Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 65-67)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً } الآية اعلم أنَّ المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة : الإلهيَّات ، والنبوات ، والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر ، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة : تقرير الإلهيَّات ، فلهذا السَّبب كلَّما امتد الكلام في فصل من الفصول ، عاد إلى تقرير الإلهيَّات ، فههنا لمَّا امتد الكلام في وعيد الكفار ، عاد إلى تقرير الإلهيَّات ، فقال : { وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً } وقد تقدَّم تقرير هذه الدَّلائلِ . وقال تعالى : { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع إنصاف وتدبُّر ؛ والمراد : سماع القلوب لا سماع الآذان . والنوع الثاني من الدَّلائلِ : الاستدلالُ بعجائب أحوالِ الحيواناتِ . قوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ } والعِبرةُ : العِظةُ . قرأ ابن كثير ، و أبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي " نُسْقِيكمْ " بضمِّ النون هنا ، وفي المؤمنين ، والباقون بفتح النون فيهما . وهذه الجملة يجوز أن تكون مفسِّرة للعبرة ، كأنه قيل : كيف العبرة ؟ فقيل : نسقيكم من بين فرثٍ ، ودم لبناً خالصاً ، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ ، [ مضمر ] ، والجملة جواب لذلك السؤال ، أي : هي ، أي : العبرة نسقيكم ، ويكون كقوله : " تَسْمعُ بالمُعيْديِّ خَيرٌ مِنْ أن تَراهُ " . واختلف النَّاس : هل سَقَى ، وأسْقَى لغتان بمعنى واحدٍ ، أم بينهما فرقٌ ؟ . خلافٌ مشهورٌ ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وأنشد جمعاً بين اللغتين فقال : [ الوافر ] @ 3333 - سَقَى قَومِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى نُمَيْراً والقَبائِلَ من هِلال @@ دعى للجميع بالسقي ، والخصب ، و " نُمَيْراً " هو المفعول الثاني ، أي : ما نميراً ، وقال أبو عبيدة : مَنْ سقى الشَّفة : " سقى " فقط ، ومن سقى الشجر والأرض : " أسقى " ، وللداعي لأرض بالسقيا وغيرها : أسقى فقط . وقال الأزهري - رحمه الله - : العرب تقول لكلِّ ما كان من بطُونِ الأنعام ، ومن السَّماء ، أو نهر يجري أسقيته ، أي : جعلته شرباً له ، وجعلت له منه مسقى ، فإذا كان للمنفعة قالوا : " سَقَى " ، ولم يقولوا : " أسْقَى " . وقال الفارسيُّ : " سَقيْتهُ حتَّى رَوِيَ ، وأسْقَيتهُ نَهْراً جَعَلتهُ لَهُ شرباً " . وقيل : سقاهُ إذا ناوله الإناء ؛ ليشرب منه ، ولا يقال من هذا أسقاه . وقرأ أبو رجاء " يُسْقِيكُمْ " بضمِّ الياء من أسفل ، وفي فاعله وجهان : أحدهما : هو الله - تعالى - . والثاني : أنه ضمير النَّعم المدلول عليه بالأنعام ، أي : نعماً يجعل لكم سقياه . وقرىء : " تَسْقِيكُمْ " بفتح التاء من فوق . قال ابن عطيَّة : وهي ضعيفة . قال أبو حيَّان : " وضعفها عنده - والله أعلم - أنه أنَّث في : " نُسقِيكُم " وذكر في قوله : " ممَّا في بطُونهِ " ، ولا ضعف من هذه الجهة ؛ لأنَّ التَّذكير ، والتَّأنيث باعتبارين " . قال شهابُ الدِّين : وضعفها عنده من حيث المعنى ، وهو أنَّ المقصود الامتنان على الخلقِ ، فنسبة السقي إلى الله هو الملائمُ لا نسبته إلى الأنعام . قوله : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } يجوز أن تكون " مِنْ " للتبعيض ، وأن تكون لابتداء الغاية وعاد الضمير ها هنا على الأنعام مفرداً مذكراً . قال الزمخشريُّ : ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم " ثَوْب أسْمَال " ، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً ، وأمَّا { فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] في سورة المؤمنين ، فلأنَّ معناه الجمع ، ويجوز أن يقال في " الأنعام " وجهان : أحدهما : أن يكون جمع تكسير : " نَعَم " كأجْبَال في جَبَل . وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمعِ ، فإذا ذكر ، فكما يذكر " نَعَم " في قوله : [ الرجز ] @ 3334 - في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ يُلْقِحهُ قَومٌ ويَنتِجُونَهُ @@ وإذا أنَّث ففيه وجهان : أنه تكسير نعم ، وأنه في معنى الجمع . قال أبو حيَّان : أمَّا ما ذكرهُ عن سيبويه ، ففي كتابه في هذا الباب ، ما كان على مثال مفاعل ، ومفاعيل ما نصُّه : " وأمَّا أجمال ، وفلوس فإنَّها تنصرف ، وما أشبهها ؛ لأنها ضارعت الواحد ، ألا ترى أنك تقول : أقْوَال ، وأقَاوِيل ، وأعْرَاب ، وأعَارِيب ، وأيْدٍ ، وأيَادٍ فهذه الأحرف تخرج إلى مثال : مفَاعِل ، ومفَاعِيل كما يخرج إليه الواحد ، إذا كسر الجمع ، وأما مفاعل ، ومفاعيل ، فلا يكسر ؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا البناء ؛ لأنَّ هذا البناء هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت " . ثمَّ قال : وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس ؛ لأن يجمع جمعاً لأخرجته إلى فَعائِل كما تقول : جَدُود ، وجَدائِد ، ورَكُوب ، ورَكائِب ، وركاب . ولو فعلت ذلك بمفاعل ، ومفاعيل ، لم يجاوز هذا البناء ، ويقوي ذلك أنَّ بعض العرب تقول : " أُتي " للواحد فيضم الألف ، وأمَّا أفعال ؛ فقد تقع للواحد ، من العرب من يقول : " هو الأنعامُ " ، قال - الله عزَّ وجلَّ - : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } . وقال أبو الخطَّاب : سمعت من العرب من يقول : هذا ثوب أكياش . قال : والذي ذكره سيبويه : هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل ، وبين أفعال وفُعول وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث إنَّ مفاعل ، ومفَاعِيل لا يجمعان ، وأفعالٌ وفعولٌ قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل ، أو مفاعيل فلما كانا قد يخرجان إلى ذلك انصرفا ، ولم ينصرف " مفاعل " و " مفاعيل " لشبه ذينك بالمفرد من حيث إنه يمكن جمعها وامتناع هذين من الجمع ، ثمَّ قوي شبههما بالمفرد بأن بعض العرب يقول في " أَتى " " أُتى " بضم الهمزة ، يعني أنه قد جاء نادراً فعول ، من غير المصدر للمفرد ، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضمير فيقول : هو الأنعامُ ، وإنَّما ذلك على سبيل المجاز ؛ لأنَّ الأنعام في معنى النعم والنَّعَم يفرد ؛ كما قال الشاعر : [ الوافر ] @ 3335 - تَركْنَا الخَيْلَ والنَّعَمَ المفدَّى وقُلْنَا للنِّساءِ بها : أقِيمِي @@ ولذلك قال سيبويه : " وأمَّا أفعال فقد يقع للواحد " فقوله : " قد يقع للواحد " دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضع ، فقول الزمخشريُّ : " إنَّه ذكره في الأسماءِ المفردةِ على أفعال " تحريف في اللفظ ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده ، ويدلُّ على ما قلناه : أنَّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنَّ أفعالاً ليس من أبنيتها . قال سيبويه في باب ما لحقته الزِّيادة من بنات الثلاثة : " وليس في الكلام أفعيل ، ولا أفْعَول ، ولا أُفْعَال ، ولا أفْعِيل ، ولا أفعالُ إلا أن تكسِّر عليه اسماً للجمع " ، قال : " فهذا نصٌّ منه على أنَّ أفعالاً لا يكون في الأسماء المفردة " . قال شهاب الدِّين : الَّذي ذكره الزمخشريَّ ، وهو ظاهر عبارة سيبويه ، وهو كافٍ في تسويغ عودِ الضمير مفرداً ، وإن كان أفعالاً قد يقع موقع الواحد مجازاً ، فإنَّ ذلك ليس بصائرٍ فيما نحن بصدده ، ولم يحرِّف لفظه ، ولم يفهم عنه غير مراده لما ذكرناه من هذا المعنى الذي قصده . وقيل : إنَّما ذكر الضمير ؛ لأنه يعود على البعض ، وهو الإناثُ ؛ لأنَّ الذُّكور لا ألبان لها ، والعبرة إنَّما هي في بعض الانعام . وقال الكسائي - رحمه الله - : " أي في بطون ما ذُكِر " . قال المبرِّد : وهذا سائغ في القرآن ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 11 ، 12 ] ، أي : هذا الشيء الطَّالع ، ولا يكون هذا إلاَّ في التَّأنيث المجازي . ولا يجوز : جاريتك ذهب ، وغلامك ذهبت ، وعلى هذا خرج قوله : [ الرجز ] @ 3336 - فِيهَا خَطوطٌ من سَوادٍ وبَلقْ كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوليعُ البَهَقْ @@ أي : كأن المذكور . وقيل : جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ، ومعاملة الجمع . ففي هذه السورة اعتبر معنى الجمع ، وفي سورة المؤمنين ، اعتبر معنى الجماعة ، ومن الأوَّل قول الشَّاعر : [ الرجز ] @ 3337 - مِثْلُ الفِراخِ نُتفَتْ حَواصِلُه @@ وقيل : لأنه يسدُّ مسدَّ الواحد يُفهم الجمع فإنه يسد مسده نعم ، ونعم يفهم الجمع ؛ ومثله قول الشاعر : [ الرجز ] @ 3338 - وطَابَ ألبَانُ اللِّقاحِ وبَرَد @@ لأنه يسد مسدَّها " لبن " . ومثله قولهم هو أحسن الفتيان ، وأجمله أي : أحسن فتى إلاَّ أنَّ هذا لا ينقاس عند سيبويه وأتباعه . وذكر أبو البقاء ستَّة أوجهٍ تقدم منها في غضون ما ذكر خمسة ، والسادس : أنه يعود على الفحل ؛ لأنَّ اللبن يكون من طرق الفحلِ الناقة ، فأصل اللَّبن من الفحل . قال : " وهذا ضعيف ؛ لأنَّ اللبن ، وإن نسب إلى الفحل ، فقد جمع البطون وليس في فحل الأنعام إلاَّ واحداً ، ولا للواحد بطون ، فإن قيل : أراد الجنس ، فقد ذكر " . يعني أنه قد تقدَّم أنَّ التَّذكير باعتبار جنس الأنعام ، فلا حاجة إلى تقدير عوده على فحلٍ المراد به الجنس ، وهذا القول نقله مكي عن إسماعيل القاضي - رحمه الله - ولم يعقبه بنكير . قال القرطبي : واستنبط القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير أن لبن الفحل يقبل التَّحريم . وقال : إنَّما جيءَ به مذكَّراً ؛ لأنَّه راجع إلى ذكر النِّعم ؛ لأنَّ اللَّبن للذَّكرِ محسوب ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ اللبن محرِّمٌ حين أنكرته عائشة - رضي الله عنها - في حديث : " أفْلحَ أخي أبِي القعيس فلِلمَرْأةِ السَّقيُ وللرَّجُلِ اللِّقاحُ " . قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } يجوز فيه أوجه : أحدها : أنَّه متعلق بالسّقي على أنَّها لابتداء الاية ، فإن جعلنا ما قبلها كذلك ، تعين أن يكون مجرورها بدلاً من مجرور " من " الأولى ، لئلا يتعلَّق عاملان متَّحدان لفظاً ومعنى [ بمعمول ] واحد ، وهو ممتنع إلا في بدل الاشتمال ؛ لأنَّ المكان مشتملٌ على ما حلَّ فيه ، وإن جعلتها للتَّبعيض هان الأمر . الثاني : أنَّها في محل نصبٍ على الحالِ من " لَبناً " ، إذ لو تأخَّرت ، لكانت مع مجرورها نعتاً . قال الزمخشريُّ : " وإنَّما قدِّم ؛ لأنه موضع العِبرة ، فهو قمنٌ بالتَّقدم " . الثالث : أنَّها مع مجرورها حالٌ من الضمير الموصول قبلها . والفَرْثُ : فضالة ما يبقى من العلفِ في الكرشِ ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في الأمعاء ، ويقال : فرث كبده ، أي : فتَّتها ، وأفرث فلانٌ فلاناً ؛ أوقعه في بليَّة يجرى مجرى الفرث . روى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال : " إذا استقرَّ العلف في الكرش ، صار أسفله فرثاً ، وأعلاه دماً ، وأوسطه لبناً ، فيجري الدَّمُ في العروقِ واللبن في الضَّرع ، ويبقى الفرث كما هو " . قوله : " لَبَناً " هو المفعول الثاني للسَّقي . وقرىء : " سَيِّغاً " بتشديد الياءِ ، بزنة " سَيِّد " وتصريفه كتصريفه . وخفف عيسى بن عمر ، نحو " مَيْتٍ " ، و " هَيْنٍ " ، ولا يجوز أن يكون فعلاً ، إذ كان يجب أن يكون سوغاً كقول . ومعنى : " سَائغاً للشَّاربينَ " ، أي هنيئاً يجري بسهولة في الحلق ، وقيل : إنه لم [ يشرق ] أحدٌ باللَّبن قطُّ . فصل قال ابن الخطيب : اللَّبنُ والدَّم لا يتولدان ألبتَّة في الكرشِ ، والدَّليلُ عليه الحسُّ ، فإنَّ هذه الحيوانات تذبحُ ذبحاً متوالياً ، وما رأى أحدٌ في كرشها لا دماً ، ولا لبناً ، ولو كان تولد الدَّم ، واللَّبن في الكرش ؛ لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال ، والشيء الذي دلَّت المشاهدة على فساده ؛ لم يجز المصير إليه ، بل الحق أنَّ الحيوان إذا تناول الغذاء ، ووصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً ، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها ، فإذا طبخ ، وحصل الهضمُ الأول فيه ، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً ، نزل إلى الأمعاء ، ثمَّ ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ، ويصير دماً ، وذلك هو الهضم الثاني ، ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصَّفراءِ ، والسَّوداء ، وزيادة المادة المائية ، أمَّا الصفراء ، فتذهب إلى المرارة ، والسَّوداءُ إلى الطحالِ ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة ، وهي العروقُ النابتة من الكبدِ ، وهناك يحصل الهضمُ الثالث ، وبين الكبد ، وبين الضَّرع عروق كثيرة ، فينصبُّ الدَّم من تلك العروق إلى الضَّرع والضرع لحمٌ غدديٌّ رخو أبيض ، فيقلب الله - تعالى - الدم عند إصبابه إلى ذلك اللَّحم الغددي الرَّخو الأبيض ، من صورة الدَّم إلى صورة اللَّبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن . فإن قيل : هذه المعاني حاصلةٌ في الحيوان الذَّكر ، فلم لم يحصل منه اللَّبنُ ؟ قلنا : الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت تدبير كلِّ شيءٍ على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته ، فمزاج الذَّكر من كلِّ حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً ، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً ، والحكمة فيه أنَّ الولد إنَّما يتكوَّن في داخل بدن الأنثى ؛ فوجب أن يكون بدن الأنثى مختصاً بمزيد الرطوبات لوجهين : الأول : أنَّ الولد إنما يتولَّد من الرطوبات ، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد . والثاني : أنَّ الولد إذا كبر ، وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتَّمدد ؛ حتى يتسع لذلك الولد ، فإذا كانت الرُّطوبات غالبة على بدنِ الأم ، كان بدنها قابلاً للتَّمدد ؛ فيتسع للولد ، فثبت بما ذكرنا أنه - تعالى - خصَّ بدن الأنثى من كل حيوانٍ بمزيد الرُّطوبات لهذه الحكمة ، ثم إنَّ تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم ، فعند انفصال الجنين ، تنصب إلى الثَّدي ، والضرع ، ليصير مادَّة لغذاءِ ذلك الطفل الصَّغير ، فظهر أنَّ السبب الذي لأجله يتولَّد اللَّبن من الدَّم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذَّكر ، فظهر الفرقُ . وقد تقدَّم ما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - في أنَّ الفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم يكون في أعلاه ، و اللبن يكون في الوسطِ ، وبيَّنَّا أنَّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة . واعلم أنَّ حدوث اللَّبن في الثدي ، واتِّصافه بالصِّفات الموافقة لتغذية الطفل مشتمل على حكم عجيبة ، يشهد صريح العقل بأنَّها لا تحصل إلاَّ بتدبير الفاعل الحكيمِ والمدبر الرحيم ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه - تعالى - خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاءِ فإذا تناول الإنسان غذاء ، أو شربة رقيقة ؛ انطبق ذلك المنفذُ انطباقاً كليًّا ، لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول ، والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثقل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ، وينزل