ثم أنزل على نبيه منه نجوماً ، فلمَّا أنزله إلى سماءِ الدُّنيا ، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه ، وإن لم ينزل عليه بعدُ . وفي هذا الجواب نظرٌ ، فإن قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } ذكره في [ معرض ] الامتنان ، وهذا الكلامُ إنَّما يصدق ، إذا وصل ذلك إلى محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه فأمَّا ما لم يصله بعد ، فلا يصدق ذلك عليه . وأما قوله : إنه لما حكم بإنزاله على محمد ، كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه ، فضعيف ؛ لأنَّ إقامة مالم ينزل عليه مقام النَّازل عليه مخالف للظَّاهرِ . القول الثالث : أنَّ السَّبع المثاني : هو القرآن ، وهو منقولٌ عن ابن عباس رضي الله عنه في بعض الروايات ، وهو قول طاوس رضي الله عنه لقوله تعالى : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ } [ الزمر : 23 ] فوصف كلَّ القرآن بكونه مثاني ؛ لأنه كرَّر فيه دلائل التَّوحيدِ ، والنبوَّة ، والتَّكاليف . قالوا : وهو ضعيف ؛ لأنه لو كان المراد بالسَّبع المثاني القرآن لكان قوله : { وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } ، عطفاً على نفسه ، وذلك غير جائزٍ . وأجيب عنه : بأنه إنَّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين ؛ كقول الشاعر : @ 3291ـ إلى المْلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ وليْثِ الكَتِيبَةِ في المُزدحَم @@ واعلم أن هذا ، وإن كان جائزاً إلا أنَّهم أجمعوا على أن الأصل خلافه . القول الرابع : أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة ، وبالمثاني كل القرآن ، ويكون التقدير : ولقد آتيناك سبع آياتٍ هي الفاتحة ، وفي من جملة المثاني الذي هو القرآن ، وهذا عين الأول . و " مِن " في قوله : " مِنَ المثَانِي " . قال الزجاج رحمه الله تعالى ـ : فيها وجهان : أحدهما : أن تكون للتبعيض من القرآن ، أي : ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يثنى بها على الله ، وآتيناك القرآن العظيم . ويجوز أن تكون " مِن " صفة ، والمعنى : أتيناك سبعاً هي المثاني ، كقوله تعالى : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، أي اجتنبوا الأوثان ؛ لأن بعضها رجس . قوله : " والقرآن " فيه أوجه : أحدها : أنه من عطف بعض الصفات على بعض ، أي : الجامع بين هذه النعتين . الثاني : أنه من عطف العام على الخاص ، إذ المراد بالسَّبع : إمَّا الفاتحة ، أو الطوال ، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص ، ثم باندراجه في العموم . الثالث : أنَّ الواو مقحمة ، وقرىء " وَالقُرآنِ " بالجر عطفاً على : " المَثَانِي " . قوله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا } الآية لما عرف رسوله عظيم نعمه عليه فيما يتعلق بالدِّين ، وهو أنه تعالى آتاه سبعاً من المثاني ، والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } ، أي لا تشغل سرك ، وخاطرك بالالتفات إلى الدنيا ، وقد أوتيت القرآن العظيم . قال أبو بكر رضي الله عنه " مَنْ أوتِي القرآن فرَأى أنَّ أحَداً أوتِي مِنَ الدنيَا أفضل ممَّا أوتِي ، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً " . وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ " أي لم يستغن . وقال ابن [ عبَّاسٍ ] رضي الله عنهما ـ : " لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ " ، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا . وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال : " إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء ، إذا أدام النَّظر نحوه ، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه ، وتمنِّيه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا " . وروي أنه صلى الله عليه وسلم " نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ ، وقد [ عَبِسَتْ ] في أبْوالِهَا ، وأبْعارِهَا ؛ فَتقنَّعَ في ثَوْبهِ ؛ وقَرأ هذِه الآية " . قوله : " عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا " هون أن تجف أبعارها ، وأبوالها على أفخاذها ، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع ؛ فيكثر شحومها ، ولحومها ، وهي أحسن ما تكون . قوله : { أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } . قال ابن قتيبة : أي أصنافاً من الكُفَّار ، والزَّوْجُ في اللغة : الصِّنف { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ؛ لأنهم لم يؤمنوا ، فيتقوى بإسلامهم ، ثم قال عز وجل { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } . الخفض : معناه في اللغة : نقيض الرفع ، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } [ الواقعة : 3 ] ، أي : أنَّها تخفض