Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 23-24)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وذلك أن أهل مكَّة سألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، فقال : أخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، فلبث الوحيُ أيَّاماً ، ثم نزلت هذه الآية . فصل اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين : الأول : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنَّه إذا أخبر أنه سيفعل الفعل الفلانيَّ غداً ، فربَّما جاءته الوفاة قبل الغد ، وربما عاقه عائقٌ عن ذلك الفعل غداً ، وإذا كانت هذه الأمور محتملة ، فلو لم يقل : إن شاء الله ، خرج الكلام مخالفاً لما عليه ، وذلك يوجب التنفير عنه . أما إذا قال : " إن شاء الله تعالى " كان محترزاً عن هذا المحذور المذكور ، وإذا كان كذلك ، كان من البعيد أن يعد بشيءٍ ، ولم يقل : إن شاء الله . الثاني : أن هذه الآية مشتملةٌ على قواعد كثيرةٍ ، وأحكام جمَّة ، فيبعد قصرها على هذا السبب ، إذ يمكن أن يجاب عن الأول بأنه لا يمتنع أن الأولى أن يقول : " إن شاء الله تعالى " ، إلاَّ أنه ربَّما اتَّفق له نسيان قول " إن شاء الله " لسبب من الأسباب ، وكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل ، وأنه يجاب عن الثاني بأنَّ اشتماله على الفوائد الكثيرةِ لا يمتنع أن يكون نزوله بسببٍ واحدٍ منها . قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } : قال أبو البقاء : في المستثنى منه ثلاثة أوجهٍ : أحدها : هو من النَّهي . والمعنى : لا تقولنَّ : أفعلُ غداً ، إلاَّ أن يؤذن لك في القول . الثاني : هو من " فاعلٌ " ، أي : لا تقولنَّ إني فاعل غداً ؛ حتَّى تقرن به قول " إن شاء الله " . والثالث : أنه منقطعٌ ، وموضع " أن يشاء الله " نصب على وجهين : أحدهما : على الاستثناء ، و التقدير : لا تقولنَّ ذلك في وقتٍ إلاَّ وقت أن يشاء الله ، أي : يأذن ، فحذف الوقت ، وهو المراد . الثاني : هو حالٌ ، والتقدير : لا تقولنَّ : أفعل غداً إلا قائلاً : " إن شاء الله " وحذف القول كثير ، وقيل : التقدير إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ ملتبساً بقول : " إن شاء الله " . وقد ردَّ الزمخشريُّ الوجه الثاني ، فقال : " إلاَّ أن يشاءَ " متعلقٌ بالنهي ، لا بقوله " إنِّي فاعلٌ " لأنه لو قال : إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله ، كان معناه : إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ممَّا لا مدخل فيه للنهي . معناه أنَّ النهي عن مثل هذا المعنى ، لا يحسن . ثم قال : " وتعلُّقهُ بالنهي من وجهين : أحدهما : ولا تقولنَّ ذلك القول ، إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه . والثاني : ولا تقولنَّه إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ بمشيئته ، وهو في موضع الحال ، أي : ملتبساً بمشيئة الله ، قائلاً إن شاء الله . وفيه وجه ثالثٌ : وهو أن يكون " إلاَّ أن يشاء " في معنى كلمة تأبيدٍ ، كأنَّه قيل : ولا تقولنَّه أبداً ، ونحوه : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] لأن عودهم في ملتهم ممَّا لم يشأ الله " . وهذا الذي ذكره الزمخشري قد ردَّه ابن عطيَّة بعد أن حكاه عن الطبري وغيره ، ولم يوضِّح وجه الفساد . وقال أبو حيان : " وإلا أن يشاء الله ، استثناء لا يمكن حمله على ظاهره ؛ لأنه يكون داخلاً تحت القول ، فيكونُ من المقول ، ولا ينهاه الله أن يقول : إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله ؛ لأنه قول صحيحٌ في نفسه ، لا يمكن أن ينهى عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقديرٍ ، فقال ابن عطيَّة : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، ويحسِّنهُ الإيجاز ، تقديره : إلاَّ أن يقول : إلا أن يشاء الله ، أو إلاَّ أن تقول : إن شاء الله ، والمعنى : إلاَّ أن تذكر مشيئة الله ، فليس " إلاَّ أن يشاء الله " من القول الذي نهي عنه " . فصل قال كثيرٌ من الفقهاء : إذا قال الرَّجل لزوجته : " أنْتِ طالقٌ ، إن شاء الله " لم يقع الطَّلاق ؛ لأنه لما علَّق وقوع الطَّلاق على مشيئة الله ، لم يقعِ الطَّلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ، ومشيئةُ الله غيبٌ لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها ، إلا إذا علمنا أن متعلَّق المشيئة وقع وحصل ، وهو هذا الطلاق ، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة ، إلاَّ إذا وقع الطلاق ، ولا يعرف وقوع الطلاق ، إلاَّ إذا عرفنا المشيئة ، فيوقف كلُّ واحدٍ منهما على العلم بالآخرِ ، وهو دورٌ ؛ فلهذا لم يقع الطَّلاق . فصل احتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم شيءٌ ، قالوا : لأنَّ الشيء الذي سيفعله غداً سمَّاه الله تعالى في الحال شيئاً ، وهو معدومٌ في الحال . [ وأجيب ] بأنَّ هذا الاستدلال لا يفيدُ إلاَّ أنَّ المعدوم مسمى بكونه شيئاً ، والسبب فيه أنَّ الذي يصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال تسمية للشيء بما يئولُ إليه ؛ لقوله تعالى : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] والمراد سيأتي أمر الله . ثم قال تعالى : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن : معناه : إذا نسيت الاستثناء ، ثم ذكرت ، فاستثنِ . وقال ابن عباس : بالاستثناءِ المنقطع ، وإن كان إلى سنةٍ لهذه الآية . وقيَّده الحسن وطاوس بالمجلس . وعن سعيد بن جبيرٍ : بعد سنة ، أو شهرٍ ، أو أسبوعٍ ، أو يوم . وعن عطاءٍ : بمقدار حلب ناقةٍ غزيرةٍ . وعند عامة الفقهاء : لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً ، وقالوا : لأنا لو جوَّزنا ذلك ، لزم ألاَّ يستقرَّ شيءٌ من العهود والإيمان . [ يحكى ] أنه بلغ المنصور أنّ أبا حنيفة خالف ابن عبَّاس في الاستثناء المنفصل ، فاستحضره ؛ لينكر عليه ، فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع عليك ؛ فإنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أترضى أن يخرجوا من عندك ، فيستثنوا ، فيخرجوا عليك ، فاستحسن المنصور كلامه ، ورضي عنه . واعلم أن هذا تخصيص النصِّ بالقياس ، وفيه ما فيه . وأيضاً فلو قال : " إنْ شَاءَ الله " خفية ؛ بحيث لا يسمع ، كان دافعاً للحنث بالإجماع ، مع أنَّ المحظور باقٍ ، فما عوَّلوا عليه ليس بقويٍّ ، [ والأولى ] أن يحتجَّ في وجوب كون الاستثناء متَّصلاً بالآيات الكثيرة الدالة على وجوب الوفاءِ بالعقد والعهد ؛ كقوله : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] ، فإذا أتى بعهدٍ ، وجب عليه الوفاء بمقتضاه بهذه الآيات . خالفنا الدليل فيما إذا كان متَّصلاً ؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد ؛ بدليل أنَّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً ، فهو جارٍ مجرى بعض الكلمة الواحدة ، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة ، وإذا كان كذلك ، فإن لم يكن منفصلاً ، حصل الالتزام التَّامُّ بالكلام ؛ فوجب عليه الوفاء بذلك المتلزم . وقيل : إن قوله : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } كلامٌ مستأنفٌ لا تعلّق له بما قبله . فصل قال عكرمة : واذكر ربَّك ، إذا غضبت . وقال وهبٌ : مكتوب في الإنجيل " ابن آدمَ ، اذكُرنِي حين تغضبُ ، أذكرك حينَ أغْضَبُ " . وقال الضحاك ، و السديُّ : هذا في الصَّلاة المنسيَّة . قال ابن الخطيب : وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضيَّة ، وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً ، وذلك لا يجوز . ثم قال : { وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } وفيه وجوهٌ : الأول : أن ترك قوله : { إنْ شَآءَ ٱللَّهُ } ليس بحسن ، وذكره أحسن من تركه ، وهو قوله : { لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } المراد منه ذكر هذه الجملة . الثاني : أنَّه لمَّا وعدهم بشيءٍ ، وقال معه ( إن شاء الله تعالى ) فيقول : عسى أن يهديني ربِّي لشيءٍ أحسن وأكمل مما وعدتُّكم به . الثالث : أن قوله : { عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } إشارةٌ إلى قصَّة أصحاب الكهف ، أي : لعلَّ الله يؤتيني من البيِّنات والدلائل على صحَّة نبوَّتي وصدقي في ادِّعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة ، وأقرب رشداً من قصَّة أصحاب الكهف ، وقد فعل الله ذلك حين آتاهُ من قصص الأنبياء ، والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك .