Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 68-74)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } الآية لما بيَّن أن إخراج الألبان من النَّعم ، وإخراج السَّكر من ثمرات النَّخيل والأعناب دلائلٌ قاهرة على أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليلٌ قاطع على إثبات هذا المقصود . اعلم أنه - تعالى - قال : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } يقال : وحَى وأوْحَى وهو هنا الإلهام ، والمعنى : أنَّه - تعالى - قرَّر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر ، وبيانه من وجوه : الأول : أنها تبني البيوت مسدَّسة من أضلاع متساوية ، لا يزيد بعضها على بعض بمجرَّد طبائعها ، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل : المسطرة والبيكار . الثاني : أنه ثبت في الهندسة أنَّ تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدَّسات ، فإنه يبقى بالضَّرورة فيما بين تلك البيوت فرجٌ خالية ضائقة أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة ، فإنه لا يبقى فيها فرج خالية ضائقة فاهتداء ذلك الحيوان الضَّعيف إلى تلك الحكمة الخفيَّة الدَّقيقة اللَّطيفة من الأعاجيب . الثالث : أن النَّحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرَّئيس للبقيَّة ، وذلك الواحد يكون أعظم جثَّة من الباقي ، ويكون نافذ الحكم على البقيَّة وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه ، وذلك أيضاً من الأعاجيب . الرابع : أنها إذا نفرت وذهبت من وكرها مع الجماعة إلى موضع آخر ، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ، ضربوا الطبول وآلات الموسيقى ، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردِّها إلى أوكارها ، وهذه أيضاً حالةٌ عجيبةٌ ، فلمَّا امتاز هذا الحيوان بهذه الخواصِّ العجيبة الدالَّة على مزيد الذَّكاء والكياسة ، ليس إلا على سبيل الإلهام ، وهي حالة شبيهة بالوحي ، لا جرم قال - سبحانه وتعالى - في حقِّها : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } . فصل قال أبو العباس أحمد بن علي المقري - رحمه الله - : الوحي يردُ على ستَّة أوجه : الأول : الرِّسالة ؛ قال - تعالى - : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ النساء : 163 ] ، أي : أرسلنا إليك . الثاني : الإلهام ؛ قال - تعالى - : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [ النحل : 68 ] . الثالث : الإيماءُ ، قال - تعالى - : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ } [ مريم : 11 ] أي : أومأ إليهم . الرابع : الكتابة ، قال - تعالى - : { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] أي : يكتبون إليهم . الخامس : الأمر ، قال - تعالى - : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] ، أي : أمرها . السادس : الخلق ، قال - تعالى - : { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [ فصلت : 12 ] ، أي : خلق . قال القرطبي : الإلهام هو ما يخلقه الله - تعالى - في القلب ابتداء من غير سبب ظاهرٍ ؛ قال - تعالى - : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 ، 8 ] ومن غير ذلك البهائم وما يخلقه الله فيها من إدراك منافعها ، واجتناب مضارِّها ، وتدبير معاشها ، وقد أخبر الله - تعالى - عن الأرض فقال : { تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 4 ، 5 ] . واعلم أن الوحي قد ورد في حقِّ الأنبياء ؛ قال - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ، وفي حقِّ الأولياء ؛ قال - تعالى - : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } [ المائدة : 111 ] وبمعنى الإلهام في حقِّ بقية البشر ؛ قال - تعالى - : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ } [ القصص : 7 ] وفي حقِّ سائر الحيوانات بمعنى خاصّ . قال الزجاج : يجوز أن يقال : سمِّي هذا الحيوان نحلاً ؛ لأن الله - تعالى - نحل النَّاس العسل الذي يخرج من بطونها . وقال غيره : النَّحل يذكَّر ويؤنث على قاعدة أسماء الأجناس ، فالتأنيث فيها لغة الحجاز ، ولذلك أنثها الله - تعالى - وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلاَّ الهاء . وقرأ ابن وثَّاب : " النَّحَل " بفتح الحاء ، فيحتمل أن يكون لغة مستقلة ، وأن يكون إتباعاً . قوله " أن اتَّخذِي " يجوز أن تكون مفسِّرة ، وأن تكون مصدريَّة . واستشكل بعضهم كونها