Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 25-29)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } . قال قتادة : هذا من كلام القوم ؛ لأنَّه تعالى قال : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] إلى أن قال : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ } أي : إنَّ أولئك الأقوام ، قالوا ذلك ، ويؤيِّده قوله تعالى بعده { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } وهذا يشبهُ الردَّ على الكلام المذكور قبله . ويؤيِّده أيضاً ما ورد في مصحف عبد الله : ( وقالوا ولبثوا في كهفهم ) . وقال آخرون : هو كلام الله تعالى أخبر عن كميَّة هذه المدَّة . وأما قوله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } فهو كلامٌ تقدَّم ، وقد تخلَّل بينه وبين هذه الآية ما يوجبُ انقطاع أحدهما عن الآخر ، وهو قوله : { فلا تمار فِيهمْ إلاَّ مِراءً ظَاهِراً } . وقوله تعالى : { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } لا يوجب أنَّ ما قبله حكاية ؛ لأنَّه تعالى أراد بل الله أعلم بما لبثوا ، فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب ، والمعنى أن الأمر في مدَّة لبثهم ، كما ذكرنا ، فإن نازعوك فيها ، فأجبهم فقل : { اللَّهُ أعْلمُ بِما لَبِثُوا } أي : فهو أعلم منكم ، وقد أخبر بمدَّة لبثهم . وقيل : إنَّ أهل الكتاب قالوا : إنَّ المدَّة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاثمائة وتسع سنين ، فردَّ الله عليهم ، وقال : { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا ، لا يعلمه إلاَّ الله . قوله : { ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ } : قرأ الأخوان بإضافة " مِئةِ " إلى " سنين " والباقون بتنوين " مِئةٍ " . فأمَّا الأولى : فأوقع فيها الجمع موقع المفرد ؛ كقوله : { بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } [ الكهف : 103 ] . قاله الزمخشريُّ يعني أنه أوقع " أعْمَالاً " موقع " عملاً " وقد أنحى أبو حاتمٍ على هذه القراءة ولا يلتفت إليه ، وفي مصحف عبد الله " سنة " بالإفراد ، وبها قرأ أبيّ ، وقرأ الضحاك " سِنُونَ " بالواو على أنها خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي سنُونَ . وأمَّا الباقون ، فلما لم يروا إضافة " مِئَة " إلى جمعٍ ، نَوَّنُوا ، وجعلوا " سِنينَ " بدلاً من " ثَلاثمائةٍ " أو عطف بيان . قال البغويُّ : فإن قيل لِمَ قال : " ثلاثمائة سنين " ولم يقل سنة ؟ فالجواب ، لمَّا نزل قوله تعالى : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ } فقالوا : أيَّاماً ، أو شهوراً ، أو سنين ، فنزلت " سنين " . وقال الفراء : من العرب من يضع " سنين " موضع سنة . ونقل أبو البقاء أنها بدل من " مِئَةٍ " لأنها في معنى الجمع . ولا يجوز أن يكون " سِنينَ " في هذه القراءة تمييزاً ؛ لأنَّ ذلك إنما يجيء في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز ؛ كقوله : @ 3507أ - إذَا عَاشَ الفَتَى مِئَتيْنِ عَاماً فَقدْ ذَهبَ اللَّذاذَةُ والفَتَاءُ @@ فصل قيل : المعنى : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة { وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } . قال الكلبيُّ : قالت نصارى نجران : أما الثلاثمائة ، فقد عرفناها ، وأما التسع ، فلا علم لنا بها ، فنزلت : { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } . روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال : عند أهل الكتاب : أنَّهم لبثُوا ثَلاثمائَةٍ شَمْسيَّة ، والله تعالى ذَكرَ ثَلاثمَائةِ سنةٍ قمريَّة ، والتَّفاوتُ بين الشَّمسية والقمريَّة في كلِّ مائةِ سنةٍ ثلاث سنين ، فيكونُ ثَلاثمائَةٍ ، وتِسْع سنينَ ، فَلذلِكَ قال : " وازْدَادُوا تِسْعاً " . قال ابن الخطيب : وهذا مشكلٌ ؛ لأنه لا يصحُّ بالحساب ، فإن قيل : لِمَ لا قيل : ثلاثمائة ، وتسع سنين ؟ . وما الفائدة في قوله : " وازْدَادُوا تِسْعاً " ؟ . فالجواب : أن يقال : لعلَّهم لما استكمل لهم ثلاثمائة سنة ، قرب أمرهم من الانتباه ، ثمَّ اتفق ما أوجب [ بقاءهم في النَّوم ] تسع سنين . قوله : " تِسْعاً " أي : تسع سنين ، حذف المميِّز ؛ لدلالةِ ما تقدَّم عليه ؛ إذ لا يقال : عندي ثلاثمائة درهم وتسعة ، إلا وأنت تعني : تسعة دراهم ، ولو أردتَّ ثياباً ونحوها ، لم يجزْ ؛ لأنه إلغازٌ ، و " تِسْعاً " مفعولٌ به ، وازداد : افتعل ، أبدلت التاء دالاً بعد الزاي ، وكان متعدِّياً لاثنين ؛ نحو : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، فلما بني على الافتعال ، نقص واحداً . وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية " تسعاً " بفتح التاء كعشرٍ . قوله : { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدَّة من الناس الذين اختلفوا فيها ؛ لأنَّه إله السموات والأرض ومدبِّر العالم له غيبُ السَّموات والأرض . والغَيْبُ : ما يغيب عن إدراكك ، والله - تعالى - لا يغيبُ عن إدراكه شيءٌ ، ومن كان عالماً بغيب السموات والأرض ، يكون عالماً بهذه الواقعة ، لا محالة . قوله : { أَبْصِرْ بِهِ } : صيغة تعجُّب بمعنى " مَا أبْصرَهُ " على سبيل المجاز ، والهاء لله تعالى ، وفي مثل هذا ثلاثة مذاهب : الأصح : أنه بلفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، والباء مزيدة في الفاعل ؛ إصلاحاً للفظ أي ما أبصر الله بكلِّ موجودٍ ، وأسمعه بكلِّ مسموعٍ . والثاني : أنَّ الفاعل ضمير المصدر . والثالث : أنه ضمير المخاطب ، أي : أوقع أيُّها المخاطب ، وقيل : هو أمر حقيقة لا تعجب ، وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام . وقرأ عيسى : " أسْمعَ " و " أبْصرَ " فعلاً ماضياً ، والفاعل الله تعالى ، وكذلك الهاء في " به " ، أي : أبصر عباده وأسمعهم . وتقدَّم الكلام على هذه الكلمة عند قوله : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } [ البقرة : 175 ] . قوله : { مَّا لَهُم } أي : ما لأهلِ السموات والأرض . قوله : " مِنْ دُونهِ " أي : من دون الله . قوله : " مِنْ وليٍّ " أي من ناصرٍ . و " مِنْ وليٍّ " يجوز أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ . قوله : " ولا يُشْرِكُ " قرأ ابن عامر بالتاء والجزم [ عطفاً على قوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ } [ الكهف : 23 ] وقوله : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ } ] أي : ولا تشركْ أنت أيها الإنسانُ ، والباقون بالياء من تحت ، ورفع الفعل ، أي : ولا يشرك الله في حكمه أحداً ، فهو نفيٌ محضٌ . فصل في المراد بالحكم في الآية قيل : الحكم ها هنا علم الغيب ، أي : لا يشركُ في علم غيبه أحداً . وقرأ مجاهد وقتادة : " ولا يُشرِكْ " بالياء من تحت والجزم . قال يعقوب : " لا أعرف وجهه " . قال شهاب الدين : وجهه أنَّ الفاعل ضميرُ الإنسان ، أضمر للعلم به . والضمير في قوله " مَا لهُمْ " يعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عطية : " وتكون الآية اعتراضاً بتهديد " كأنَّه يعني بالاعتراض : أنهم ليسوا ممَّن سيق الكلام لأجلهم ، ولا يريد الاعتراض الصِّناعي . فصل قوله : { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } . قيل : ما لأصحاب الكهف من دون الله وليٌّ ؛ فإنَّه هو الذي يتولَّى حفظهم في ذلك النَّوم الطَّويل . وقيل : ليس لهؤلاءِ القوم المختلفين في مدَّة لبث أصحاب الكهف وليٌّ من دون الله ، يتولَّى أمرهم ، ويقيم لهم تدبير أنفسهم ، فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه ، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه ؟ ! . فصل واختلفوا في زمن أصحاب الكهف وفي مكانهم ، فقيل : كانوا قبل موسى - عليه الصلاة والسلام - وأنَّ موسى صلى الله عليه وسلم ذكرهم في التَّوراة ، فلهذا سأل اليهودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصَّتهم . وقيل : دخلوا الكهف قبل المسيح ، وأخبر المسيحُ بخبرهم ، ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى ، وبين محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : إنَّهم دخلوا الكهف بعد الميسح ، حكى هذا القول القفَّال عن محمد بن إسحاق ، وذكر أنهم لم يموتوا ، ولا يموتون إلى يوم القيامة . وأمَّا مكان الكهف ، فحكى القفَّال عن محمد بن موسى الخُوارزميِّ المنجم : أن الواثق أنفذه ؛ ليعرف حال أصحاب الكهف من ملك الرُّوم ، قال : فوجَّه ملكُ الرُّوم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه . وقيل : إنَّ الرجل قال : إنَّ الرجل الموكَّل بذلك الموضع فزَّعني من الدُّخول عليهم ، قال : فدخلت فرأيت الشُّعور على صدورهم . قال : وعرفت أنَّ ذلك تمويهٌ واحتيالٌ ، وأنَّ الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة ؛ لتصونها عن البلاء ؛ كالتلطيخ بالصَّبر وغيره . قال القفَّال : والذي عندنا أنَّ موضع أصحاب الكهف لا يعرف ، ولا عبرة بقول أهل الرُّوم ، وذكر الزمخشري عن معاوية " أنَّه لما غزا الرُّومَ ، فمرَّ بالكهف ، فقال : لو كشف عن هؤلاء ، ننظر إليهم ، فقال له ابن عباس : أيُّ شيءٍ لك في ذلك ؟ قد منع الله من هو خيرٌ منك ، فقال : { لَو اطَّلعتَ عَليْهِمْ ، لولَّيتَ مِنهُمْ فِراراً ، ولمُلِئْتَ مِنهُمْ رُعْباً } . فقال : لا أنتهي عن ذلك ، حتَّى أعلم حالهم ، فبعث أناساً ، فقال : اذهبوا ، فانظروا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً ، [ فأخرجتهم ] " . فصل قال ابن الخطيب : والعلم بذلك الزَّمان ، وذلك المكان ، ليس للعقل فيه مجالٌ ، وإنما يستفاد ذلك من نصٍّ ، وهو مفقودٌ ؛ فثبت أنَّه لا سبيل إليه . قال ابن الخطيب : هذه السور الثلاث اشتملت كلُّ واحدة منها على حصول حالةٍ غريبةٍ عجيبةٍ نادرةٍ في هذا العالم : سورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بالجسد الشريف صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشَّام ، وهي حالة عجيبة ، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدَّة ثلاثمائة سنةٍ ، وأزيد ، وهي أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب ، وهي أيضاً حاله غريبة والمعتمد في بيان هذه العجائب ، والغرائب المذكورة : أنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات ، عالمٌ بجميع المعلومات من الجزئيات والكليَّات ، فإنَّ كلَّ ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات . وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث ، ولما كان قادراً على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن ، فكذلك بقاؤهُ مدة ثلاثمائة سنةٍ ، يوجب أن يكون ممكناً ، بمعنى : أن إله العالم يحفظه عن الآفةِ . وأما الفلاسفةُ فإنهم يقولون : لا يبعد وقوع أشكالٍ فلكية غريبة توجب في عالم الكون والفساد حصول أحوالٍ غريبة نادرة ، وذكر أبو علي بن سفيان في " باب الزَّمان " من كتاب " الشِّفا " أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المباطيل حالةٌ شبيهة بأصحاب الكهف . قال ابن سينا : ويدلُّ التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف . قوله تعالى : { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } الآية . اعلم أن كفَّار قريش اجتمعوا ، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الذين آمنوا بك ، فنهاهُ الله عن ذلك ، وبيّن في هذه الآيات أنَّ الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد ، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً ، وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه ، ولا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنتهم ، فقال : { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ } أي التزم قراءة الكتاب الذي أوحي إليك والزم العمل به { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : لا مغيِّر للقرآن ، وهذه آية تدل على أنه لا يجوز تخصيص النصِّ بالقياس ؛ لأن معنى الكلام : الزم العمل بمقتضى هذا الكتاب ، وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره . فإن قيل : فيجب ألا يتطرَّق النسخ إليه أيضاً . فالجواب : أن هذا مذهبُ أبي مسلم الأصفهاني ، وليس ببعيد ، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديلٍ ؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ ، فالناسخ كالمغاير ، فكيف يكون تبديلاً ؟ ثم قال : { ولن تَجدِ مِنْ دُونهِ مُلتحداً } أي : ملجأ ، قال أهل اللغة : هو من لحد وألحد : إذا مال ، ومنه قوله { ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ } [ فصلت : 40 ] والملحدُ : الماثل عن الدِّين . قال ابن عباس : حرزاً . وقال الحسن : مدخلاً . وقال مجاهد : ملجأ . وقيل : ولن تجد من دونه ملتحداً في البيان والإرشاد . قوله : { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ } أي : احبسها وثبتها قال أبو ذؤيب : [ الكامل ] @ 3507ب - فَصَبرْتُ نَفْساً عِنْدَ ذلِكَ حُرَّة تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطلَّعُ @@ وقوله : " بالغَداةِ " تقدَّم الكلام عليها في الأنعام . فصل في نزول الآية نزلت في عيينة بن حصن الفزاريِّ ، أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم ، وعنده جماعةٌ من الفقراءِ فيهم سلمان ، وعليه شملةٌ قد عرق فيها ، وبيده خوصةٌ يشقها ، ثم ينسجها ؛ فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيكَ ريحُ هؤلاء ؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا ، أسلم الناس ، وما يمنعنا من اتِّباعِكَ إلاَّ هؤلاء ، حتى نتبعك ، واجعل لنا مجلساً ، ولهم مجلساً ، فأنزل الله تعالى : { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ } ، أي : احبسْ يا محمد نفسك { مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } طرفي النَّهار ، { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : يريدون الله ، لا يريدون به عرضاً من الدنيا . وقال قتادة : نزلت في أصحاب الصُّفة ، وكانوا سبعمائة رجلٍ فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ، ولا إلى زرع ، يصلُّون صلاة ، وينتظرون أخرى ، فلما نزلت هذه الآية ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي جعل في أمَّتي من أمرتُ أن أصبر نفسي معهم " وهذه القصة منقطعة عما قبلها ، وكلامٌ مفيدٌ مستقلٌّ ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } [ الأنعام : 52 ] ففي تلك الآية نهى الرسول - عليه السلام - عن طردهم ، وفي هذه الآية أمرهُ بمجالستهم والمصابرة معهم . فصل في قراءات الآية قرأ ابن عامر بالغداة والعشيّ ، بضمِّ الغين ، والباقون بالغَداة ، وهما لغتان ، فقيل : المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كلِّ الأوقاتِ كقول القائل : ليس لفلانٍ عمل بالغداة والعشيِّ إلاَّ شتم الناس ، وقيل : المراد صلاة الفجر والعصر . وقيل : المراد الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النَّوم إلى اليقظة ، ومن اليقظة إلى النَّوم . قوله : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } فيه وجهان : أحدهما : أن مفعوله محذوف ، تقديره : ولا تعد عيناك النظر . والثاني : أنه ضمِّن معنى ما يتعدَّى بـ " عَنْ " قال الزمخشريُّ : " يقال : عدَّاه ، أي : جاوزه فإنما عدِّي بـ " عَنْ " لتضمين " عَدا " معنى نبا وعلا في قولك : نَبتْ عنه عينه ، وعلتْ عنه عينه ، إذا اقتحمته ، ولم تعلق به ، فإن قيل : أي غرضٍ في هذا التضمين ؟ وهلاَّ قيل : ولا تعدهم عيناك ، أو : ولا تعل عيناك عنهم ؟ فالجواب : الغرض منه إعطاءُ مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى [ فذٍّ ] ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقتحمهم عيناك متجاوزتين إلى غيرهم ، ونحوه { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ، أي : لا تضمُّوها إليها آكلين لها " . وردَّه أبو حيان : بأنَّ مذهب البصريين أن التضمين لا ينقاس ، وإنما يصار إليه عند الضرورة ، فإذا أمكن الخروج عنه ، فلا يصار إليه . وقرأ الحسن " ولا تُعدِ عَينَيْكَ " من أعدى رباعيًّا ، وقرأ هو ، وعيسى ، والأعمش " ولا تُعدِّ " بالتشديد ، من عدَّى يعدِّي مضعفاً ، عدَّاه في الأولى بالهمزة ، وفي الثانية بالتثقيل ؛ كقول النابغة : [ البسيط ] @ 3508 - فَعدِّ عَمَّا تَرَى إذْ لا ارتِجاعَ لهُ وانْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أجُدِ @@ كذا قال الزمخشري ، وأبو الفضل ، وردَّ عليهما أبو حيان : بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزة ، أو التضعيف ، لتعدَّى لاثنين ؛ لأنه قبل ذلك متعد لواحد بنفسه ، وقد أقرَّ الزمخشري بذلك ؛ حيث قال : " يقال : عداهُ إذا جاوزه ، وإنَّما عدِّي بـ " عن " لتضمنه معنى علا ، ونبا " فحينئذٍ يكون " أفْعلَ " و " فعَّل " ممَّا وافقا المجرَّد وهو اعتراضٌ حسنٌ . فصل يقال : عدَّاه ، إذا جاوزه ، ومنه قولهم : عدا طورهُ ، وجاءني القومُ عدا زيداً ؛ لأنَّها تفيد المباعدة ، فكأنَّه تعالى نهى نبيَّه عن مباعدتهم ، والمعنى : لا تزدري فقراء المؤمنين ، ولا تثني عينيك عنهم ؛ لأجل مجالسة الأغنياء . ثم قال : " تُريدُ " جملة حالية ، ويجوز أن يكون فاعل " تريدُ " المخاطب ، أي : تريد أنت ، ويجوز أن يكون ضمير العينين ، وإنما وحِّد ؛ لأنهما متلازمان يجوز أن يخبرَ عنهما خبر الواحد ، ومنه قول امرىء القيس : [ الهزج ] @ 3509 - لِمَنْ زُحلوفَةٌ زُلُّ بِهَا العَيْنانِ تَنهَلُّ @@ وقول الاخر : [ الكامل ] @ 3510 - وكَأنَّ في العَيْنينِ حبَّ قَرنْفُلٍ أو سُنْبُلاً كُحلَتْ بِهِ فانهَلَّتِ @@ وفيه غير ذلك ، ونسبة الإرادة إلى العينين مجازٌ ، وقال الزمخشري : " الجملة في موضع الحال " قال أبو حيان : " وصاحبُ الحال ، إن قدِّر " عَيْناكَ " فكان يكون التركيبُ : يريدان " . قال شهاب الدين : غفل عن القاعدة المتقدِّمة : من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يخبر عنهما إخبار الواحد ، ثم قال : " وإن قدَّر الكاف ، فمجيءُ الحال من المجرورِ بالإضافة نحو هذا فيه إشكالٌ ؛ لاختلاف العامل في الحال ، وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم ، إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزءِ ، وحسَّن ذلك أنَّ المقصود هو نهيه - عليه الصلاة والسلام - وإنما جيء بقوله " عَيْناكَ " والمقصود هو ؛ لأنَّهما بهما تكونُ المراعاة للشخص والتلفُّتُ له " . قال شهاب الدين : وقد ظهر لي وجهٌ حسنٌ ، لم أر غيري ذكره : وهو أن يكون " تَعْدُ " مسنداً لضمير المخاطب صلى الله عليه وسلم ، و " عَيْناكَ " بدلا من الضمير ، بدل بعض من كل ، و " تُرِيدُ " على وجهيها من كونها حالاً من " عَيْناكَ " أو من الضمير في " تَعْدُ " إلا أن في جعلها حالاً من الضمير في " ولا تعدُ " ضعفاً ؛ من حيث إنَّ مراعاة المبدل منه بعد ذكر البدل قليلٌ جدًّا ، تقول : " الجاريةُ حسنها فاتنٌ " ولا يجوز " فَاتِنةٌ " إلاَّ قليلاً ، كقوله : @ 3511أ - فَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّراة كأنَّهُ مَا حَاجِبَيْهِ مُعيَّنٌ بِسوَادِ @@ فقال : " مُعيَّنٌ " مراعاة للهاء في " كَأنَّه " وكان الفصيحُ أن يقول : " مُعيَّنانِ " مراعاة لحاجبيه الذي هو البدل . فصل { تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } ، أي تطلب مجالسة الأغنياء ، والأشراف ، وصحبة أهل الدنيا ، ولما جاء أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين ، نهاه عن الالتفات إلى قول الأغنياء والمتكبرين ، فقال : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } يعني عيينة بن حصين ، وقيل : أميَّة بن خلف ، { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } في طلب الشَّهوات { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } قال قتادة ومجاهد : ضياعاً . وقيل : ندماً ، وقال مقاتلٌ : سرفاً . وقال الفراء : متروكاً . وقيل : باطلاً . وقال الأخفش : مجاوزاً للحدِّ . قوله : " أغْفَلنَا قَلبَهُ " العامة على إسناد الفعل لـ " نا " و " قلبهُ " مفعول به . وقرأ عمرو بن عبيد ، وعمرو بن فائد ، وموسى الأسواري بفتح اللام ، ورفع " قَلبهُ " أسندوا الإغفال إلى القلب ، وفيه أوجهٌ ، قال ابن جنِّي : من ظنَّنا غافلين عنه . وقال الزمخشريُّ : " من حَسِبنَا قلبُه غافلينَ ، من أغفلته ، إذا وجدته غافلاً " . وقال أبو البقاء : فيه وجهان : أحدهما : وجدنا قلبه معرضين عنه . والثاني : أهمل أمرنا عن تذكُّرنا . قوله : " فرطاً " يحتمل أن يكون وصفاً على " فعلٍ " كقولهم : " فَرسٌ فرط " ، أي : متقدِّمٌ على الخيل ، وكذلك هذا ، أي : متقدِّماً للحقِّ ، وأن يكون مصدراً بمعنى التفريط ، أو الإفراط ، قال ابن عطيَّة : الفرط : يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتَّضييع ، أي : أمرهُ الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف . قال الليث : الفرط : الأمرُ الذي يفرط فيه ، يقال : كلُّ أمر فلانٍ فرطٌ ، وأنشد : [ الهزج ] @ 3511ب - لَقدْ كَلَّفْتنِي شَطَطَا وأمْراً خائباً فُرُطا @@ فصل دلَّت هذه الآية على أنَّه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهَّال . قالت المعتزلة : المراد بقوله : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } : وجدنا قلبه غافلاً ، وليس المراد منه : خلق الغفلة . ويدلُّ عليه ما روي عن عمرو بن معدي كرب الزبيديِّ أنَّه قال لبني سليم : " قَاتَلنَاكُمْ فَما أجَبْنَاكُمْ ، وسَألناكُمْ فَما أبْخَلْناكُمْ ، وهَجرْنَاكُمْ فمَا أفْحَمناكُمْ " أي ما وجدناكم جبناء ، ولا بخلاء ، ولا مفحمين . وحمل اللفظ على هذا المعنى أولى ؛ لوجوه : الأول : لو كان كذلك ، لما استحقُّوا الذمَّ . الثاني : أنه قال بعد هذه الآية { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه ، لما صحَّ ذلك . الثالث : أنه لو خلق الغفلة في قلبه ، لوجب أن يقال : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، فاتبع هواهُ ؛ لأن على هذا التقدير : يكون ذلك من أفعالِ المطاوعة ، وهي إنما تعطف بالفاءِ ، لا بالواو ، يقال : كسرتهُ ، فانكسر ، ودفعته فاندفع ، ولا يقال : وانكسر ، واندفع . الرابع : قوله : { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } فلو أغفل قلبهم في الحقيقة ، لم يجز أن يضاف ذلك إلى { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } . والجواب عن الأول من وجهين : الأول : أن الاشتراك خلاف الأصل ، فوجب أن يكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر ، وجعله حقيقة في التكوين ، مجازاً في الوجدان أولى من العكس ؛ لوجوه : أحدها : مجيءُ بناءِ الأفعال بمعنى التَّكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان ، والكثرة دليلٌ على الرُّجحان . وثانيها : أن مبادرة الفهم من هذا البناءِ إلى التَّكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ، ومبادرة الفهم دليل الرجحان . وثالثها : إنَّ جَعْلَنا إيَّاه حقيقة في التكوين أمكن من جعله مجازاً عن الوجدان ؛ لأنَّ العلم بالشيء تابعٌ لحصول المعلوم ، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوعِ مجازاً في التَّبع موافقٌ للمعقول ، أمَّا لو جعلناه حقيقة في الوجدان ، مجازاً في الإيجاد ، لزم جعله حقيقة في التَّبع مجازاً في الأصل ، وهو عكسُ المعقول . والوجه الثاني من الجواب : سلَّمنا كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان ، إلاَّ أنَّا نقول : يجب حمل قوله : " أغْفَلْنَا " على إيجاد الغفلة ؛ لأنَّ الدليل دلَّ على أنَّه يمتنع كون العبدُ موجداً للغفلة في نفسه ؛ لأنَّه إذا حاول إيجاد الغفلة ، فإمَّا أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة ، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معيَّن ، والأول باطلٌ ، وإلاَّ لم يكن حصول الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن يحصل له الغفلة عن شيءٍ آخر ؛ لأنَّ الطبيعة المشتركة فيها بين الأنواعِ الكثيرةِ تكون نسبتها إلى كلِّ تلك [ الأنواع ] على