منه ذلك الثقل ، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصل الانطباق تارة ، و الانفتاح أخرى ، بحسب الحاجة ، وتقدير المنفعة ممَّا لا يتأتَّى إلا بتدبير الفاعل الحكيم . الثاني : أنه - تعالى - أودع في الكبدة قوةً ، تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول ، والمشروب ، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة ، وخلق في الأمعاءِ قوَّة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل ، ولا تجذب الأشياء اللطيفة ألبتَّة ، ولو كان الأمر بالعكس ، لاختلفت مصلحة البدن ، ولفسد نظامُ هذا التركيب . الثالث : أنه - سبحانه وتعالى - أودع في الكبد قوَّة هاضمة طابخة ، حتَّى إنَّ تلك الأجزاء اللطيفة ؛ تنطبخُ في الكبد ، وتنقلب دماً ، ثمَّ إنه - تعالى - أودع في المرارة قوَّة جاذبة للصَّفراء ، وفي الطحال قوَّة جاذبة للسَّوداء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائيَّة ، حتى يبقى الدم الصَّافي الموافق لتغذية البدن ، وتخصيص كلِّ واحد من هذه الأعضاء بتلك القوَّة الحاصلة ، لا يمكن إلا بتدبير الحكيم العليم . الرابع : أنَّ في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة تنمي أعضاء ذلك الولد ، وازدياده ، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرَّحم ينصب ذلك النَّصيب إلى جانب الثَّدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له ، فإذا كبر ذلك الولد لم ينصب ذلك النَّصيب لا إلى الرَّحم ، ولا إلى الثدي ، بل ينصبُّ على مجموع بدن المتغذي ، فانصبابُ ذلك الدَّم في كلِّ وقتٍ إلى عضوٍ آخر انصباباً موافقاً للمصلحة ، والحكمة لا يتأتَّى إلاَّ بتدبير الفاعل المختار الحكيم . الخامس : أنَّ عند تولد اللَّبن في الضرع أحدث - تعالى - في حلمة الثَّدي ثُقوباً صغيرة ومسامًّا ضيِّقة ، وجعلها بحيث إذا اتَّصل المصُّ ، أو الحلب بتلك الحلمة ، انفصل اللَّبن عنها من تلك المسامِّ الضيِّقة ، ولما كانت هذه المسامُّ ضيِّقة جدًّا ، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصَّفاء ، واللَّطافة ، وأمَّا الأجزاء الكثيفة فإنَّه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيِّقة فتبقى في الدَّاخل ، والحكمة في إحداث تلك الثُّقوب الصَّغيرة والمنافذ الضيِّقة في رأسِ الحلمة ؛ لكي تكون كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفاً خرج ، وما كان كثيفاً ؛ احتبس في الدَّاخلِ ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللَّبن خالصاً موافقاً لبدن الصَّبي " سَائِغاً للشَّاربينَ " . السادس : أنه - تعلى - ألهم ذلك الصبي إلى المص ؛ فإنَّ الأم إذا ألقت حلمة الثَّدي في فم الصبي ، فذلك الصبيُّ في الحال يأخذ في المص ، ولولا أنَّ الفاعل المختار الرحيم قد ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل تخليق ذلك اللبن في الثَّدي . السابع : أنَّا بيَّنا أنه - تعالى - إنَّما خلق اللَّبن من فضلة الدَّم ، وإنما خلق الدَّم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان ، فالشَّاة لمَّا تناولت العشب ، وتولَّد منه الدم ، وتولَّد اللبن من بعض أجزاء ذلك الدَّم ، ثمَّ إنّ اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة ، فما فيه من الدهن يكون حاراً رطباً ، وما فيه من المائيَّة يكون بارداً رطباً ، وما كان فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً ، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في العشب الذي تناولته الشَّاة ، فظهر بهذين أنَّ هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، مع أنَّه لا يناسب بعضه بعضاً ، ولا يشاكل بعضه بعضاً ، وعند ذلك فإنَّ هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل مختار حكيم