Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 22-22)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بيَّن تعالى أن النَّاس فريقان ؛ منهم : من يريد بعمله الدنيا فقط ، وهم أهل العذاب ، ومنهم : من يريد طاعة الله ، وهم أهل الثواب ، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط : أن يريد الآخرة ، وأن يعمل عملاً ، ويسعى سعياُ موافقاً لطلب الآخرة ، وأن تكون مؤمناً لا جرم فصَّل في هذه الآية تلك المجملات ، فبدأ أوَّلاً بشرحِ حقيقة الإيمان ، وأشرفُ أجزاء الإيمان هو التوحيد ، ونفي الشِّرك ، فقال عزَّ وعلا : { لاَّ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } . ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكونُ المشتغلُ بها ساعياً سعي الآخرة . قال المفسِّرون : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره كقوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [ الطلاق : 1 ] وقيل : الخطاب للإنسان ، وهذا أولى ؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله - تعالى - : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] إلى قوله تعالى : { إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } [ الإسراء : 23 ] . وهذا لا يليق بالنبي - صلوات الله وسلامه عليه - لأنَّ أبويه ما بلغا الكبر عنده . والمعنى : أنَّ من أشرك بالله ، كان مذموماً مخذولاً ؛ ويدل على ذلك وجوه : الأول : أنَّ المشرك كاذب ، والكاذب يستوجب الذمَّ ، والخذلان . الثاني : أنَّه لما ثبت بالدَّليل : أنه لا إله ولا مدبِّر إلاَّ الواحد الأحد ، فحينئذ : يكون جميع النِّعم حاصلة من الله - تعالى - ، فمن أشرك بالله ، فقد أضاف بعض تلك النِّعم إلى غير الله ، مع أن الحقَّ أن كلَّها من الله ، فحينئذ يستحقُّ الذمَّ ؛ لأنَّ المستحقَّ للشُّكر على تلك النعم هو الخالقُ لها ، فلمَّا جحد كونها من الله - تعالى - فقد قابل إحسان الله - تعالى - بالإساءة والجحود ، فاستوجب الذمَّ ، ويستحقُّ الخذلان ؛ لأنَّه لما أثبت لله شريكاً ، استحقَّ أن يفوض أمره إلى ذلك الشَّريك ، ولمَّا كان ذلك الشريكُ معدوماً ، بقي بلا ناصرٍ ولا حافظٍ ولا معينٍ ، وذلك عينُ الخذلان . الثالث : أنَّ الكمال في الوحدة ، والنقصان في الكثرة ، فمن أثبت الشَّريك ، فقد وقع في جانب النقصان . قوله تعالى : { فَتَقْعُدَ } : يجوز أن تكون على بابها ، فينتصب ما بعدها على الحال ، ويجوز أن تكون بمعنى " صار " فينتصب على الخبريَّة ، وإليه ذهب الفراء والزمخشريُّ ، وأنشدوا في ذلك . @ 3393 - لا يُقْنِعُ الجَارِيةَ الخِضَابُ ولا الوِشَاحَانِ ولا الجِلْبَابُ مِن دُون أن تَلتَقِيَ الأرْكابُ ويَقْعُدَ الأيْرُ لهُ لُعَابُ @@ أي : ويصير ، و البصريُّون لا يقيسون هذا ، بل يقتصرون به على المثل في قولهم : " شَحَذَ شفرته ؛ حتَّى قعَدتْ كأنَّها حَربَةٌ " . وقال الواحديُّ : " فَتَقْعد " : انتصب ؛ لأنَّه وقع بعد الفاء ؛ جواباً للنهي ، وانتصابه بإضمار " أن " كقولك : لا تنقطع عنَّا ، فنجفوك ، والتقدير : لا يكن منك انقطاعٌ ؛ فيحصل أن نجفوك ، فما بعد الفاء متعلَّق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء ، وإنَّما سمَّاه النحويون جواباً ؛ لكونه مشابهاً للجزاءِ في أنَّ الثاني مسبَّب عن الأول ؛ ألا ترى أنَّ المعنى : إن انقطعت جفوتك ، كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر ، قعدت مذموماً مخذولاً . فصل في معنى القعود في الآية ذكروا في هذا القعود وجوهاً : أحدها : أن معناه المكث أي : فتمكُث في النَّاس مذموماً مخذولاً ، وهذه اللفظة مستعملةٌ في لسانِ العرب والفرس في هذا المعنى ، إذا سأل الرجلُ غيره : ما يصنعُ فلانٌ في تلك البلدة ؟ فيقول المجيب : هو قاعدٌ بأسوأ حالٍ . معناه : المكث ، سواء كان قائماً أو قاعداً وثانيها : أنَّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه . وثالثها : أنَّ المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها ، والسَّعي إنما يتأتى بالقيام ، وأما العاجزُ عن تحصيلها ، فإنَّه لا يسعى ، بل يبقى جالساً قاعداً عن الطَّلب ، فلمَّا كان القيام على الرَّجلِ أحد الأمور التي يتمُّ بها الفوز بالخيرات ، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة ، لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات ، والقعود كناية عن العجز والضعف .