Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن الخطيب : تقدم الكلام في الحمد ، والذي أقوله ها هنا : إن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد ؛ ألا ترى أنه يقال : " سبحان الله والحمد لله " . وإذا عرف هذا ، فنقول : إنه تعالى - جلَّ جلاله - ذكر التسبيح عندما أخبر أنَّه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وذكر التحميد عندما ذكر إنزال الكتاب عليه فقال : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَٰبَ } . ثم قال : والمشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق . والجواب عنه مذكور في سورة الأعراف في تفسير قوله { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] . واعلم : أنه تعالى أثنى على نفسه بإنعامه على خلقه ، وخصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر ؛ لأنَّ إنزال الكتاب القرآن عليه كان نعمةً عليه على الخصوصِ وعلى سائر الناسِ على العمومِ . أما كونه نعمة عليه ؛ فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علم التَّوحيد والتَّنزيه وصفات الجلال وأحوال الملائكة وأحوال الأنبياءِ وأحوالِ القضاء والقدر ، وتعلُّق أحوال العالم السفليِّ بأحوال العالم العلوي ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا ، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب ، وذلك من أعظم النِّعم ، وأمَّا كونه نعمة علينا ؛ فلأنه مشتملٌ على التكاليفِ والأحكامِ والوعد [ والوعيد ] والثوابِ والعقاب ، فكلُّ واحدٍ ينتفعُ به بمقدار طاقته وفهمه . قوله : { وَلَمْ يَجْعَل } : في هذه الجملة أوجهٌ ، أحدها : أنها معطوفة على الصلة قبلها . والثاني : أنها اعتراضية بين الحال وهي " قَيِّما " وبين صاحبها وهو " الكتاب " . والثالث : أنها حالٌ من " الكتاب " ، ويترتب على هذه الأوجه القول في " قَيِّماً " . قوله : { قَيِّماً } : فيه أوجه : الأول : أنه حال من " الكتاب " . والجملة من قوله " ولم يجعل " اعتراض بينهما . وقد منع الزمخشري ذلك فقال : " فإن قلت : بم انتصب " قَيِّماً " ؟ قلت : الأحسن أن ينتصب بمضمرٍ ، ولم يجعل حالاً من " الكتاب " لأن قوله " ولم يجعل " معطوف على " أنْزلَ " فهو داخلٌ في حيِّز الصلةِ ، فجاعله حالاً فاصلٌ بين الحالِ وذي الحال ببعض الصلة " ، وكذلك قال أبو البقاء . وجواب هذا ما تقدَّم من أن الجملة اعتراضٌ لا معطوفة على الصِّلة . الثاني : أنه حالٌ من الهاءِ في " لهُ " . قال أبو البقاءِ : " والحالُ مؤكدة . وقيل : منتقلة " . قال شهاب الدين : القول بالانتقالِ لا يصحُّ . الثالث : أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ ، تقديره : جعله قيِّماً . قال الزمخشري : " تقديره : ولم يجعل له عوجاً ، جعله قيِّماً ، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة " . قال : " فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامةِ وفي أحدهما غِنًى عن الآخر ؟ . قلت : فائدته التأكيد فرُبَّ مستقيم مشهودٌ له بالاستقامةِ ، ولا يخلو من أدنى عوجٍ عند السَّيرِ والتصفُّح " . الرابع : أنه حالٌ ثانية ، والجملة المنفيَّة قبله حال أيضاً ، وتعدد الحال لذي حال واحد جائزٌ . والتقدير : أنزله غير جاعلٍ له عوجاً قيماً . والخامس : أنه حالٌ أيضاً ، ولكنه بدلٌ من الجملة قبله لأنها حال ، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز ، وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قوله : " عَرفْتُ زيداً أبو مَنْ هو " . والضمير في " لَهُ " فيه وجهان ، أحدهما : أنه للكتاب ، وعليه التخاريج المتقدمة . والثاني : أنه يعود على " عَبدِه " ، وليس بواضحٍ . وقرأ العامة بتشديد الياء ، وأبانُ بن تغلب بفتحها خفيفة . وقد تقدَّم القولُ فيها . ووقف حفص على تنوين " عِوَجاً " يبدله ألفاً ، ويسكت سكتةً لطيفة من غير قطع نفس ، إشعاراً بأنَّ " قيِّماً " ليس متصلاً بـ " عوجاً " ، وإنما هو من صفة الكتاب . وغيره لم يعبَأ بهذا الوهم فلم يسكت اتِّكالاً على فهم المعنى . قلت : قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعض مصاحف الصحابة : " ولم يَجْعلْ له عوجاً ، لكن جعله قيِّماً " . وبعض القراء يطلق فيقول : يقف على " عِوَجاً " ، ولم يقولوا : يبدل التنوين ألفاً ، فيحتمل ذلك ، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت . ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيِّ ، يعني الإطلاق . ثم قال : " وفي ذلك نظرٌ - أي في إبدال التنوين ألفاً - فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلَّ على غرضه ، وهو أنه واقفٌ بنيَّة الوصل " . انتهى . وقال الأهوازيُّ : " ليس هو وقفاً مختاراً ، لأنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، معناه : أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً " . قال شهاب الدين : دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلاَّ أنَّها مردودةٌ لأنَّها على خلاف الأصل ، وقد تقدَّم تحقيقه . وفعل حفصٌ في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتةٍ لطيفةٍ نافية لوهم مخلٍّ . فمنها : أنَّه كان يقف على " مَرْقدِنا " ، ويبتدىء : { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [ يس : 52 ] . قال : لئلاَّ يتوهَّم أنَّ " هذا " صفة لـ " مَرْقدِنا " فالوقف يبين أنَّ كلام الكفار انقضى ، ثم ابتدىء بكلامِ غيرهم . قيل : هم الملائكة . وقيل : المؤمنون . وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون " هذا " صفة لـ " مَرْقدِنا " فيفوتُ ذلك . ومنها : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] . كان يقف على نون " مَنْ " ويبتدىء " راقٍ " قال : " لئلاَّ يتوهَّم أنها كلمة واحدة على فعَّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرُق فهو مرَّاق " . ومنها : { بَلْ رَانَ } [ المطففين : 14 ] كان يقف على لام بل ، ويبتدىء " ران " لما تقدَّم . قال المهدويُّ : " وكان يلزمُ حفصاً مثل ذلك ، فيما شاكل هذه المواضع ، وهو لا يفعله ، فلم يكن لقراءته وجهٌ من الاحتجاج إلا اتباعُ الأثر في الرواية " . قال أبو شامة : " أولى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [ يونس : 65 ] ، ينبغي الوقف على " قَولهُم " لئلاَّ يتوهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ " ، وكذا { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } [ غافر : 6 ، 7 ] ينبغي أن يعتنى بالوقف على " النَّار " لئلا تتوهَّم الصفة . قال شهابُ الدين : وتوهُّمُ هذه الأشياء من أبعد البعيد . وقال أبو شامة أيضاً : " ولو لزم الوقفُ على اللام والنون ليظهرا للزمَ ذلك في كلِّ مدغمٍ " . يعني في " بل رانَ " وفي " مَنْ راقٍ " . فصل المعنى : ولم يجعل له عوجاً [ قيِّماً ] ، أي مختلفاً . قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . قال أهل اللغة : العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، فالمراد منه نفيُ التَّناقضِ . وقيل : معناه لم يجعلهُ مخلوقاً . روي عن ابن عبَّاس أنَّه قال في قوله تعالى : { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] أي غير مخلوقٍ . وقوله : " قيماً " فيما نقل عن ابن عباسٍ أنه قال : يريد مستقيماً [ قال ابن الخطيب : ] وهذا عندي مشكلٌ ؛ لأنَّه لا معنى لنفي الاعوجاج إلاَّ حصول الاستقامةِ ، فتفسير القيّم بالمستقيم يوجبُ التكرار ، بل الحق أن يقال : المرادُ من كونه قيِّماً سبباً لهداية الخلق ، وأنَّه يجري بحذوِ من يكون قيّماً للأطفال ، فالأرواح البشرية كالأطفالِ ، والقرآن كالقيِّم المشفق القيم بمصالحهم . قوله : " ليُنْذِرَ " في هذه اللام وجهان ، أظهرهما : أنها متعلقة بـ " قيِّماً " قاله الحوفيُّ . والثاني : - وهو الظاهرُ - أنَّها تتعلق بـ " أنْزلَ " . وفاعل " لِيُنذِرَ " يجوز أن يكون " الكتاب " وأن يكون الله ، وأن يكون الرسول . و " أنْذَرَ " يتعدَّى لاثنين : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . ومفعوله الأول محذوف ، يقدره الزمخشري : " ليُنْذِرَ الذين كفروا " ، وغيره : " ليُنذِرَ العباد " ، أو " ليُنذرَكم " ، أو لينذر العالم . وتقديره أحسن لأنه مقابل لقوله " ويُبشِّر المؤمنين " ، وهم ضدُّهم . وكما حذف المنذر وأتى بالمنذر به هنا ، حذف المنذر به وأتى بالمنذرِ في قوله { وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ } [ الكهف : 4 ] فحذف الأول من الأول لدلالةِ ما في الثاني عليه ، وحذف الثاني من الثاني لدلالة ما في الأول عليه ، وهو في غاية البلاغة ، ولمَّا لم تتكرَّر البشارة ذكر مفعوليها فقال : { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } . قوله : { مِّن لَّدُنْهُ } قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ بسكون الدَّال مشمَّة الضمَّ وكسر النون والهاء موصلة بياء ، فيقرأ " مِنْ لَدْنهِي " والباقون يضمون الدال ، ويسكنون النون ويضمون الهاء ، وهم على قواعدهم فيها : فابن كثيرٍ يصلها بواوٍ نحو : منهُو وعنهُو ، وغيره لا يصلها بشيءٍ . وجه أبي بكرٍ : أنَّه سكن الدال تخفيفاً كتسكين عين " عَضُد " فالنون ساكنة ، فالتقى ساكنان فكسر النون لالتقاءِ الساكنين ، وكان حقُّه أن يكسر الأول على القاعدة المعروفة إلا أنه يلزم منه العودُ إلى ما فرَّ منه ، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قوله تعالى : { وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ } [ النور : 52 ] في سورة النور ، لمَّا كسر النون إتباعاً على قاعدته ووصلها بياء . وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة . والإشمامُ هنا عبارة عن ضمِّ الشفتين من غير نطقٍ ، ولهذا يختصُّ به البصير دون الأعمى ، هكذا قرَّرهُ القراء وفيه نظر ؛ لأنَّ الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلاَّ بأن يكون إشارة إلى حركة الحرفِ الآخر المرفوع إذا وقف عليه نحو : " جاء الرجل " ، وهكذا قدَّره النحويون . وأمَّا كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصوَّر إلا أن يقف المتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق بـ " ياء " الكلمة . وإذا جرَّبت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك ، لا ينطقُ به بالدال الساكنة مشيراً إلى ضمها إلا حتى يقف عليها ، ثم يأتي بـ " ياء " في الكلمة . فإن قلت : إنَّما آتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمةِ بأسرها . قيل لك : فاتت الدلالة على تعيين ذلك الحرف المشار إلى حركته . فالجواب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته وهو الدال . وقد تقدَّم في " يوسف " أن الإشمام في { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] إذا فسَّرناه بالإشارة إلى الضمة : منهم من يفعله قبل كمال الإدغام ، ومنهم من يفعله بعده ، وهذا نظيره . وتقدَّم أنَّ الإشمام يقع بإزاءِ معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقها . و " مِنْ لدُنه " متعلق بـ " ليُنْذِرَ " . ويجوز تعلقه بمحذوفٍ نعتاً لـ " بَأساً " ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " شديداً " . والبأس مأخوذ من قوله : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] و { مِّن لَّدُنْهُ } أي : صادراً من عنده . فصل قال الزجاج : وفي " لدُن " لغات يقال : لَدُ ، ولدُنْ ، ولَدَى بمعنى واحدٍ ، وهي لا تتمكن ممكن " عند " ؛ لأنَّك تقول هذا القول الصَّواب عندي ، ولا يقال : صوابٌ لدني ، ويقال : عندي مالٌ عظيمٌ ، [ والمال ] غائب عنك ، ولدني لما يليك لا غير . وقرىء " ويُبشِّرُ " بالرفع على الاستئناف . والمراد بالأجر الحسن الجنة . قوله : { مَّاكِثِينَ } : حالٌ : إمَّا من الضمير المجرور في " لهُم " ، أو المرفوع المستتر فيه ، أو من " أجراً " لتخصصه بالصفة ، إلاَّ أنَّ هذا لا يجيءُ إلاَّ على رأيِ الكوفيين . فإنهم لا يشترطون بروزَ الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللَّبسُ ، ولو كان حالاً منه عند البصريِّين لقال : ماكثين هم فيه . ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة ثانية لـ " أجْراً " . قال أبو البقاء : وقيل : هو صفة لـ " أجْراً " ، والعائد الهاء في " فيه " . ولم يتعرَّض لبروزِ الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين . و " أبداً " منصوبٌ على الظرف بـ " مَاكثِينَ " . فصل اعلم أنَّ المقصود من إرسالِ الرسل إنذارُ المذنبين وبشارة المطيعين ، ولمَّا كان دفع الضرِّ أهمَّ عند ذوي العقول من إيصالِ النَّفع ، لا جرم قدَّم الإنذار في اللفظ . قال الزمخشريُّ : قرىء " ويُبشِّرُ " بالتخفيف والتَّثقيل و { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } بمعنى خالدين . فصل قال القاضي : دلت الآية على صحَّة قوله في مسائل : أحدها : أنَّ القرآن مخلوقٌ وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزولِ ، وذلك من صفاتِ المحدثات ، فإنَّ القديم لا يجوز عليه التغييرُ . والثاني : أنَّه وصفه بكونه كتاباً ، و الكتب هو الجمع ، وسمِّي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروفِ والكلماتِ ، وما صحَّ فيه [ من ] التركيب والتأليف فهو محدثٌ . الثالث : أنَّه تعالى أثبت الحمد لنفسه ، على إنزالِ الكتاب ، والحمد إنَّما يستحقُّ على النعمةِ ، والنعمةُ محدثة [ مخلوقة ] . الرابع : أنَّه وصفهُ بأنه غير معوجٍّ وبأنَّه مستقيمٌ ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك ، فثبت أنَّه محدثٌ مخلوقٌ . وثانيها : خلق الأعمال ؛ فإنَّ هذه الآية تدلُّ على قولنا في هذه المسألة من وجوهٍ : الأول : نفس الأمر بالحمد ؛ لأنَّه لو لم يكن للعبد فعلٌ لم ينتفع بالكتاب ، إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلَّ الكتاب على أنه يجب فعله ، ويترك ما دلَّ الكتاب على أنه يجب تركهُ ، وهذا إنَّما كان يعقل لو كان مستقلاً بنفسه . أمَّا إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثرٌ في اعوجاج فعله ، ولم يكن لكون الكتاب " قيِّماً " أمرٌ في استقامةِ فعله كان العبدُ قادراً على الفعل مختاراً فيه . والثاني : أنَّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض ، وأنزل الباقي ليؤمن البعضُ الآخر ، فمن أين أن ذلك الكتاب قيمٌ لا عوج فيه ؟ لأنه لو كان فيه عوجٌ لما زاد على ذلك . والثالث : قوله : " لِيُنذِرَ " وفيه دلالة على أنَّه تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلم إنذارَ الكلِّ وتبشير الكلِّ ، وبتقدير أن يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذارِ والتبشير فائدة ؛ لأنَّه تعالى إذا خلق الإيمان حصل شاء العبدُ أو لم يشأ ، وإذا خلق الكفر [ حصل ] شاء العبد أو لم يشأ ، فيصيرُ الإنذار والتبشيرُ على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذارِ والتبشير على كونه طويلاً وقصيراً وأبيض وأسود ممَّا لا قدرة للعبد عليه . الرابع : وصفه المفسرون بأنَّ المؤمنين يعملون الصالحاتِ فإن كان خلقاً لله تعالى ، فلا علم لهم به ألبتة . الخامس : إيجابه لهم الأجر الحسن على ما علموا ؛ فإن الله تعالى قادرٌ بخلق ذلك فيهم ، فلا إيجاب ولا استحقاق . المسألة الثالثة : دلَّت الآية على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراض صحيحةٍ ، وذلك يبطل قول من يقول : إنَّ فعلهُ غيرُ مُعلَّلٍ بالغرضِ . فصل واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة .