Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 105-111)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَبِٱلْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ } الآية . لما بيَّن أن القرآن معجز قاهر دالٌّ على الصدق في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ } [ الإسراء : 88 ] . ثم حكى عن الكفار أنَّهم لم يكتفوا بهذا المعجز ، بل طلبوا أشياء أخر ، ثم أجاب تعالى بأنَّه لا حاجة إلى إظهار معجزاتٍ أخر ، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرةٍ : منها : أنَّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيِّناتٍ ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله ، فكذا ههنا ، أي : أنَّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ كفروا بها ؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم ، وذلك غير جائزٍ في الحكمة ؛ لعلمه تعالى أنَّ فيهم من يؤمن ، أو من يظهر من نسله مؤمنٌ . لمَّا تمَّ هذا الجواب ، عاد إلى حال تعظيم القرآن ؛ فقال : { وَبِٱلْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ } ، أي : ما أردنا بإنزاله إلاَّ إظهار الحقِّ . قوله : { وَبِٱلْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ } : في هذا الجار ثلاثة أوجه : أحدها : أنه متعلق بـ " أنْزَلْنَاهُ " ، و الباء سببية ، أي : أنزلناه بسبب الحقِّ . والثاني : أنه حال من مفعول " أنْزَلنَاهُ " ، أي : ومعه الحقُّ . فتكون الباء بمعنى " مَعَ " قاله الفارسي ؛ كما تقول : نزل بعدَّته ، وخرج بسلاحه . والثالث : أنه حال من فاعله ، أي : ملتبسين بالحق ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف . والضمير في " أنْزلْنَاهُ " الظاهر عوده للقرآن : إمَّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك { عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } [ الإسراء : 88 ] ؛ ويكون ذلك جرياً على قاعدة أساليب كلامهم ، وهو أن يستطرد المتكلمُ في ذكر شيءٍ لم يسبق له كلامه أولاً ، ثم يعود إلى كلامه الأول . وإمَّا للقرآن غير الملفوظ أولاً ؛ لدلالة الحال عليه ؛ كقوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وقيل : يعود على موسى ؛ كقوله : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } [ الحديد : 25 ] ، وقيل : على الوعد ، وقيل : على الآيات التِّسعِ ، وذكر الضمير ، وأفرده ؛ حملاً على معنى الدليل والبرهان . قوله : " وبالحقِّ نَزلَ " فيه الوجهان الأولان ، دون الثالث ؛ لعدم ضميرٍ آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير : نزل بالحقِّ ؛ كما تقول : نزلت بزيدٍ ، وعلى هذا التقدير : فالحق محمد صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها للتأكيد ؛ وذلك أنه يقال : أنزلته ، فنزل ، وأنزلته فلم ينزل ؛ فجيء بقوله " وبالحقِّ نَزلَ " ؛ دفعاً لهذا الوهم ، وقيل : لست للتأكيد ، والمغايرة تحصل بالتغاير بين الحقَّين ، فالحق الأول التوحيد ، والثاني الوعد والوعيد ، والمر والنهي ، وقال الزمخشري : " وما أنزلنا القرآن إلاَّ بالحكمة المقتضية لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة ؛ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خيرٍ ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصدِ من الملائكةِ ، وما نزل على الرسول إلاَّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين " ، و " مبشِّراً ونذيراً " : حالان من مفعول " أرْسلْنَاكَ " مبشراً للمطيعين ، ونذيراً للعاصين ، فإن قبلوا الدِّين الحقَّ ، انتفعوا به ، وإلا فليس عليك من كفرهم [ شيءٌ ] . قوله تعالى : { وَقُرْءَاناً فَرَقْنَاهُ } الآية : في نصب " قُرْآناً " أوجه : أظهرها : أنه منصوب بفعل مقدر ، أي : " وءَاتَيْناكَ قُرءَاناً " يدل عليه قوله { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ } [ الإسراء : 101 ] . الثاني : أنه منصوبٌ ؛ عطفاً على الكاف في " أرْسَلْنَاكَ " ؛ قال ابن عطية : " من حيثُ كان إرسالُ هذا ، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ " . الثالث : أنه منصوب ؛ عطفاً على " مُبشِّراً ونذيراً " قال الفراء : " هو منصوبٌ بـ " أرْسَلناكَ " ، أي : ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً ؛ كما تقول : ورحمة يعني : لأن القرآن رحمةٌ " ، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة ؛ مبالغة ، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ ، كان أقرب ، أي : " وذا قرآنٍ " وهذان الوجهان متكلَّفان . الرابع : أن ينتصب على الاشتغال ، أي : وفرقنا قُرآناً فرقناه ، واعتذر أبو حيان عن ذلك ، أي : عن كونه لا يصحُّ الابتداء به ، لو جعلناه مبتدأ ؛ لعدم مسوغٍ ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء ، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة ، تقديره : وقرآناً أي قرآن ، بمعنى عظيم ، و " فَرقْنَاهُ " على هذا : لا محل له ؛ بخلاف الأوجه المتقدمة ؛ فإن محلَّه النصب ؛ لأنَّه نعتٌ لـ " قُرآناً " . وقرأ العامة " فَرقْناهُ " بالتخفيف ، أي : بيَّنا حلاله وحرامه ، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل ، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ ، وعبد الله ، وابن عباس والشعبي ، وقتادة ، وحميدٌ في آخرين بالتشديد ، وفيه وجهان : أحدهما : أنَّ التضعيف فيه للتكثير ، أي : فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ ، وحكمٍ وأحكامٍ ، ومواعظ وأمثال ، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة . والثاني : أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم . قال الزمخشريُّ : " وعن ابن عباس : أنه قرأ مشدداً ، وقال : لم ينزل في يومين ، ولا في ثلاثة ، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، يعني أنَّ " فرقَ " بالتخفيف يدل على فصل متقاربٍ " . قال أبو حيان : " وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيم - لم ينزل في يوم ، ولا يومين ، ولا شهرٍ ، ولا شهرين ، ولا سنة ، ولا سنتين ؛ قال ابن عبَّاس : كان بين أوله ، وآخره عشرون سنة ، كذا قال الزمخشريُّ ، عن ابن عباس " . قال شهاب الدين : ظاهر هذا : أنَّ القول بالتنجيم : ليس مرويًّا عن ابن عباس ، ولا سيما وقد فصل قوله " قَالَ ابن عبَّاسٍ " من قوله " وقال بعض من اختار ذلك " ، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس ؛ ليتمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ " فَعَّل " بالتشديد لا يدلُّ على التفريق ، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوَّل هذا الموضوع . قال ابن الخطيب : والاختيار عند الأئَّمة : " فَرقْنَاهُ " بالتخفيف ، وفسَّره أبو عمرو : بيَّناه . قال ابو عبيدة : التخفيف أعجبُ إليَّ ؛ لأنَّ معناه : بينَّاه ، ومن قرأ بالتشديد ، لم يكن له معنًى إلا أنه أنزل متفرِّقاً ، [ فالتفرُّق ] يتضمَّن التَّبيين ، ويؤكِّده ما رواه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ أنه قال : فَرقتُ ، أو أفْرَقتُ بين الكلامِ ، وفرَّقتُ بين الأجسامِ ؛ ويدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " البَيِّعانِ بالخِيَارِ ، ما لمْ يتفرَّقا " ولم يقل : " يَفْترِقَا " . فصل في نزول القرآن مفرقاً قال ابن الخطيب : إنَّ القوم قالوا : هَبْ أنَّ هذا القرآن معجز ، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز ؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرَّقاً شبهة في أنَّه يتفكَّر في فصل فصل ، ويقرؤه عليهم ، فأجاب الله عن ذلك أنه إنَّما فرَّقه ليكون حفظه أسهل ؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله ، وحقائقه ، ودقائقه أكمل . قال سعيد بن جبير : نزل القرآن كلُّه في ليلة القدر من السَّماء العليا إلى السَّماء السفلى ، ثم فصل في السِّنين التي نزل فيها ، ومعنى الآية : قطَّعناه آية آية ، وسورة وسورة . قوله : " لتَقْرَأهُ " متعلق بـ " فَرقْنَاهُ " ، وقوله " عَلَى مُكْثٍ " فيه ثلاثةُ أوجه : الأول : أنه متعلِّق بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الفاعل ، أو المفعول في " لتَقْرَأهُ " ، أي : متمهِّلاً مترسِّلاً . الثاني : أنه بدلٌ من " عَلَى النَّاس " قاله الحوفيُّ ، وهو وهمٌ ؛ لأنَّ قوله " عَلى مُكثٍ " من صفاتِ القارىء ، أو المقرُوءِ من جهة المعنى ، لا من صفات الناس ؛ حتى يكون بدلاً منهم . الثالث : أنه متعلق بـ " فَرقنَاهُ " . قال ابو حيان : " والظاهر تعلق " عَلى مُكثٍ " بقوله " لتَقْرأهُ " ، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنسٍ واحدٍ ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين ؛ لأن الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال ، أي : متمهِّلاً مترسلاً " . قال شهاب الدين : قوله أولاً : إنه متعلق بقوله " لِتقْرَأهُ " : ينافي قوله في موضع الحال ، لأنه متى كان حالاً ، تعلق بمحذوفٍ ، لا يقال : أراد التعلق المعنوي ، لا الصناعي ؛ لأنه قال : ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحد ، وهذا تفسير إعراب ، لا تفسير معنى . والمُكْثُ : التَّطاولُ في المدة ، وفيه ثلاثة لغات : الضمُّ ، والفتح - ونقل القراءة بهما الحوفيُّ ، وأبو البقاء - والكسر ، ولم يقرأ به فيما علمتُ ، وفي فعله الفتح والضمُّ وسيأتي بيانه ، إن شاء الله تعالى في النَّمل [ الآية : 22 ] ومعنى " عَلى مُكْثٍ " أي على تؤدةٍ ، وترسُّل في ثلاثٍ وعشرين سنة { وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } على الحدِّ المذكور . قوله : { قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ } : يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة ؛ على وجه التَّهديد والإنكار ، أي : أنَّه تعالى ، أوضح البينات والدلائل ، وأزاح الأعذار ، فاختاروا ما تريدون . { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } أي : من قبل نزول القرآن ، قال مجاهد : هم ناسٌ من أهل الكتاب ، كانوا يطلبون الدِّين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ أسلموا بعد مبعثه ؛ كزيد بن عمرو بن نفيلٍ ، وسلمان الفارسيِّ ، وأبي ذرٍّ ، وورقة بن نوفلٍ ، وغيرهم . { إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } يعني القرآن . { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } . يعني : يسقطون للأذقان ، قال ابن عباس : أراد به الوجوه . قوله : { لِلأَذْقَانِ } : في اللام ثلاثة أوجه : أحدها : أنها بمعنى " على " ، أي : على الأذقان ؛ كقولهم : خرَّ على وجهه . والثاني : أنها للاختصاص ، قال الزمخشري : فإن قيل : حرف الاستعلاءِ ظاهر المعنى ، إذا قلت : خرَّ على وجهه ، وعلى ذقنه ، فما معنى اللام في " خرَّ لذقنه ، ولوجهه " ؟ قال : [ الطويل ] @ 3478 - … فَخرَّ صَرِيعاً للْيَديْنِ وللْفَمِ @@ قلت : معناه : جعل ذقنهُ ، ووجههُ [ للخرور ] ، قال الزجاج : الذَّقنُ : مجمع اللَّحيين ، وكلما يبتدىء الإنسان بالخرور إلى السجود ، فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذَّقنُ . وقيل : الأذقان اللِّحى ؛ فإن الإنسان ، إذا بالغ في السجود ، والخضوع ، ربَّما مسح لحيتهُ على التُّراب ؛ فإنَّ اللحية يبالغ في تنظيفها ، فإذا عفَّرها بالتُّراب ، فقد أتى بغايةِ التعظيم [ للخُرور ] . واختصَّ به ؛ لأنَّ اللام للاختصاص ، وقال أبو البقاء : " والثاني : هي متعلقة بـ " يَخِرُّون " ، واللام على بابها ، أي : مذلُّون للأذقان " . والأذقانُ : جمعُ ذقنٍ ، وهو مجمعُ اللَّحيين ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3479 - فَخرُّوا لأذقَانِ الوُجوهِ تَنُوشُهمْ سِباعٌ من الطَّيْرِ العَوادِي وتَنتِفُ @@ و " سُجَّداً " حال ، وجوَّز أبو البقاء في " للأذقانِ " أن يكون حالاً ، قال : " أي : ساجدين للأذقان " وكأنه يعني به " للأذْقانِ " الثانية ؛ لأنَّه يصير المعنى : ساجدين للأذقان سجداً ؛ ولذلك قال : " والثالث : أنها - يعني اللام - [ بمعنى ] " على " ؛ فعلى هذا يكون حالاً من " يَبْكُونَ " ، و " يَبْكُون " حال " . فإن قيل : لم قيل : يَخرُّون للأذقان سجداً ، ولم يقل يسجدون ؟ والجواب : أن المقصود من هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك ؛ حتَّى أنهم يسقطون . ثم قال : { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } ، أي : كان قولهم في سجودهم : " سبحان ربِّنا " ، أي : ينزِّهونه ، ويعظِّمونه { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } أي : بإنزال القرآن ، وبعث محمد - عليه الصلاة والسلام - وهذا يدلُّ على أنَّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب ، لأنَّ الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم ، وهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ، ثم قال : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } . والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين ، وهما : خُرورهُمْ في حال كونهم باكين ، في حال استماع القرآن ، ويدلُّ عليه قوله : { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } . وجاءت الحال الأولى اسماً ؛ لدلالته على الاستقرار ، والثانية فعلاً ؛ لدلالته على التجدُّد والحدوث . ويجوز أن يكون القول دلالة على تكرير الفعل منهم . وقوله : " يَبْكُونَ " ، معناه : الحال ، { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } ، أي : تواضعاً . قوله : { وَيَزِيدُهُمْ } : فاعل " يزيدُ " : إمَّا القرآن ، أو البكاءُ ، أو السُّجودُ ، أو المتلوُّ ، لدلالة قوله : " إذَا يُتْلَى " . قوله تعالى : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } الآية . قال ابن عباس : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة ذات ليلة ، فجعل يبكي ، ويقول في سجوده : ( يا الله ، يا رحمن ) . فقال أبو جهلٍ : إنَّ محمداً ينهانا عن آلهتنا ، وهو يدعو إلهين ، فأنزل الله هذه الآية ، ومعناه : أنَّهما اسمان لواحدٍ ، [ أي : ] أيَّ هذين الاسمين سميتم ، فله الأسماءُ الحسنى . قوله : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } : [ " أيًّا " ] منصوب [ بـ " تَدْعُوا " ] على المفعول به ، والمضاف إليه محذوف ، أي : أيَّ الاسمين ، و " تَدْعُوا " مجزوم بها ، فهي عاملة معمولة ، وكذلك الفعل ، والجواب الجملة الاسمية من قوله " فلهُ الأسْماءُ الحُسنَى " . وقيل : هو محذوفٌ ، تقديره : جاز ، ثم استأنف ، فقال : فله الأسماء الحسنى ، وليس بشيءٍ . والتنوين في " أيًّا " عوض من المضاف إليه ، وفي " ما " قولان : أحدهما : أنها مزيدة للتأكيد . والثاني : أنها شرطية جمع بينهما ؛ تأكيداً كما جمع بين حرفي الجر ؛ للتأكيد ، وحسَّنه اختلافُ اللفظ ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3480 - فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي عن بِمَا بِهِ … @@ ويؤيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرِّفٍ " أيًّا من تدعُوا " فقيل : " مَنْ " تحتمل الزيادة على رأي الكسائيِّ ؛ كقوله : [ الكامل ] @ 3481 - يَا شَاةَ من قَنصٍ لمَنْ حَلَّتْ لهُ … @@ واحتمل أن تكون شرطية ، وجمع بينهما ؛ تأكيداً لما تقدَّم ، و " تَدعُوا " هنا يحتمل أن يكون من الدعاء ، وهو النداءُ ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وأن يكون بمعنى التسمية ، فيتعدَّى لاثنين ، إلى الأول بنفسه ، وإلى الثاني بحرف الجرِّ ، ثم يتسع في الجارِّ فيحذف ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3482 - دَعتْني أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو … … @@ والتقدير : قل : ادعُوا معبودكم بالله ، أو بالرَّحمن ، بأيِّ الاسمين سمَّيتموه ، وممَّن ذهب غلى كونها بمعنى " سمَّى " الزمخشري . ووقف الأخوان على " أيًّا " بإبدال التنوين ألفاً ، ولم يقفا على " مَا " ؛ تبييناً لانفصال " أيًّا " من " مَا " ، ووقف غيرهما على " مَا " ؛ لامتزاجها بـ " أيّ " ؛ ولهذا فصل بها بين " أي " ، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى { أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ } [ القصص : 28 ] ، وقيل : " ما " شرطية عند من وقف على " ايًّا " ، وجعل المعنى : أي الاسمين دعوتموه به ، جاز ، ثم استأنف " مَا تدعوا ، فله الأسماء الحسنى " ، يعني أنَّ " ما " شرطٌ ثانٍ ، و " فَلهُ الأسماءُ " جوابه ، وجواب الأول مقدر ، وهذا مردودٌ بأنَّ " ما " لا تطلق على آحاد أولي العلم ، وبأنَّ الشرط يقتضي عموماً ، ولا يصحُّ هنا ، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معاً . فصل والمعنى : أيًّا ما تدعوا ، فهو حسنٌ ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه ، فقد حسن هذان الاسمان ؛ لأنهما منها ، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التَّمجيد والتَّقديس . واحتجَّ الجبائي بهذه الآية ، فقال : لو كان تعالى خالقاً للظُّلم ، والجور ، لصحَّ أن يقال : يا