مفسِّرة ، قال : لأنَّ الوحي هنا ليس فيه معنى القول ؛ إذ هو الإلهام لا قول فيه . وفيه نظر ؛ لأن القول لكل شيء بحسبه . و " مِنَ الجِبالِ " " من " فيه للتبعيض ؛ إذ لا يتهيَّأ لها ذلك في كل جبلٍ ولا شجر ، وتقدَّم القول في " يَعْرِشُون " ومن قرأ بالكسر والضم في الأعراف . والمراد بـ " ممَّا يَعْرِشُونَ " ما يبنون لها من الأماكن التي تأوي إليها ، وقرىء : " بِيُوتاً " بكسر الباء . فصل اعلم أن النَّحل نوعان : أحدهما : ما يسكن الجبال والغياض ولا يتعهَّدها أحد من النَّاس . والثاني : ما يسكن البيوت ويتعهَّدها الناس ، فالأول هو المراد بقوله عز وجل : { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ } . والثاني هو المراد بقوله - عز وجل - { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } وهو خلايا النحل ، واختلفوا فيه . فقال بعضهم : لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة ، بحيث يمكن أن يتوجَّه عليها أمر الله ونهيه . وقال آخرون : المراد منه أنه - تعالى - خلق غرائز وطبائع توجبُ هذه الأحوال ، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله - تعالى - : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ } [ النمل : 18 ] إن شاء الله - تعالى - . ثم قال - تعالى - : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } " مِنْ " هنا للتبعيض ؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات ؛ فهو كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 23 ] أو لابتداء الغاية . قال ابن الخطيب : رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل ، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار ، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار ، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين ، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان ، وذلك محسوس ، فالقسم الأول : هو الذي ألهم الله - تعالى - هذا النَّحل ، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها ، وتأكلها وتتغذى بها ، فإذا شبعت ، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء ، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها ، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير ، فذلك هو العسل . ومنهم من يقول : إنَّ النَّحل تأكل من الزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء ، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبدانها عسلاً ، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى ؛ فذلك هو العسل . والأول أقربُ ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار ، فكذلك ههنا ، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل ؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها ، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل ، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار ؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء ، وإذا كان ذلك ، فقوله : " مِنْ كلِّ الثَّمراتِ " أن " مِنْ " هنا لابتداء الغاية لا للتبعيض . قوله : { فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ } أي : إذا أكلت من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك . قوله تعالى : " ذُلُلاً " جمع ذَلُول ، ويجوز أن يكون حالاً من السبل ، أي : ذلَّلها لها الله - تعالى - ؛ كقوله - عز وجل - : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] وأن يكون حالاً من فاعل " اسْلُكِي " ، أي : مطيعة منقادة ، بمعنى أنَّ أهلها ينقلونها من مكانٍ إلى مكانٍ ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت . وانتصاب " سُبُل " يجوز أن يكون على الظرفية ، أي : فاسْلُكِي ما أكلت في سبل ربك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار ونحوه عسلا ، وأن يكون مفعولاً به أي : اسلكي الطُّرق التي أفهمك وعلَّمك في عمل العسل . قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } التفات وإخبار بذلك ، والمقصود منه أن يحتجَّ المكلف به على قدرة الله وحكمته وحسن تدبيره . واعلم أنَّا إذا حملنا الكلام على أنَّ النَّحل تأكل الأوراق والثَّمرات ثم تتقيَّأ ، فذلك هو العسل فظاهرٌ ، وإذا ذهبنا إلى أنَّ النحل يلتقط الأجزاء الطلية بفمه ، فالمراد من قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } ، أي : من أفواهها ، فكل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً ، كقولهم : بُطونُ الدِّماغِ ، أي : تجاويف الدماغ ، فكذا قوله - تعالى - { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } أي : من أفواهها . قوله : { شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أنَّه تارة يشرب وحده ، وتارة نتَّخذ منه الأشربة ، و { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أبيض وأحمر وأصفر . وقوله - تعالى - : { فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } ، أي : في العسل . روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " جَاءَ رجلٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ أخِي اسْتطلقَ بَطْنهُ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : اسْقِه عَسَلاً ، فَسَقاهُ ، ثمَّ جَاءَ فقال : إني سَقيْتهُ فَلمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطلاقاً ، فقَال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : اسْقِهِ عَسلاً ثَلاثَ مرَّاتٍ ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابعة ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : اسْقهِ عَسَلاً فقال : قد سَقيْتهُ فلمْ يَزدْهُ إلا اسْتِطْلاقاً فقَال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " صَدَقَ الله وكَذبَ بَطْنُ أخِيك ، فَسقاهُ فَبَرأ " " . وقال عبد الله بن مسعود : " العَسلُ شِفاءٌ من كُلِّ داءٍ " . فإن قيل : كيف يكون شفاء للناس وهو يضرُّ بالصفراء ويهيج المرار ؟ . فالجواب : أنه - تعالى - لم يقل : إنه شفاءٌ لكلِّ الناس وشفاء لكل داءٍ في كلِّ حال ، بل لمَّا كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء ، صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاءٌ ؛ والذي يدل على أنه شفاء في الجملة : أنه قلَّ معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل ، والأشربة المتَّخذة منه في الأمراض البلغميَّة عظيمة النَّفع . وقال مجاهد - رحمه الله - : المراد بقوله - تعالى - : { فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } القرآن ؛ لقوله - تعالى - : { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] . وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " عَلَيكُم بِالشِّفاءَيْنِ : العَسلِ والقُرآنِ " . وعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله : { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، ثم ابتدأ وقال : { فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } أي : في هذا القرآن . وهذا القول ضعيف ؛ لما تقدم من الحديث ؛ ولأنَّ الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وهو الشَّراب ، وأما عوده إلى غير مذكور ، فلا يناسب . فإن قيل : ما المراد بقوله - صلوات الله وسلامه عليه - : " وكَذبَ بَطْنُ أخِيكَ " فالجواب : لعلَّه - صلوات الله وسلامه عليه - علم بالوحي أنَّ ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال - مع أنه - عليه الصلاة و السلام - كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك - كان هذا جارياً مجرى الكذب ، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ . ثم إنه - تعالى - ختم الآية بقوله - تعالى - : { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : ما ذكرنا من اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة ؛ مثل بناء البيوت المسدَّسة واهتدائها إلى جمع تلك الأجزاء الواقعة من جو الهواء على أطراف أوراق الأشجار بعد تفرُّقها ، فكل ذلك أمور عجيبة دالَّة على أنَّ إله هذا العالم رتَّبه على رعاية الحكمة والمصلحة . قوله - تعالى - : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } الآية لمَّا ذكر - تعالى - عجائب أحوال الأنهار والنَّبات والأنعام والنَّحل ، ذكر بعض عجائب أحوال الناس في هذه الآية . واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع مراتب : أولها : سنُّ النشوء والنَّماء . وثانيها : سن الوقوف وهو سنُّ الشباب . وثالثها : سن الانحطاط القليل ، وهو سنُّ الكهولة . ورابعها : الانحطاط الكبير ، وهو سن الشيخوخة . فاحتجَّ - تعالى - بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض ، على أن ذلك النَّاقل هو الله - تعالى - ثم قال : { ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } عند قضاء آجالكم صبياناً ، أو شباباً ، أو كهولاً أو شيوخاً . { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } ، أي : أردأه لقوله - عزَّ وجلَّ - : { وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] وقوله - تعالى - : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } [ هود : 27 ] . قال مقاتل : يعني الهرم . وقال قتادة : تسعون سنة . وقيل : ثمانون سنة . قيل : هذا مختصٌّ بالكافر ؛ لأن المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله ، ولا يجوز أن يقال إنه رده إلى أرذل العمر ؛ لقوله - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ التين : 5 ، 6 ] ، فبيَّن أن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ما ردُّوا إلى أسفل سافلين . وقال عكرمة : من قرأ القرآن ، لم يردَّ إلى أرذل العمر . قوله : " لِكَيْلا " في هذه اللاَّم وجهان : أحدهما : أنَّها لام التعليل ، و " كَيْ " بعدها مصدرية ليس إلا وهي ناصبة بنفسها للفعل بعدها ، وهي منصوبة في تأويل مصدر مجرور باللام ، واللام متعلقة بـ " يُرَدُّ " . قال الحوفيُّ : إنها لام " كَيْ " ، و " كَيْ : للتأكيد . وفيه نظر ؛ لأنَّ اللام للتَّعليل و " كَيْ " بعدها مصدريَّة لا إشعار لها بالتَّعليل والحالة هذه ، وأيضاً فعملها مختلف . والثاني : أنها لام الصَّيرورة . قوله : " شَيْئاً " يجوز فيه التنازع ؛ لأنه تقدمه عاملان : يعلمُ وعِلْم ، أي : الفعل والمصدر ، فعلى رأي البصريِّين - وهو المختار - يكون منصوباً بـ " عِلْمٍ " وعلى رأي الكوفيين يكون منصوباً بـ " يَعْلمَ " . وهو مردود ؛ إذ لو كان كذلك لأضمر في الثاني ، فيقال : لكيلا يعلم بعد علم إيَّاه شيئاً . ومعنى الآية : لا يعقل بعد عقله الأوَّل شيئاً ، إن الله عليم قدير . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه ، " قَدِيرٌ " على ما يريد . فصل هذه الآية كما دلَّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار ، فهي أيضاً تدلُّ على صحَّة البعث والقيامة ؛ لأنَّ الإنسان كان معدوماً محضاً ، ثمَّ أوجده الله ، ثم أعدمه مرَّة ثانية ، فدلَّ على أنَّه لمَّا كان معدوماً في المرة الأولى ، وكان عوده إلى العدم في المرَّة الثانية جائزاً ؛ فلذلك لمَّا صار موجوداً ثم عدم ، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرَّة الثانية جائزاً ، وأيضاً : كان ميّتاً حين كان نطفة ، ثم صار حيًّا ، ثمَّ مات فلما كان الموت الأوَّل جائزاً ، كان عود الموت جائزاً ؛ وكذلك لمَّا كانت الحياة الأولى جائزة ، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرَّة الثانية ، وأيضاً الإنسان في أول طفولته جاهلٌ لا يعرف شيئاً ، ثم صار عالماً عاقلاً ، فلما بلغ أرذل العمر ، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة ؛ وهو عدم العقل والفهم فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر ، فكذلك العقل الذي حصل ثمَّ زال ، وجب أن يكون جائز العود في المرَّة الثانية ، وإذا ثبتت هذه الجملة ، ثبت أنَّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده ، وعود حياته ، وعود عقله مرَّة أخرى ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنَّشر حقٌّ . قوله : { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ } الآية هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان ؛ لأنَّا نرى أكيس النَّاس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسَّر له ذلك ، ونرى أجلاف النَّاس وأقلهم عقلاً وفهماً ينفتح عليه أبواب الدنيا ، وكلُّ شيءٍ خطر بباله أو دار في خياله ، فإنه يحصل له في الحال ، ولو كان السَّببُ هو جهد الإنسان وعقله ، لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال ، فلمَّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلُّ نصيباً ، والأجهل الأخس أوفر نصيباً - علمنا أنَّ ذلك بسبب قسمة القسام ؛ كما قال - تعالى - : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ الزخرف : 32 ] وهذا التفاوت غير مختصٍّ بالمال ، بل حاصل في الذَّكاء والبلادة ، والحسن والقبح ، والعقل والحمق والصحة والسقم وغير ذلك . قوله : { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } فيه قولان : الأول : أنَّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدَّم من أن السَّعادة والنُّحوسة لا يحصلان إلا من