Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 3-9)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ } ارتفع { عَمَّا يُشْرِكُونَ } اعلم أنَّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين : أحدهما : أن يتمسَّك بالأظهر مترقياً إلى الأخفى ، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلاً على احتياجه إلى الخالق . ثم استدل بتغير أحوال الآباءِ ، والأمهاتِ ؛ قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] . ثم استدلَّ بأحوال الأرض ؛ فقال تعالى : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء . ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض ؛ فقال تعالى : { وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } [ البقرة : 22 ] . ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء ، والأرض ؛ فقال سبحانه : { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } [ البقرة : 22 ] . النوع الثاني : أن يستدل بالأشرف ، فالأشرف نازلاً إلى [ الأدون فالأدون ] ؛ كما ذكر في هذه الآية ، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية ، فقال : { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام ، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان ، فقال عز وجل : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } . واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ . واعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ ، فقوله تعالى : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه . وقوله عز وجل : { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره ، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة ؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول : إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة ؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم . الثالث : أنَّ الغذاء يحصل له : في المعدةِ هضم أولٌ ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ ، وفي العروق هضم ثالثٌ ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ . ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ ، وظهر فيه أثرٌ من [ الطبيعة ] العظيمة ، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ ، و غيرها . ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء ؛ وذلك هو النطفة ، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع . وإذا عُرف هذا ، فالنطفةُ : إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ ، والماهيةِ ، أو مختلف الأجزاءِ ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره . وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم : البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة ؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك ؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة ؛ بل فاعل مختار ، وهو يخلق بالتَّدبير ، والحكمة ، والاختيار ، وإن قلنا : إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم ، وبيانه من وجهين : الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة ، وإذا كان كذلك ؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل ، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً ؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار . الوجه الثاني : أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً . وإذا كان كذلك ، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض . وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك ، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة ؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ . قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ } متعلق بـ " خَلَقَ " و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ . والنُّطفَةُ : القطرة من الماءِ ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً ، أي : قطر ، وقيل : هي الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماءِ الرجل ، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ ، ومنه : صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة ، ويقال : ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر ، والنَّاطفُ : ما سال من المائعات يقال : نَطَفَ يَنطفُ ، أي : سال فهو نَاطِف ، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ . قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } عطف هذه الجملة على ما قبلها ، فإن قيل : الفاءُ تدل على التعقيب ، ولا سيَّما وقد وجد معها " إذا " التي تقتضي المفاجأة ، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ . فالجواب من وجهين : أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه ، كقوله تعالى : { أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] . والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم . وقيل : ثمَّ وسائط محذوفة . والذي يظهر أن قوله " خَلقَ " عبارة عن إيجاده ، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين . و " خَصِيمٌ " : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم ، كالخَليطِ والجَليسِ ، ومعنى " خَصِيمٌ " جدولٌ بالبَاطلِ . فصل اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك . قال الواحديُّ رحمه الله : الخصيمُ بمعنى المخاصم . وقال أهل اللغة : خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف ، كالنَّسيبِ والعَشيرِ . ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم : أنَّ [ النفوس ] الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات ؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ التصديق والعدوَّ ، ويهرب من الهرَّةِ ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق . وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع ، فظهر أن الإنسان في أول الحدوثِ أنقص حالاً ، وأقلُّ فطنة من سائر الحيوانات . ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، ويقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } . وفي معنى كونه خصيماً مبيناً وجهان : الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً ، لا حسَّ فيه ولا حركة ، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم . والثاني : فإذا هو خصيمٌ لربِّه ، منكر على خالقه ، قائل : { مَن يُحيِ ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة . كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي ؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذه بعدما قد رُمّ ؟ . والصحيح أنَّ الآية عامة ؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران . قوله تعالى : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } الآية هذه الدلالة الثالثة ؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة ، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب . قوله : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا } العامة على النصب ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة . والثاني : أنه نصب على عطفه على " الإنْسانَ " ، قاله الزمخشريُّ ، وابن عطيَّة فيكن " خَلقَهَا " على هذا مؤكداً ، وعلى الأول مفسراً . وقرئ شاذًّا " والأنْعَامُ " رفعاً وهي مرجوحةٌ . قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يتعلق " لكم " بـ " خلقها " ، أي : لأجلكم ولمنافعكم ، ويكون " فيها " خبراً مقدماً ، و " دفء " مبتدأ مؤخرٌ ، ويجوز أن يكون " لَكُمْ " هو الخبر ، أو يكون " فِيهَا " هو الخبر ، و " لَكمْ " متعلق بما تعلَّق به الخبر ، أو يكون " فيها " حالاً من " دِفْءٌ " لأنه لو تأخر لكان صفة له ، أو يكون " فيها " هو الخبر ، و " لكم " متعلق بما تعلق به ، أو يكون حالاً من " دفء " قاله أبو البقاء . وردَّه أبو حيَّان : بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا ، فلا يتقدم على الجملة بأسرها ، ولا يجوز " قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ " فإن تأخَّرت نحو " زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً " جاز بلا خلافٍ ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره . ولقائل أن يقول : لما تقدم العامل فيها ، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول : لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح . وقال أبو البقاء أيضاً : " ويجوز أن يرتفع " دِفْءٌ " بـ " لَكُمْ " أو بـ " فِيهَا " والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب " . قال أبو حيان " ولا يسمَّى جملة ، لأنَّ التقدير : خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ " . قال شهابُ الدِّين : " قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراً ، هل يقدر فعلاً أو اسماً ، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا " . والدِّفءُ : اسم لما يدفأ به ، أي : يسخنُ . قال الأصمعيُّ : ويكون الدفءُ السخونة ، يقال : اقعد في دفء هذا الحائط ، أي : في كنفه ، وجمعه أدفَاء ، ودَفِىءَ يومنا فهو دَفيءٌ ، ودَفِىءَ الرَّجلُ يَدْفأ دَفَأة فهو دَفْآنُ ، وهي دَفْأى ، كَسَكْران ، وسَكْرَى . والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد ، الإبل الكثيرة الوبر والشَّحم ، وقيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها . وقرأ زيد بن علي : " دِفٌ " بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ ، والزهريُّ : كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء ، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف ، نحو قولهم : هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً . وقال صاحب اللَّوامحِ : " ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً " . قال شهابُ الدِّين : والتشديد وقفاً : لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها . قوله " ومَنافِعُ " أراد النَّسْل ، والدَّرَّ ، والركوب ، والحملَ ، وغيرها ، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة ؛ لأنَّه الأعمُّ ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب ، وسائر الضَّرورياتِ ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل . فصل الحيوانات قسمان : منها ما ينتفع به الإنسان ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والقسم المنتفع به [ أفضل ] من الثاني ، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته ، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته ، والأول أشرف وهو الأنعام ، فلهذا بدأ بذكره فقال : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي عبارة عن الأزواج الثمانية ، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل . قال الواحديُّ : تمَّ الكلام عند قوله : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا } ثم ابتدأ وقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } . قال صاحبُ النَّظم : أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : " خَلَقَهَا " ؛ لأنه عطف عليه { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } والتقدير : لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ . ولما ذكر الأنعام ، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها ، وهي إما ضرورية ، أو غير ضرورية ، فبدأ بذكر المنافع الضرورية ؛ فقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى ، فقال سبحانه : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [ النحل : 80 ] . والمعنى : ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها ، ثم قال : " ومَنافِعُ " والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها . ثم قال : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ، " مِنْ " ها هنا لابتداء الغاية ، والتبعيض هنا ضعيفٌ . قال الزمخشري : " فإن قلت : تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها ، قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس ، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد ، فكغير المعتد به ؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ " . قال ابن الخطيب : " ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها ؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر ، والحب والثّمار التي تأكلونها ، وتكتسبون بها ، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها ، وألبانها ، وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم " . فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس ، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر ؟ . فالجواب : أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم ؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام ، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ : الأول : قوله { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } كقوله { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } . و " حِينَ " منصوب بنفس " جمالٌ " أو بمحذوفٍ ، على أنه صفة له ، أو معمولٌ لما عمل في " فِيهَا " أو في " لَكُمْ " . وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري - رحمهم الله - : " حِيناً " بالتنوين ؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له ، والعائد محذوف ، أي : حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه ، كقوله : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ } [ البقرة : 281 ] وقدِّمت الإراحة على [ السرح ] ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها ، بخلاف التسريح ؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر . فصل قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ : الأول : بمعنى الوقت كهذه الآية . الثاني : منتهى الأجل ، قال : { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [ يونس : 98 ] ، أي : إلى منتهى آجالهم . الثالث : إلى ستة اشهر ، قال تعالى : { تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ] . الرابع : أربعون سنة ، قال تعالى : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } [ الإنسان : 1 ] . أي : أربعون سنة ، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح . والجمالُ : مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ ، وحكى الكسائي : جَمْلاء كحَمْرَاء ؛ وأنشد : [ الرمل ] @ 3297 - فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طَالعٍ بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ @@ ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة ، وسرح الإبل يسرحها سرحاً ، أي : أرسلها ، وأصله أن يرسلها لترعى ، والسَّرحُ : شجرٌ له ثمرٌ ، الواحدة سرحةٌ ، قال أبيّ : [ الطويل ] @ 3298 - أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ @@ وقال : [ الكامل ] @ 3299أ - بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ @@ ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ ، واستعير أيضاً للطلاق ، يقال : سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها ، واعتبر من السَّرح المضي فقيل : ناقة [ سرحٌ ] ، أي : سريعة ، وقيل : [ الكامل ] @ 3299ب - سُرُحُ اليَديْنِ كَأنَّهَا … … @@ وحذف مفعولي " تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ " مراعاة للفواصل مع العلم بها . فصل الإراحةُ : ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ، وسرح القوم إبلهم سرحاً ، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى . قال أهل اللغة : هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث ، وكثر الكلأُ ، وخرجت العرب للنّجعةِ ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت . ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية ، وكثر فيها النفاء والرغاء ، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها . والمنفعة الثانية قوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ } . الأثقالُ : جمع ثِقَل ، وهو متاع السَّفر إلى بلدٍ . قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : " يريد من مكة إلى [ المدينة ] والشام ومصر " . وقال الواحديُّ - رحمه الله - : " والمراد كلُّ بلدٍ لو تكلفتم بلوغه على غير إبلٍ لشقَّ عليكم " . وخصَّ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه البلاد لأنَّها متاجر أهل مكة . قوله { لَّمْ تَكُونُواْ } صفة لـ " بَلدٍ " ، و " إلاَّ بشقِّ " حال من الضمير المرفوع في " بَالغِيهِ " ، أي : لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقةِ . والعامة على كسر الشِّين . وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع ، وأبي عمرو بفتحها ؛ فقيل : هما مصدران بمعنى واحد ، أي : المشقَّة فمن الكسرِ قول الشاعر : [ الطويل ] @ 3300 - رَأى إبلاً تَسْعَى ويَحْسِبُهَا لَهُ أخِي نَصبٍ مِنْ شِقِّهَا ودُءُوبِ @@ أي : من مشقّتها . وقيل : المفتوح المصدر ، والمكسور الاسم . وقيل : بالكسر نصف الشيء . وفي التفسير : إلاَّ بنصف أنفسكم ، كما تقول : لَمْ تَنلهُ إلا بقطعه من كيدك على المجاز . فصل أذا حملنا الشقَّ على المشقَّةِ كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلاَّ بالمشقَّة ، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها . قال بعضهم : المراد من قوله تعالى { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } الإبل فقط ، لأنه وصفها في آخر الآية بقوله - عز وجل - { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهذا لا يليق إلاَّ بالإبل فقط . والجواب : أنَّ هذه الآيات وردت لتعديدِ منافع الأنعام ، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلِّ ، وبعضها يختص بالبعض ، لأنَّ قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } حاصل في البقر والغنم أيضاً . { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع . فصل احتجَّ منكرو كرامات الأولياءِ بهذه الآية ، لأنَّ هذه الآية دلت على أنَّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا بشقِّ الأنفس ، وحملِ الأثقالِ على [ الجمال ] ، فيكون الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ في ليلةٍ واحدةٍ من غير تعبٍ ، وتحمُّل مشقة خلاف هذه الآية ، فيكون باطلاً . ولمَّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة ، بطل القول بها في سائر الصُّورِ ؛ لأنه لا قائل بالفرق . والجواب : أنَّا نَخُصُّ هذه الآية بالأدلَّة الدالة على وقوع الكرامات . قوله : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ } العامة على نصبها ؛ نسقاً على الأنعام ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها ، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا . قال القرطبي : " وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها ، وواحد الخيل خائل ، كضَائن واحد ضأن . وقيل : لا واحد له ، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل ، والبغال ، والحمير ، بالذكر ؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام . وقيل : دخلتْ ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب ، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير " . قوله : " وَزِينَةً " في نصبها أوجهٌ : أحدها : أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا } وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول ، وعدم اتحاد الفاعل ، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون . الثاني : أنَّها منصوبة على الحال ، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول " خَلَقَهَا " وإمَّا مفعول " لِترْكَبُوهَا " فهو مصدر ، وأقيم مقام الحالِ . الثالث : أن ينتصب بإضمار فعلٍ ، فقدره الزمخشريُّ - رحمه الله - وخلقها زينة . وقدره ابن عطيَّة وغيره : وجعلها زينةً . الرابع : أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي : " ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً " . وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر : " لتَرْكَبُوهَا زِينَةً " بغير واوٍ ، وفيها الأوجه المتقدمة ؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل " لِترْكبُوهَا " متزينين . فصل لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية ، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } ، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل . واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ ؛ وهو قول ابن عباسٍ ، والحكم ، ومالك ، وأبي حنيفة - رضي الله عنهم - بهذه الآيةِ ، قالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب ، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً ؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر ، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله . ويقوِّي هذا الاستدلال : أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ . ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير ، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب ، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام . وأيضاً قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا } يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة ، هو الركوبُ والزينةُ ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب ، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً ؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ ؛ بل يصير بعض المقصودِ . وأجاب الواحديُّ - رحمه الله - : بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل ؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة ؛ لأنَّ هذه السورة مكية . ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً ؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم ، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [ السنة ] فائدة . وأجاب غيره : بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم ؛ بل المراد منه أن يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه ، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته . واحتجُّوا بقولِ جابر - رضي الله عنه - : " نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ " . ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها ، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال . فقال سبحانه وتعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء ؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال . وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحارِ السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عليه الصلاة والسلام - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك ، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " . قوله : { وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } الآية والمعنى : إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها ؛ إزاحةً للعذرِ ؛ وإزالة للعلَّة { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] . قوله : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } الضمير يعود على السبيل ؛ لأنَّها تؤنث { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [ يوسف : 108 ] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ ، فأنَّث على معنى الجمع ، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد ، يقال : سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ ، أي : مستقيمٌ ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . وقيل : الضمير يعود على الخلائق ؛ ويؤيده قراءة عيسى ، وما في مصحف عبد الله : " ومِنْكُمْ جَائِرٌ " ، وقراءة عليّ : " فَمِنكُمْ جَائِرٌ " بالفاء . وقيل : " ألْ " في " السَّبيلِ " للعهد ؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية ؛ لأنَّه قيل : ومن السبيل فأعاد عليها ، وإن لم يجر له ذكر ؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها ، وأما إذا كانت " ألْ " للجنس فيعود على لفظها . والجَوْرُ : العدول عن الاستقامة ؛ قال النابغة : [ الطويل ] @ 3301 - … يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي @@ وقال آخر : [ الكامل ] @ 3302 - ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ @@ وقال أبو البقاء : و " قَصْدُ " مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل ، أو تعديل السبيل ، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ . فصل قوله : { وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة ، وقيل : بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين ، والقصد : الصراط المستقيم . { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } يعني : ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ ، والقصد من السبيل دينُ الإسلامِ ، والجائر منها : اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ . قال جابر بن عبد الله : " قَصْدُ السَّبيلِ " بيانُ الشَّرائع والفرائض . وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله : " قَصْدُ السَّبيلِ " السنة ، " ومِنْهَا جَائِرٌ " الأهواء والبدع ؛ لقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ } [ الأنعام : 153 ] . فصل قالت المعتزلة : دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [ والأعذار ] ؛ لقوله { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } وكلمة " عَلَى " للوجوب ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه ، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال ؛ لقال { وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } وعليه جائرها ، أو قال : وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك ، بل قال في قصد السبيل أنه عليه ، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه ، بل قال : " ومِنْهَا جَائِرٌ " دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً . وأجيب : بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ ؛ أن يبين الدِّين الحق ، والمذهب الصحيح ، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال ؛ فذلك غير واجب . قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان ؛ لأنَّ كلمة " لَوْ " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، أي : ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين ، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم . وأجاب الأصمُّ : بأنَّ المراد : لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم ، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل . وأجاب الجبائيُّ : بأنَّ المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب ؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان ؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين . وأجاب بضعهم ؛ فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل ، إلاَّ أنَّه - تعالى - [ عرَّفكمُ ] للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن ، فمن تمسَّك بها فاز ، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب . وتقدم الجواب عن ذلك مراراً .