السويَّة . والثاني أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ الغفلة عبارةٌ عن غفلة لا تمتاز عن سائر الأقسام ، إلاَّ بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعيَّن بعينه ، فعلى هذا : لا يمكن أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا ، إلاَّ إذا تصوَّر العلم أن كون تلك الغفلة غفلة عن كذا ، ولا يمكنه أن يتصوَّر تلك الغفلة غفلة عن كذا إلاَّ إذا تصوَّر كذا ؛ لأنَّ العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروطٌ بتصوُّر كلِّ واحد من المنتسبين ؛ فثبت أنَّه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة ، إلاَّ عند الشعور بكذا ، لكن الغفلة عن كذا ضدُّ الشعور بكذا ؛ فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلاَّ عند اجتماع الضدين ، وذلك محالٌ ، والموقوف على المحال محالٌ ، فثبت أنَّ العبد غير قادرٍ على إيجاد الغفلة ؛ فوجب أن يكون خالقُ الغفلة وموجدها في العباد هو الله تعالى ، وأما المدحُ والذمُّ فمعارضٌ بالعلم والدَّاعي ، وقد تقدَّم . وأما قوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] فسيأتي الكلام عليه ، إن شاء الله تعالى . وأما قولهم : لو كان المراد إيجاد الغفلة ، لوجب ذكر الفاء ، فهذا إنَّما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتِّباع الشَّهوة والهوى ، كما أن الكسر من لوازمه حصول الانكسار ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنَّه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى ؛ لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله ، ولا يتَّبع الهوى ، بل يبقى متوقِّفاً حيراناً مدهوشاً خائفاً . وذكر القفَّال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً : أحدها : أنه تعالى ، لما صبَّ عليهم الدنيا صبًّا ، وأدَّى ذلك إلى حصول الغفلة في قلوبهم ، صحَّ أن يقال : إنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم ، كقوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] . وثانيها : أن معنى { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي : تركناه ، فلم نسمهُ بسمةِ أهل الطَّهارة والتقوى . وثالثها : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي خلاَّه مع الشيطان ، ولم يمنعه منه . والجواب عن الأول : أنَّ فتح أبواب لذَّات الدنيا عليه ، هل يؤثِّر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر ؟ فإن أثر ، كان أثر إيصال اللذَّات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه ، وذلك عينُ القول بأنه فعل الله ، أي : فعل ما يوجب الغفلة في قلبه ، وإن لم يؤثِّر في حصول الغفلة ، فبطل إسناده إليه ، وعلى الثاني وهو أنَّه بمعنى تركناه فهو لا يفيدُ إلاَّ ما ذكرناه . وعن الثالث : إن كانت للتَّخلية ؛ بمعنى حصول تلك الغفلة ، فهو قولنا ، وإلاَّ بطل إسناد تلك الغفلة إلى الله تعالى . قوله تعالى : { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } الآية . في تقرير النَّظم وجوهٌ : الأول : أنه تعالى ، لمَّا أمر رسوله ألا يلتفت إلى قول الأغنياء ، قال : { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } الآية أي : قل لهؤلاء : هذا الدِّين الحق من عند الله تعالى ، فإن قبلتموه ، عاد النَّفع عليكم ، وإن لم تقبلوهُ ، عاد الضَّرر إليكم ، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى . والثاني : أنَّ المراد أنَّ الحقَّ ما جاء من عند الله ، والحقَّ الذي جاءنا من عنده أن أصير نفسي مع هؤلاء الفقراء ، ولا أطردهم ، ولا ألتفت إلى الرؤساء ، [ ولا أنظر إلى ] أهل الدنيا . والثالث : أن يكون المراد هو أنَّ الحقَّ الذي جاء من عند الله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وأنَّ الله تعالى لم يأذن في طرد أحدٍ ممَّن آمن وعمل صالحاً ؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار . فإن قيل : أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهمِّ ، وطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلاَّ سقوط حرمتهم ، وهذا ضررٌ قليلٌ . وأما عدم طردهم ، فإنَّه يوجبُ بقاء الكفَّار [ على الكفر وهذا ضررٌ عظيمٌ ؟ . فالجواب : سلَّمنا أنَّ عدم طردهم يوجبُ بقاء الكفَّار على الكفر ] ، لكن من ترك الإيمان ؛ حذراً من مجالسة الفقراء ، فإنَّ إيمانهُ ليس بإيمان ، بل هو نفاقٌ ؛ فيجب على العاقل ألاَّ يلتفت إلى من هذا حاله . الرابع : قل يا محمد للَّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : يا أيُّها الناس ، من ربكم الحقُّ ، وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضَّلال ، ليس إليَّ من ذلك شيءٌ ، وقد بعثتُ إلى الفقراءِ والأغنياء { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وهذا على طريق التهديد والوعيد ، كقوله { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُم } [ فصلت : 40 ] والمعنى : لست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم ، فآمنوا ، وإن شئتم ، فاكفروا . قال ابن عبَّاس : معنى الآية : من شاء الله له الإيمان ، آمن ، ومن شاء له الكفر ، كفر . فصل قالت المعتزلة : هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد . قال ابن الخطيب : وهذه الآية من أقوى الدَّلائلِ على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة ؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ حصول الإيمان ، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر ، وصريح العقل يدلُّ على أنَّ الفعل الاختياريَّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه ، وبدون الاختيار . وإذا عرفت هذا ، فنقول : حصول ذلك القصد والاختيار ، إن كان بقصدٍ آخر يتقدَّمه ، لزم أن يكون كلُّ قصدٍ واختيارٍ مسبوقاً بقصدٍ آخر ، واختيارٍ آخر إلى غير نهاية ، وهو محالٌ ؛ فوجب انتهاء ذلك القصد والاختيار إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة ، وعند حصول ذلك القصد الضروريِّ ، والاختيار الضروريِّ ، يجب الفعل ؛ فالإنسان شاء أو لم يشأ ، فإنه تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعاصي ، وإذا حصلت تلك المشيئةُ الجازمةُ ، فشاء أو لم يشأ ، يجب حصول الفعل ، فالإنسان مضطرٌّ في صورة مختار . فصل دلَّت الآية على أنَّ صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والدَّاعي محالٌ ، وعلى أنَّ صيغة الأمر لا لمعنى الطَّلب في كتاب الله كثيرةٌ . قال عليٌّ - رضي الله عنه - : هذه الصيغة تهديدٌ ووعيدٌ ، وليست تخييراً . ودلَّت أيضاً على أنَّه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ، ولا يتضرر بكفر الكافرين ، بل نفع الإيمان يعود عليهم ، وضرر الكفر يعود عليهم ؛ لقوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] . قوله : { وَقُلِ ٱلْحَقُّ } : يجوز فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه خبر لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هذا ، [ أي ] القرآن ، أو ما سمعتم الحقُّ . الثاني : أنه فاعل بفعلٍ مقدرٍ ، دلَّ عليه السياقُ ، أي : جاء الحق ، كما صرَّح به في موضع آخر [ في الآية 81 من الإسراء ] ، إلاَّ أنَّ الفعل لا يضمر إلاَّ في مواضع تقدَّم التنبيه عليها ، منها : أن يجاب به استفهام ، أو يردَّ به نفي ، أو يقع بعد فعلٍ مبني للمفعول ، لا يصلح إسناده لما بعده ؛ كقراءة : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ النور : 36 ] كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى . الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره الجار بعده . وقرأ أبو السمال قعنب : " وقُلُ الحقَّ " بضم اللام ؛ حيث وقع ، كأنه إتباعٌ لحركة القاف ، وقرأ أيضاً بنصب " الحقَّ " قال صاحب " اللَّوامح " : " هو على صفة المصدر المقدَّر ؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على مصدره ، وإن لم يذكر ، فينصبه معرفة ، كما ينصبه نكرة ، وتقديره : وقل القول الحقَّ ، وتعلق " مِنْ " بمضمرٍ على ذلك ، أي : جاء من ربكم " انتهى . وقرأ الحسن والثقفي بكسر لامي الأمر ، في قوله : " فليُؤمِنْ " و " فَليَكْفُرْ " وهو الأصل . قوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن } يجوز في " مَنْ " أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء لشبهه بالشرط ، وفاعل " شَاءَ " : الظاهر أنه ضمير يعود على " مَنْ " وقيل : ضمير يعود على الله ، وبه فسَّر ابن عباس ، والجمهور على خلافه . قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } أعددنا وهيَّأنا ، من العتاد ، ومن العدَّة { لِلظَّالِمِينَ } للكافرين ، أي : لمن ظلم نفسه ، ووضع العبادة في غير موضعها . واعلم أنَّه تعالى ، لمَّا وصف الكفر والإيمان ، والباطل والحق ، أتبعه بذكر الوعيد على الكفر ، وبذكر الوعد على الإيمان ، و العمل الصَّالح . قوله : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } في محل نصبٍ ، صفة لـ " ناراً " والسُّرادِقُ : قيل : ما أحاط بشيءٍ ، كالمضرب والخباءِ ، وقيل للحائط المشتمل على شيء : سُرادق ، قاله الهوريّ ، وقيل : هو الحجرة تكون حول الفسطاطِ ، وقيل : هو ما يمدُّ على صحنِ الدار ، وقيل : كل بيتٍ من كرسفٍ ، فهو سرادق ، قال رؤبة : [ الرجز - السريع ] @ 3512 - يَا حكمُ بْنَ المُنذِرِ بْنِ الجَارُودْ سُرَادِقُ المَجْدِ عَليْكَ مَمدُودْ @@ ويقال : بيت مسردقٌ ، قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3513 - هو المُدخِلُ النُّعْمانَ بيْتاً سَماؤهُ صُدورُ الفُيولِ بعد بيتٍ مُسرْدَقِ @@ وكان أبرويز ملك الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أرجُلِ الفيلةِ ، والفيول : جمع فيلٍ ، وقيل : السُّرادقُ : الدِّهليزُ ، قال الفرزدق : [ الطويل ] @ 3514 - تَمنَّيْتهُمْ حتَّى إذا مَا لَقِيتَهُم تَركْتَ لَهُم قَبْلَ الضِّرابِ السُّرادِقَا @@ والسُّرادِقُ : فارسي معرب ، أصله : سرادة ، قاله الجواليقيُّ ، وقال الراغب : " السُّرادِقُ فارسيٌّ معربٌ ، وليس في كلامهم اسم مفرد ، ثالث حروفه ألفٌ بعدها حرفان " . فصل أثبت تعالى للنَّار شيئاً شبيهاً بالسرادقِ تحيط بهم من سائرِ الجهاتِ ، والمراد : أنهم لا مخلص لهم فيها ، ولا فُرجة ، بل هي محيطة بهم من كلِّ الجوانب . وقيل : المراد بهذا السُّرادق الدخان الذي وصفه الله تعالى في قوله : { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } [ المرسلات : 30 ] . وقالوا : هذه الإحاطة بهم إنَّما تكون قبل دخولهم ، فيحيط بهم هذا الدخان كالسرادق حول الفسطاط . وروى أبو سعيد الخدريُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سُرادِقُ النَّارِ أربعةُ جُدرٍ ، كِثفُ كلِّ جدارٍ مَسِيرةُ أرْبعِينَ سنةً " . وقال ابن عبَّاس : السُّرادِقُ حائط . قوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } ، أي : يطلبوا الغوث ، والياء عن واوٍ ؛ إذ الأصل : يستغوثوا ، فقلبت الواو ياء كما تقدم في قوله : { نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 2 ] وهذا الكلام من المشاكلة والتَّجانس ، وإلاَّ فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك ؟ أو من باب التهكُّم ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3515 - … تَحِيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ @@ وهو كثيرٌ . وقوله : " كالمُهْل " صفة لـ " ماء " والمهلُ : دُرْدِيُّ الزيت ، وقيل : ما أذيب من الجواهر كالنحاس والرصاص والذهب والفضة . وعن ابن مسعود أنَّه دخل بيت المال ، وأخرج ذهباً وفضة كانت فيه ، وأوقد عليها ، حتَّى تلألأتْ ، وقال : هذا هو المهل . وقيل : هو الصَّديد والقيح . وقيل : ضرب من القطران ، والمَهَل بفتحتين : التُّؤدَةُ والوَقارُ ، قال : { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ } [ الطارق : 17 ] . قوله : " يَشوي الوجوه " يجوز أن تكون الجملة صفة ثانية ، وأن تكون حالاً من " ماء " لأنه تخصَّص [ بالوصف ] ، ويجوز أن تكون حالاً من الجارِّ ، وهو الكاف . والشَّيءُ : الإنضاجُ بالنار من غير مرقةٍ ، تكون مع ذلك الشيء المشويِّ . فصل روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بِماءِ كالمُهْلِ " قال : كعكر الزَّيت ، فإذا قرِّب إليه ، سقطت فروة وجهه فيه . وسئل ابن مسعود عن المهل ، فدعا بذهب وفضة ، فأوقد عليهما النَّار ، حتَّى ذابا ، ثم قال : هذا أشبه شيءٍ بالمهل . قيل : إذا طلبوا ماء للشُّرب ، فيعطون هذا المهل . قال تعالى : { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً تُسْقَىٰ مِن عَيْنٍ ءَانِيَةٍ } [ الغاشية : 4 ، 5 ] . وقيل : إنَّهم يستغيثون من حرِّ جهنَّم ، فيطلبون ما ء يصبونه على وجوههم للتبريد ، فيعطون هذا الماء ؛ كما حكى عنهم قولهم : { أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ } [ الأعراف : 50 ] . قوله : { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ } المخصوص محذوف ، تقديره : هو ، أي : ذلك الماء المستغاث به . قوله : { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } " ساءت " هنا متصرفة على بابها ، وفاعلها ضمير النار ، ومرتفقاً تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ، أي : ساء ، وقبح مرتفقها . والمُرتَفقُ : المُتَّكأ ومنه سمي المرفق مرفقاً ؛ لأنه يتكأ عليه ، وقيل : المنزل قاله ابن عبَّاس . وقال مجاهد : مجتمعاً للرُّفقة ؛ لأنَّ أهل النَّار يجتمعون رفقاء ، كما يجتمع أهل الجنَّة رفقاء . فأمَّا رفقاء أهل الجنَّة ، فهم الأنبياءُ والصِّديقُون والشُّهداء والصالحون { وَحَسُنَ أُوْلَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] . وأما رفقاء النَّار ، فهم الكفَّار والشَّياطين ، أي : بئسَ الرفقاءُ هؤلاءِ ، وبئس موضعُ الترافق النَّار ، كما أنه نعم الرفقاءُ أهل الجنَّة ، ونعم موضع الرفقاء الجنَّة ، قاله ابن عباس وقيل : هو مصدر بمعنى الارتفاق ، وقيل : هو من باب المقابلة أيضاً ؛ كقوله في وصف الجنة بعد : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] ، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار ؟ قال الزمخشري : إلا أن يكون من قوله : [ البسيط ] @ 3516 - إنِّي أرِقْتُ فَبِتُّ اللَّيْلَ مُرتفِقاً كَأنَّ عينيَّ فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ @@ فهو يعني من باب التَّهكُّم .