الله - تعالى - ، والمعنى : إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعاً ، فهم في رزقي سواء ، فلا يحسبنَّ الموالي أنَّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً ، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم . والحاصل : أن الرَّزاق هو الله - تعالى - ، وأن المالك لا يرزق العبد ؛ وتحقيق القول فيه : أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً ، وأقوى جسماً ، وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى ؛ وذلك يدلُّ على أن ذلَّة العبد وعزة ذلك المولى من الله ؛ كما قال جل ذكره - : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] . الثاني : أن المراد من الآية : الرد على من أثبت شريكاً لله - عزَّ وجلَّ - ، وعلى هذا القول ففيه وجهان : الأول : أن يكون هذا ردًّا على عبدة الأصنام ؛ كأنه قيل : إنَّه - تعالى - فضَّل الملوك على مماليكهم ، فجعل المملوك لا يقدر على ملكٍ مع مولاه ، فإذا لم يكن عبيدكم معكم سواءً في الملك ، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في العبودية . والثاني : قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : " نزلتْ هذه الآية في نصارى نجران ، حين قالوا : إنَّ عيسى ابن مريم ابن الله " ، والمعنى : أنكم لا تشركوني عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء ، فكيف جعلتم عبدي ولداً وشريكاً لي في هذه الألوهية ؟ . قوله : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } في هذه الجملة أوجه : أحدها : أنَّها على حذف أداة الاستفهام ، تقديره : أفهم فيه سواء ، ومعناه النفي ، أي : ليسوا مستوين فيه . الثاني : أنها إخبار بالتَّساوي ، بمعنى أنَّ ما يطعمونه ويلبسونه لمماليكهم ، إنَّما هو رزقي أجريته على أيديهم فهم فيه سواءٌ . الثالث : قال أبو البقاء : إنَّها واقعة موقع الفعل ، ثم جوز في ذلك الفعل وجهين : أحدهما : أنه منصوب في جواب النَّفي ، تقديره : فما الَّذين فضَّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكتْ أيمانهم ، فيستووا . الثاني : أنه معطوفٌ على موضع " بِرَادِّي " فيكون مرفوعاً ، تقديره : فما الذين فضِّلوا يردُّون ، فما يستوون . قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ فيه وجهان : أحدهما : لا شبهة في أن المراد من قوله { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم . الثاني ] : الباء في قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ } يجوز أن تكون زائدة ؛ لأنَّ الجحود لا يتعدَّى بالباء ؛ كما تقول : خُذِ الخِطامَ وبالخِطَام ، وتعلَّقت زيداً وبِزَيْدٍ ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر ، فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : " تَجْحَدُونَ " بالخطاب ؛ لقوله : " بَعضَكُم " و " خَلقَكُمْ " ، والباقون بالغيبة ؛ مراعاةً لقوله - عزَّ وجلَّ - : { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ } وقوله : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ؛ لقرب المخبر عنه ، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين ، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة ، وهذا إنكار على المشركين . فإن قيل : كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام ؟ . فالجواب من وجهين : الأول : أنَّه لمَّا كان المعطي لكل الخيرات هو الله - تعالى - ، فالمثبت له شريكاً ، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات ، فكان جاحداً لكونها من عند الله ، وأيضاً فإنَّ أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النِّعم إلى الطبائع وإلى النُّجوم ، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله . الثاني : قال الزجاج : إنه - تعالى - لمَّا بين الدلائل ، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل ، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق ، فعند ذلك قال : { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات " يَجْحدُونَ " . قوله : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } الآية هذا نوع آخر من أحوال الناس استدلَّ به على وجود الإله المختار الحكيم ، وتنبيهاً على إنعام الله على عبيده بمثل هذه النعم ، وهذا الخطاب للكلِّ ، فتخصيصه بآدم وحوَّاء - صلوات الله وسلامه عليهما - خلافٌ للدَّليل ، والمعنى : أنه - تعالى - خلق