ظالمُ ، حينئذٍ : يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة . والجواب : أنَّا لا نسلِّم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد ، لصحَّ وصفه بأنَّه ظالمٌ ، وجائرٌ ، كما لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون ، والسواد ، والبياض أن يقال : ما متحرك ، ويا ساكن ، ويا أبيض ، ويا أسود . فإن قيل : فيلزم أن يقال : يا خالق الظُّلم والجور . فالجواب : يلزمكم أن تقولوا : يا خالق العذرات ، والديدان ، والخنافس ؛ كما أنكم تقولون : ذلك حقٌّ في نفس الأمر ، وإنَّما الأدب أن يقال : يا خالق السَّموات والأرض ، فكذا قولنا ها هنا . ثمَّ قال تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلَٰوتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } . وروى سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عبَّاس في هذه الآية ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعُ صوته بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } ، أي : بقراءتك ، أي : فيسمعك المشركون ؛ فيسبُّوا القرآن ، ويسبُّوا الله عدواً بغير علم . قوله : { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } فلا يسمعك أصحابك . قوله : { وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً } . روى أبو قتادة " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طاف باللَّيل على دور أصحابه ؛ فكان أبو بكرٍ يخفي صوته بالقراءة ، وكان عمر يرفعُ صوته ، فلما جاء النَّهار ، وجاء أبو بكرٍ وعمر ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : هِيَ لَكَ ، مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرأ ، وأنْتَ تَخفضُ من صَوتِكَ ، فقال : إنِّي سَمِعتُ من نَاجَيتُ ، قَالَ : فَارفَعْ قليلاً ، وقَالَ لِعُمرَ : مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرَأ ، وأنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ ، فقال : إنِّي أوقظُ الوسْنانَ ، وأطردُ الشَّيطَانَ ، فقال : اخْفِضْ قليلاً " . وقيل : المراد ( ولا تجهر بصلاتك كلها ) ، ولا تخافت بها كلها ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النَّهار . وقيل : الآية في الدعاء ، وهو قول أبي هريرة ، وعائشة ، والنخعيِّ ، ومجاهدٍ ، ومكحولٍ ، وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية ، قال : إنَّما ذلِكَ في الدُّعاءِ والمسالة . قال عبد الله بن شدَّادٍ : كان أعرابٌ من بني تميم ، إذا سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلَٰوتِكَ } . أي : لا ترفع صوتك بقراءتك ، ودعائك ، ولا تخافت بها . والمُخَافتَةُ : خفض الصَّوت والسُّكوتُ . يقل : خفت صوته يخفته خفوتاً ، إذا ضعف وسكن ، وصوتٌ خفيتٌ ، أي : خفيضٌ . ومنه يقال للرجل ، إذا مات : قد خفت كلامه ، أي : انقطع كلامه ، وخفت الزَّرعُ ، إذا ذبل ، وخفت الرَّجل بقراءته ، يتخافتُ بها ، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت ، وقد تخافت القوم ، إذا تسارُّوا بينهم . فصل في المستحب في الدعاء واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه ، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة ، والمستحبُّ التوسُّط ، وهو أن يسمع نفسه ؛ كما روي عن ابن مسعود : أنه قال : لم يتخافت من يسمع أذنيه . واعلم أن العدل هو رعاية الوسط ؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله : { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] . ومدح المؤمنين بقوله : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] فكذا ههنا : نهى عن الطَّرفين ، وهما الجهر والمخافتة ، وأمر بالتوسُّط بينهما ، فقال : { وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً } . وقال بعضهم : الآية منسوخة بقوله - تعالى - : { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] . وهو بعيدٌ . واعلم أنه تعالى ، لمَّا أمر بأن لا يذكر ، ولا ينادى ، إلا بأسمائه الحسنى ، علَّم كيفيَّة التمجيد ؛ فقال : { وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ } . فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال : الأول : أنه لم يتخذ ولداً ، والسَّببُ فيه وجوهٌ : أولها : أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء ، فكلُّ من له ولدٌ ، فهو مركبٌ من الأجزاء ، والمركَّب محدثٌ ، والمحدث محتاجٌ ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ . وثانيها : أنَّ كل من له ولدٌ ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده ، فإذا يكن له ولدٌ ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده . وثالثها : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه ، فلو كان له ولد ، لكان منقضياً فانياً ، ومن كان كذلك ، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات ؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق . وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم { عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [ التوبة : 30 ] ، وردٌّ على النصارى في قولهم { ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] وعلى مشركي العرب في قولهم : " المَلائِكةُ بنَاتُ الله " . والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ } . والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة : أنَّه لو كان له شريكٌ ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر . والنوع الثالث : قوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ ٱلذُّلِّ } . والسببُ في اعتباره : أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ ، لم يجب شكره ؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام . أما إذا كان منزَّهاً عن الولد ، وعن الشَّريك ، وعن أن يكون له وليٌّ يلي أمرهُ ، كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد والشُّكر . قوله : { مَّنَ ٱلذُّلِّ } : فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنها صفة لـ " وليّ " ، والتقدير : وليٌّ من أهل الذلِّ ، و المراد بهم : اليهود والنصارى ؛ لأنهم أذلُّ الناس . والثاني : أنها تبعيضية . الثالث : أنها للتعليل ، أي : من أجل الذلِّ ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال : " وليٌّ من الذلِّ : ناصر من الذلِّ ، ومانع له منه ؛ لاعتزازه به ، أو لم يوالِ أحداً لأجل مذلَّة به ؛ ليدفعها بموالاته " . وقد تقدَّم الفرق بين الذُّلّ والذِّلّ في أول هذه السورة [ الآية : 24 ] . فصل في معنى قوله : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } معنى قوله : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } ، أي : أنَّ التمجيد يكون مقروناً بالتكبير ، والمعنى : عظِّمه عن أن يكون له شريكٌ ، أو وليٌّ ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - " أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع : لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، وسبحان الله ، والحمدُ لله لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت " . فصل روى أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورة بني إسرائيل ، فَرَقَّ قَلبهُ عِندَ ذِكْر الوالدين أعْطِيَ في الجنَّة قِنْطَاريْنِ مِنَ الأجْرِ ، والقِنطَارُ ألْفُ أوقيَّةٍ ، ومِائتَا أوقيَّةٍ ، كلُّ أوقيَّةٍ خيرٌ من الدُّنْيَا وما فِيهَا " . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : قول العبد : " الله أكبرُ خيرٌ من الدنيا وما فِيهَا " وهذه الآية خاتمة التَّوراة . وروى مطرفٌ ، عن عبد الله بْنِ كعبٍ ، قال : " افتُتِحَتِ التَّوراةُ بفَاتحةِ سُورةِ الأنعامِ ، وخُتمَتْ بِخاتمَةِ هذه السُّورةِ " . وروى عمرُو بنُ شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ، قال : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أفْصَحَ الغلام من بني عَبْدِ المطَّلبِ ، عَلَّمهُ : الحَمدُ للهِ الَّذي لَمْ يتَّخذْ ولداً الآية . وقال عبدُ الحميدِ بنُ واصلٍ : سَمعْتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : " مَنْ قَرَأ : { وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } الآية ، كَتبَ الله لهُ من الأجْرِ مِثلَ الأرْض والجِبالِ ؛ لأنَّ الله تعالى يَقُولُ فيمَنْ زَعمَ أنَّ لهُ ولداً : { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً } " .