Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 48-55)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } الآية قرأ الأخوان : " تَرَوْا " بالخطاب جرياً على قوله : " فإنَّ ربَّكُمْ " . والباقون : بالياء جرياً على قوله : { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ } [ النحل : 45 ] . وأما قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلطَّيْرِ } [ الملك : 19 ] فقراءة حمزة أيضاً بالخطاب ، ووافقه ابن عامر فيه ؛ فحصل من مجموع الآيتين : أنَّ حمزة بالخطاب فيهما ، والكسائي بالخطاب في الأولى ، والغيبة في الثانية ، وابن عامر بالعكس ، والباقون : بالغيبة فيهما . وأما توجيهُ الأولى فقد تقدم ، وأما الخطاب في الثانية ؛ فجرياً على قوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] وأمَّا الغيبة ؛ فجرياً على قوله تعالى { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ النحل : 73 ] إلى آخره ، وأمَّا تفرقة الكسائي ، وابن عامرٍ بين الموضعين ؛ فجمعاً بين الاعتبارين ، وأنَّ كلاًّ منهما صحيح . فصل لمَّا خوَّف المشركين بأنواع العذاب المتقدمةِ ، أردفه بما يدلُّ على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي ، والسفلي ؛ ليظهر لهم أنَّ مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير متناهية ، كيف يعجز عن إيصال العذاب إليهم ؟ وهذه الرؤية لما كانت بصرية وصلت بـ " إلى " ؛ لأن المراد بها الاعتبارُ ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية ، حتى يكون مع النظر إلى الشيء الكامل في أحواله . قوله : { مِن شَيْءٍ } هذا بيان لـ " مَا " في قوله : { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ } فإنها موصولة بمعنى الذي . فإن قيل : كيف يبين الموصول وهو مبهم بـ " شيء " وهو مبهم ؛ بل أبهم ممَّا قبله ؟ . فالجواب : أن شيئاً قد اتضح ، وظهر بوصفه بالجملة بعده ؛ وهي : " يَتفيَّؤ ظِلالهُ " . قال الزمخشري : و " مَا " موصولة بـ " خَلقَ الله " وهو مبهمٌ ؛ بيانه في قوله { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } . وقال ابن عطية : " مِنْ شيءٍ " لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله : " يتَفيَّؤُ ظِلالهُ " . فظاهر هاتين العبارتين : أن جملة " يَتَفيَّؤ ظِلالهُ " صفة لـ " شَيءٍ " فأما غيرهما ؛ فإنه قد صرح بعدم كون الجملة صفة ؛ فإنه قال : والمعنى : من كل شيءٍ له ظلٌّ من جبل ، وشجر ، وبناء ، وجسم قائم ، وقوله " يَتفيَّؤُ ظِلالهُ " إخبار من قوله " مِنْ شَيءٍ " ليس بوصف له ، وهذا الإخبار يدلُّ على ذلك الوصف المحذوف الذي تقديره : هو له ظل . وفيه تكلف لا حاجة إليه ، والصفة أبين و " مِنْ شيءٍ " في محل نصبٍ على الحالِ من الموصول ، أو متعلق بمحذوف على جهة البيان ؛ أعني : من شيء . والتَّفَيُّؤ : تَفعُّلٌ من فَاءَ يَفِيءُ ، أي : رَجَعَ ، و " فاء " : قاصر فإذا أريد تعديته عدِّي بالهمزة كقوله { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } [ الحشر : 7 ] أو بالتضعيف نحو : فَيَّأ الله الظِّلَ فتَفيَّأ ، وتَفيَّأ : مطاوع فَيَأ ، فهو لازم ، ووقع في شعر أبي تمَّامٍ متعدِّياً في قوله : [ الكامل ] @ 3312 - … وتَفَيَّأتْ ظِلاَّلَهَا مَمْدُودَا @@ واختلف في الفيء ، فقيل : هو مطلق الظل ، سواء كان قبل الزوالِ ، أو بعده ، وهو الموافق لمعنى الآية ههنا . وقيل : ما كان قبل الزوال فهو ظلٌّ فقط ، وما كان بعده فهو ظل وفيءٌ ، فالظل أعم . يروى ذلك عن رؤبة بن العجَّاج ، وأنكر بعضهم ذلك ، وأنشد أبو [ زيد ] للنَّابغة الجعدي : [ الخفيف ] @ 3313 - فَسلامُ الإلهِ يَغْدُو عَليْهِمْ وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذَاتِ الظِّلالِ @@ فأوقع لفظ " الفَيءِ " على ما لم تنسخه الشمس ؛ لأن ظلَّ الجنة ما حصل بعد أن كان زائلاً بسبب ضوء الشمس . وقيل : بل تختصُّ الظلُّ : بما قبل الزوال ، والفيء : بما بعده . قال الأزهري : تَفيُّؤ الظِّلال : رُجوعُهَا بعد انتِصَافِ النَّهارِ ، فالتفيؤ : لا يكون إلا بالعشيِّ بعدما انصرفت عنه الشمس ، والظل ما يكون بالغداةِ ، وهو ما لم تنله الشمس ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3314 - فَلا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعهُ ولا الفَيءُ مِنْ بَرْدِ العَشيِّ تَذُوقُ @@ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 3315 - تَيَمَّمتِ العَيْنَ الَّتي عِندَ ضَارِجٍ يَفِيءُ عليْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ @@ وقد خطأ ابن قتيبة الناس في إطلاقهم الفيء على ما قبل الزوال وقال : إنما يطلق على ما بعده ؛ واستدل بالاشتقاق ؛ فإن الفيء هو الرجوع ، وهو متحقق بما بعد الزَّوال [ قال : وإنما يطلق على ما بعده ] ، فإن الظل يرجع إلى جهة المشرق بعد الزوال بعد ما نسخته الشمس قبل الزوالِ . وتقول العربُ في جمع فَيء : " أفْيَاء " للقليل ، و " فُيُؤٌ " للكثير ؛ كالبيوت ، والعيون ، وقرأ أبو عمرو " تَتفَيَّؤُ " بالتاء من فوق مراعاة لتأنيث الجمع ، وبها قرأ يعقوب ، والباقون بالياء لأنه تأنيث مجازي . وقرأ العامة : " ظِلاله " جمع ظلٍّ ، وعيسى بن عمر " ظِلَلُه " جمع ظِلَة ؛ كـ " غُرْفَة ، وغُرَف " . قال صاحب اللَّوامح في قراءة عيسى " ظِلَلُه " : والظَّلَّة : الغَيْمُ : وهو جسم ، وبالكسر : الفيء ، وهو عرض فرأى عيسى : أنَّ التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى منه بالإعراض ، وأما في العامة فعلى الاستعارةِ . قال الواحدي : " ظِلالهُ " أضاف الظلال إلى مفرد ، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ، وإنما حسن هذا ؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير ، وإن كان واحداً في اللفظ ، وهو قوله تعالى { إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ } إلاَّ أنه كثير في المعنى ؛ كقوله تعالى { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ } [ الزخرف : 13 ] فأضاف الظُّهور ، وهو جمع إلى ضمير مفرد ؛ لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة في المعنى ، وهو قوله تعالى : { مَا تَرْكَبُونَ } انتهى . قوله تعالى : { عَنِ ٱلْيَمِينِ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعلق بـ " يَتفيَّؤُ " ومعناها المجاوزة أي : يتجاوز الظلال عن اليمين إلى الشمائل . الثاني : أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من " ظِلالهُ " . الثالث : أنها اسم بمعنى جانب ، فعلى هذا يبنتصب " إلى " على الظرف . وقوله : { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ } فيه سؤالان : أحدهما : ما المراد باليمين والشمائل ؟ . والثاني : كيف أفرد الأول ، وجمع الثاني ؟ . وأجيب عن الأول بأجوبة : أحدها : أنَّ اليمين يمين الفلك ؛ وهو المشرق ، والشمائل شماله ، وهو المغرب ، وخصَّ هذان الجانبان ؛ لأنَّ أقوى الإنسان جانباه ؛ وهما يمينه وشماله ، وجعل المشرق يميناً ؛ لأن منه تظهر حركة الفلك اليومية . الثاني : البلدة التي عرضها أقلُّ من الميل تكونُ الشمس صيفاً عن يمين البلد فيقع الظل عن يمينهم . الثالث : أن المنصوب للعبرة كلُّ جرمٍ له ظلٌّ ، كالجبل ، والشجر ، والذي يترتب فيه الأيمان ، والشمائل ، إنما هو البشر فقط ، ولكن ذكر الأيمان ، والشمائل ، هنا على سبيل الاستعارة . الرابع : قال الزمخشريُّ : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ } من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها ، وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقَّيه استعارة من يمين الإنسان ، وشماله لجانبي الشيء ، أي : يرجع من جانب إلى جانب . وهذا قريب ممَّا قبله ، وأجيب عن الثاني بأجوبة : أحدها : أن الابتداء يقع من اليمين ، وهو شيءٌ واحدٌ ؛ فلذلك وحد اليمين ، ثم ينتقص شيئاً فشيئاً وحالاً بعد حال ، فهو بمعنى الجمع ، فصدق على كل حال لفظة الشمائل ؛ فتعدُّد بتعدُّد الحالات ، وإلى قريب منه نحا أبو البقاء - رحمه الله - . والثاني : قال الزمخشريُّ : واليمين بمعنى الأيمان ، يعني أنَّه مفرد قائم مقام الجمع ، وحينئذ فهما في المعنى جمعاً ؛ كقوله تعالى { وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] أي الأدبار . الثالث : قال الفراء : لأنه إذا وحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظِّلال ، وإذا جمع ذهب إلى كلِّها ؛ لأن قوله تعالى { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } لفظه واحد ، ومعناه الجمع ، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد ؛ كقوله تعالى { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] وقوله عز وجل : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] . الرابع : أنَّا إذا فسَّرنا اليمين بالمشرق ؛ كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها ، فكانت اليمين واحدة ، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض ، وهي كثيرة ؛ فلذلك عبَّر عنها بصيغة الجمع . الخامس : قال الكرمانيُّ : " يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال ، والخلف ، والقُدَّام ؛ لأنَّ الظل يفيء من الجهات كلها ، فبدأ باليمين ؛ لأنَّ ابتداء الفيء منها ، أو تيمُّناً بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظة الشمال ؛ لما بين اليمين ، والشمال من التضادِّ ، ونزَّل القدَّام والخلف منزلة الشمال ؛ لما بينهما وبين اليمين من الخلاف " . السادس : قال ابن عطية : " وما قال بعض الناس من أنَّ اليمين أول وقعةٍ للظل بعد الزوالِ ، ثم الآخر إلى الغروب ، هي عن الشمائلِ ؛ ولذلك جمع الشمائل ، وأفرد اليمين ؛ فتخليطٌ من القول ، ومبطل من جهات " . وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : " إذا صليتَ الفجر كان ما بين مطلع الشمس ، ومغربها ظلاَّ ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً ؛ فقبض إليه الظلَّ ؛ فعلى هذا فأول دورة الشمس فالظلُّ عن يمين مستقبل الجنوب ، ثم يبدأ الانحرافُ ، فهو عن الشمائل ؛ لأنه حركاتٌ كثيرة ، وظلالٌ منقطعة ، فهي شمائلُ كثيرة ؛ فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عامًّا لكل شيءٍ " . السابع : قال ابن الضائع رحمه الله : " وجمع بالنظر إلى الغايتين ؛ لأنَّ ظل الغداة يضمحلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ ، فكأنه في جهة واحدة ، وهي بالعشيِّ - على العكس - لاستيلائه على جميع الجهات ، فلحظت الغايتان في الآية ، هذا من جهة المعنى ، وأما من جهة اللفظ ، ففيه مطابقة ؛ لأنَّ " سُجَّداً " جمع ، فطابقه جمع الشَّمائل ؛ لاتصاله به ؛ فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ، ولحظهما