Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 78-83)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } لما بين كمال القدرة والعلم ، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } . قرأ حمزة والكسائي : " إمَّهاتِكُمْ " بكسر الهمزة ، والباقون بضمِّها ، وأصل " أمَّهاتِكُم " : إمَّاتكُم ، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في " أراق " فقيل : أهراق ، وشذَّت زيادتها في الواحدة في قوله : [ الرجز ] @ 3350 - أمَّهَتِي خِندِفُ واليَاسُ أبِي @@ والجملة من قوله : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } حالٌ من مفعول " أخْرَجَكُمْ " غير عالمين و " شَيْئاً " إمَّا مصدر ، أي : شيئاً من العلم ، وإمَّا مفعول به والعلم هنا العرفان ، وتقدَّم الكلام في " أمَّهَاتِكُمْ " في النِّساء . فصل خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء . ثم قال تعالى - : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } والمعنى : أن النَّفس الإنسانية كانت في أول الخلقةِ خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس ؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم ، وتحقيق الكلام فيه أن يقال : التَّصوُّرات والتَّصديقات إمَّا أن تكون كسبيَّة أو بديهيَّة ؛ والكسبيَّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيَّات ، فلا بد من سبق العلوم البديهيَّة . فإن قيل : هذه العلوم البديهية إمَّا أن يقال : كانت حاصلة منذ خلقنا ، أو ما كانت حاصلة ؛ والأول باطل ؛ لأنا بالضرورة نعلمُ أنَّا حين كنَّا جنيناً في رحم الأمِّ ما كنَّا نعرفُ أن النَّفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنَّا نعرف أن الكلَّ أعظم من الجزء . وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنَّها ما كانت حاصلة ، وحينئذٍ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكلُّ ما كان كسباً فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وذلك محال . فالجواب : أن هذه العلوم البديهيَّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولاً ، ثم إنها حدثت ، وحصلت ، أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية ، فهذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها ، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر ، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم ، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئاً أو سمعه مرة بعد أخرى ، ارتسم في خياله ماهيَّة ذلك المبصر والمسموع ؛ وكذلك القول في سائر الحواسِّ ، فيصير حصول الحواسِّ سبباً لحضور ماهيَّات المحسوسات في النَّفس والعقل . ثم إنَّ تلك الماهيَّات على قسمين : أحدهما : ما يكون حضوره موجباً تاماً في جرم الذِّهن ، بإسناد بعضها إلى بعض بالنَّفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذِّهن أن الواحد ما هو ؟ وأن نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التَّصوُّرين في الذِّهن علَّة تامة في جرم الذِّهن ؛ بأنَّ الواحد محكوم عليه بأنَّه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو العلوم البديهيَّة . والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النَّظريَّة ؛ مثل أنَّه إذا حضر في الذِّهن بأنَّ الجسمَ ما هو ؟ والمحدث ما هو ؟ فإن مجرَّد هذين التصوُّرين في الذِّهْن لا يكفي في جزم الذهن بأنَّ الجسم محدث ، بل لا بدَّ فيه من [ دليل ] منفصل وعلوم سابقة . والحاصل أن العلوم الكسبيَّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيَّة ، وحدوث العلوم البديهيَّة إنما تكون عند حدوث تصوُّر موضوعاتها ، وتصوُّر محمولاتها ، وحدوث التَّصورات إنَّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها ؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النُّفُوس والعقول هو أنَّه - تعالى - أعطى هذه الحواس . فلهذا قال - تعالى - : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطَّريق المذكور . وقال المفسرون : " وجَعلَ لَكُمُ السَّمْعَ " لتسمعوا مواعظ الله تعالى ، " والأبْصَارَ " لتبصروا دلائل [ آلاء ] الله ، " والأفْئِدةَ " لتعقلوا عظمة الله . و " الأفْئِدَة " جمع فُؤادِ ؛ نحو : أغْرِبة وغُراب ، قال الزجاج : ولم يجمع " فُؤاد " على أكثر العددِ ، وما قيل : " فِئْدَان " كما قيل : " غُرَاب وغِرْبَان " . ولعلَّ الفؤاد إنَّما جُمِع على جمع القلَّة ؛ تنبيهاً على أنَّ السَّمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليلٌ ؛ لأن الفؤاد إنَّما خلق للمعارف الحقيقيَّة ، والعلوم اليقينيَّة ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميَّة والصِّفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤادٍ ؛ فلهذا جمع جمع القلَّة قاله ابن الخطيب . وقال الزمخشري - رحمه الله تعالى - : إنَّه من الجموع التي استعملت للقلَّة والكثرة ، ولم يسمع فيها غير القلَّة ، نحو : " شُسُوع " ، فإنَّها للكثرة ، وتستعمل في القلَّة ، ولم يسمع غير شسوع . كذا قال وفيه نظر فقد سمع فيهم " أشساع " فكان ينبغي أن يقال : غلب " شسوع " . فإن قيل : قوله - عز وجل - : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ } ، عطف على قوله : " أخْرَجَكُم " وهذا يقتضي أن يكون جعل