Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 29-30)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية . لمَّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة ، علَّمه في هذه الآية أدب الإنفاق . واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين ، فقال تعالى { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف ، فقال تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } أي لا تمسك عن الإنفاق ، بحيث تضيف على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرَّحم ، أي : لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ، { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } أي : ولا تتوسَّع في الإنفاق توسُّعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيءٌ . والحكماءُ ذكروا في كتب الأخلاق أنَّ لكلِّ خلق طرفي إفراطٍ وتفريطٍ ، وهما مذمومان ، والخلق الفاضل هو العدل والوسط ، فالبخل إفراطٌ في الإمساك ، والتبذير إفراطٌ في الإنفاقِ ، وهما مذمومان ، والمعتدل الوسطُ . روى جابرٌ - رضي الله عنه - قال : " أتى صبي فقال : يا رسول الله ، إنَّ أمِّي تَسْتكسِيكَ دِرْعاً ، ولم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ قميصهُ ، فقال للصبيِّ : من ساعةٍ إلى ساعةٍ يظهرُ كذا فعدِّ وقتاً آخر ، فعاد إلى أمِّه فقالت : قل له : إنَّ أمِّي تَسْتكِسيكَ الدِّرع الذي عليك ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دَارهُ ، ونزعَ قَمِيصهُ ، فأعطاهُ ، فقعد عُرياناً ، فأذَّنَ بلالٌ بالصَّلاةِ ، فانتظره ، فلم يخرج ، فشغل قُلوبَ أصحابه ، فدخل عليه بعضهم فَرآهُ عُرْيَاناً " ، فأنزلَ الله تعالى { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } يعني لا تمسك يدك عن النفقةِ في الحقِّ كالمغلولة يده ، ولا يقدر على مدِّها ، " ولا تَبْسُطهَا " بالعطاء " كُلَّ البَسْطِ " فتعطي جميع ما عندك . و { كُلَّ ٱلْبَسْطِ } : نصب على المصدر ؛ لإضافتها إليه ، و " فَتقْعُدَ " نصب على جواب النهي وتقدَّم الكلام عليه ، و " مَلُوماً " إمَّا حالٌ ، وإمَّا خبر كما تقدَّم ؛ ومعنى كونه ملوماً أنه يلومُ نفسه ، وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المالِ وإبقاءِ الأهل في الضَّرر والمحنة ، أو يلومونه بالإمساك إذا سألوه ولم يعطهم ، وأمَّا كونه محسوراً ، فقال الفراء : العرب تقول للبعير : محسورٌ ، إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابَّة ، إذا سيَّرتها حتى ينقطع سيرها ، ومنه قوله تعالى : { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] . وقال قتادة - رحمه الله - : محسوراً نادماً على ما فرط منك ويجمع الحسيرُ على حَسْرَى ، مثل : قَتْلَى وصَرْعَى . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3410 - بِهَا جِيَفُ الحَسْرى ، فأمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وأمَّا جِلدُهَا فَصلِيبُ @@ وحسر عن كذا ، كشف عنه كقوله [ الطويل ] @ 3411 - … يَحْسُرِ المَاءَ تَارةً … @@ والمحسور : المنقطع السَّير ، ومنه حسرت الدَّابة ، قطعت سيرها ، وحسير أي : كالٌّ : تعبان بمعنى : محسور . قال القفال : شبَّه حال من أنفق كلَّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته ؛ لأنَّ ذلك المقدار من المال ، كأنَّه مطيَّة تحمل الإنسان إلى آخر السَّفر ، كما أن ذلك البعير يحمله إلى آخر منزله ، فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطَّريق عاجزاً متحيِّراً ، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدَّة شهر ، بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ، ومن فعل هذا ، لحقه اللَّوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره ، وترك الحزم في مهمَّات معاشه . ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ } أي يوسِّعه على البعض " ويَقْدرُ " ، أي : يضيِّق على البعض بحسبِ ما يعلم من المصالح . قال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } [ الشورى : 27 ] والقدر في اللغة التَّضييقُ . قال تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] . { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] أي : ضيَّق .