معاً ؛ وتلك الغاية في الإعجاز " . قوله " سُجَّداً " حال من " ظِلالهُ " ، وسُجَّداً جمع ساجدٍ ، كشَاهِدٍ وشُهَّد ورَاكِع ورُكَّع . والسجودُ : الميل ، يقال : سَجدتِ النَّخلةُ إذا مالتْ ، وسَجدَ البَعيرُ إذَا طَأطَأ رأسه ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 3316 - … تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوافرِ @@ فالمراد بهذا السجود التواضعُ . واعلم أن انتقاص الظلِّ بعد كماله إلى غاية محدودة ثمَّ ازدياده بعد غاية نقصانه ، وتنقله من جهة إلى أخرى على وفقِ تدبير الله ، وتقديره بحسب الاختلافاتِ اليوميَّة الواقعة في شرق الأرض ، وغربها ، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة على وجه مخصوصٍ ، وترتيب معيِّنٍ لا يكون إلا لكونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره ؛ فكان السجود عبارة عن تلك الحال . فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : اختلاف هذه الظلال معلَّلٌ باختلاف سير الشمس لا لأجل تقدير الله ؟ . فالجوابُ : أنَّا وإن سلمنا ذلك ، فمحرك الشمس بالحركة الخاصَّة ليس إلاَّ الله - تعالى - فدل على أنَّ اختلاف أحوال هذه الظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى ، وقيل : هذا سجود حقيقة ؛ لأن هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد ، قال أبو العلاء المعرِّي ، في صفة وادٍ : [ الطويل ] @ 3317 - بِخَرْقٍ يُطِيلُ الجُنْحَ فِيهِ سُجودَهُ وللأرْضِ زِيّ الرَّاهبِ المُتعبِّدِ @@ فلمّا كان شكل الأظلال يشبه شكل الساجدين ، أطلق عليه السجود ، وكان الحسنُ يقول : أما ظلُّك ، فسجد لربِّك ، وأما أنت ، فلا تسجد له ؛ بئسما صنعت . وعن مجاهدٍ : ظلُّ الكافر يصلِّي ، وهو لا يصلِّي ، وقيل : ظلُّ كلِّ شيءٍ يسجد لله ، سواء كان ذلك ساجداً لله ، أم لا . قوله : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } في هذه الجملة ثلاثة أوجه : أحدها : أنها حال من الهاء في " ظِلالهُ " . قال الزمخشريُّ : " لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق الله من كلِّ شيءٍ له ظل ، وجمع بالواو والنون ؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصاف العقلاء ، أو لأنَّ في جملة ذلك من يعقل فغلب " . وقد ردَّ أبو حيَّان هذا بأن الجمهور لا يجيزون مجيء الحالِ من المضاف إليه ، وهو نظير جَاءنِي غُلامُ هِندٍ ضَاحِكَةً ، قال : " ومن أجاز مجيئها منه إذا كان المضاف جزءاً ، أو كالجزءِ جوز الحالية منه هنا ؛ لأنَّ الظل كالجزء ؛ إذ هو ناشيء عنه " . الثاني : أنها حال من الضمير المستتر في " سُجَّدًا " فهي حال متداخلة . الثالث : أنها حال من " ظِلالهُ " فينتصب عنه حالان ، ثم لك في هذه الواو اعتباران : أحدهما : أن تجعلها عاطفة حالاً على مثلها ، فهي عاطفة ، وليست بواو حالٍ ، وإن كان خلو الجملة الاسميَّة الواقعة حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأي ، وممن صرح بأنها عاطفة : أبو البقاءِ . والثاني : أنها واوُ الحال ، وعلى هذا فيقال : كيف يقتضي العامل حالين ؟ . فالجواب : أنه جاز ذلك ؛ لأن الثانية بدلٌ من الأولى ، فإن أريد بالسجود التَّذلل والخضوع ، فهو بدل كل من كل ، وإن أريد به [ حقيقته ] ، فهو بدل اشتمالٍ ، إذ السجود مشتمل على الدخور . ونظير ما نحن فيه : " جَاءَ زيْدٌ ضَاحِكاً وهو شاك " فقولك : " وهو شاك " يحتمل الحاليَّة من " زَيْدٍ " أو ضمير " ضَاحِكاً " ، والدُّخورُ : التواضع ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3318 - فَلمْ يَبْقَ إلاَّ دَاخِرٌ في مُخَيَّسٍ ومُنْجَحِر في غَيْرِ أرْضِكَ في جُحْرِ @@ وقيل : هو القهر والغلبة ، ومعنى " داخرون " أذلاَّء صاغرين . قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } الآية قد تقدم أن السجود على نوعين : سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض ، وسجود هو انقياد وخضوع ؛ فلهذا قال بعضهم : المراد بالسجود ههنا : الانقيادُ والخضوع ؛ لأنه اللائق بالدابة . وقيل : السجود حقيقة ؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام . وقيل : السجود لفظ مشتركٌ بين المعنيين ، وحمل اللفظ المشترك [ على إفادة مجموع معنيين جائز ، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معاً ، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع ، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي ؛ وهذا ضعيف ؛ لأن استعمال اللفظ المشترك ] في جميع مفهوماته معاً غير جائز . قوله تعالى : { مِن دَآبَّةٍ } يجوز أن يكون بياناً لـ { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ويكون لله تعالى في سمائه خلق ؛ يدبون كما يدبُّ الخلق الذي في الأرض ، ويجوز أن يكون بياناً لـ { مَا فِي ٱلأَرْضِ } فقط . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : هلاَّ جيء بـ " مَنْ " دون " ما " تغليباً للعقلاءِ على غيرهم ؟ . قلت : إنه لو جيءِ بـ " مَنْ " لم يكن فيه دليلٌ على التغليب ، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء ، وغيرهم ؛ إرادة للعموم " . قال أبو حيَّان : " وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء ، وغيرهم على جهة التغليب ، وظاهر الجواب تخصيص " مَنْ " بالعقلاءِ ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون " مَنْ " ، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم ، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم ، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها ؛ والجواب لا يغلب بها ، وهذا في الحقيقة ليس بجواب " . فصل قال الأخفش : قوله : " مِنْ دَابَّةٍ " يريد من الدَّواب ، وأخبر بالواحدِ ؛ كما تقول : ما أتَانِي من رجلٍ مثله ، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " يريد كل دابَّة على الأرضِ " . فإن قيل : ما الوجه في تخصيص الملائكة ، والدواب بالذكر ؟ . فالجواب من وجهين : الأول : أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها ، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى . الثاني : قال حكماءُ الإسلام : الدابَّةُ : اشتقاقها من الدَّبيب ، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة ؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة ؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة ، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب ؛ لقوله { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] . { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك ، وأن يكون حالاً من فاعل " يسجد " . قوله " يَخَافُونَ " فيها وجهان : أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم ، كأنه قيل : ما لهم يستكبرون ؟ فأجيب بذلك ، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل " لا يَسْتَكْبِرُونَ " ، ومعنى " يَخافُونَ ربَّهُمْ " ، أي : عقابه . قوله : " مِنْ فَوْقِهِمْ " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه يتعلق بـ " يَخَافُونَ " ، أي : يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله " مِنْ فوقِهِمْ " صفة للمضاف ، وهو عذابٌ ، وهي صفة كاشفةٌ ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق . الثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من " رَبِّهمْ " ، أي : يخافون ربَّهم عالياً عليهم علوَّ الرتبة والقدرة قاهراً لهم ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] . فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ؛ لأن قوله { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم ، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور ، كقوله { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] ، وقوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وكذلك قوله - جل وعز - : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به ، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب . فإن قيل : هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به ، فلم قلتم : إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه ؟ . فالجواب : أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ ، فقد أمر بتركه ؛ وحينئذ يدخل في اللفظ ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب ، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب ، بل كان كافراً ؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ ، وأيضاً : فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } ، ثم قال عز وجل لإبليس { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] وقال : { فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [ الأعراف : 13 ] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون ، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر ، واستكبر ، فوجب أن لا يكون من الملائكة . وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة ، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ ، ومن الاستكبار ، فلما خالف الأمر ، واستكبر ، خرج من حيّز الملائكة ، ولعن ، وطرد ؛ لأنه خالف المعهود من حاله . قال ابن الخطيب - رحمه الله - " ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة ، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة " . واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف ، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب ، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين : الأول : أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب ؛ فقال { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] فللخوف من العذاب يتركون الذنب . الثاني : أن ذلك الخوف خوف الإجلال ؛ هكذا نقل عن ابن عباس ؛ كقوله تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنِّي لأخْشَاكُم للهِ " حين قالوا له وقد بكى : أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر ؟ . وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ ، كان الخوف منه أعظم . وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء . فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم استدل المشبهة بقوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } على أنه - تعالى - فوقهم بالذات . والجواب : أن معناه : يخافون ربَّهم ؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم ، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى ؛ سقط استدلالهم ، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة ، والقهر والغلبة ؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } [ الأعراف : 127 ] . ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال : { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم ؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف ، وهذا التعليل ، إنَّما يصح إذا كان المراد بالفوقية ، القهر والقدرة ؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف ، وأما الفوقية بالجهة ، والمكان ، فلا توجب الخوف ؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده . فصل في أن الملك أفضل من البشر تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه : الأول : قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ } وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر ، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب ، وكان الطرف الثاني أشرفها ، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عز وجل - . الثاني : أن قوله { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر ، وترفع ، وقوله تعالى : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب ، و المعصية ، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم ، وظواهرهم ، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة ، والأفعال الباطلة ، وأما البشر ، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر . أما القرآن فقوله تعالى : { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان ، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة . وأما الخبر ، فقوله عليه الصلاة والسلام - : " مَا منَّأ إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا " . ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية ، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى ، أو همَّ بها . الثالث : أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة ، وأزمان ممتدة ، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة ، والخضوع ، والخشوع طول هذه المدَّة ، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين : الأول : قوله - صلوات الله وسلامه عليه - : " الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ " فضَّل الشيخ على الشابّ ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول ، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر ؛ فكان أفضل . والثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ " فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها ، لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة ، وهي طاعة الخالق ، والبشر إنما جاءوا بعدهم ، واستنُّوا بسُنَّتهِم ؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب ، فقد حصل مثله للملائكةِ ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة ؛ فوجب كونهم أفضل . قوله تعالى : { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } الآية لمَّا بين أن كلَّ ما سوى الله فهو منقادٌ لجلاله وكبريائه ، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك ، وبأن كل ما سواه ، فهو ملكه ؛ وأنه غنيٌّ عن الكل . قوله تعالى : " اثْنَيْنِ " فيه قولان : أحدهما : أنه مؤكد لـ " إلهَيْنِ " وعليه أكثر الناس ، و " لا تتَّخِذُوا " على هذا يحتمل أن تكون متعدية لواحدٍ ، وأن تكون متعدية لاثنين ، والثاني منهما محذوف ، أي : لا تتخذوا اثنين إلهين ، وفيه بعدٌ . وقال أبو البقاءِ : " هو مفعولٌ ثانٍ " . وهذا كالغلط ؛ إذ لا معنى لذلك ألبتة . وكلام الزمخشريِّ هنا يفهم أنَّه ليس بتأكيد ؛ فإنه قال : " فإن قلت : إنَّما جمعوا بين العدد ، والمعدود ؛ فيما وراء الواحد والاثنين ، فقالوا : عندي رجال ثلاثة ، وأفراسٌ أربعةٌ ؛ لأنَّ المعدود عارٍ عن الدَّلالةِ عن العدد الخاص ، فأمَّا رجلٌ ورجلان ، وفرسٌ وفرسان ؛ فمعدودان فيهما دلالة على العدد ؛ فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ، ورجلان اثنان ، فما وجه قوله تعالى : { إِلَـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } ؟ . قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد ، والتثنية دال على شيئين ، على الجنسية ، والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أنَّ المعنيَّ به منهما ، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكد العدد ، فدلَّ به على القصد إليه ، والعناية به ، ألا ترى أنك لو قلت : " إنَّما هُوَ إلهٌ " ، ولم تؤكده بواحدٍ لم يحسن ، وخُيِّلَ أنك أثبت الإلهية ، لا الواحدانيَّة " . وقال أبو حيَّان رحمه الله : " لما كان الاسمُ الموضوع للإفراد ، والتثنية قد يتجوَّز فيه ؛ فيراد به [ الجنس ] ؛ نحو : نِعْمَ الرَّجلُ زَيْدٌ ، ونِعْمَ الرَّجلانِ الزيدان . وقول الشاعر : [ الوافر ] @ 3319 - فإنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى وإنَّ الحَرْبَ أوَّلُهَا الكَلامُ @@ أكد الوضوع لهما بالوصف ، فقيل : إلهَيْنِ اثْنَينِ ، وقيل : إلهٌ واحدٌ " . فصل قال ابن الخطيب : الفائدة في قوله : " اثْنَيْنِ " : أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً ، فإذا أريد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على قبحه ، والقول بوجودِ إلهين مستقبحٌ في العقول ؛ فإنَّ أحداً من العقلاءِ لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجودِ ، والعدمِ ، وصفات الكمال فالمقصود من تكرير " اثْنَيْنِ " تأكيدُ التنفير عنه ، وتوقيف العقل على ما فيه من القبح ، وأيضاً فقوله " إلهَيْنِ " لفظ واحد يدل على أمرين : ثُبوتِ الإلهِ ، وثبوتِ التعددِ . فإذا قيل : { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَـٰهَيْنِ } لم يفهم من هذا اللفظ أنَّ النهي ، وقع عن إثبات الإله ، وعن إثبات التعدد ، وعن مجموعهما ، فلما قال : { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } ظهر أن قوله : " لا تَتَّخِذُوا " نهيٌ عن إثبات التعدد فقط ، وأيضاً فإنَّ التثنية منافية للإلهية ، وتقريره من وجوه : الأول : أنَّا لو فرضنا موجودين ، يكون كل واحدٍ منهما واجباً لذاته ؛ لكانا مشتركينِ في الوجوب الذاتي ، ومتباينين بالتعيين ، وما به المشاركة ، غير ما به المباينة ؛ فكلُّ واحدٍ منهما مركبٌ من جزءين ، وكل مركَّب فهو ممكنٌ ؛ فثبت أنَّ القول بأن واجب الوجود أكثر من واحدٍ ينفي القول بكونهما واجبي الوجودِ . الثاني : أنَّا لو فرضنا إلهين ، وحاول أحدهما تحريك جسم ، والآخر تسكينه ؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني ؛ لأنَّ الحركة الواحدة والسكون الواحد ، لا يقبل القسمة أصلاً ، ولا التفاوت أصلاً ؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني ؛ وإذا ثبت هذا ، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية ، وإذا ثبت هذا ، فإمَّا أن يحصل مراد كل منهما ، وهو محال ، أو لا يحصل مراد كلِّ واحدٍ منهما ألبتَّة ؛ وحينئذٍ يكون كل واحدٍ منهما عاجزاً ؛ والعاجز لا يكون إلهاً . فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً . الثالث : لو فرضنا إلهين اثنين ، لكان إمَّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر ، أو لا يقدر ، فإن قدر ؛ فذلك الآخر ضعيفٌ ، وإن لم يقدر ، فهو ضعيفٌ . الرابع : أن أحدهما : إمَّا أن يقوى على مخالفة الآخر ، أو لا يقوى عليه ، فإن لم يقو عليه ، فهو ضعيف ، وإذا قوي عليه ، فالأول المغلوبُ ضعيف ؛ فثبت أنَّ الاثنينيَّة والإلهية متضادان . فالمقصود من قوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } هو التنبيه على حصول المنافاة ، والمضادة بين الإلهية ، وبين الاثنينية . ولما ذكر هذا الكلام قال : { إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } ، أي : إنه لمَّا دل الدليل على أنَّه لا بد للعالم من الإله ، وثبت أنَّ القول بوجود إلهين محالٌ ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد . ثم قال { فَإيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ } وهذا رجوعٌ من الغيبة إلى حضور ، والتقدير : أنه لما ثبت أنَّ الإله واحد ، وأنَّ المتكلم بهذا الكلام إلهٌ ؛ ثبت حينئذٍ أنَّه لا إله للعالم إلاَّ المتكلم بهذا الكلام ، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور ؛ ويقول : { فَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ } . قوله تعالى : { فَإِيَّٰيَ } منصوب بفعلٍ مضمرٍ مقدَّر بعده ، يفسره هذا الظاهر ، أي : إيَّاي ارهبوا فارهبون ، وقدَّرهُ ابن عطيَّة : ارهبوا إيَّاي ، فارهبون . قال أبو حيَّان : وهو ذهولٌ عن القاعدة النحوية ؛ وهي أنَّ المفعول إذا كان ضميراً متصلاً ، والفعل متعدِّ لواحدٍ ، وجب تأخيرُ الفعل ؛ نحو : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] ولا يجوز أن يتقدم إلاَّ في ضرورة ؛ كقوله : [ الرجز ] @ 3320 - إليْكَ حَتَّى بَلغَتْ إيَّاكا @@ وقد مرَّ تقريره أول البقرة . وقد يجابُ عن ابن عطيَّة : بأنه لا يقبحُ في الأمور التقديريَّة ما يقبحُ في اللفظيَّة . وفي قوله : " إيَّاي " التفاتٌ من غيبة ؛ وهي قوله " وقَالَ اللَّهُ " إلى تكلم ، وهو قوله " فإيَّاي " ثم التفت إلى الغيبة أيضاً ، في قوله تعالى : { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . فصل قوله " فارْهَبُونِ " يفيد الحصر ، وهو أنَّه لا يرهب الخلق إلاَّ منه ، ثم قال : { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . قال ابن عطية : " والواو في قوله : { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } عاطفة على قوله " إلهٌ واحدٌ " ، ويجوز أن تكون واو ابتداءٍ " . قال أبو حيَّان : " ولا يقال : واو ابتداءٍ إلاَّ لواو الحال ، ولا يظهر هنا الحال " . قال شهابُ الدين : وقد يطلقون واو ابتداء ، ويريدون بها واو الاستئناف ؛ أي : التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك ، وقد نصُّوا على ذلك ؛ فقالوا : قد يؤتى بالواو أول الكلام ، من غير قصدٍ إلى عطفٍ ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول أشعارهم وهو كثيرٌ جدًّا . ومعنى قوله : " عاطفة على قوله : إلهٌ واحدٌ " أي : أنها عطفت جملة على مفرد ، فيجب تأويلها بمفردٍ ؛ لأنها عطفت على الخبر ؛ فيكون خبراً ، ويجوز - على كونها عاطفة - أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها ، وهي قوله تعالى : { إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } . وكأن ابن عطية - رحمه الله - قصد بواو الابتداء هذا ؛ فإنَّها استئنافيةٌ . فصل قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنَّها من جملة ما في السماوات والأرض ، وليس المراد من كونها لله ، أنَّها مفعولة لأجله ، ولطاعته ؛ لأنَّ فيها المباحاتِ ، والمحظورات التي يؤتى بها ، لغرضِ الشَّهوةِ ، واللَّذةِ ، لا لغرضِ الطاعة ؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنَّها واقعة بتكوينه وتخليقه . قوله : { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } حال من " الدِّينُ " والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارَّ الواقع خبراً ، والواصبُ : الدَّائمُ ؛ قال حسَّان : [ المديد ] @ 3321 - غَيَّرتهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ وهَـزِيـمٌ رَعْـدهُ وَاصـِبُ @@ وقال ابو الأسود : [ الكامل ] @ 3322 - لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَليلَ بَقاؤهُ يَوْماً بِذمِّ الدَّهْرِ أجْمعَ وَاصِبَا @@ والواصب : العليل لمداومةِ السقم له ؛ قال تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } [ الصافات : 9 ] أي : دائمٌ ، وقيل : من الوصبِ ، وهو التَّعب ؛ ويكون حينئذٍ على النسب ، أي : ذا وَصَبٍ ؛ لأنَّ الدِّين فيه تكاليف ، ومشاقٌّ على العباد ؛ فهو كقوله : [ المتقارب ] @ 3323 - … أضْحَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا @@ أي : ذا فُتونٍ ، وقيل : الواصب : الخالص ، ويقال : وصَب الشَّيءُ ، يَصِبُ وصُوباً ، إذا دام ، ويقال واظَبَ على الشَّيءِ ، وَواصَبَ عليه إذا دَامَ ، ومَفازَةٌ واصِبَةٌ ، أي : بعيدة ، لا غاية لها . وقال ابن قتيبة : ليس من أحدٍ يدان له ، ويطاع إلاَّ انقطع ذلك بسبب في حال الحياة ، أو بالموتِ إلا الحقَّ - سبحانه وتعالى - فإنَّ طاعته دائمة لا تنقطع . قال ابنُ الخطيب : وأقولُ : الدين قد يعنى به الانقياد ؛ يقال : يا من دَانتْ لهُ الرِّقَابُ ، أي : انقادت لذاته ، أي : وله الدينُ واصِباً ، أي : انقياد كل ما سواه له لازمٌ أبداً ؛ لأنَّ انقياد غيره له معلَّل ، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب ، في طرفي الوجود ، والعدمِ ، فالماهيَّات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا ، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا ، فهذه [ الماهيات ] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً ، دائماً ، واجباً ، لازماً ، ممتنع التَّغير . ثم قال { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } ، أي : تخافون ؛ استفهام على طريق الإنكارِ ، أي : أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد ، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه ، في حدوثه وبقائه ، فبعد العلم بهذه الأصول ، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله ؟ ! . قوله تعالى : { وَمَا بِكُم } يجوز في " مَا " وجهان : أحدهما : أن تكون موصولة ، والجارُّ صلتها ، وهي مبتدأ ، والخبر قوله : " فَمِنَ اللهِ " والفاء زائدة في الخبر ؛ لتضمن الموصول معنى الشرط ، تقديره : والذي استقرَّ بكم ، و " مِنْ نِعْمَةٍ " بيانٌ للموصولِ . وقدَّر بعضهم متعلق " بِكُمْ " خاصًّا ، فقال : " ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ " . وليس بجيِّد ؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً . الثاني : أنها شرطية ، وفعل الشرط بعدها محذوف ، وإليه نحا الفراء ، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء . قال الفرَّاء : التقدير " وما يكن بكم " . وقد ردَّ هذا ؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد " إنْ " خاصَّة في موضعين : أحدهما : أن يكون من باب الاشتغال ؛ نحو { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } [ التوبة : 6 ] لأن المحذوف في حكم المذكور . الثاني : أن تكون " إن " متلوة بـ " لا " النافية ، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3324 - فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ @@ أي : وإلا تطلقها ، فحذف ؛ لدلالة قوله " فَطلِّقْهَا " عليه . فإن لم توجد " لا " النافية ، أو كانت الأداة غير " إنْ " لم تحذف إلا ضرورة ، مثال الأول قول الشاعر : [ الرجز ] @ 3325 - قَالتْ بَناتُ العَمِّ : يَا سَلمَى وإنْ كَانَ فَقِيراً مُعْدماً ؛ قالتْ : وإنْ @@ أي : وإن كان فقيراً راضية ؛ ومثال الثاني قول الشاعر : [ الرمل ] @ 3326 - صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ أيْنمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ @@ وقول الآخر : [ الخفيف ] @ 3327 - فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي @@ فصل لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله ، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى ؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ ، فهي من الله تعالى ، لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } . واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية ؛ فقالوا : الإيمانُ نعمة وكلُّ نعمة فهي من الله ، فالإيمان من الله تعالى ، وأيضاً : فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به ، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان ، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ ، وكل نعمة فهي من الله ؛ لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } وهذا اللفظ يفيد العموم ، وأيضاً : فالموجود إمَّا واجب لذاته ، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته ، لا يوجد إلا لمرجح ؛ إن كان واجباً لذاته ، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته ، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل ؛ وهو محال ، فلا بدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته ؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله . واعلم أنَّ النعم : إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة ، أما النعمُ الدينية : فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاته ، وإما معرفة الخير ؛ لأجل العمل به ، وأما النعمُ الدنيوية فهي : إمَّا نفسانية ، وإما بدنيةٌ ، وإما خارجية ، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد ؛ كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] انتهى . قوله : { إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ } قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : يريد الأسقام ، والأمراض ، والقحط ، والحاجة . [ قوله ] : { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } الفاء جواب " إذَا " والجُؤارُ : رفع الصَّوت ؛ قال رؤبة يصف راهباً : [ المتقارب ] @ 3328 - يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيـ ـكِ طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار @@ ومنهم من قيَّده بالاستغاثة ؛ وأنشد الزمخشريُّ : [ الكامل ] @ 3329 - جَأّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ … @@ وقيل : الجُؤارُ : كالخُوارِ ، جَأرَ الثَّوْرُ ، وخَارَ : واحِدٌ ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين ، وذلك مُعتلها . وقال الراغب : " جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات " وقرأ الزهري : " تَجَرُونَ " محذوف الهمزة ، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها ، كما قرأ نافع : " رِداً " في { رِدْءاً } [ القصص : 34 ] . ومعنى الآية : أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله ، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم ؛ فإلى الله يستغيث ؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله ، فكأنه - تعالى - قال لهم : فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ ، والسلامة . قوله : { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ } " إذَا " الأولى شرطية ، والثانية : فجائية جوابها ، وفي الآية دليل على أنَّ " إذَا " الشرطية لا تكون معمولة لجوابها ؛ لأنَّ ما بعد " إذَا " الفجائية لا يعمل فيما قبلها . [ وقرأ قتادة ] : " كَاشِفٌ " على فاعل . قال الزمخشريُّ : " بمعنى " فعل " وهو أقوى من " كَشَف " لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة " . قوله : " مِنْكُمْ " يجوز أن يكن صفة لـ " فَرِيقٌ " ، و " مِنْ " للتبعيض ، ويجوز أن يكون للبيان ، قال الزمخشريُّ : " كأنه قال : إذا فريقٌ كافرٌ ، وهم أنتم " . فصل بين - تعالى - أنَّ عند كشف الضرِّ ، وسلامة الأحوال ، يفترقون : فريق منهم يبقى على ما كان عليه عند الضَّراء ، أي : لا يفزع إلاَّ إلى الله ، وفريق منهم يتغيَّرون فيشركون بالله - تعالى - غيره ؛ وهذا جهلٌ وضلالٌ ؛ لأنَّه لما شهدت فطرته الأصليَّة عند نزول البلاءِ ، والضرِّ في ألاَّ يفزع إلا إلى الله ، ولا يستغاث إلا بالله - فعند زوال البلاءِ يجب ألاَّ يزول عن ذلك الاعتقاد ؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 13 ] . قوله : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ } في هذه اللام ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أن تكون لام كي ، وهي متعلقة بـ " يُشْرِكُونَ " ، أي : أن إشراكهم سببه كفرهم به . الثاني : أنَّها لام الصَّيرورةِ ، أي : صار أمرهم إلى ذلك . الثالث : أنَّها لام الأمر ، وإليه نحا الزمخشريُّ . وقرأ ابو العالية ، ورواها مكحول عن أبي رافعٍ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيُمْتَعُوا " بضمِّ الياءِ من تحت ، ساكن الميم ، مفتوح الياء مضارع " مُتِعَ " مبنيًّا للمفعول ، " فسَوْفَ يَعْلمُونَ " بالياء من تحت أيضاً ، وهذا المضارع في هذه القراءة ، يجوز أن يكون حذف منه النون فيه ؛ إما للنصب ، عطفاً على " لِيَكْفُروا " وإن كانت لام " كي " ، أو للصيرورة ، وإما للنصب أيضاً ، ولكن على جواب الأمر إن كانت اللام للأمر ، ويجوز أن يكون حذفها للجزم ؛ عطفاً على " لِيَكْفرُوا " وإن كانت للأمر أيضاً . فصل قال بعض المفسرين : هذه لام العاقبة ؛ كقوله تعالى : { فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] يعني : أنَّ عاقبته تلك التضرعات ، ما كانت إلا هذا الكفر . والمراد بقوله : " بِمَا ءَاتَيْناهُمْ " كشف الضرِّ ، وإزالة المكروه ، وقيل : المراد به القرآن وما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من النبوة والشرائع . ثمَّ توعَّدهم فقال : " فتَمتَّعُوا " ، [ والمراد منه التهديد ] ؛ كقوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] وقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أمركم ، وما ينزل بكم من العذاب .