النِّساء ليتزوج بها الذُّكور ، ومعنى " مِنْ أنْفُسِكُمْ " كقوله - تعالى - : { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] وقوله : { فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] ، أي : بعضكم بعضاً ؛ ونظيره : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ الروم : 21 ] . قال الأطباء وأهل الطبيعة : المنيُّ إذا انصبَّ إلى الخصية اليمنى من الذَّكر ، ثم انصبَّ منه إلى الجانب الأيمن من الرَّحم ، كان الولدُ ذكراً تامًّا ، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى ، ثمَّ انصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم ، كان الولد أنثى تامًّا في الأنوثة ، وإن انصبَّ منها إلى الخصية اليمنى ، وانصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم ، كان ذكراً في طبيعة الإناث ، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى ، ثم انصبَّ إلى الجانب الأيمن من الرَّحم ، كان هذا الولدُ أنثى في طبيعة الذُّكور . وحاصل كلامهم : أن الذُّكور الغالب عليها الحرارة واليبوسة ، والغالب على الإناثِ البرودة والرطوبة ، وهذه العلَّة ضعيفة ، فإنَّا رأينا في النِّساء من كان مزاجه في غاية السُّخونة ، وفي الرِّجالِ من كان مزاجه في غاية البرودة ، ولو كان الموجب للذُّكورة والأنوثة ذلك ، لامتنع ذلك ؛ فثبت أنَّ خالق الذَّكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم . قوله : " وَحفَدةً " فيه أوجه : أظهرها : أنه معطوف على " بَنِينَ " بقيد كونه من الأزواج ، وفسِّر هذا بأنَّه أولاد الأولاد . الثاني : أنه من عطف الصفات لشيء واحد ، أي : جعل لكم بنين خدماً ، والحفدة : الخدم . الثالث : أنه منصوب بـ " جَعَلَ " مقدَّرة ، وهذا عند من يفسِّر الحفدة بالأعوان والأصهار ، وإنما احتيج إلى تقدير " جَعَلَ " ؛ لأن " جَعَلَ " الأولى مقيَّدة بالأزواج ، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج ، والحفدة : جمع حافدٍ ؛ كخادمٍ وخَدم . قال الواحدي - رحمه الله - : " ويقال في جمعه : الحفد بغير هاءٍ ؛ كما يقال : الرَّصد ، ومعنى الحفدة في اللغة : الأعوان والخدم " . وفيهم للمفسِّرين أقوال كثيرة ، واشتقاقهم من قولهم : حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْداً وحُفُوداً وحَفَداناً ، أي : أسرع في الطَّاعة ، وفي الحديث : " وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ " ، أي : نُسرع في طَاعتِكَ ؛ وقال الآخر : [ الكامل ] @ 3344 - حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلهُنَّ وأسْلِمَتْ بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمالِ @@ ويستعمل " حَفَدَ " أيضاً متعدياً ؛ يقال : حَفدنِي فهو حافدٌ ؛ وأنشد أيضاً : [ الرمل ] @ 3345 - يَحْفدُونَ الضَّيْفَ في أبْيَاتهِمْ كَرماً ذلِكَ مِنهُمْ غَيْرَ ذُلْ @@ وحكى أبو عبيدة أنه يقال : أحفد رباعيًّا ، وقال بعضهم : الحَفدةُ الأصهارُ ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 3346 - فَلوْ أنَّ نَفْسِي طَاوعَتْنِي لأصْبحَتْ لهَا حَفدٌ ممَّا يُعَدُّ كَثِيرُ ولَكنَّهَا نَفْسٌ عليَّ أبيَّةٌ عَيُوفٌ لإصْهَارِ اللِّئامِ قَذُورُ @@ ويقال : سَيفٌ مُحْتَفِدٌ ، أي : سريعُ القطع ؛ وقال الأصمعي : أصل الحفد مقاربة الخُطَى . قوله : { وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } ولمَّا ذكر إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح ، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطبية ، و " مِنْ " في " مِنَ الطَّيباتِ " للتبعيض . ثم قال { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - يعني : بالأصنام وقال مقاتل : يعني : بالشيطان ، وقال عطاء : يصدِّقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً . { وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } أي : بأن يضيفوها إلى غير الله ولا يضيفونها إلى الله ، وقيل : يكفرون بالتَّوحيد والإسلام . وقيل : يحرِّمون على أنفسهم طيِّباتٍ أحلَّها الله لهم ؛ مثل : البَحيرَة والسَّائبةِ والوَصِيلَة والحَامِ ، ويبيحون لأنفسهم محرَّمات حرمها الله عليهم ، وهي الميتة ولحم الخنزير { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ، أي : يجحدون ويكفرون إنعام الله في تحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث ، ويحكمون بتلك الأحكام الباطلة . قوله - تعالى - : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً } الآية لمَّا شرح الدَّلائل الدالة على صحَّة التَّوحيد ، وأتبعها بذكر أقسام النِّعم العظيمة ، أتبعها بالردِّ على عبدة الأصنام ؛ قال { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَاتِ } يعني : المطر والأرض ، ويعني النَّبات والثِّمار . قوله تعالى : { مِّنَ ٱلسَّمَٰوَاتِ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه متعلق بـ " يَمْلِكُ " ، وذلك على الإعرابين الأولين في نصب " شَيْئاً " . الثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " رِزْقاً " . الثالث : أن يتعلق بنفس " رِزْقاً " إن جعلناه مصدراً . وقال ابن عطية - بعد أن ذكر إعمال المصدر منوناً - : والمصدر يعمل مضافاً باتِّفاق ؛ لأنه في تقدير الانفصال ، ولا يعمل إذا دخله الألف واللاَّم ؛ لأنه قد توغَّل في حال الأسماء وبعد عن الفعليَّة ، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله ؛ وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر : [ المتقارب ] @ 3347 - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْدَاءَهُ … @@ وقوله : [ الطويل ] @ 3348 - … … فَلمْ أنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا @@ قال أبو حيَّان : أما قوله : " باتِّفاقٍ " إن عنى به من البصريين ، فصحيحٌ ، وإن عنى به من النَّحويين ، فليس بصحيحٍ ؛ إذْ قد ذهب بعضهم إلى أنَّه وإن أضيف لا يعمل ، فإن وجد بعده منصوب أو مرفوع قدَّر له عاملاً ، وأما قوله : " في تقدير الانفصال " فليس كذلك ، إلا أن تكون إضافته غير محضة ؛ كما قال به ابن الطراوة وابن برهان ، ومذهبهما فاسد ؛ لأن هذا المصدر قد نعت وأكد بالمعرفة ، وقوله : " لا يعمل … إلى آخره " ناقضه بقوله : " وقد جاء عاملاً … إلى آخره " . قال شهاب الدِّين : فغاية ما في هذا أنَّه نحا إلى أقوال قال بها غيره ، وأمَّا المناقضة ، فليست صحيحة ؛ لأنه عنى أولاً أنَّه لا يعمل في السَّعة ، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة ، ولذلك قيَّده فقال : " في قول الشَّاعر " . قوله : " شَيْئاً " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : انه منصوبٌ على المصدر ، أي : لا يملك لهم ملكاً ، أي : شيئاً من الملك . والثاني : أنه بدلٌ من " رِزْقاً " أي : لا يملك لهم رزقاً شيئاً ، وهذا غير مقيَّد ؛ إذ من المعلوم أن الرزق شيء من الأشياء ، ويؤيِّد ذلك أن البدل يأتي لأحد معنيين : البيان أو التَّأكيد ، وهذا ليس فيه بيان ؛ لأنه أعمٌّ ، ولا تأكيد . الثالث : أنه منصوب بـ " رِزْقاً " على أنه اسمُ مصدر ، واسم المصدر يعمل عمل المصدر ، على خلاف في ذلك . ونقل مكِّي : أن اسم المصدر لا يعمل عند البصريين إلا في شعر ، وقد اختلف النقلة عن البصريِّين ؛ فمنهم من نقل المنع ، ومنهم من نقل الجواز . وقد ذكر الفارسي انتصابه بـ " رِزْقاً " كما تقدَّم . ورد عليه ابن الطراوة : بأن الرِّزق اسم المرزوق ، كالرِّعي ، والطحن . وردَّ على ابن الطراوة ؛ بأنّ الرزق بالكسر أيضاً مصدر ، وقد سمع فيه ذلك ، وظاهر هذا أنه مصدر بنفسه لا اسم مصدر . قوله تعالى : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } يجوز في الجملة وجهان : العطف على صلة " مَا " ، والإخبار عنهم بنفي الاستطاعة على سبيل الاستئناف ، ويكون قد جمع الضمير العائد على " مَا " باعتبار معناها ؛ إذ المراد بذلك آلهتهم . ويجوز أن يكون الضمير عائداً على العابدين . فإن قيل : قال - تعالى - : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ } فعبَّر عن الأصنام بصيغة " ما " وهي لغير العاقل ، ثم جمع بالواو والنون فقال : " ولا يَسْتَطِيعُون " ، وهو مختص بأولي العلم . فالجواب : أنه عبَّر عنها بلفظ " مَا " اعتباراً باعتقادهم أنَّا آلهة ، والفائدة في قوله : " ولا يَسْتَطِيعُونَ " أنَّ من لا يملك شيئاً قد يوصف باستطاعته أن يمتلكه بطريقٍ من الطرق فبيَّن - تعالى - أنَّ هذه الأصنام لا تملك وليس لها استطاعة تحصيل الملك . ثم قال - تعالى - : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ } يعني : الأشباه فتشبهونه بخلقه وتجعلون له شريكاً ؛ فإنه واحد لا مثل له - سبحانه وتعالى - . ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } يعني : أن الله يعلم ما عليكم من العقاب العظيم ، وأنتم لا تعلمون خطأ ما تضربون من الأمثال ، وحذف مفعول العلم اختصاراً أو اقتصاراً .