رحيم ، يدبِّر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العبادِ . قال المحققون - رضي الله عنهم - : اعتبار حدوث اللَّبن كما يدلُّ على وجود الصَّانع المختار ، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر ؛ لأنَّ العشب الذي يأكله الحيوان إنَّما يتولد من الماء والأرض ، فخالق العالم دبَّر تدبيراً آخر ، فقلب ذلك العشب دماً ، ثم دبَّر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدَّم لبناً خالصاً ، ثمَّ أحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن ، وهذا الاستقرار يجل على أنه - تعالى - قادرٌ على تقليب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، وإذا كان كذلك ، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على قلب أجزاء أبدان الموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك ، فبهذا الاعتبار يدلُّ من هذا الوجه على أنَّ البعث والقيامة أمرٌ ممكنٌ غير ممتنع . قوله : { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ } فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه متعلق بمحذوف ، فقدَّره الزمخشري : ونسقيكم من ثمرات النَّخيل والأعناب ، أي : من عصيرها ؛ وحذف لدلالة " نُسْقِيكُمْ " قبله عليه قال : " وتتَّخِذون بيان وكشف عن كيفية الإسقاء " . وقدَّره أبو البقاء : خلق لكم أو جعل لكم وما قدَّره الزمخشري أليقُ . لا يقال : لا حاجة إلى تقدير نسقيكم ، بل قوله : " ومِنْ ثَمراتِ " عطف على قوله : " ممَّا في بُطونهِ " فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض ؛ كما تقول : سَقيْتُ زيْداً من اللَّبنِ ومن العسَلِ ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قَبْل قولك : من العسل . لا يقال ذلك ؛ لن " نُسْقِيكُمْ " الملفوظ به وقع تفسير لـ " عِبْرَة " الأنعام ، فلا يليق تعلُّق هذا به ؛ لأنه ليس من العبرة المتعلِّقة بالأنعام . قال أبو حيان : وقيل : متعلق بـ " نُسْقِيكُمْ " فيكون معطوفاً على " ممَّا في بُطونهِ " أو : بـ " نسقيكم " محذوفة دلَّ عليها " نُسْقِيكُمْ " انتهى . ولم يعقبه تنكير ، وفيه ما تقدَّم . الثاني : أنه متعلق بـ " تتَّخذُونَ " ، و " مِنْهُ " تكرير للظرف توكيداً ؛ نحو : زيْدٌ في الدَّار فيها ، قاله الزمخشري - رحمه الله تعالى - وعلى هذا فالهاء في " مِنْهُ " فيها ستَّة أوجه : أحدها : أنها تعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير ؛ كما رجع في قوله تعالى : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] إلى الأهل المحذوف . الثاني : أنها تعود على معنى الثمرات ؛ لأنها بمعنى الثَّمر . الثالث : أنها تعود على النَّخيل . الرابع : أنها تعود على الجنس . الخامس : أنها تعود على البعض . السادس : أنها تعود على المذكور . الوجه الثالث من الأوجه الأول : أنه معطوف على قوله : " فِي الأنعَام " فيكون في المعنى خبراً عن اسم إنَّ في قوله - عز وجل - : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } التقدير : وإن لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لعبرة ، ويكون قوله : " تَتَّخِذُون " بياناً وتفسيراً للعبرة ، كما وقع " نُسْقِيكُمْ " تفسيراً لها أيضاً . الرابع : أن يكون خبراً لمبتدإ محذوف ، فقدَّره الطبري : ومن ثمرات النَّخيل والأعناب ما تتَّخذون . قال أبو حيان : " وهو لا يجوز على مذهب البصريِّين " . قال شهاب الدين : وفيه نظر ؛ لأنَّ له أن يقول : ليست " ما " هذه موصولة ، بل نكرة موصوفة ، وجاز حذف الموصوف والصِّفة جملة ؛ لأنَّ في الكلام " مِنْ " ، ومتى كان في الكلام " مِنْ " اطرد الحذف ، نحو : " مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ " ؛ ولهذا نظَّره مكيٌّ بقوله - تعالى - : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : إلاَّ من له مقام معلوم ، قال : فحذفت " مَنْ " لدلالة " مِنْ " عليها في قوله : " ومَا منَّا إلاَّ لهُ " . ولمَّا قدَّر الزمخشري الموصوف ، قدره : " ثمر تتَّخذون منه " ؛ ونظَّره بقول الشاعر : [ الرجز ] @ 3339 - يَرْمِي بكفَّي كان مِنْ أرْمَى البَشرْ @@ تقديره : بكفَّي رجلٍ ، إلا أنَّ الحذف في البيت شاذٌّ ؛ لعدم " مِنْ " . ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه ؛ قال : " وقيل : هو صفة لمحذوفٍ تقديره : شيئاً تتخذون منه بالنصب ، أي : وإن من ثمرات النَّخيل وإن شئت " شيءٌ " - بالرفع - على الابتداء ، و " مِنْ ثمراتِ " خبره " . قال الواحدي : " و " الأعْنابِ " عطف على الثَّمرات لا على " النَّخيل " ؛ لأنَّه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب ، والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى " . والسَّكرُ : بفتحتين فيه أقوال : أحدها : أنه من أسماء الخمر ؛ كقول الشاعر : [ البسيط ] @ 3340 - بِئْسَ الصُّحَاةُ وبِئْسَ الشَّرْبُ شَرْبُهُم إذَا جَرَى فِيهِمُ المُزَّاءُ والسَّكرُ @@ الثاني : أنه في الأصل مصدر ، ثم سمِّي به الخمر ، يقال : سَكرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً ؛ نحو : رَشِد يَرشَدُ رُشْداً ورَشَداً ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 3341 - وجَاءُونَا بِهمْ سَكَرٌ عَليْنَا فأجْلَى اليَومُ والسَّكرانُ صَاحِي @@ قاله الزمخشري . الثالث : أنه اسم للخلِّ بلغة الحبشة ؛ قاله ابن عبَّاس . الرابع : أنه اسم للعصير ما دام حلواً ؛ كأنَّه سمِّي بذلك لمآله لذلك لو ترك . الخامس : أنه اسم للطعم ، قاله ابو عبيدة ؛ وأنشد : [ الرجز ] @ 3342 - جَعَلتُ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرَا @@ أي : تنقلتُ بأعراضهم . وقيل في البيت بأنه من الخمر ، وأنه إذا انتهك أعراض النَّاس كان يخمر بها . وقال الضحاك والنَّخعي ومن يبيحُ شرب النبيذ : السَّكر هو النبيذ ؛ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدَّ ، والمطبوخ من العصير . ومن حرَّمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال . قوله : { وَرِزْقًا حَسَنًا } يجوز أن يكون من عطف المتغايرات ، وهو الظاهر ؛ كما قال المفسرون : إنه كالزَّبيب والخلِّ والدِّبس ونحو ذلك وأن يكون من عطف الصِّفات بعضها على بعضٍ ، أي : تتَّخذون منه ما يجمع بين السَّكر والرِّزق الحسن ؛ كقوله : [ المتقارب ] @ 3343 - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ … @@ فصل ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد إلى أن السَّكر الخمر ، والرزق الحسن الخلُّ والربُّ والتَّمر والزَّبيب . قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر ؛ لأن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة . قال بعضهم : ولا حاجة إلى التزام النَّسخ ؛ لأنه - تعالى - ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع ، وخاطب المشركين بها ؛ لأنها من أشربتهم ، فهي منفعة في حقِّهم . ثم إنه - تعالى - نبَّه في هذه الآية أيضاً على تحريمها ؛ لأنه ميَّز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب أنَّ السَّكر لا يكون رزقاً حسناً ؛ وهو حسن بحسب الشَّهوة ، فوجب أن يقال : بأن الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشَّريعة ، وإنَّما يكون كذلك إذا كانت محرَّمة . ثم إنه - تعالى - لمَّا ذكر هذه الوجوه الَّتي هي دلائل على التَّوحيد من وجه ، وتعديد للنِّعم العظيمة من وجه آخر - قال - جل ذكره - : { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : من كان عاقلاً ، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله - تعالى - ، فيحتجُّ بأصولها على وجود الإله القادر الحكيم .