أهل المعاصي ، وترفع أهل الطَّاعة ، وجناح الإنسان : يدهُ . قال الليثُ رضي الله عنه يد الإنسان : جناحه ، قال تعالى : { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ } [ القصص : 32 ] ، وخفض الجناح كناية عن اللِّين ، والرّفقِ ، والتَّواضع ، والمقصود : أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار ، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ ونظيره ] { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] ، وقوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . قوله : { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالزُّهدِ في الدنيا ، وخفض الجناح للمؤمنين ، أمره أن يقول للقوم : { أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } ، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف ، وكونه [ شارحاً لمراتب ] الثَّواب والعقاب ، والجنَّة والنَّار ، ومعنى " المَبِين " الآتي بجميع البيِّنات الوافية . قوله : { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ } فيه أقوال : أحدها : أنََّ الكاف [ تتعلق ] بـ " آتَيْنَاكَ " ، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال : " أنزلنا عليك " ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون : { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } . الثاني : أنه نعت لمصدر محذوف منصوب بـ " آتَيْنَاكَ " تقديره : آتيناك إتياناً كما أنزلنا . الثالث : أنه منصوب نعت لمصدر محذوف ، ولكنَّه ملاق لـ " آتيْنَاكَ " من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا ؛ لأنَّ " آتَيْنَاكَ " بمعنى أنزلنا إليك . الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، والعامل فيه مقدَّر أيضاً ، تقديره : ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا ، والمعنى : نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم . الخامس : أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير ، والتقدير : أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا ، أي : مثل ما أنزلنا . السادس : أنه نعتٌ لمفعول محذوف ، النَّاصب له : " النَّذيرُ " ، تقديره : النَّذيرُ عذاباً { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ } وهم قوم صالح ؛ لأنهم قالوا : " لنُبَيتنَّه " وأقسموا على ذلك ، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ ، وشعرٍ ، وافتراءٍ . وقد ردَّ بعضهم هذا : بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً ، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين ، فلو عمل ثمَّ وصف جاز عند الجميع . السابع : أنَّه مفعول به ناصبه : " النَّذيرُ " أيضاً . قال الزمخشريُّ : " والثاني : أن يتعلق بقوله : { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } ، أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، يعني اليهود ، وما جرى على بني قريظة ، و النضيرِ " . وهذا مردودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً . قال ابن الخطيب : وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين : إمَّا التزامُ إضمارٍ ، ِأو التزام حذفٍ . أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير : إني أنا النذير [ المبين ] عذاباً ، كما أنزلنا على المقتسمين ، وعلى هذا الوجه : المفعول محذوف ، وهو المشبه ، ودلَّ عليه المشبه به ، كما تقول : رأيت كالقمر في الحسن ، أي : رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن ، وأمَّا الحذف ، فهو أن يقال : الكاف زائدة محذوفة ، والتقدير : إني أنا النذير [ المبين ما ] أنزلناه على المقتسمين ، وزيادة الكاف له نظير ، وهو قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . الثامن : أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدر ، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ " النَّذِير " عليه ، أي : أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين ، وهم قوم صالحٍ ، أو قريش ، قاله أبو البقاء رحمه الله وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ " النَّذير " كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ . وقد ردَّ ابن عطية على القول السادس بقوله : والكاف في قوله : " كَمَا " متعلقة بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا ، فالكاف : اسم في موضعِ نصبٍ ، هذا قول المفسِّرين . وهو غير صحيح ؛ لأنَّ : " كما أنزلنا " ليس ممَّا يقوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بل هو من كلام الله تعالى فيفصل الكلام ، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله تعالى قال له : أنذر عذاباً كما . والذي أقول في هذا المعنى : " وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك " . ويحتمل أن يكون المعنى : وقل : إنِّي أنا النذيرُ المبينُ ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين ، هم أهل الكتاب ، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال : الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى ، تقديره : أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا ، وإن كان المنزل الله ، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ : أمرنا بكذا ، وإن كان الملك هو الآمرُ . وأما قول أبي محمدٍ : " وأنزلنا عليهم ، كما أنزلنا عليك " ؛ كلامٌ غير منتظم ، ولعلَّ أصله : وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم : ، كذا أصلحه أبو حيان . وفيه نظر ، كيف يقدر ذلك ، والقرآن ناطق بخلافه ، وهو قوله : { عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ } . التاسع : أنه متعلق بقوله : " لنَسَألنَّهُمْ " تقديره : لنسألنَّهم أجمعين ، مثل ما أنزلنا . العاشر : أنَّ الكاف مزيدة ، تقديره : أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين . ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ " ما " مفعولٌ بـ " النذير " عند الكوفيين ، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف ، أو على إضمار فعل لائقٍ أي : أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين . الحادي عشر : أنه متعلق بـ " قل " ، التقدير : وقل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم ، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين ؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين ، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة ، تنذر المؤمن ، كما تنذر الكافر ، كأنه قال : أنا النذيرُ لكم ، ولغيركم . فصل قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما ـ : المقتسمون : هم الَّذينَ اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب عددهم من أربعين . وقال مقاتل بن سليمان رحمه الله ـ : كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم ، فاقتسموا شعاب مكَّة ، وطرقها يقولون لمن سلكها : لا تغتروا بالخارج منَّا ، والمدعي للنبوَّة ، فإنه مجنونٌ ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ ، أو كاهنٌ ، أو شاعرٌ ، فطائفة منهم تقول : ساحرٌ ، وطائفة تقول : إنه كاهنٌ ، وطائفة تقول : إنه شاعرٌ ، فأنزل الله عز وجل بهم خزياً ؛ فماتوا أشدَّ ميتة . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم اليهود ، والنصارى { جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } جزءوه أجزاء ، فآمنوا بما وافق التَّوراة ، وكفروا بالباقي . وقال مجاهد : قسموا كتاب الله تعالى ففرقوه ، وبدلوه . وقيل : قسَّموا القرآن ، وقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : كذبٌ ، وقال بعضهم : أساطير الأوَّلينَ . وقيل : الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : شاعرٌ ، وقال بعضهم : كاهنٌ . قوله : { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ } فيه أوجه : أظهرها : أنه نعت لـ " المُقْتَسمِينَ " . الثاني : أنه بدلٌ منه . الثالث : أنه بيانٌ . الرابع : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ . الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمرٍ . السادس : أنه منصوب بـ " النَّذيرُ المبِينُ " كما قاله الزمخشريُّ . وهو مردود بإعمال الوصف بالموصوف عند البصريين كما تقدَّم . و " عِضِينَ " جمع عِضَة ، وهي الفرقة ، والعِضِين : الفِرَق ، وتقدم معنى جعله القرآن كذلك ، ومعنى العِضَة : السِّحر بلغة قريش ، يقولون : هو عَاضهُ ، وهي عَاضِهَة ، قال : [ المتقارب ] @ 3292ـ أعُوذُ بِربِّي مِنَ النِّافِثَا تِ في عُقَدِ العَاضِهِ المُعْضهِ @@ وفي الحديث : " لَعنَ اللهُ العَاضِهةً والمُسْتعضِهَة " ، أي السَّاحرة ، والمُسْتسْحِرَة وقيل : هو من العضه ، وهو : الكذب ، والبهتان ، يقال : عَضَهَهُ عَضْهاً ، وعضيهةً ، أي : رماه بالبهتان ، وهذا قول الكسائي رحمه الله تعالى . وقيل : هو من العِضَاه ، وهو شجر له شوكٌ مؤذٍ ، قاله الفرَّاء . وفي لام " عِضَة " قولان يشهد لكلِّ منهما التصريف : الأول : الواو ، لقولهم : عِضَوات ، واشتقاقها من العضوِ ؛ لأنَّه جزء من كل كلمةٍ ولتصغيرها على " عُضَيَّة " . الثاني : الهاء ، لقولهم : عُضَيْهَة ، وعَاضَة ، وعَاضِهَة ، وعِضَة ، وفي الحديث " لا تَعْضِية في مِيراثٍ " ، وفسِّر : بأن لا تفريق فيما يضر بالورثة تفريقه كسيفٍ يكسر نصفين فينقص ثمنه . وقال الزمخشريُّ : " عِضِينَ " : أجزاء ، جمع عِضَة ، وأصلها عِضْوَة ، فعلة من عضَّى الشاة ، إذا جعلها أعضاءِ ؛ قال : [ الزاجر ] @ 3293ـ وليْسَ دِينُ اللهِ بالمُعَضَّى @@ وجمع " عِضَة " على " عِضِين " ، كما جمع سنة ، وثبة ، وظبة وبعضهم يجري النون بالحركات مع التاء ، وقد تقدم تقرير ذلك ، وحينئذ تثبت نونه في الإضافة ، فيقال : هذه عضينك . وقيل : واحد العِضِين : عِضَةٌ ، وأصلها : عِضْهَةٌ ، فاستثقلوا الجمع بين هاتين ، فقالوا : عِضَةٌ ، كما قالوا : شَفَةٌ ، والأصل : شَفْهَةٌ ، بدليل قولهم : شافهنا . قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } يحتمل أن يعود الضمير إلى المقتسمين ؛ لأن الأقرب ، ويحتمل أن يعود إلى جميع المكلفين ، لأنَّ ذكرهم تقدَّم في قوله تعالى : { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } أي : لجميع [ الخلائق ] . { عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال القرطبي : في البخاري : قال عدَّة من أهل العلم في قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } عن لا إله إلا الله . فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وبين قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] . فأجابوا بوجوه : أولها : قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ : لا يسألون سؤال استفهامٍ ؛ لأنه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم ، بل سؤال تقريع ، فيقال لهم : لم فعلتم كذا ؟ . وهذا ضعيف ؛ لأنه لو كان المراد من قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } [ الرحمن : 39 ] سؤال استفهام ، لما كان في تخصيص هذا النفي بقولهم " يَومئِذٍ " فائدة ؛ لأنَّ مثل هذا السؤال على الله محالٌ في كلِّ الأوقات . وثانيها : أنه يصرف النفي إلى بعض الأوقات ، والإثبات إلى وقت آخر ؛ لأنَّ يوم القيامة ، يوم طويل ، وفيه مواقف يسألون في بعضها ، ولا يسألون في بعضها ، قاله عكرمة عن ابن عباس ونظيره قوله تعالى : { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ] ، وقال في آية أخرى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] . ولقائلٍ أن يقول : قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ } [ الرحمن : 39 ] الآية : تصريحٌ بأنه لايحصل السؤال في ذلك اليوم ، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم ، لحصل التَّناقض . وثالثها : أن قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } [ الرحمن : 39 ] تفيد الآية النَّفي ، وفي قوله { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ } يعود إلى المقتسمين ، وهذا خاص فيقدم على العام . قوله : { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أصل الصَّدع : الشَّقُّ ، صدعته فانصدع ، أي : شَقَقتهُ ، فانْشَقّ . قال ابن السكِّيت : الصَّدعُ في اللغة : الشَّقٌّ ، والفصل ؛ وانشد لجرير : [ البسيط ] @ 3294ـ هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ @@ ومنه التفرقة أيضاً ؛ كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] وقال : [ الوافر ] @ 3295ـ … كَأنَّ بَياضَ غُرَّتهِ صَدِيعُ @@ والصَّديعُ : ضوءُ الفجر لانشقاقِ الظُّلمةِ عنه ، يقال : انْصدعَ ، وانْفلقَ ، وانْفجرَ ، وانْفطرَ الصُّبحُ ، ومعنى " فَاصدَعْ " فرق بني الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما . وقال الراغب : الصَّدعُ : الشقُّ في الأجسام الصَّلبةِ كالزجاج ، والحديد ، وصدّعته بالتشديد ، فتصدع وصَدعتهُ بالتخفيف ، فانْصَدعَ ، وصَدْعُ الرأس لتوهُّم الانشقاق فيه ، وصدع الفلاة ، أي : قطعها ، من ذلك ، كأنَّه توهم تفريقها . ومعنى " فاصْدَعُ " قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه ـ : أظهر . وقال الضحاك : أعلم . وقال الأخفش : فرِّق بين الحقِّ والباطل ، وقال سيبويه : اقْضِ . و " مَا " في قوله " بِمَا تُؤمَرُ " مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والأصل تؤمر به ، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه ، فحذف العائد فصيح ، وليس هو كقولك : جَاءَ الذي مررتُ ، ونحوه : [ البسيط ] @ 3296ـ أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ … @@ والأصل : بالخَيْرِ . وقال الزمخشريُّ : " ويجوز أن تكون " مَا " مصدرية ، أي : بأمرك مصدر مبنيّ للمفعول " انتهى . وهو كلامٌ صحيحٌ ، والمعنى : فاصدع بأمرك ، وشأنك . قالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية . ونقل أبو حيَّان عنه أنه قال : ويجوز أن يكون المصدر يراد به " أنْ " ، والفعل المبني للمفعول . ثم قال أبو حيان : " والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز " . قال شهابُ الدين : الخلاف إنَّما هو في المصدر ، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري ، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز ؟ خلاف المشهور ، أمَّا أنَّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بفعلٍ مبني للمفعولٍ ، نحو : يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز ؟ فليس محل النِّزاع . ثم قال تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } ، أي لا تبال عنهم ، ولا تلتفت إلى لومهم إيَّاك على إظهار الدَّعوة . قال بعضهم : هذا منسوخٌ بآية القتال ، وهو ضعيف ؛ لأنَّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة ، فلا يكون منسوخاً . قوله : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } ، ولا تخف أحداً غير الله ، فإن الله كافيك أعداءك كما كفاك المستهزيئن ، وهم خمسة نفرٍ من رؤساء قريش : الوليد بن المغيرة المخزوميُّ ، وكان رأسهم ، والعاص بن وائلٍ [ السهمي ] ، والأسود بن عبدالمطلب بن الحرث بن أسد بن عبدالعزى أبو زمعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه ، فقال : " اللَّهُمَّ أعْمِ بصَرهُ ، وأثْكلهُ بِولَدهِ " ، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد منافٍ بن زهرة ، والحرث بن قيس بن الطلالة ؛ فأتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم والمستهزءون يطوفون بالبيت ، فقام جبريل صلوات الله وسلامه عليه وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمرّ به الوليد بن المغيرة ، فقال جبريل عليه السلام ـ : يا محمد : كيف تجدُ هذا ؟ قال : " بئس عبدالله " قال : قد كَفَيْتُكَه ، وأؤْمَأ إلى ساق الوليد ، فمرَّ برجلِ من خزاعة نبَّال يَرِيشُ نَبْلاً ، وعليه برد يمان ، وهو يهز إزاره ، فتعلَّقت شظية نبلٍ بإزاره ، فمنعه الكبرُ أن يتطامن ، فينزعها ، وجعلت تضربُ ساقه ؛ فخدشته فمرض منها حتَّى مات . ومرَّ به العاص بن وائلٍ ، فقال جبريلُ : كيف تجد هذا يا محمد ؟ قال : بِئْسَ عبد الله ، فأشار جبريل عليه السلام إلى أخْمَصِ رجليه ، وقال : قد كفيتكه ، فخرج على راحلته ، ومعه ابنان له يتنزَّه ؛ فنزل شِعْباً من تلك الشِّعاب ، فوطىء على شبرقة ، فدخلت شوكة في أخمص رجله ، فقال : لُدِغْتُ لُدِغْتُ ؛ فطلبوا ، فلم يجدوا شيئاً ، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه . ومرّ به مربد بن الأسود بن المطلب ، فقال جبريل : كيف تجدُ هذا يا محمَّد ؟ قال : " عَبْدُ سوءٍ " ، فأشار بيده إلى عينيه ، وقال : قد كَفَيْتُكَهُ ، فعمي . قال ابن عباس رضي الله عنه ـ : رماه جبريل بورقةٍ خضراء ؛ فذهب بصره ، ووجعت عينه ، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك ، ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل عليه السلام ـ : كَيْفَ تَجِدُ هذا يا محمد ؟ قال : بئس عبد الله على أنه [ ابن ] خالي ، فقال جبريل عليه الصلاة والسلام ـ : قد كفيتكه فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات ، ومرَّ به الحارث بن قيسٍ ، فقال جبريل عليه السلام كيف تجد هذا يا محمَّد ؟ صلوات الله وسلامه عليك ـ ، قال : عَبدُ سُوءٍ فأومأ ، فامتخط قيحاً ؛ فمات . قيل : استهزاؤهم ، واقتسامهم أنَّ الله تعالى لمّا أنزل في القرآنِ سورة البقرةِ ، وسورة النحل ، وسورة العنكبوت ، كانوا يجتمعون ، ويقولون استهزاء ، يقول هذا إلى سورة البقرة ، ويقول هذا إلى سورة النحل ، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى : { نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } . قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ : فصلّ بأمر ربك : " وكُنْ مِنَ السَّاجدِينَ " المصلين [ المتواضعين ] . قال ابن العربي " ظنَّ بعض الناس أنَّ المراد هنا بالسجود نفسه ، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن ، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله تعالى يسجدُ في هذا الموضع ، وسجدت معه فيها ، ولم يره [ جماهير ] العلماء " . قال [ القرطبي ] ، وقد ذكر أبو بكر النقاش أنَّ ههنا سجدة عند أبي حذيفة رضي الله عنه ويمان بن رئاب ، ورأى أنها واجبة ، قال العلماء : إذا أنزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى [ الطاعات ] وروي أن رسول الله صلى لله عليه وسلم " كَانَ إذا حَزبه أمْرٌ فَزع إلى الصَّلاةِ " . { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما ـ : يريد الموت ؛ لأنه أمر متيقن . فإن قيل : فأيُّ فائدة لهذا التَّوقيت مع أنَّ كلَّ واحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات ؟ . فالجواب : المراد : " واعبد ربَّك " في جميع زمان حياتك ، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة . روى أبيُّ بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورة الحِجْرِ كان لَهُ مِنَ الأجْرِ عَشْرُ حَسناتٍ بِعدَدِ المُهَاجرِينَ والأنْصارِ والمُسْتَهزِئينَ بمُحمَّدٍ " صلّى الله عليه وسلّم وشرَّف ، وبجَّل ، ومجَّد ، وعظَّم .