السَّمع والبصر متأخِّراً عن الإخراج من البطن ؛ وليس كذلك . فالجواب : أنَّ حرف الواو لا يوجب التَّرتيب ، وأيضاً إذا حملنا السمع على الإسماع والبصر على الرؤية ، زال السؤال ، هذا إذا جعلنا قوله - تعالى - : " وجَعلَ " معطوفاً على " أخْرَجَكُم " فيكون داخلاً فيما أخبر به عن المبتدأ ويجوز أن يكون مستأنفاً . فصل قيل : معنى الكلام : لا تعلمون شيئاً ممَّا أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، وقيل : لا تعلمون شيئاً ممَّا قضى عليكم به من السَّعادة والشقاوة ، وقيل : لا تعلمون شيئاً ، أي : من منافعكم . قال البغوي - رحمه الله - : " تمَّ الكلام عند قوله - تعالى - : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ثمَّ ابتدأ فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } ؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمَّهات ، وإنَّما أعطاهم العلم بعد الخروج " . وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر ، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم في سورة السَّجدة إن شاء الله - تعالى - . وقوله - تعالى - : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ } ، أي لتسمعوا به الأمر والنهي ، " والأبْصَارَ " أي : لتبصروا بها آثار منفعة الله ، " والأفْئِدةَ " لتصلوا بها إلى معرفته - سبحانه وتعالى - وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي : نِعَمه . قوله - تعالى - : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ } الآية هذا دليلٌ آخر على كمال قدرة الله وحكمته . قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : " ألَمْ تَروْا " بالتاء من فوق ، والباقون : بالياء على الحكاية لمن تقدَّم ذكره من الكفَّار . قوله : { مَا يُمْسِكُهُنَّ } يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير المستتر في " مُسخَّراتٍ " ، ويجوز أن تكون حالاً من الطير ، ويجوز أن تكون مستأنفة . ومعنى " مُسخَّراتٍ " : مذللات ، " في جوِّ السَّماءِ " وهو الهواءُ بين السَّماء والأرض ؛ قال : [ الطويل ] @ 3351 - فَلسْتُ لإنْسيٍّ ولكِنْ لمَلأكٍ تَنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ @@ وقيل : الجوُّ ما يلي الأرض في سمت العلوِّ واللوح والسُّكاك أبعد منه . قال كعب الأحبار - رضي الله عنه - : إنَّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلاً ولا يرتفع فوق هذا ، وفوق الجوِّ السُّكاك ، وفوق السُّكاك السماء ، و { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ } تعالى ، أي : في حال القبض ، والبسط ، و الاصطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيَّته . { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } خصَّ هذه الآيات بالمؤمنين ؛ لأنَّهم هم المنتفعون بها . فصل جسد الطائر جسم ثقيل ، يمتنع بقاؤه في الجوِّ معلَّقاً بلا علاقة ولا دعامة ، فوجب أن يكون الممسك له في الجوِّ هو الله - تعالى - ، والظاهر أن إبقاءه في الجوِّ فعله باختياره ، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق الله - تعالى - . قال القاضي - رحمه الله - : إنَّما أضاف - تعالى - هذا الإمساك إلى نفسه ؛ لأنه - تعالى - هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال ، فلما كان - تعالى جلَّ ذكره - هو المسبب لذلك ، صحَّت هذه الإضافة . والجواب : هذا تركٌ للظاهر من غير دليل . قوله - تعالى - : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } الآية وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد . قوله : " سَكَناً " يجوز أن يكون مفعولاً أولاً ، على أنَّ الجعل تصيير والمفعول الثاني أحد الجارين قبله ، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ فيتعدَّى لواحدٍ ، وإنَّما وحد السكن ؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه ، قاله أبو البقاء . وقد يقال : إنه في الأصل مصدر ، وإليه ذهب ابن عطية ، فتوحيده واضح إلا أن أبا حيَّان منع كون مصدراً ولم يذكر وجه المنع ، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة : إن السكن " فَعْل " بمعنى " مَفْعُول " : كالقَبْضِ والنقْضِ بمعنى المَنْقُوض والمَقْبُوض ؛ وأنشد الفراء فقال : [ البسيط ] @ 3352 - جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ @@ والسَّكنُ : ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه ، قال الزمخشري : " السَّكن ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ " . واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين : أحدهما : البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر ، وهي المرادة من قوله : { جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه . والثاني : البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط ، وهي المرادة بقوله : { وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا } وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان . قوله : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو بفتح العين ، والباقون بإسكانها ، وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر . وزعم بعضهم أن الأصل الفتح ، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق ؛ كالشَّعْر والشعَر . والظَّعنُ مصدر ظعن ، أي : ارتحل ، والظَّعينةُ : الهودج فيه المرأة وإلا فهو محمل ، ثم كثر حتى قيل للمرأة : ظعينة . فصل والمعنى : جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً ، يعني : الخِيَام ، والقِبَاب والأخبية ، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم : ، " تَسْتَخِفُّونَها " أي : يخف عليكم حملها { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } رحلتكم في سفركم ، والظَّعْنُ : سير [ البادية ] لنجعة أو لحضور ماء أو طلب مرتع ، والظَّعْنُ أيضاً : الهَوْدَج ؛ قال : [ الهزج ] @ 3353 - ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ @@ { وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين ، و " مِنْ " راجعة إلى الحالتين { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } يعني : أصواف الضَّأن ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، والكنايات راجعة إلى الأنعام ، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتان ؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب . قوله : " أثَاثاً " فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب عطفاً على " بُيُوتًا " أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثاً ، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ ، ومنصوباً على منصوب ، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ . وقال أبو البقاء - رحمه الله - : " وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار والمجرور ، وهو قوله عز وجل : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح ؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول ، و تقديم مفعول على مفعول قياس " . وفيه نظر ؛ لأنه عطف مجروراً على مثله ، ومنصوباً على مثله . والثاني : أنه منصوب على الحال ، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره : وجعل لكم من جلود الأنعام ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً ، ففصل بالمفعول بين المتعاطفين ، وليس المعنى على هذا ، إنما هو على الأول . والأثاث : متاع البيت إذا كان كثيراً ، وأصله : مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ ؛ إذا كثفا وتكاثرا ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 3354 - وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسْودَ فَاحمٍ أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخلَةِ المُتعَثْكِلِ @@ ونساءٌ أثائِثُ ، أي : كثيرات اللحم كأنّ عليهن أثاثاً ، وفلان كثر أثاثهُ . وقال الزمخشري : الأثاث ما جدَّ من فرش البيت ، والخُرثيُّ : ما قدم منها ؛ وأنشد : [ البسيط ] @ 3355 - تَقادمَ العَهْدُ من أمِّ الوليدِ بِنَا دَهْراً وصَارَ أثَاثُ البيتِ خُرثِيَّا @@ وهل له واحدٌ من لفظه ؟ فقال الفراء : لا ، وقال أبو زيد : واحده أثاثة وجمعه في القلَّة : أثثة ؛ كـ " بَتَات " و " أبتَّة " ، وقال أبو حيَّان : وفي الكثير على أثث ، وفيه نظر ؛ لأن " فعالاً " المضعَّف يلزم جمعة على أفعلة في القلَّة والكثرة ، ولا يجمع على " فُعُل " إلا في لفظتين شذَّتا ، وهما : عُيُن وحُجُج جمع عيَّان وحجَّاج ، وقد نص النحاة على منع القياس عليهما ، فلا يجوز : زمام وزُمُم بل أزمَّة وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد ، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3356 - … وألْفَى قَوْلهَا كَذِباً ومَيْنَا @@ وقوله : [ الطويل ] @ 3357 - … وهِنْدٌ أتَى من دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ @@ وقيل : متاعاً : بلاغاً ينتفعون به ، " إلى حين " يعني : الموت ، وقيل : إلى حين البِلَى . قوله - تعالى - : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } الآية فالإنسانُ إما أن يكون مقيماً أو مسافراً ، والمسافر إمَّا أن يكون غنيًّا يستصحب معه الخيام أو لا . فالقسم الأول أشار إليه بقوله : { جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } ، وأشار إلى القسم الثاني بقوله : { وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً } وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها ، فإنَّه لا بد وأن يستظلَّ إما بجدار أو شجرٍ أو بالغمامِ ؛ كما قال - سبحانه - : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ } [ الأعراف : 160 ] . قوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً } جمع " كِنّ " ؛ وهو ما حفظ من الرِّيحِ والمطرِ ، وهو في الجبل : الغار ، وقيل : كلُّ شيءٍ وقَى شيْئاً ، ويقال : اسْتكن وأكَنّ ، إذا صار في كنٍّ . واعلم أ بلاد العرب شديدة الحرِّ ، وحاجتهم إلى الظلِّ ودفع الحرِّ شديدة ؛ فلهذا ذكر الله - تعالى - هذه المعاني في معرض النِّعمة العظيمة ، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال ، كما قال - تعالى - : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } ؛ لأنَّهم كانوا أصحاب وبر وشعر ، كما قال - عز وجل - : { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثَّلج . وقال { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } وما يَقِي من البرد أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب حرٍّ . ولمَّا ذكر الله - تعالى - أمر المسكن ، ذكر بعده أمر الملبُوسِ ؛ فقال - جل ذكره - : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } والسَّرابيل : القُمص واحدها سربال . قال الزجاج - رحمه الله - : " كل ما لبسته فهو سِرْبال ، من قميصٍ أو دِرْعٍ أو جَوشنٍ أو غيره " ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل السَّرابيل قسمين : أحدهما : ما يقي الحرَّ والبرد . والثاني : ما يتقى به من البأسِ والحروب . فإن قيل : لم ذكر الحرَّ ولم يذكر البرد ؟ . فالجواب من وجوه : أحدها : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب ، وبلادهم حارَّة [ يابسة ] ، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرَّ أشدَّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد : كما قال - سبحانه وتعالى - { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } وسائر أنواع الثياب أشرف ، إلا أنه - تعالى - ذكر هذا النَّوع ؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر . والثاني : قال المبرِّد : ذكر أحد الضِّدَّين تنبيه على الآخر ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3358 - كَأنَّ الحَصَى من خَلْفِهَا وأمَامِهَا إذَا حَذفَتْهُ رجْلُهَا خَذفُ أعْسَرَا @@ لمَّا ثبت في العلوم العقليَّة أن العلم بأحد الضِّدين يستلزم العلم بالضدِّ الآخر ، فإنَّ الإنسان إذا خطر بباله الحر ، خطر بباله البرد أيضاً وكذا القول في النُّور والظلمة ، والسَّواد والبياض . الثالث : قال الزجاج : " وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد ، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر " . فإن قيل : هذا بالضدِّ أولى ؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة ، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف . فالجواب : أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر ، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد . قوله : { كَذَٰلِكَ يُتِمُّ } ، أي : مثل ذلك الإتمام السابق ، { يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } في المستقبل . وقرأ ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : " تَتِمُّ " بفتح التاء الأولى ، " نِعْمَتُهُ " بالرفع على الفاعلية ، وقرأ أيضاً : " نِعَمَهُ " جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى - ، وقرأ أيضاً : " لعلكم تَسْلَمُونَ " بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة ، وهو مناسب لقوله : " تَقِيكُم بَأسكُمْ " ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحرب ، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله . قوله : " فإنْ تَولَّوا " يجوز أن يكون ماضياً ، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم ، وأن يكون مضارعاً ، والأصل : تتولَّوا ، فحذف نحو : " تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ " ولا التفات على هذا ، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق . ومعنى الكلام : فإن أعرضوا ، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير ، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام . قوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } هو جواب الشَّرط ، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف ، أي : فأنت معذور ، وأتى ذلك على إقامة السَّبب مقام المسبب ؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره ، فأقيم السَّبب مقام المسبب ، ثمَّ ذمَّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وذلك نهاية في كفران النِّعمة ، وجيء بـ " ثُمَّ " هنا للدَّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة ؛ لأنَّ من عرف النِّعمة حقُّه أن يعترف لا أن ينكر ، وفي المراد بالنِّعمة وجوه : قال القاضي : هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدِّمة ، ومعنى إنكارهم : أنهم ما أفردوه - تعالى - بالشُّكر والعبادة ، بل شكروا غيره وقالوا : إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام . وقيل : المراد بالنِّعمة هنا : نُبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم عرفوا أنَّها حق ثمَّ أنكروها ، ونبوته نعمة عظيمة ؛ كما قال - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . وقيل : { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } ، أي : لا يستعملونها في طلب رضوان الله ، ثم قال جل ذكره : { وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ } . فإن قيل : ما معنى قوله : { وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ } مع أنَّهم كلهم كافرون ؟ . فالجواب من وجوه : الأول : إنما قال - عز وجل - { وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ } ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجَّة ؛ كالصَّبي وناقص العقل ، فأراد بالأكثر ؛ البالغين الأصحاء . والثاني : أن المراد بالكافر : الجاحد المعاند ، فقال : " وأكْثَرهُم " ؛ لأنه كان فيهم من لم يكن معانداً ، بل جاهلاً بصدق الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله . الثالث : ذكر الأكثر وأراد الجميع ؛ لأن أكثر الشيء ، يقوم مقام الكل ؛ كقوله : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ لقمان : 25 ] .