Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 1-2)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } في " أتَى " وجهان : أشهرهما : أنه ماضٍ لفظاً مستقبل معنى ، إذ المراد به يوم القيامة ، وإنَّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به . والثاني : أنَّه على بابه . والمراد به مقدماته وأوائله ، وهو نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : جاء أمر الله ودنا وقرب . وقال ابن عرفة : " تقول العرب : أتاك الأمرُ وهو متوقَّع بعد أي : أتى أمر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً " . وقال قومٌ : المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذِّبين والعذاب بالسيف وذلك أنَّ النَّصر بن الحارث قال : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الأنفال : 32 ] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية ، وقتل النضر يوم بدر صبراً . وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : قوله تعالى : { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [ القمر : 1 ] قال الكفار بعضهم لبعض : إنَّ هذا يزعمُ أنَّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتَّى [ ننظر ] ما هو كائن ، فلما لم ينزل ، قالوا : ما نرى شيئاً ، [ فنزل قوله تعالى ] { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا ، فلما امتدَّت الأيام ، قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به ، فنزل قوله تعالى { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنُّوا أنها قد أتت حقيقة ، فنزل قوله { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فاطمأنُّوا . والاستعجال : طلب الشيء قبل حينه . واعلم أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - لمَّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله - تعالى - بقوله { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } وتقرير هذا الجواب من وجهين : أحدهما : أنه وإن لم يأتِ العذاب ذلك الوقت إلاَّ أنه واجب الوقوعِ ، والشيءُ إذا كان بهذه الحالة والصِّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد : إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع ، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت . والثاني : أن يقال : إنَّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع ، فأمَّا المحكوم به فإنَّما لم يقع ، لأنَّ الله - تعالى - حكم بوقوعه في وقتٍ معينٍ فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت ، والمعنى : أن أمر الله وحكمه بنزولِ العذاب قد وجد من الأزلِ إلى الأبدِ إلاَّ أنَّ المحكومَ إنَّما لم يحصل ، لأنَّه - تعالى - خصَّص حصوله بوقتٍ معيَّنٍ { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } قبل وقته ، فكأنَّ الكفار قالوا : سلَّمنا لك يا محمد صحة ما تقول : من أنَّه - تعالى - حكم بإنزال العذاب علينا إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة ، إلاَّ أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله - تعالى - بقوله { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . قوله : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } يجوز أن تكون " ما " مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أي : عن إشراكهم به غيره ، وأن تكون موصولة اسمية . وقرأ العامة { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين وقرأ ابن جبير بالياء من تحت عائداً على الكفار أو على المؤمنين . وقرأ الأخوان " تُشْرِكُونَ " بتاء الخطاب جرياُ على الخطاب في " تَسْتَعْجِلُوهُ " والباقون بالياء عوداً على الكفار ، وقرأ الأعمش وطلحة والجحدري وجم غفير بالتاء من فوق في الفعلين . قوله { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ } قد تقدم الخلاف في " يُنَزِّلُ " بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة . وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم " تُنَزَّلُ " [ مشدداً ] مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق . " المَلائِكَةُ " رفعاً لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الجحدري : كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي . وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو العالية - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق ، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل ، والأصل تتنزل بتاءين . وقرأ ابن أبي عبلة : " نُنَزِّلُ " بنونين وتشديد الزَّاي " المَلائِكةَ " نصباً ، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف . قال ابن عطية : " وفيهما شذوذٌ كبيرٌ " ولم يبين وجه ذلك . ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ ، وتخريجه على الالتفات . قوله : " بِالرُّوحِ " يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة ، أي : ومعهم الروحُ . قوله " مِنْ أمْرهِ " حال من الروح ، و " مِنْ " إمَّا لبيانِ الجنس ، وإما للتبعيض . قوله " أنْ أنْذِرُوا " في " أنْ " ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنَّها المفسرة ؛ لأن الوحي فيه ضرب من [ القول ] ، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي ؛ قال تعالى : { وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] وقال : { يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] . الثاني : أنها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، تقديره : أنَّ الشأن أقول لكم : أنه لا إله إلا أنا ، قاله الزمخشري . الثالث : أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ، ووصلت بالأمر ؛ كقولهم : كتبت إليه بأن قُمْ ، وتقدم البحث فيه . فإن قلنا : إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها ، وإن قلنا : إنها المخففة ، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنَّها مجرورة المحل بدلاً من " الرُّوحِ " لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس . الثاني : أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض ؛ كما هو مذهب الخليل . الثالث : أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه ؛ وهو مذهب سيبويه . والأصل : بأن أنذروا ؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور . قوله : { أَنَّهُ لآ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ } هو مفعول الإنذار ، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام ؛ يقال : أنْذرتهُ ، وأنْذَرتهُ بكذا ، أي : أعلموهم بالتوحيد . وقوله : " فاتَّقُونِ " التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة . فصل وجه النَّظم : أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم ؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون ؛ فكأنَّ الكفار قالوا : هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرِّ ، وعلى آخرين بالخير ، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله ؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته ؟ . فأجاب الله - تعالى - بقوله : { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لآ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } وتقرير هذا الجواب : أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده ، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد ، وبالعبادة ، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا ، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة ، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق . فصل روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يريد بـ " المَلائِكة " جبريل وحده . وقال الواحديُّ : يسمَّى الواحد بالجمع ؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز ، كقوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا } [ القمر : 19 ] ، و { إنَّآ أَنزَلْنَا } [ النساء : 105 ] ، و { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] . والمراد بالروح الوحي كما تقدم ، وقيل : المراد بالروح هنا النبوة ، وقال قتادة رحمه الله تعالى : الرحمة ، وقال أبو عبيدة : إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام . والباءُ في قوله " بِالرُّوحِ " بمعنى " مع " كقولهم : " خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ " أي : ومعه ثيابهُ . والمعنى : نُنزِّلُ الملائكة مع الروح ؛ وهو جبريل ، وتقرير هذا الوجه : أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الحوالِ ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة ؛ كما في يوم بدرٍ ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال ، وتارة ملك البحار ، وتارة رضوان ، وتارة غيرهم . وقوله " مِنْ أمْرهِ " أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله ؛ كقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] وقوله تعالى : { وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وقوله : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . وقوله : { عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } يريد الأنبياء المخصوصين برسالته : " أنْ أنْذِرُوا " قال الزجاج : " أنْ " بدلٌ من " الرُّوحِ " . والمعنى : ينزِّل الملائكة بأن أنذروا ، أي : أعلموا الخلائق ، أنَّه لا إله إلا أنا ، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف . " فاتَّقُون " فخافون . يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عليه الصلاة والسلام - اثنتي عشرة مرة ، وعلى إدريس أربع مراتٍ ، وعلى نوح - عليه الصلاة والسلام - خمسين مرَّة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات ، وعلى عيسى عشر مراتٍ ، وعلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ .