Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 56-64)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً } الآية لما بيَّن فساد قول أهل الشرك بالدلائل القاهرة ، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم . قوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } الضمير في قوله : " يَعْلمُونَ " يجوز أن يعود للكفار ، أي : لما يعلم ، ومعنى " لا يَعْلمُونَ " أنهم يسمُّونها آلهة ، ويعتقدون أنَّها تضرُّ ، وتنفع ، وتشفع ؛ وليس الأمر كذلك . ويجوز أن تكون للآلهة ، وهي الأصنام ، أي : الأشياء غير موصوفةٍ بالعلم . قال بعضهم : والأوَّل أولى ؛ لأنَّ نفي العلم عن الحي حقيقةٌ ، وعن الجمادِ مجازٌ ، وأيضاً : الضمير في " ويَجْعَلُونَ " عائدٌ غلى المشركين ، فكذلك في قوله { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } ، وأيضاً فقوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } جمعٌ بالواو والنون ؛ وهو بالعقلاءِ أليق منه بالأصنام . وقيل : الثاني أولى ؛ لأنَّا إذا أعدناه إلى المشركين ؛ افتقرنا إلى إضمار ؛ فإن التقدير : ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً ، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضارًّا ، وإذا أعدناه إلى الأصنام ، لم نفتقر إلى الإضمار ؛ لأن التقدير : ويجعلون لما لا علم لها . وأيضاً : لو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين ، لفسد المعنى ؛ لأنه من المحال أن يجعلوا نصيباً مما رزقهم ، لما لا يعلمونه . فإذا قلنا بالقول الأول ، احتجنا إلى الإضمار ، وذلك يحتمل وجوهاً : أحدها : ويجعلون لما لا يعلمون له حقًّا ، ولا يعلمون في طاعته [ نَفْعاً ] ، ولا في الإعراضِ عنه ضُرًّا . قال مجاهدٌ : يعلمون أنَّ الله خلقهم ويضرُّهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنَّه ينفعهم ، ويضرُّهم نصيباً . وثانيها : ويجعلون لما لا يعلمون إلهيَّتها . وثالثها : ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها آلهة معبودة . قوله " نَصِيباً " هو المفعول الأول للجعل ، والجارُّ قبله هو الثاني ، أي : ويصيِّرون الأصنام . [ وقوله : ] { مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ } يجوز أن يكون نعتاً لـ " نَصِيباً " وأن يتعلق بالجعل ؛ فـ " مِنْ " على الأول للتبعيض ، وعلى الثاني للابتداء . فصل في المراد بالنصيب احتمالات : أحدها : أنهم جعلوا لله نصيباً من الحرثِ ، والأنعامِ ؛ يتقرَّبون به إلى الله ، ونصيباً للأصنام ؛ يتقربون به إليها ، كما تقدم في آخر سورة الأنعام . والثاني : قال الحسنُ - رحمه الله - : المراد بهذا النصيب : البَحِيرةُ ، و السَّائبَةُ ، والوَصِيلةُ ، والحَامِ . والثالث : ربما اعتقدوا في بعض الأشياء ، أنَّه لما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام ، كما أنَّ المنجمين يوزِّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة ، فيقولون : لرجلٍ كذا وكذا من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وللمشتري أشياء أخرى . ثمَّ لمَّا حكى عن المشركين هذا المذهب ، قال : { تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ } وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة بمنزلة قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى - جل ذكره - على نفسه أنَّه يسألهم ، وهذا تهديد شديد ؛ لأن المراد من هذا أنه يسألهم سؤال توبيخٍ ، وتهديدٍ ، وفي وقت هذا السؤال احتمالان : الأول : أنه يقع هذا السؤال عند قرب الموت ، ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل : عند عذاب القبر ، وقيل : في الآخرةِ . الثاني : أنه يقع ذلك في الآخرة ، وهذا أولى ؛ لأنه - تعالى - قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة ، فهو إلى الوعيد أولى . النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة : قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } ونظيره قوله : { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلآئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] كانت خزاعة ، وكنانة تقول : الملائكة بنات الله . قال ابن الخطيب : " أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة ؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون ، أشبهوا النساء في الاستتار ، فأطلقوا عليهم البنات " . وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون ، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات . ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال : " سُبْحَانهُ " والمراد : تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه . وقيل : تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح ، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى : معاذ الله . قوله : { وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } يجوز فيه وجهان : أحدهما : أن هذا الجملة من مبتدأ ، وخبر ، أي : يجعلون لله البنات ، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون . وجوَّز الفرَّاء ، والحوفيُّ ، والزمخشري ، وأبو البقاء - رحمة الله عليهم - أن تكون " مَا " منصوبة المحلِّ ؛ عطفاً على " البَناتِ " و " لَهُمْ " عطف على الله ، أي : ويجعلون لهم ما يشتهون . قال أبو حيَّان : وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة ، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب " ظنَّ " وفي " عَدمَ " و " فَقَد " ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه ، أو بحرف الجرِّ ؛ فلا يجوز : زَيْدٌ ضربه ، أي : ضرب نفسهُ ، ولا " زَيْدٌ مَرَّ بِهِ " ، أي : مر بنفسه ، ويجوز : " زيد ظنه قائماً " ، و " زيد فقده وعدمه " أي : [ ظن نفسه قائماً ، وفقد ] نفسه ، وعدمها . إذا تقرَّر هذا ، فجعل " مَا " منصوبة عطفاً على " البَناتِ " يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل ، وهو واو " يَجْعلُونَ " إلى ضميره المتَّصل ، وهو " هُمْ " في " لَهُمْ " انتهى . وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا ، وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل ، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل ، إلا في باب " ظنَّ " وأخواتها من أفعال القلوب ، وفي " فَقَد " و " عَدمَ " فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ ، أي : ضَربَ نفسه ، ويجوز : زَيْدٌ ظنَّه قَائماً ، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً ، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر ، في باب من الأبواب ، لا يجوز : زيدٌ ضربَ نَفسَهُ ، وفي قولنا " إلى ضميرها المتصل " قيدان : أحدهما : كونه ضميراً ، فلو كان ظاهراً كالنَّفس لم يمتنع ، نحو : زَيْدٌ ضرب نفسهُ وضَرَب نفسه زيد . والثاني : كونه متَّصلاً ، فلو كان منفصلاً ؛ جاز ، نحو : زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه ، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه ، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو . وقال مكي : " وهذا لا يجوز عند البصريين ، كما لا يجوز : جعلت لي طعاماً إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً ، فلو كان لفظ القرآنِ : ولأنفسهم ما يشتهون ، جاز ما قال الفرَّاء عند البصريين ، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل ، وبسطٍ كثيرٍ " . وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ " مَا " في موضع نصبٍ عن الفرَّاء ، ومن تبعه - : وقال أبو البقاءِ ، وقد حكاهُ ؛ وفيه نظرٌ . قال شهابُ الدِّين : " وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه ، إنَّما جعله في تضعيفه ، بكونه يؤدِّي غلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني ، فإنه قال : " وضعَّف قومٌ هذا الوجه ، وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم ، وفيه نظرٌ " فجعل النظر في تضعيفه لا فيه " . وقد يقال : وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل ، أي : وقوعه على ما جر بالحرف ، نحو : " زيد مرَّ بِهِ " فإن المرور واقعٌ بـ " زيدٍ " ، وأمَّا ما نحن فيه ، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين ، بل ما يشتهون . وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى : { وَهُزِّيۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } [ مريم : 25 ] { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ } [ القصص : 32 ] . والجواب عنهما ما تقدَّم ، وهو أنَّ الهزَّ ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف ، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر ، وإنَّما أعدته لصعوبته ، وخصوصيته ، هذا بزيادة فائدة ، وأراد بقوله : { وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] أي : الشيء الذي يشتهونه ، وهو السَّترُ . ثمَّ إنه - تعالى - ذكر أنَّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله - تعالى - فقال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلأُنثَىٰ } . التَّبْشيرُ في عرف اللغة : مختصٌّ بالخبر الذي يفيد السرور ، إلا أنَّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه ، ومعلومٌ أن السُّرورَ كما يوجب تغير البشرة ، فكذلك الحزن يوجبه ؛ فوجب أن يكون التَّبشيرُ حقيقة في القسمين ، ويؤكِّده قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] . وقيل : المراد بالتَّبشير ههنا الإخبار . قوله : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } يجوز أن تكون " ظلَّ " ليست على بابها من كونها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصِّفة المسندة إلى اسمها ، وأن تكون بمعنى : " صَارَ " وعلى التقديرين هي ناقصة ، و " مُسْودًّا " خبرها . وأما " وجهه " ففيه وجهان : أشهرهما ، وهو المتبادر إلى الذِّهن أنه اسمها . والثاني : أنه بدلٌ من الضمير المستتر في " ظلَّ " : بدل بعضٍ من كلٍّ ، أي : ظلَّ أحدهم وجهه ، أي : ظل وجه أحدهم . قوله : " كَظِيمٌ " يجوز أن يكون بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] ، والجملة حالٌ ، وبجوز أن يكون : " وهُوَ كَظيمٌ " حالاً من الضَّمير في " ظلَّ " أو من " وَجْههِ " أو من الضمير في : " مُسْودًّا " . وقال أبو البقاءِ : " فلو قرىء هنا " مُسْوَدٌّ " يعني بالرفع ، لكان مستقيماً على أن يجعل اسم " ظل " مضمراً فيها ، والجملة خبرها " . وقال في سورة الزخرف [ الآية : 17 ] : " ويقرآن بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبر في موضع خبر ظلَّ " . قوله : { يَتَوَٰرَىٰ } يحتمل أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه إلا " وجْههُ " فإنه لا يليق ذلك به ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في : " كَظِيمٌ " . قوله { مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ } تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما فإنَّ الأولى للابتداء ، والثانية للعلَّة ، أي : من أجل سوء ما بشِّر به . قوله : " أيُمْسِكهُ " قال أبو البقاء : " في موضع الحال ، تقديره : يتوارى ، أي : مُتردِّداً هل يمسكه أم لا ؟ " . وهذا خطأٌ عند النحويين ؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال ، لا تقع جملة طلبيَّة ، و الذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حالٌ من فاعل " يَتوارَى " ، ليتم الكلام ، أي : يتوارى ناظراً ، أو متفكِّراً : " أيُمسِكهُ على هُونٍ … أمْ يدُسُّه " على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ " مَا " . وقرأ الجحدريُّ : أيُمْسِكُها ، أم يدسُّها مراعاة للأنثى ، أو لمعنى " مَا " . وقرىء : أيمسكهُ أم يدسُّها ، والجحدري ، وعيسى - رحمهما الله - على " هَوان " بزنة فدان ، وفرقة على " هَوْنٍ " وهي قلقة ؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء : الرِّفقُ ، واللينُ ، ولا يناسب معناه هنا ، وأمَّا الهوان فمعنى " هُونٍ " المضموم . قوله : { عَلَىٰ هُونٍ } فيه وجهان : أحدهما : أنه حال من الفاعل ، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإنه قال : أيمسكه مع [ رضاه ] بهوان نفسه ، وعلى رغم أنفه . والثاني : أنه حالٌ من المفعول ، أي : يمسكها ذليلة مهانة . والدَّس : إخفاء الشيء ، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ . فصل معنى الآية : أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم ، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه غمًّا ، وحزناً ، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره ، وانبسط روح قلبه من داخل البدن ، ووصل إلى الأطراف ، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب ، والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد ، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه ، وتلألأ ، واستنار ، وإذا قوي غمُّ الإنسان احتقن الروحُ في داخل القلب ، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه ، فلا جرم يصفرُّ الوجه ، ويسودُّ ، ويظهر فيه أثر الأرضية ، والكآبة ؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه ، وإشراقه ، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه ، وغبرته ، وسواده ، فلهذا قال : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } أي ممتلىء غمًّا " يتوارى " به من القوم يتنحى عنهم ويتغيَّب من سوء ما بشِّر . قال المفسِّرون : كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكراً ؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن ، ولم يظهر أياماً يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها ؟ وهو قوله : { أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ } ، أي : أيحتبسه ؟ والإمساك هنا : الحبس ، كقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] والهُونُ : الهَوان . قال النضر بن شميلٍ : يقال : إنه أهون عليه هوناً ، وهَواناً ، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً ، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { عَذَابَ ٱلْهُونِ } [ الأنعام : 93 ] . { أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ } والدَّسُ : إخفاءُ الشيء في الشيء ، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن ، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ . " قال قيس بن عاصم : يا رسول الله : إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة ، فقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة " ، فقال : يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - " أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً " " . " وروي أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة ، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها ، فأخْرَجتْهَا إليّ فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ ، فقالت : يا أبَتِ قَتَلتَنِي ، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ ، فقال صلى الله عليه وسلم " مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ " . واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات ، فمنهم من يذبحها ، ومنهم من يحفر الحفيرة ، ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ ، ومنهم من يغرقها ، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة ، وتارة للحميَّة ، وتارة خوفاً من الفقر ، والفاقة ، ولزومِ النَّفقةِ . وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك ، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك ، فقال الفرزدق مفتخراً به : [ المتقارب ] @ 3330 - وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ @@ { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات . أولها : أنه يُسوِّدُّ وجهه . ثانيها : أنَّه يختفي عن القوم من شدَّة نفرته عنها . وثالثها : يقدم على قتلها مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع ، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه ، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم ، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات ؟ . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنثَىٰ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [ النجم : 21 ، 22 ] . فصل قال القرطبيُّ : ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ ، فأحْسنَ إليْهِنَّ كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ " . وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا ، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن ، وضمَّ أصَابعهُ " أخرجهما مسلم . فصل قال القاضي : " دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر ؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ ، والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه ، والتَّباعد عنه ، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين ، بل أعظم ؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد ، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى - " . وجوابه : لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي ، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى - ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه ، وعبيده ، وبالغ في تحسين صورهم ، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل ، وأزال الحائل ، والمانع ، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق ، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة ، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله ، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية . وأمَّا أفعال العباد فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر . ثم قال : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ } والمثلُ السُّوءِ : عبارة عن الصِّفةِ السوء ، وهي احتياجهم إلى الولدِ ، وكراهيتهم الإناث خوفاً من الفقر والعار { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } ، أي : الصِّفة العالية المقدسة ، وهي كونه تعالى منزّهاً عن الولد . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : مثل السُّوءِ : النَّار ، والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . فإن قيل : كيف جاء { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } مع قوله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ } [ النحل : 74 ] . فالجواب : أنَّ المثل الذي يضربهُ الله حقٌّ وصدقٌ ، والذي يذكره غيره باطل . قال القرطبي في الجواب : " إن قوله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ } ، أي : الأمثال التي توجب الأشباه ، والنَّقائص ، أي : لا تضربوا لله مثلاً يقتضي نقصاً وتشبهاً بالخلق ، والمثل الأعلى : وصفه بما لا شبيه له ولا نظير " . قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِم } الآية لما حكى عن القوم عظيم كفرهم ، وقبيح قولهم ، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار ، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل ، والرحمة ، والكرمِ . قالت المعتزلة : هذه الآية دالَّة على أنَّ الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى ، بل تكون أفعالاً للعباد ؛ لأنه - تعالى - أضاف ظلم العباد إليهم ، فقال - عزَّ وجلَّ - { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِم } ، وأيضاً : لو كان خلقاً لله لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله ، ولما منع الله - تعالى - العباد من الظلم ، فبأن يكون منزّهاً عن الظلم أولى ؛ ولأنَّ قوله تعالى : " بِظُلمهِمْ " الباء فيه تدلُّ على العليَّة ، كما في قوله تعالى : { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الحشر : 4 ] . وقد تقدَّم الجواب مراراً . فصل ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ إقدام الناس على الظُّلم ؛ يوجب إهلاك جميع الدَّواب ، وذلك غير جائزٍ ؛ لأن الدَّابَّة لمَّا لم يصدر عنها ذنبٌ ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النَّاس ؟ . وأجيب بوجهين : أحدهما : أنَّا لا نسلم أن قوله : { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } يتناول جميع الدَّوابِّ . قال الجبائي - رحمه الله - : إن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ، ومعصية لعجَّل هلاكهم ، وحينئذ لا يبقى لهم نسلٌ ، ومن المعلوم أنه لا أحد إلاَّ وفي أحد آبائه من يستحق العذاب ، وإذا هلكوا ؛ فقد بطل نسلهم ، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من النَّاس ، وإذا [ هلكوا ] ، وجب ألا يبقى أحد من الدَّواب أيضاً ، لأن الدَّواب مخلوقةٌ لمنافع العباد ، وهذا وجهٌ حسن . الثاني : أنَّ الهلاك إذا ورد على الظَّلمةِ ، ورد أيضاً على سائر النَّاس والدَّواب ، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً ، وفي حق [ غيرهم امتحاناً ] ، وقد وقعت هذه الواقعة في زمن نوحٍ - عليه الصلاة والسلام - . الثالث : أنه تعالى لو أخذهم لانقطع القطر ، وفي انقطاعه انقطاع النَّبْت ، فكان لا يبقى على ظهرها دابَّة . عن أبي هريرة - رضي الله عنه - سمع رجُلاً يقول : إن الظَّالمَ لا يضُرُّ إلاَّ نفسه فقال : " لا والله ، بل إنَّ الحبارى لتموتُ في وكْرِهَا بظلم الظالم " . وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه : كَادَ الجُعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم ؛ فهذه الوجوه الثَّلاثة مبنيةٌ على أنَّ لفظ الدابة يتناول جميع الدَّواب . والجواب الثاني : أنَّ المراد بالدَّابة الكافر ، قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] ، والكناية في قوله : " عَليْهَا " عائدة إلى الأرض ، ولم يسبق لها ذكر ، إلاَّ أن ذكر الدابة يدل على الأرض ، فإن الدابة إنَّما تدبُّ على الأرض . قوله : { وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } كي يتوالدوا . قال عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - : يريد أجل يوم القيامة . وقيل : منتهى العمر : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] . قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، أي : البنات التي يكرهونها لأنفسهم ومعنى : " ويجعلون " : يصفون الله بذلك ، ويحكمون به له ، كقولك : جعلتُ زيداً على النَّاس ، أي : حكمت بهذا الحكم . وتقدَّم معنى الجعل عند قوله تعالى : { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } [ المائدة : 103 ] . قوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } العامة على أنَّ " الكَذِبَ " مفعول به ، و " أنَّ لهم الحُسْنى " بدل منهم بدل كلٍّ من كلٍّ ، أو على إسقاطِ الخافضِ ، أي : بأن لهم الحسنى . وقرأ الحسن " ألْسِنتْهُم " بسكون التَّاء تخفيفاً ، وهي تشبه تسكين لام { بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وهمزة { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] ونحوه . والألسنةُ : جمع لسان مراداً به التذكير ، فجمع كما جمع فعال المذكر نحو : " حِمَار وأحْمِرَة " ، وإذا أريد به التَّأنيث جمع جمع أفعل ، كذِرَاعٍ ، وأذْرُع . وقرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه : " الكُذُبُ " بضم الكافِ والذَّال ، ورفع الباء ، على أنَّه جمع كذُوب ، كصَبُور وصُبُر ، وهو مقيسٌ . وقيل : هو جمع كاذب ، نحو " شَارِف وشُرُف " ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ] @ 3331 - ألاَ يَا حَمْزَ للشُّرفِ النِّواءِ … @@ وهو حينئذٍ صفة لـ : " ألْسِنتُهمُ " ، وحينئذ يكون " أنَّ لهُم الحُسْنَى " مفعولاً به والمراد بالحسن : البَنُونَ . وقال يمانُ : يعني بالحسنةِ : الجنة في المعادِ . فإن قيل : كيف يحكمُون بذلك ، وهم منكُرونَ القيامة ؟ . فالجواب : أنَّ جميعهم لم ينكر القيامة ، فقد قيل : إنَّه كان في العرب جمعٌ يقرُّونَ بالبعثِ ، ولذلك كانوا يربطون البعير النَّفيسَ على قبرٍ ، ويتركنه إلى أن يموت ويقولون : إنَّ ذلك الميت إذا حشر ؛ يحشر معه مركوبه . وقيل : إنهم كانوا يقولون : إن كان محمداً صادقاً في قوله بالبعث ، تحصل لنا الجنَّة بهذا الدين الذي نحن عليه . قيل : وهذا القول أولى ، لقوله بعد : " لا جَرمَ أنَّ لهُم النَّارَ " فردّ عليهم قولهم ، وأثبت لهم النَّار ؛ فدلَّ على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنَّة . قوله : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } ، أي : حقًّا . قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه - نعم إن لهم النَّار . قال الزجاج : " لا " رد لقولهم ، أي : ليس الأمر كما وصفوا ، " جرم " [ فعلهم ] أي : كسب ذلك القول لهم النار ، فعلى هذا اللفظ " أنَّ " في محلِّ نصبٍ بوقوع الكسب عليه . وقال قطربٌ : " أنَّ " في موضع رفع ، والمعنى : وجب أن لهم النَّار ، وكيف كان الإعراب ، فالمعنى : أنه يحق لهم النَّار ، ويجبُ . قوله : { وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } قرأ نافعٌ بكسر الراء ، اسم فاعل من أفرط ، إذا تجاوز فالمعنى : أنهم متجاوزون الحد في معاصي الله - تعالى - أو في الإفراط ، فأفعل هنا قاصر . وقال الفارسيُّ : كأنه من أفرط ، أي : صار ذا فرطٍ ، مثل : أجرب ، أي : صار ذا جرب ، والمعنى : أنَّهم ذُو فرطٍ إلى النَّار كأنَّهم قد أرْسِلُوا إلى من يُهَيِّىءُ لهُم مواضع إلى النَّار . والباقون بفتحها ، اسم مفعولٍ من : أفرطته ، وفيه معنيان : أحدهما : أنه من أفرطته خلفي ، أي : تركته ونسيته ، حكى الفراء أنَّ العرب تقول أفرطتُ منهم ناساً ، أي : خلفتهم ، والمعنى : أنَّهم مَنْسيُّونَ مَترُوكونَ في النَّار . والثاني : أنه من أفرطته ، أي : قدمته إلى كذا ، وهو منقولٌ بالهمزة من فرط إلى كذا ، أي : تقدَّم إليه ، كذا قاله أبو حيان ، وأنشد للقطامي : [ البسيط ] @ 3332 - واسْتَعْجلُونَا وكَانُوا مِنْ صَحابَتِنَا كَمَا تعجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ @@ فجعل " فَرَطَ " قاصراً ، و " أفْرَطَ " منقولاً . وقال الزمخشريُّ : " بمعنى مقدَّمُون إلى النَّار معجَّلون إليها ، من أفرطت فُلاناً وفرَّطتهُ ، إذا قدَّمتهُ إلى المَاءِ " . فجعل " فَعَلَ " ، و " أفْعَل " بمعنى ؛ لأنَّ " أفْعَلَ " منقولٌ من " فَعَل " والقولان محتملان ، ومنه الفرطُ ، أي : المتقدم ، قال صلى الله عليه وسلم : " أنَا فَرطُكمْ على الحَوْضِ " ، أي : سابقكم ، ومنه " جَعَلهُ فَرطاً لأبويه وذُخْراً " ، أي : متقدماً بالشَّفاعة ، وبتثقيل الموازين ، والمعنى على هذا : أنهم قدموا إلى النَّار ، وأنهم فرط الذين يدخلون بعدهم . وقرأ أبو جعفر في رواية " مُفرِّطُونَ " بتشديد الرَّاءِ مكسورة من فرَّط في كذا ، أي : قصَّر ، وفي رواية مفتوحة من فرَّطتهُ معدى بالتَّضعيف ؛ أي من " فرط " بالتخفيف أي : تقدَّم ، وسبق . وقرأ عيسى بن عمر والحسن - رضي الله عنهما - " لا جَرمَ إنَّ لهم النار وإنهم " بكسر " إن " فيهما على أنهما جواب قسم ، أغنت عنه : " لا جرم " . ثم بين - تعالى - أن هذا الصُّنع الذي صدر من مشركي قريش ، قد صدر عن سائر الأمم السَّابقة في حق أنبيائهم - صلوات الله وسلامه عليهم - . فقال : { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَعْمَالَهُمْ } أي : كما أرسلنا إلى هذه الأمَّة ، وهذا تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم . قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة من وجوهٍ : أحدها : أنَّه إذا كان خالقُ أعمالهم هو الله - تعالى - ، فلا فائدة في التَّزيينِ . والثاني : أنَّ ذلك التزيين لما كان بخلق الله - تعالى - لم يجز ذمُّ الشيطان بسببه . والثالث : أنَّ ذلك التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل ، وإذا كان حصول الفعل بخلق الله - تعالى - كان ضرورياً ، فلم يكن التَّزيينُ داعياً . والرابع : أنَّ على قولهم : الخالق لذلك العمل ، أجدر بأن يكون ولياً لهم من الدَّاعي إليه . الخامس : أنه - تعالى - أضاف التزيين إلى الشَّيطان ، ولو كان ذلك المزيِّن هو الله - تعالى - لكانت إضافته إلى الشَّيطان كذباً . والجواب : إنْ كان مزين القبائح في أعين الكفَّار هو الشيطان ، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر ؛ لزم التَّسلسل ، وإن كان هو الله - تعالى - فهو المطلوبُ . قوله : { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ } يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية ، أي : فهو ناصرهم ، أو آتية . ويرادُ باليوم يوم القيامةِ ، والمعنى : فهو وليّ أولئك الذين زيِّن لهم أعمالهم يوم القيامةِ ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامةِ لشهرته ، والمقصود أنَّهُ لا وليَّ لهم ، ولا ناصر لهم ؛ لأنهم إذا عاينوا العذاب ، وقد نزل بالشَّيطان كنزوله بهم ، رَأوْا أنه لا مخلِّص له منه كما لا مخلص لهم منه ؛ جاز أن يوبَّخوا بأن يقال لهم : " هذا وليُّكم اليوم " على وجْه السُّخريةِ . وجوَّز الزمخشري أن يعود الضمير على قريشٍ ، فيكون حكاية حال في الحال لا ماضية ، ولا آتية ، والمعنى : أنَّ الشيطان يتولى إغواءهم ، وصرفهم عنك كما فعل بكفَّار الأمم قبلك ، فعلى هذا رجع عن الإخبار عن الأمم الماضية إلى الإخبار عن كفَّار مكَّة ، وسمَّاه ولياً لهم ؛ لطاعتهم له ، ولهم عذاب أليم في الآخرة . وجوَّز الزمخشري أيضاً أن يكون عائداً على " أممٍ " ، ولكن على حذف مضاف تقديره : فهو ولي أمثالهم اليوم . واستبعده أبو حيان ، وكأن الذي حمله على ذلك قوله : " اليَوْمَ " فإنه ظرف خالٍ ، وقد تقدَّم أنه على حكاية الحال الماضية ، أو الآتية . ثمَّ ذكر - تعالى - أنه مع هذا الوعيد الشَّديد ، قد أقام الحجَّة ، وأزاح العلَّة فقال تعالى : { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } ، أي وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها يعني أهل الملل ، والنحل ، والأهواء ، مثل التوحيد ، والشرك ، والجبر ، والقدر ، وإثبات المعاد ونفيه ، ومثل : تحريمهم الحلال كالبحيرة والسائبة وغيرهما ، وتحليلهم أشياء محرمة كالميتة . فصل قالت المعتزلة : واللام في " لتُبَيِّنَ " تدلُّ على أنَّ أفعال الله معللة بالأغراض ، كقوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ } [ إبراهيم : 1 ] وقوله عزَّ وجلَّ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . والجواب : أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل ، وجب صرفه إلى التَّأويل . قوله : { وَهُدًى وَرَحْمَةً } فيه وجهان : أحدهما : أنهما انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما ؛ والناصب : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ } ولما اتحد الفاعل في العلَّة ، والمعلول ؛ وصل الفعل إليهما بنفسه ، ولما لم يتَّحد في قوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ } ، أي : لأن تبين على أنَّ هذه اللاَّم لا تلزم من جهة أخرى ، وهي كون مجرورها " أنْ " ، وفيه خلاف في خصوصية هذه المسألةِ ، وهذا معنى قول الزمخشري فإنه قال : " معطوفان على محل " لتُبيِّنَ " إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول بهما ؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ، ودخلت اللام على : " لتُبيِّنَ " ؛ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفعل المعلل " . قال أبو حيَّان - رحمه الله - : " قوله : معطوفان على محل " لتُبيِّنَ " ليس بصحيح ؛ لأنَّ محلَّه ليس نصباً ، فيعطف منصوب ، ألا ترى أنَّه لو نصبه لم يجز لاختلافِ الفاعل " . قال شهابُ الدِّين : " الزمخشريُّ لم يجعل النَّصب لأجل العطفِ على محلِّه إنَّما جعله بوصول الفعل إليهما لاتِّحادِ الفاعل ، كما صرح به فيما تقدَّم آنفاً ، وإنما جعل العطف لأجل التشريك في العلَّة لا غير ، يعني : أنهما علَّتان ، كما أنَّ " لتُبيِّنَ " علة ، ولئن سلمنا أنه نصب عطفاً على المحل ، فلا يضر ذلك ، وقوله : " لأنَّ محله ليس نصباً " ممنوع ، وهذا ما لا خلاف فيه من أن محل الجار ، والمجرور النصب ؛ لأنه فضلة ، إلا أن تقوم مقام مرفوع ، ألا ترى إلى تخريجهم قوله : " وأرْجُلكُمْ " في قراءة النصب على العطف على محل " برءُوسِكمْ " ، ويجيزون : مررت بزيد وعمرو على خلاف في ذلك بالنسبة إلى القياس ، وعدمه لا في أصل المسألة ، وهذا بحثُ حسنٌ " . فصل قال الكلبيُّ : وصف القرآن بكونه هدى ، ورحمة لقوم يؤمنون ، يدل على أنَّه ليس كذلك في حق الكلِّ ، لقوله في أوَّل البقرة : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وإنَّما خص المؤمنين بالذكر ؛ لأنهم هم المنتفعون به ، كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] ؛ لأنَّ المنتفع بالإنذار هؤلاء القوم فقط .