Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 59-82)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ } أي قرى الأوَّلين : قوم نوح وعاد وغيرهم ، وتلك مبتدأ ، والقرى خبره . و " أهْلكْنَاهُمْ " حينئذ : إمَّا خبر ثانٍ ، أو حال ، ويجوز أن تكون " تِلْكَ " مبتدأ ، و " القرى " صفتها لأنَّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجنس أو بيان لها ، أو بدلٌ منها ، و " أهْلَكنَاهَا " الخبر ، ويجوز أن يكون " تِلْكَ " منصوب المحلِّ بفعلٍ مقدَّر على الاشتغال . والإضمار في " أهْلَكنَاهُمْ " عائد على " أهْل " المضاف إلى القرى ، إذ التقدير : وأهل تلك القرى ، فراعى المحذوف ، فأعاد عليه الضمير ، وتقدَّم ذلك في أول الأعراف [ الآية : 4 ] . و " لمَّا ظلموا " يجوز أن يكون حرفاً ، وأن يكون ظرفاً ، وقد تقدَّم . قوله : " وجعلنا لمهلكهم موعداً " قرأ عاصم " مَهْلَك " بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وحفص بكسر اللام ، والباقون بفتحها ، فتحصَّل من ذلك ثلاث قراءاتٍ ، لعاصم قراءتان ؛ فتح الميم مع فتح اللام ، وهي رواية أبي بكرٍ عنه ، والثانية فتح الميم ، مع كسر اللام ، وهي رواية حفص عنه ، والثالثة : ضم الميم ، وفتح اللام ، وهي قراءة الباقين . وأمَّا قراءة أبي بكرٍ ، فـ " مَهْلَك " فيها مصدرٌ مضاف لفاعله ، وجوَّز أبو عليٍّ أن يكون مضافاً لمفعوله ، وقال : إنَّ " هَلَكَ " يتعدَّى دون همز ، وأنشد : [ الرجز ] @ 2542 - ومَهْمَهٍ هَالكِ مَنْ تعرَّجا @@ فـ " مَنْ " معمول لـ " هالكٍ " وقد منع النَّاسُ ذلك ، وقالوا : لا دليلَ في البيت ؛ لجواز أن يكون ذلك من باب الصفةِ المشبهة ، والأصل : هالك من تعرَّجا . فـ " مَنْ تعرَّج " فاعل الهالك ، ثم أضمر في " هَالِك " ضمير " مهمه " ونصب " من تعرَّج " نصب " الوجه " في قولك : " مررتُ برجلٍ حسنٍ الوجهَ " ثم أضاف الصفة ، وهي " هَالِك " إلى معمولها ، فالإضافة من نصبٍ ، والنصب من رفعٍ ، فهو كقولك : " زيدٌ منطلقُ اللسان ، ومنبسطُ الكفِّ " ولولا تقدير النصبِ ، لامتنعتِ الإضافة ؛ إذ اسم الفاعل لا يضاف إلى مرفوعه ، وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير النصب ؛ إذ هذا جارٍ مجرى الصفة المشبهة ، والصفة المشبهة تضاف إلى مرفوعها ، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر ، وهو : هل يفع الموصول في باب الصفة أم لا ؟ والصحيح جوازه ، قال الشاعر : [ البسيط ] @ 3543 - فَعُجْتُهَا قِبلَ الأخْيار مَنْزلةً والطَّيبِي كُلِّ ما التَاثَتْ به الأزُرُ @@ وقال الهذليُّ : [ الطويل ] @ 3544 - أسِيلاتُ أبْدانٍ دِقَاقٌ خُصورُهَا وثِيرَاتُ ما التفَّت عليها المَلاحِفُ @@ وقال أبو حيَّان في قراءة أبي بكرٍ هذه : " إنَّه زمانٌ " ولم يذكر غيره ، وجوَّز غيره فيه الزمان و المصدر ، وهو عجيبٌ ؛ فإنَّ الفعل متى كسرت عينُ مضارعه ، فتحت في المفعل مراداً به المصدر ، وكسرت فيه مراداً به الزمان والمكان ، وكأنَّه اشتبهت عليه بقراءة حفص ؛ فإنَّه بكسر اللام ، كما تقدَّم ، فالمفعل منه للزَّمان والمكان . وجوَّز أبو البقاء في قراءته أن يكون المفعل فيها مصدراً ، قال : " وشذَّ فيه الكسر كالمرجع " وإذا قلنا : إنَّه مصدر ، فهل هو مضافٌ لفاعله ، أو مفعوله ؟ يجيء ما تقدَّم في قراءة رفيقه ، وتخريجُ أبي عليٍّ ، واستشهاده بالبيت ، والردُّ عليه ، كل ذلك عائد هنا . وأمَّا قراءة الباقين ، فواضحةٌ ، و " مُهْلكٌ " فيها يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله أي لإهلاكهم ، وأن يكون زماناً ، ويبعد أن يراد به المفعول ، أي : وجعلنا للشخصِ ، أو للفريقِ المهلكِ منهم . والمَوْعِدُ : مصدر ، أو زمان . قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ } الآية : " إذْ " منصوب بـ " اذْكُرْ " أو وقت قال لفتاه : جرى ما قصصنا عليك من خبره . قال عامة أهل العلم : إنَّه موسى بن عمران . وقال بعضهم : إنَّه موسى بن ميشا من أولاد يوسف ، والأول أصحُّ ، لما روى عمرو بن دينارٍ ، قال : أخبرني سعيد بن جبيرٍ ، قال : قلت لابن عبَّاسٍ : إنَّ نوفاً البكاليَّ يزعم أنَّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عبَّاس : كذب عدوُّ الله ، حدَّثنا أبيّ بن كعبٍ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ موسى قَامَ خطيباً في بني إسرائيل ، فسُئِلَ : أيُّ النَّاس أعلمُ ؟ فقال : أنَا ، فَعَتبَ الله عليه ؛ إذْ لم يردَّ العِلْمَ إليه ، فأوحَى إليه : إنَّ لِي عَبْداً بمَجْمَعِ البَحْرينِ ، هو أعلم منك ، فقال موسى : يا ربِّ ، فكيف لي به ؟ قال : تأخذُ معك حوتاً ، فتجعلهُ في مكتلٍ ، فحيثما فقدتَّ الحوت ، فهو ثمَّ ؛ فأخذ حوتاً ، فجعلهُ في مكتلٍ ، ثمَّ انطلق ، وانطلق معه فتاهُ يُوشعُ بن نونٍ ، حتَّى أتيا الصَّخرةَ ، ووضعَا رُءُوسَهُمَا ، فنَامَا ، واضطرب الحُوتُ في المكْتَلِ ، فخرج منهُ ، فسَقطَ في البَحْرِ ، فاتَّخذَ سَبيلهُ في البَحْرِ سَرَباً ، وأمْسَكَ الله عن الحُوت جَرية الماءِ ، فصَارَ عَليْهِ كالطَّاقِ ، فلمَّا اسْتيقظَ ، نَسِيَ صَاحبهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ ، فانْطلقَا بقيَّة يَوْمهِمَا وليْلتِهمَا ، حتَّى إذا كان من الغَداةِ ، قَالَ مُوسَى لفتاهُ : آتِنَا غَداءَنَا ، لقَدْ لقينا من سَفرنَا هذا نصباً ، قال : ولمْ يَجِدْ مُوسى النَّصب ، حتَّى جَاوزَ المكان الذي أمرهُ الله تعالى ، فقال له فتاهُ : أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخرةِ ، فإنِّي نَسيتُ الحُوتَ ومَا أنْسانيه إلاَّ الشَّيطانُ أنْ أذكرهُ ، واتَّخذَ سبيلهُ في البحر عجباً ، قال : وكَانَ للحُوتِ سرباً ولمُوسَى وفتاهُ عجباً ، قال موسى : ذلكَ ما كُنَّا نبغي فَارتدّا على آثارهما قصصاً ، رجعا يقُصَّانِ آثارهما ، حتى [ انتهيا ] إلى الصَّخرة ، فإذا رجلٌ مُسَجَّى ثوباً ، فسلَّم عليه مُوسى ، فقال الخَضِرُ : وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ ؟ فقال : أنَا مُوسَى ، قال : مُوسى بني إسرائيل ؟ قال : نَعمْ ، أتَيْتُك ، لتُعَلِّمَنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً [ وذكر باقي ] القصة " . واعلم أنَّه كان ليوسف - عليه السلام - ولدان : أفرائيم وميشا ، فولد أفرائيم نون وولد نون يوشع بن نون ، وهو فتى موسى ، ووليُّ عهده بعد وفاته ، وأما ولد ميشا ، فقيل : إنه جاءته النُّبوَّة قبل موسى بن عمران ، وأهل التَّوراة يزعمون أنَّهُ هو الذي طلب هذا العالم ليتعلَّم منه ، وهو العالمُ الذي خرق السَّفينة ، وقتل الغلام ، وبنى الجدار ، وموسى بن ميشا معه ، هذا قول جمهور اليهود . واحتجَّ القفال على صحَّة قول الجمهور بأنه موسى صاحب التَّوراة ، قال : إنَّ الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلاَّ وأراد به موسى صاحب التوراة ، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ، ولو كان المراد شحصاً آخر يسمَّى موسى غيره ، لعرّفه بصفةٍ تميِّزه وتزيل الشبهة كما أنَّه لما كان المشهور في العرف أنَّ أبا حنيفة هو الرجل المفتي ، فلو ذكرنا هذا الاسم ، وأردنا به غيره ، لقيَّدناهُ ، كما نقول : أبو حنيفة الدِّينوريُّ . فصل في حجة القائلين بأنه موسى بن ميشا واحتج القائلون بأنَّ موسى بن ميشا بأنَّ الله تعالى بعد أن أنزل عليه التوراة ، وكلَّمه بلا واسطة ، وخصَّه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتَّفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التَّعليمِ والاستفادة . [ فالجواب ] عنه : بأنَّه ليس ببعيدٍ أن يكون العالم العامل الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء ؛ فيحتاج إلى تعلُّمها إلى من هو دونه ، وهو أمرٌ متعارفٌ . فصل في اختلافهم في فتى موسى واختلفوا في فتى موسى ، فالصحيح أنه يوشعُ بن نونٍ ؛ كما روي في الحديث المتقدِّم ، وقيل : كان أخا يوشع . وروى عمرو بن عبيدٍ عن الحسن أنَّه عبدٌ لموسى . قال القفَّال والكعبي : يحتمل ذلك . قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا يقُولنَّ أحَدُكمْ : عَبْدِي وأمَتِي ، وليقُلْ : فَتَايَ وفَتَاتِي " . وهذا يدلُّ على أنهم كانوا يسمُّون العبد فتًى ، والأمة فتاةً . قوله : " لا أبْرَحُ " يجوز فيها وجهان : أحدهما : أن تكون ناقصة ، فتحتاج إلى خبر . والثاني : أن تكون تامة ، فلا تحتاج إليه ، فإن كانت الناقصة ، ففيها تخريجان : أحدهما : أن يكون الخبر محذوفاً ؛ للدلالة عليه تقديره : لا أبرح أسيرُ حتَّى أبلغ ، إلاَّ أن حذف الخبر في هذا الباب نصَّ بعض النحويِّين على أنه لا يجوز ولو بدليلٍ ، إلا في ضرورة ؛ كقوله : [ الكامل ] @ 3545 - لَهفِي عَليْكَ للَهْفةٍ مِنْ خَائفٍ يَبْغِي جِوارَكَ حِينَ ليْسَ مُجِيرُ @@ أي : حين ليس في الدنيا مجيرٌ . والثاني : أنَّ في الكلام حذف مضافٍ ، تقديره : لا يبرحُ مسيري ، حتَّى أبلغ ، ثم حذف " مسير " وأقيمت الياء مقامه ، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحلِّ بارزة ، وبقي " حتَّى أبلغ " على حاله هو الخبر . وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين ، فجعلهما وجهاً واحداً ، ولكن في عبارة حسنة جدًّا ، فقال : " فإن قلت : " لا أبْرَحُ " إن كان بمعنى " لا أزولُ " من برح المكان ، فقد دلَّ على الإقامةِ ، لا على السَّفر ، وإن كان بمعنى " لا أزَالُ " فلا بدَّ من خبر ، قلت : هي بمعنى " لا أزَالُ " وقد حذف الخبر ؛ لأنَّ الحال والكلام معاً يدلان عليه ؛ أمَّا الحال ، فلأنها كانت حال سفرٍ ، وأمَّا الكلام ، فلأن قوله " حتَّى أبلغ " غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلا بدَّ أن يكون المعنى : لا أبرحُ أسير حتَّى أبلغَ ، ووجه آخرُ : وهو أن يكون المعنى : لا يبرحُ مسيري ، حتَّى أبلغ على أنَّ " حتَّى أبلغَ " هو الخبر ، فلمَّا حذف المضافُ ، أقيم المضافُ إليه مقامهُ ، وهو ضمير المتكلِّم ، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلِّم ، وهو وجهٌ لطيفٌ " . قال شهاب الدين : وهذا على حسنه فيه نظرٌ لا يخفى ، وهو : خلوُّ الجملة الواقعة خبراً عن " مسيري " في الأصل من رابطٍ يربطها به ؛ ألا ترى أنه ليس في قوله " حتَّى أبلغ " ضمير يعود على " مسيري " إنما يعود على المضاف إليه المستتر ، ومثل ذلك لا يكتفى به . ويمكن أن يجاب عنه : بأن العائد محذوفٌ ، تقديره : حتى أبلغ به ، أي : بمسيري . وإن كانت التامة ، كان المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى : ألزمُ المسير والطَّلبَ ، ولا أفارقه ، ولا أتركه ؛ حتَّى أبلغ ؛ كما تقول : لا أبرح المكان ، فعلى هذا : يحتاجُ أيضاً إلى حذف مفعول به ، كما تقدَّم تقريره فالحذف لا بدَّ منه على تقديري التَّمامِ والنقصان [ في أحد وجهي النقصان ] . وقرأ العامة " مجمع " بفتح الميم ، وهو مكان الاجتماع ، وقيل : مصدر ، وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسارٍ بكسرها ، وهو شاذٌّ ؛ لفتح عين مضارعة . قوله : " حُقُباً " منصوبٌ على الظرف ، وهو بمعنى الدَّهر . وقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سنةٌ واحدةٌ بلغة قريش ، وقيل : سبعون ، وقرأ الحسن : " حُقْباً " بإسكان القاف ، فيجوز أن يكون تخفيفاً ، وأن يكون لغة مستقلة ، ويجمع على " أحقابٍ " كعنقٍ وأعناقٍ ، وفي معناه : الحقبةُ بالكسر ، قال امرؤُ القيس : @ 3546 - فَإن تَنْأ عَنْهَا حِقبَةً لا تُلاقِهَا فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجرِّبِ @@ والحقبة بالضمِّ أيضاً ، وتجمع الأولى على حقبٍ ، بكسر الحاء كقربٍ ، والثانية على حقبٍ ، بضمِّها ؛ كقربٍ . فإن قيل قوله : " أوْ أمْضِيَ " فيه وجهان : أظهرهما : أنه منسوق على " أبْلُغَ " يعني بأحد أمرين : إمَّا ببلوغه المجمع ، أو بمضيِّه حقباً . والثاني : أنه تغييةٌ لقوله " لا أبْرَحُ " فيكون منصوباً بإضمار " أنْ " بعد " أو " بمعنى " إلى " نحو " لألزَمنَّكَ أو تَقضِيَنِي حقِّي " . فالجواب قال أبو حيان : " فالمعنى : لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين ، إلى أن أمضي زماناً ، أتيقَّنُ معه فوات مجمع البحرين " قال شهاب الدين : فيكون الفعل المنفيُّ قد غيِّي بغايتين مكاناً وزماناً ؛ فلا بدَّ من حصولهما معاً ، نحو : " لأسيرنَّ إلى بيتك إلى الظَّهر " فلا بدَّ من حصولِ الغايتين ؛ والمعنى الذي ذكره الشيخ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّن فيه فوات مجمع البحرين . وجعل أبو البقاء " أو " هنا بمعنى " إلاَّ " في أحد الوجهين : قال : " والثاني : أنها بمعنى : إلاَّ أن أمضي زماناً ؛ أتيقَّن معه فوات مجمع البحرين " وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنى صحيحٌ ، فأخذ الشيخ هذا المعنى ، ركَّبهُ مع القول بأنَّها بمعنى " إلى " المقتضيةِ للغاية ، فمن ثمَّ جاء الإشكالُ . فصل في المراد بمجمع البحرين قوله : " مجمعُ البَحريْنِ " ؛ الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر - عليه السلام - : هو ملتقى بحرين فارس والرُّوم ممَّا يلي المشرق ، قاله قتادة ، [ وقال محمد بن كعب : طنجة ] وقال أبي بن كعبٍ : إفريقيَّة . وقيل : البحران موسى والخضر ؛ لأنَّهما كانا بحري علمٍ . وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين ؛ فإن صحَّ بالخبر الصحيح شيء فذاك ، وإلاَّ فالأولى السُّكوت عنه . ثم قال : " أوْ أمضيَ حُقباً " : أو أسير زماناً طويلاً . واعلم أنَّ الله تعالى كان أعلم موسى حال هذا العالم ، وما أعلمه بموضعه بعينه ، فقال موسى : لا أزالُ أمشي ؛ حتَّى يجتمع البحرانِ ، فيصيرا بحراً واحداً ، أو أمضي دهراً طويلاً ؛ حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبارٌ من موسى أنَّه وطن نفسه على تحمُّل التَّعب الشَّديد ، والعناء العظيم في السَّفر ؛ لأجل طلب العلم ، وذلك تنبيهٌ على أنَّ المتعلِّم ، لو سار من المشرق إلى المغرب ؛ لأجل مسألة واحدة ، حقَّ له ذلك . ثم قال : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } . أي : انطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما ، والضمير في قوله : " بينهما " إلى ماذا يعود ؟ . فقيل : لمجمع البحرين . وقيل : بلغا الموضع الذي وقع فيه نسيانُ الحوت ، وهذا الموضع الذي كان يسكنه الخضر - عليه السلام - أي : يسكن بقربه ، ولأجل هذا المعنى ، لمَّا رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت ، صار إليه ، وهو معنى حسنٌ ، والمفسِّرون على القول الأوَّل . قوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } : الظاهر نسبةُ النِّسيانِ إلى موسى وفتاه ، يعني نسيا تفقُّد أمره ، فإنه كان علامة لهما على ما يطلبانه ، وقيل : نسيَ موسى أن يأمرهُ بالإتيان به ، ونسي يوشعُ أن يفكِّره بأمره ، وقيل : النَّاسِي يوشع فقط ، وهو على حذف مضاف ، أي : نسي أحدهما ؛ كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] . قوله : " في البَحْرِ سرباً " " سَرَباً " مفعول ثانٍ لـ " اتَّخذَ " و " فِي البَحْرِ " يجوز أن يتعلق بـ " اتَّخذ " وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه محالٌ من المفعول الأول أو الثاني . والهاء في " سبيلهُ " تعود على الحوت ، وكذا المرفوع في " اتَّخذَ " . قوله : { جَاوَزَا } : مفعوله محذوف ، أي : جاوزا الموعد ، وقيل : جاوزا مجمع البحرين . قوله : " هَذَا " إشارة إلى السَّفر الذي وقع بعد تجاوزهما الموعد ، أو مجمع البحرين ، و " نَصباً " هو المفعول بـ " لَقِينَا " والعامة على فتح النون والصاد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما ، وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة ، كذا قال أبو الفضل الرازيُّ في " لَوامحِهِ " . قوله : { أَرَأَيْتَ } : تقدم الكلام عليها مشبعاً في الأنعام ، وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً ، وهو : " أنَّ العرب أخرجتها عن معناها بالكليَّة ، فقالوا : أرَأيْتكَ ، وأرَيْتكَ بحذف الهمزة ، إذا كانت بمعنى : " أخْبِرْنِي " وإذا كانت بمعنى " أبْصَرْتَ " لم تحذف همزتها ، وشذَّت أيضاً ، فألزمها الخطاب على هذا المعنى ، ولا يقال فيها أيضاً : " أرَانِي زيداً عمراً ما صَنعَ " ويقال على معنى " اعْلَمْ " وشذَّت أيضاً ، فأخرجتها عن موضعها بالكليَّة ؛ بدليل دخول الفاء ؛ ألا ترى قوله : { أرَأيْتَ إذ أوينا إلى الصَّخرةِ فإني } فمَا دخلت الفاء إلاَّ وقد أخرجت إلى معنى : " أمَّا " أو " تنبَّه " ، والمعنى : أمَّا إذ أوينا إلى الصَّخرة ، فإنِّي نسيتُ الحوت ، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى " أخبرني " كما قدَّمنا ، وإذا كانت بمعنى " أخبرني " فلا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم [ الجملة ] التي بعدها الاستفهام ، وقد تخرج لمعنى " أمَّا " ويكون أبداً بعدها الشرط ، وظروف الزمان ، فقوله " فإنِّي نسيتُ " معناه : أمَّا إذ أوينا فإنِّي ، أو تنبَّه إذْ أويْنَا ، وليست الفاءُ إلاَّ جواباً لـ " أرَأيْتَ " لأنَّ " إذْ " لا يصحُّ أن يجازى بها إلاَّ مقرونة بـ " ما " بلا خلافٍ " . قال الزمخشري : " أرأيت " بمعنى " أخْبرنِي " فإن قلت : ما وجه التئامِ هذا الكلام ، فإنَّ كلَّ واحد من " أرَأيْتَ " ومن " إذْ أويْنَا " ومن { فإنِّي نسيتُ الحوت } لا متعلق له . قلت : لمَّا طلب موسى الحوت ، ذكر يوشع ما رأى منه ، وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية ، ودهش ، فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك ، كأنه قال : أرأيت ما دهاني ، إذ أوينا إلى الصخرة ، فإنِّي نسيتُ الحوت ، فحذف ذلك . قال أبو حيَّان : وهذان مفقودان في تقدير الزمخشريِّ : " أرَأيْتَ بمعنى أخبرني " يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش من أنَّه لا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه ، ولزومِ الاستفهام الجملة التي بعدها . قال النوويُّ في " التهذيب " يقال : أوى زيدٌ بالقصر : إذا كان فعلاً لازماً ، وآوى غيره بالمدِّ : إذا كان متعدِّياً ، فمن الأول هذه الآية قوله : { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ } [ الكهف : 10 ] . ومن المتعدِّي قوله تعالى : { وَءَاوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ } [ المؤمنون : 50 ] . وقوله : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } [ الضحى : 6 ] . هذا هو الفصيح المشهور ، ويقال في كلِّ واحدٍ بالمدِّ والقصر ، لكن بالقصر في اللازمِ أفصح ، والمدُّ في المتعدِّي أفصحُ وأكثر . قوله : " ومَا أنْسَانيهُ " قرأ حفص بضم الهاء ، وكذا في قوله : " عَلَيْهُ الله " في سورة الفتح [ آية : 10 ] ، قيل : لأنَّ الياء هنا أصلها الفتح ، والهاء بعد الفتحة مضمومة ، فنظر هنا إلى الأصل ، وأمَّا في سورة الفتح ؛ فلأنَّ الياء عارضة ؛ إذ أصلها الألف ، والهاء بعد الألف مضمومة ، فنظر إلى الأصل أيضاً . والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظ ، فإنَّها بعد ياءٍ ساكنة ، وقد جمع حفص في قراءته بين اللغات في هاء الكناية : فإنه ضمَّ الهاء في " أنسانيه " في غير صلة ، ووصلها بياءٍ في قوله : { فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] على ما سيأتي ، إن شاء الله تعالى ، وقرأ كأكثر القراء فيما سوى ذلك . وقرأ الكسائي " أنسانيه " بالإمالة . قوله : " أنْ أذكرهُ " في محلِّ نصبٍ على البدل من هاء " أنسانيه " بدل اشتمال ، أي : أنساني ذكرهُ . وقرأ عبد الله : " أن أذكركه " ، وقرأ أبو حيوة : " واتِّخاذَ سبيلهِ " عطف هذا المصدر على مفعول " أذكرهُ " . قوله : " عَجَباً " فيه أوجهٌ : أحدها : أنه مفعول ثانٍ لـ " اتَّخذَ " و " في البحْرِ " يجوز أن يتعلق بالاتخاذِ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول الأول أو الثاني . وفي فاعل " اتَّخذَ " وجهان : أحدهما : هو الحوتُ ، كما تقدَّم في " اتَّخذ " الأولى . والثاني : هو موسى . الوجه الثاني من وجهي " عَجَباً " أنه مفعول به ، والعامل فيه محذوف ، فقال الزمخشريُّ : " أو قال : عجباً في آخر كلامه تعجباً من حاله ، وقوله : { وما أنسانيه إلاَّ الشيطان } اعتراضٌ بين المعطوف والمعطوف عليه " . فظاهر هذا أنَّه مفعول بـ " قال " ، أي : قال هذا اللفظ ، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى القدر والعلة لوقوع ذلك النسيان . الثالث : أنه مصدر ، والعامل فيه مقدَّر ، تقديره : فتعجَّب من ذلك عجباً . الرابع : أنه نعت لمصدر محذوف ، ناصبه " اتَّخذَ " أي : اتخذ سبيله في البحر اتِّخاذاً عجباً ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة : يكون " في البَحْرِ " مفعولا ثانياً لـ " اتَّخذَ " إن عدَّيناها لمفعولين . فصل دلَّت الرواياتُ على أنَّه تعالى بيَّن لموسى صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا العالم موضعه مجمع البحرين ، إلا أنَّه ما عيَّن موضعاً ، إلا أنَّه جعل انقلاب الحوت حيًّا علامة على مسكنه المعيَّن ، كمن يطلب إنساناً ، فيقال له : إنَّ موضعه محلَّة كذا من كذا ، فإذا انتهيت إلى المحلَّة ، فسل فلاناً عن داره ، فأينما ذهب بك ، فاتبعه ؛ فإنَّك تصل إليه ، فكذا هنا قيل له : إنَّ موضعه مجمع البحرين ، فإذا وصلت إليه ، ورأيت انقلاب الحوت حيًّا وطفر إلى البحر ، فيحتمل أنَّه قيل له : فهناك موضعه ، ويحتمل أنَّه قيل له : فاذهب على موافقة ذلك الحوت ؛ فإنَّك تجدهُ . وإذا عرفت هذا فنقول : إن موسى وفتاه ، لمَّا بلغا مجمع بينهما ، طفرت السَّمكةُ إلى البحر ، وسارت ، وفي كيفيَّة طفرها روايات . فقيل : إن الفتى غسل السَّمكة ، لأنها كانت مملحة ، فطفرت وسارت . وقيل : إنَّ يوشع توضَّأ في ذلك المكان من عينٍ تسمَّى " مَاءَ الحياةِ " لا يصيبُ ذلك الماءُ شيئاً إلاَّ حيي ، فانتضح الماء على الحوت المالح ، فعاش ووثب في الماء . وقيل : انفجر هناك عينٌ من الجنَّة ، ووصلت قطراتٌ من تلك العين إلى السَّمكة ، وهي في المكتل ، فاضطربت ، وعاشت ، فوثبت في البحر . ثم قال تعالى : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي : نسيا كيفيَّة الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، فإن قيل : انقلاب السَّمكة المالحة حيَّة [ حالة ] عجيبة [ فلما ] جعل الله تعالى حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب ، فكيف يعقل حصول النِّسيان في هذا المعنى ؟ . فالجواب أنَّ يوشع كان قد شاهد المعجزات الباهرات من موسى - عليه الصلاة والسلام - كثيراً ، فلم يبق لهذه المعجزات عنده وقعٌ عظيم ، فجاز حصول النِّسيان . وهذا الجواب فيه نظرٌ . قال ابن زيدٍ : أي شيءٍ أعجبُ من حوتٍ يؤكل منه دهراً ، ثم صار حيًّا بعدما أكلَ بعضه . فصل في ذكر جوابٍ آخر لابن الخطيب قال ابن الخطيب : وعندي فيه جوابٌ آخر ، وهو أنَّ موسى - عليه السلام - لما استعظم علم نفسه ، أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروريَّ ؛ تنبيهاً لموسى عليه السلام - على أنَّ العلم لا يحصل ألبتَّة إلا بتعليم الله تعالى ، وحفظه على القلب . وقال البغويُّ : " نَسيَا " تركا " حُوتَهُمَا " ، وإنما كان الحوت مع يوشع ، وهو الذي نسيه ، وأضاف النِّسيان إليهما ؛ لأنهما جميعاً لمَّا تزوَّداه لسفرهما ، كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا ، وحملوا من الزَّاد كذا [ وإنما حملهُ واحد منهم . ثم قال : " واتخذ سبيله في البحر سرباً " قيل : تقديره سرب في البحر سرباً ] إلاَّ أنه أقيم قوله : " فاتّخذ " مقام قوله : " سرباً " ، والسَّرب هو الذهاب ومنه قوله تعالى : { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } [ الرعد : 10 ] . وقيل : إن الله تعالى أمسك الماء عن الجري ، وجعله كالطاق والكوَّة ؛ حتَّى سرب الحوت فيه ، وذلك معجزةٌ لموسى أو الخضر - عليهما السلام - . روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " انجاب الماءُ عن مسلكِ الحوت ، فصار كوَّة ، لم يلتئمْ ، فدخل موسى الكوَّة على إثر الحوت ، فإذا هو بالخضر " . وقوله : { فَلَمَّا جَاوَزَا } أي : موسى وفتاه الموعد المعين ، وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النِّسيان المذكور ، وذهبا كثيراً ، وتعبا ، وجاعا . { قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا } والغداءُ : ما يعدُّ للأكل غدوة ، والعشاء : ما يعدُّ للأكل عشية { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } أي : تعباً وشدَّة ، وذلك أنَّه ألقى على موسى الجوع بعد مجاوزة الصَّخرة ؛ ليتذكَّر الحوت ، ويرجع إلى مطلبه ، فقال له فتاه وتذكَّر : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ } الهمزة في " أرَأيْتَ " همزة الاستفهام ، و " رَأيْتَ " على معناه الأصليِّ ، وجاء الكلام هذا على المتعارفِ بين النَّاس ؛ فإنه إذَا حدث لأحدهم أمرٌ عجيبٌ ، قال لصاحبه : أرأيت ما حدث لي ، كذلك هنا ، كأنه قال : أرأيت ما وقع لي ، إذا أوينا إلى الصَّخرة ، فحذف مفعول " أرَأيْتَ " لأنَّه - أي لأنَّ قوله : " فإنِّي نسيتُ الحوت " - يدل عليه ، أي : فقدته . { وَمَآ أَنسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ } أي أذكر لك أمر الحوت . { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً } ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل ، وصيرورته حيًّا ، وإلقاء نفسه في البحر على غفلةٍ منهما ، ويكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطَّاق والسَّرب ، وقيل : تمّ الكلام عند قوله : { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ } ، ثم قال : " عَجَباً " أي أنَّه يعجب من رؤية تلك العجيبة ، ومن نسيانه لها . وقيل : إنَّ قوله " عَجَباً " حكايةٌ لتعجُّب موسى . ثم قال موسى : { ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي : نطلبه ؛ لأنَّه أمارة الظَّفر بالمطلوب ، وهو لقاء الخضر . قوله : { نَبْغِى } : حذف نافع وأبو عمرو والكسائي ياء " نَبْغِي " وقفاً ، وأثبتوها وصلاً ، وابن كثير أثبتها في الحالين ، والباقون حذفوها في الحالين ؛ اتِّباعاً للرسم ، وكان من حقِّها الثبوتُ ، وإنما حذفت تشبيهاً بالفواصل ، أو لأنَّ الحذف يؤنس بالحذف ، فإن " ما " موصولة حذف عائدها ، وهذه بخلاف التي في يوسف [ الآية : 65 ] ، فإنها ثابتة عند الجميع ، كما تقدَّم . قوله : " قصصاً " فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : قاصِّين . الثاني : أنه مصدر منصوب بفعل من لفظه مقدر ، أي : يقصَّان قصصاً . الثالث : أنه منصوبٌ بـ " ارْتدَّا " لأنه في معنى " فقَصَّا " . قوله : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } الآية . قيل : كان ملكاً من الملائكة ، والصحيح ما ثبت في التَّواريخ ، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه الخضر ، واسمه بليا بن ملكان . وقيل : كان من نسل بني إسرائيل . وقيل : كان من أبناء الملوك الذين زهدُوا في الدنيا ، والخضر لقبٌ له ، سمِّي بذلك ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّما سمِّي خضراً ؛ لأنَّه جلس على فَرْوةٍ بيْضاءَ ، فإذا هِيَ تهتزُّ تَحْتَهُ خَضِراً " . وقال مجاهد : إنما سمِّي خضراً ؛ لأنَّه كان إذا صلَّى ، اخضرَّ ما حوله . روي في الحديث أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا رأى الخضر - عليه السلام - سلَّم عليه ، فقال الخضر : وأنَّى بأرضك السلام ؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، أتيتك ؛ لتعلِّمنِي ممَّا علِّمت رشداً . فصل في بيان أن الخضر كان نبياً قال أكثر المفسرين : إنَّه كان نبيًّا ، واحتجوا بوجوهٍ : الأول : قوله : { ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } والرحمة : هي النبوة ؛ لقوله تعالى { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] . وقوله : { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤاْ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] . والمراد من هذه الرحمة النبوة ، ولقائلٍ أن يقول : سلَّمنا أن النبوَّة رحمة ، ولكن لا يلزمُ بكلِّ رحمةٍ نبوةٌ . الثاني : قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } وهذا يدل على أنه علمه لا بواسطة ، ومن علَّمه الله شيئاً ، لا بواسطة البشر ، يجب أن يكون نبيًّا ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله ، وذلك لا يدلُّ على النبوَّة . الثالث : قول موسى - عليه السلام - : { هل أتَّبِعُك على أن تعلِّمنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً } والنبي لا يتَّبع غير النبي في التعلُّم . وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنَّ النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيًّا ، [ أما في غير تلك العلوم فلا ] . الرابع : أنَّ ذلك العبد أظهر الترفُّع على موسى ، فقال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فأما موسى ، فإنه أظهر التواضع له ؛ حيث قال : { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } وذلك يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان فوق موسى ، ومن لا يكون نبيًّا ، لا يكون فوق النبيِّ ، وذلك أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنه يجوز أن يكون غير النبيِّ فوق النبي في علومٍ لا تتوقَّف نبوته عليها . فإن قيل : إنه يوجبُ تنفيراً . فالجواب : وتكليمه بغير واسطة يوجب التَّنفير . فإن قالوا : هذا لا يوجبُ التنفير ، فكذلك فيما ذكروه . الخامس : احتجَّ الأصم بقوله : " وما فعلتهُ عن أمْرِي " أي : فعلته بوحي الله تعالى ، وذلك يدلُّ على النبوة ، وهذا ضعيف أيضاً . روي أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا وصل غليه ، فقال : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام ، يا نبيَّ بني إسرائيل ، فقال موسى : من عرَّفك هذا ؟ قال : الذي بعثك إليَّ ؛ وهذا يدلُّ على أنَّه إنما عرف ذلك بالوحي ، والوحي لا يكون إلا إلى النبيِّ . ولقائلٍ أن يقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات ؟ . قال البغوي : ولم يكن الخضرُ نبيًّا عند أكثر أهل العلم . قوله : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } أي : علم الباطن إلهاماً . و " عِلْماً " : مفعول ثان لـ " عَلَّمْناهُ " قال أبو البقاء : " ولو كان مصدراً ، لكان تعليماً " يعني : لأنَّ فعله على " فعَّل " بالتشديد ، وقياس مصدره " التَّفعيلُ " . و " مِنْ لدُنَّا " يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حالٌ من " عِلْماً " . قوله : { على أن تعلمنِ } : في موضع الحال من الكاف في " أتَّبِعُكَ " أي : أتَّبِعك [ باذلاً لي علمكَ ] . قوله : " رُشْداً " مفعول ثان لـ " تُعلِّمَنِي " لا لقوله : " ممَّا عُلِّمتَ " قال أبو البقاء : " لأنَّه لا عائد إذن على الذي " يعني أنه إذا تعدَّى لمفعول ثان غير ضمير الموصول ، لم يجز أن يتعدَّى لضمير الموصول ؛ لئلا يتعدَّى إلى ثلاثة ، ولكن لا بدَّ من عائدٍ على الموصول . وقد تقدَّم خلاف القراء في " رُشداً " في سورة الأعراف [ الآية : 146 ] ، وهل هما بمعنى واحد أم لا ؟ . وقوله : " رشداً " أي : علماً ذا رشدٍ . قال القفَّال : قوله " رُشْداً " يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون " الرُّشْدُ " راجعاً إلى الخضرِ ، أي : ممَّا علمك الله ، وأرشدك به . والثاني : أن يرجع إلى موسى ، أي : على أن تعلِّمني ، وتُرشِدني ممَّا علِّمت . فصل في أدب موسى - عليه السلام - في تعلُّمه من الخضرِ دلَّت هذه الآية على أنَّ موسى - عليه السلام - راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلَّم من الخضر . منها : أنه جعل لنفسه تبعاً له في قوله : " هَلْ أتَّبعكَ " . ومنها : أنَّه استأذن في إثباتِ هذه التبعيَّة ؛ كأنَّه قال : تأذنُ لي على أن أجعل نفسي تبعاً لك ، وهذه مبالغةٌ عظيمةٌ في التواضعِ . ومنها : قوله " على أن تعلمني " وهذا إقرارٌ منه على نفسه بالجهل ، وعلى أستاذه بالعلم . ومنها : قوله : " ممَّا علِّمتَ " وصيغة " مِنْ " للتبعيض ، فطلب منه تعليم بعض ما علِّم ، وهذا أيضاً إقرارٌ بالتواضع ، كأنه يقول : لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم ، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من الجزء ، ممَّا علِّمت . ومنها : أن قوله : " مِمَّا علِّمتَ " اعترافٌ بأنَّ الله تعالى علَّمهُ ذلك العلم . ومنها : قوله " رُشْداً " طلب منه الإرشاد والهداية . ومنها أنَّ قوله : { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ } طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به ، أي : يكون إنعامك عليَّ عند تعليمك إيَّاي شبيهاً بإنعام الله عليك في هذا التعليم . ومنها : قوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ } يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيَّد بشيءٍ دون شيءٍ . ومنها : أنه ثبت [ في الأخبار ] أنَّ الخضر عرف أولاً أنَّه موسى صاحب التَّوراةِ ، وهو الرجل الذي كلَّمه الله من غير واسطة ، وخصَّه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنَّه - عليه السلام - مع هذه المناصب الرفيعة والدَّرجاتِ العالية الشَّريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع ؛ وذلك يدلُّ على كونه - عليه السلام - آتياً في طلب العلم أعظم أبواب المبالغةِ في التواضع ، وهذا هو اللائقُ به ؛ لأنَّ كلَّ من كانت إحاطتهُ بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، كان طلبه له أشدَّ ، وكان تعظيمه لأربابِ العلم أكمل وأشدَّ . ومنها : قوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ } فأثبت أوَّلاً كونه تبعاً ، ثم طلب منه ثانياً أن يعلِّمه ، وهذا منه ابتداءٌ بالخدمة ، ثم في المرتبة الثانية ، طلب منه التَّعليم . ومنها : قوله : { هَلْ أتَّبِعُكَ } لم يطلب على المتابعة إلاَّ التعليم ، كأنه قال : لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ، ولا عوض لي إلاَّ طلب العلم . فصل روي أنه لمَّا قال موسى : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ } ، قال له الخضرُ : كفى بالتَّوراة علماً ، وببني إسرائيل شغلاً ، فقال له موسى : إنَّ الله أمرني بهذا ، فحينئذ قال له : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ، وإنَّما قال ذلك ؛ لأنَّه علم أنَّه يرى معه أموراً كثيرة منكرة ، بحسب الظاهر ، ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات ، ثمَّ بيَّن عذره في ترك الصَّبر ، فقال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } ، أي : علماً . واعلم أنَّ المتعلِّم على قسمين : متعلِّم ليس عنده شيءٌ من المعلوم ، ولم يمارس الاستدلال ، ولم يتعوَّد التقرير ، و الاعتراض ، ومتعلِّم حصَّل العلوم الكثيرة ، ومارس الاستدلال والاعتراض ، ثم إنَّه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه ؛ ليبلغ درجة الكمال ، فالتعلم في حقِّ هذا القسم الثاني شاقٌّ شديدٌ ؛ لأنه إذا رأى شيئاً ، أو سمع كلاماً ، فربَّما يكون ذلك منكراً بحسب الظاهر ، إلاَّ أنه في الحقيقة صوابٌ حقٌّ ، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف الكلام والجدال ، يغترُّ بظاهره ، ولأجل عدم كماله ، لا يقف على سرِّه وحقيقته ، فيقدم على النِّزاع ، والاعتراض ، والمجادلة ، وذلك مما يثقل سماعه على [ الأستاذ ] المتبحِّر ، فإذا اتَّفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة ، حصلت النُّفرة التامَّة والكراهة الشديدة العظيمة ، وإلى هذا ، أشر الخضر بقوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي أنَّه ألف الإثبات والإبطال ، والاستدلال والاعتراض . وقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } إشارةٌ إلى كونه غير عالمٍ بالحقائقِ ، وقد تقدم أنه متى حصل الأمران ، [ عسر ] السُّكوت ، وعسر التعلم ، وانتهى الأمر بالآخرة إلى النُّفرة التامة ، وحصول التقاطع . قوله : " خُبْراً " : فيه وجهان : الأول : أنه تمييزٌ لقوله " تُحِطْ " وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ الأصل : مما لم يحطْ به خبرك . والثاني : أنه مصدر لمعنى لم تحط ؛ إذ هو في قوَّة : لم يخبره خبراً ، وقرأ الحسن " خُبُراً " بضمتين . فصل في أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل قال ابن الخطيب : احتجَّ أصحابنا بقوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } على أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل . وقالوا : لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل [ حصول الفعل ] ، لكانت الاستطاعة على الصَّبْر حاصلة لموسى قبل حصول الصَّبر ، فيلزم أن يكون قوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } كذباً ، ولمَّا بطل ذلك ، علمنا أنَّ الاستطاعة لا توجد قبل الفعل . أجاب الجبائيُّ بأنَّ المراد من هذا القول : أنَّه يثقل عليه الصَّبر ؛ لا أنه لا يستطيعه ، يقال في العرف : " إنَّ فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً ، ولا أن يجالسه " إذا كان يثقل عليه ذلك . ونظيره قوله تعالى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } [ هود : 20 ] أي كان يشقُّ عليهم الاستماع . وأجيب بأنَّ هذا عدولٌ عن الظاهر من غير دليل ، وأنه لا يجوز ، ومما يؤكد استدلال الأصحاب قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } استبعد حصول الصبر على ما لا يقف الإنسان على حقيقته ، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على الفعل حاصلة قبل حصول ذلك العلم ، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً ؛ لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله تعالى باستبعاده ، علمنا أن الاستطاعة ، تحصل قبل الفعل . قوله : { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } . قال ابن الخطيب : احتج الطاعنون في عصمةِ الأنبياء بهذه الآية ؛ فقالوا إن الخضر قال لموسى : إنَّك لنْ تستطيعَ معي صبراً ، وقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ، وكلُّ واحدٍ من هذين القولين مكذبٌ للآخر ، فيلزمُ إلحاقُ الكذب بأحدهما ، وعلى التَّقديرين ، فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء - عليهم السلام - . وأجيب بأنَّه يحمل قوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } على الأكثر والأغلب ، وعلى هذا ، فلا يلزم ما ذكروه ، وقد يجاب بجواب آخر ، وهو أن موسى - عليه السلام - استثنى في جوابه ، فقال : { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً } وعلى هذا ، فلا يلزمُ ما ذكروه . قوله : { وَلاَ أَعْصِي } فيه أربعة أوجهٍ : أحدها : أنَّها لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها ، وفيه بعدٌ . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ ؛ عطفاً على ستجدني ؛ لأنها منصوبة المحلِّ بالقول . وقال أبو حيَّان : ويجوز أن يكون معطوفاً على " ستجدني " فلا يكون لهُ محلٌّ من الإعراب ، وهذا سهوٌ ؛ فإنَّ " سَتجِدُنِي " منصوب المحلِّ ؛ لأنه منصوب بالقول ، فكذلك ما عطف عليه ، ولكنَّ الشيخ رأى كلام الزمخشريِّ كذلك ، ولم يتأمَّله ، فتبعه في ذلك ، فمن ثمَّ جاء السَّهوُ قال الزمخشري : " ولا أعْصِي " في محلِّ النصب عطفاً على " صَابِراً " أي : ستجدني صابراً ، وغير عاصٍ أو " لا " في محل رفع عطفاً على " سَتجدُنِي " . الثالث : أنه في محلِّ نصب على " صَابِراً " كما تقدَّم تقريره . فصل دلَّ قوله : { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } على أنَّ ظاهر الأمر للوجوب ، وأن تارك المأمور به عاصٍ ، والعاصي يستحقُّ العقاب ؛ كقوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] . فصل قوله الخضر لموسى : " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً " نسبه إلى قلة العلم ، فقول موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً تواضعٌ شديد ، وإظهار للتَّحمل التَّام ، وذلك يدلُّ على أنَّ الواجب على المتعلِّم إظهار التواضع بكلِّ الغايات ، وأمَّا المعلم فإن رأى أنَّ في التغليظ على المتعلِّم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير ، فالواجب عليه ذكره ، فإنَّ السُّكوت عنه يوقع المتعلِّم في الغرور ، وذلك يمنع من التعلُّم . قوله : " فإن اتَّبْعتَنِي " أي صحبتني ، ولم يقل : اتَّبعني ، ولكن جعل الاختيار إليه ، إلاَّ أنَّه شرط عليه شرطاً ، فقال : " فلا تَسْألنِي " تقدَّم خلاف القرَّاء في هذا الحرفِ ، في سورة " هود " . وقرأ أبو جعفر وابن عامر - هنا - بفتح السِّين ، واللام ، وتشديد النون من غير همزٍ ، وبغير ياءٍ ، وروي عن ابن عامرٍ ، ونافع كذلك مع الياء ، والمعنى : لا تسألني : لا تستخبرني حين ترى منِّي ما لم تعلمْ وجههُ حتَّى أكون أنا المبتدىء بتعليمك إيَّاه ، وإخبارك به ، وهذا معنى قوله : { حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي : أبتدىء بذكره ، فأبين لك شأنهُ . قوله : { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا } الآية . اعلم أنَّ موسى - عليه السلام - وذلك العالم ، لمَّا تشارطا على الشرط المذكور ، سار فانتهيا إلى موضع ، احتاجا فيه إلى ركوب السَّفينة ، فوجدا سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، [ فحملوهم ] من غير نول ، فلما لجُّوا البحر ، أقدم ذلك العالم على خرق السَّفينة . قال ابن الخطيب : لعلَّه أقدم على إخراق مكانٍ في السفينة ؛ لتصير السفينة بذلك السبب معيبة ظاهرة العيب ، فلا يتسارع به إلى أهلها الغرق فعند ذلك قال له موسى : { أخَرقْتهَا لتُغْرِقَ أهْلهَا } [ لمَّا رأى موسى - عليه السلام - ذلك الأمر المنكر بحسبِ الظَّاهر نسيَ الشرط المتقدم ؛ فلهذا قال ما قال ] . وفي اللام وجهان : أحدهما : هي لام العلة . والثاني : هي لام الصَّيرورة ، وقرأ الأخوان : " ليَغرَقَ " بفتح الياء من تحت ، وسكون الغين ، وفتح الراء ، " أهْلُهَا " بالرفع فاعلاً ، والباقون بضمِّ التاء من فوق ، وكسر الراء ، أي : لتغرق أنت أهلها ، بالنصب مفعولاً به ، والحسن وأبو رجاء كذلك ، إلا أنَّهما شدَّدا الراء . والسَّفينة معروفة ، وتجمع على سفنٍ وسفائن ، نحو : صحيفة وصحف وصحائف ، وتحذف منها التاء مراداً بها الجمع ، فتكون اسم جنسٍ ؛ نحو : ثمر [ وقمح ] ، إلا أنه هذا في المصنوع قليلٌ جدًّا ، نحو : جَرَّة وجر ، وعمامة وعمام ، قال الشاعر : [ الوافر ] @ 3547 - مَتَى تَأتيهِ تَأتِي لُجَّ بَحْرٍ تَقاذفُ في غَوارِبهِ السَّفِينُ @@ واشتقاقها من السَّفن ، وهو القشر ؛ لأنَّها تقشر الماء ، كما سميت " بِنْتَ مخرٍ " لأنها تمخرُ الماء ، أي : تشقُّه . قوله : " إمْراً " أي شيئاً عظيماً ، يقال : أمِرَ الأمْرُ ، أي : عظم وتفاقم ، قال : [ الرجز ] @ 3548 - دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إدًّا إمْرا @@ والإمرُ في كلام العرب : الدَّاهيةُ ، وأصله كل شيءٍ شديدٌ كثيرٌ ، يقال : أمر القوم : إذا كثروا ، واشتدَّ أمرهم . ومعنى الآية : لقد جئت شيئاً منكراً . وقال القتيبيُّ : " إمْراً " أي عظيماً عجيباً منكراً . روي أنَّ الخضر ، لمَّا [ خرق ] السَّفينة لم يدخلها الماءِ . وروي أن موسى لمَّا رأى ذلكَ أخذ ثوبه ، وحشا به الخرق قوله : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي : قال ذلك الخضر ، قال موسى { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } . قال ابن عبَّاس : إنَّه لم ينس ، ولكنَّه من معاريض الكلام ، فكأنَّه نسي شيئاً آخر . وقيل : معناه : بما تركت من عهدك ، والنِّسيان التَّرك . وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كانت الأولى من موسى نسياناً ، والوسطى شرطاً ، والثالثة عمداً " . فصل في الرد على الطاعنين في عصمة الأنبياء قال ابن الخطيب : احتجَّ الطَّاعنون في عصمة الأنبياءِ بهذه الآية من وجهين : أحدهما : أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان نبيًّا ، ثم قال موسى : " أخَرقتهَا ، لتُغْرِقَ أهْلهَا " ، فإن صدق موسى في هذا القول ، دلَّ ذلك على صدور الذَّنْب العظيم من ذلك النبيِّ ، وإن كذب ، دلَّ ذلك على صدور الذنب [ العظيم ] من موسى . والثاني : أنه التزم أنَّه لا يعترض على ذلك العالمِ ، وجرت العهود المذكورة بذلك ، ثم إنَّه خالف تلك العهود ، وذلك ذنبٌ . فالجواب عن الأول : أن موسى ، لما شاهد منه الأمر الخارج عن العادةِ ، قال هذا الكلام ، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً ، بل إنَّه أحبَّ أن يقف على وجهه وسببه ، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه : إنَّه إمرٌ . وعن الثاني : أنَّه إنما خالف الشَّرط ؛ بناءً على النِّسيان ، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنَّه [ لما خالف الشرط ] لم يزد على أن قال : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ، فعندها اعتذر موسى بقوله : { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } أراد أنه نسي وصيَّته ، ولا مؤاخذة على الناسي ، { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } أي : لا تكلِّفني مشقَّة ، يقال : أرهقهُ عسراً وأرهقته عسراً ، أي : كلَّفتهُ ذلك . لا تضيِّق عليَّ أمري ، لا تعسِّر متابعتك [ ويسرها عليّ ] بالإغضاء ، وترك المناقشة ، و عاملني باليسر ، ولا تعاملني بالعسر . و " عُسْراً " : مفعول ثانٍ لـ " تُرهِقْنِي " من أرهقه كذا ، إذا حمَّله إيَّاه ، وغشَّاه به ، و " ما " في " بِمَا نسيتُ " مصدرية ، أو بمعنى " الذي " والعائد محذوف . وقرأ أبو جعفر : " عُسُراً " بضمِّ السين ، حيث وقع . قوله : { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ } الآية . اعلم أنَّ لفظ الغلام قد يتناول الشابَّ البالغ ، وأصله من الاغتلامِ ، وهو شدَّة الشَّبقِ ، وذلك إنما يكون في الشَّباب ، وقد يتناولُ هذا اللفظُ الصبي الصغير ، وليس في القرآن كيف لقياه : هل كان يلعبُ مع الغلمان ، أو كان منفرداً ؟ أو هل كان مسلماً ، أو كان كافراً ؟ أو هل كان بالغاً ، أو صغيراً ؟ لكن اسم الغلام بالصَّغير أليقُ ، وإن احتمل الكبير ، إلاَّ أن قوله : " بغير نفسٍ " أليق بالبالغ منه بالصبيِّ ؛ لأن الصبيِّ لا [ يقتل ] . قال ابن عباس : لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفساً زكيَّة بغير نفس إلاَّ وهو صبيٌّ لم يبلغ . وكيفيَّة قتله ، هل كان بحزِّ رأسه ، أو بضرب رأسه بالجدار ، أو بطريق آخر ؟ فليس في لفظ القرآن ما يدلُّ على شيءٍ من هذه الأقسام ، لكنَّه روي في الحديث عن ابن عباس عن أبيِّ بن كعب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الغلام الذي قتله الخضرُ ، طبع كافراً ، ولو عاش ، لأرهق والديه طغياناً وكفراً " . فإن قيل : إنَّ موسى استبعد أن يقتل النَّفس إلاَّ لأجل القصاصِ ، وليس الأمر كذلك ، لأنه قد يحلُّ دمه بسبب آخر . فالجواب : أنَّ السَّبب الأقوى هو ذاك . قوله : { زَكِيَّةً } : قرأ " زَاكِية " بألف وتخفيف الياء : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وبدون الألف وتشديد الياء : الباقون ، فمن قرأ " زاكيةً " فهو اسمُ فاعلٍ على أصله ، ومَنْ قرأ " زَكِيَّةً " فقد أخرجه إلى فعيلة للمبالغة . قال الكسائيُّ والفراء : معناهما واحدٌ ؛ مثل القاسيةِ والقسيَّة ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الزَّاكيةُ : التي لم تذنبْ قطُّ ، والزكيَّة : التي أذنبت ثم تابت . [ والغلام : من لم يبلغْ ] . وقد يطلق على البالغ الكبير . فقيل مجازاً باعتبار ما كان . ومنه قول ليلى : [ الطويل ] @ 3549 - شَفاهَا مِنَ الدَّاءِ الذي قَدْ أصَابهَا غُلامٌ إذَا هزَّ القَناةَ شَفاهَا @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 3550 - تَلقَّ ذُبَابَ السَّيفِ عنِّي فإنَّني غُلامٌ إذا هو جيتُ لستُ بِشاعرِ @@ وقيل : بل هو حقيقة ، لأنه من الاغتلام وهو الشَّبق ، وذلك إنما يكون في الشاب المحتلمِ ، والذي يظهرُ أنه حقيقةٌ فيهما عند الاطلاق ، فإذا أريد أحدهما ، قيد كقوله : " لغُلامَيْنِ يَتيمينِ " وقد تقدَّم ترتيب أسماءِ الآدميِّ من لدن هو جنينٌ إلى أن يصير شيخاً ، ولله الحمد ، في آل عمران . قال الزمخشري : " فإن قلت : لم قال : " حتى إذا ركبا في السفينة خرقها " بغير فاءٍ ، و " حتَّى إذا لقيا غلاماً ، فقتله " بالفاء ؟ قلت : جعل " خَرقهَا " جزاء للشرط ، وجعل " قتلهُ " من جملة الشرط معطوفاً عليه ، والجزاء " قال : أقتلت " فإن قلت : لم خولف بينهما ؟ قلت : لأنَّ الخرق لم يتعقَّب الركوب ، وقد تعقَّب القتل لقاء الغلام " . قوله : " بغَيْرِ نفسٍ " فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنها متعلقة بـ " قَتلْتَ " . الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، على أنها حال من الفاعل ، أو من المفعول ، أي : قتلته ظالماً ، أو مظلوماً ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وهو بعيد جدًّا . الثالث : أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : قتلاً بغير نفسٍ . قوله : " نُكْراً " قرأ نافع ، وأبو بكر ، وابن ذكوان بضمَّتين ، والباقون بضمة وسكون ، وهما لغتان ، أو أحدهما أصلٌ ، و " شَيْئاً " : يجوز أن يراد به المصدر ، أي : مجيئاً نكراً ، وأن يراد به المفعول به ، أي : جئت أمراً منكراً ، وهل النكر أبلغ من الإمر ، أو بالعكس ؟ فقيل : الإمرُ أبلغُ ؛ لأنَّ قتل أنفسٍ بسبب الخرقِ أعظم من قتل نفسٍ واحدة وأيضاً : فالإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر ، وقيل : النُّكر أبلغ ، لأن معه القتل الحتم ، بخلاف خرق السفينة ، فإنه يمكن تداركه ؛ ولذلك قال : " ألَمْ أقُلْ لَكَ " ولم يأتِ بـ " لَكَ " مع " إمْراً " ؛ لأن هذه اللفظة تؤكِّد التَّوبيخ . وقيل : زاد ذلك ، لأنَّه نقض العهد مرَّتين ، فقال الخضرُ لموسى - عليهما السلام - : { ألَمْ أقُل لكَ إنَّكَ لنْ تَسْتطيعَ معي صَبْراً } فعند ذلك قال موسى : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } وهذا كلام نادمٍ . قوله : { فَلاَ تُصَاحِبْنِي } : العامة على " تُصاحِبْني " من المفاعلة ، وعيسى ويعقوب : " فلا تَصْحبنِّي " من صحبه يصحبه . وأبو عمرو في رواية ، وأبيٌّ بضمِّ التاءِ من فوق ، وكسر الحاء ، من أصحب يصحب ، ومفعوله محذوف ، تقديره : فلا تصحبني نفسك ، وقرأ أبيٌّ " فلا تصحبني علمك " فأظهر المفعول . قوله : " مِنْ لدُنِّي " العامة على ضمِّ الدال ، وتشديد النون ، وذلك أنَّهم أدخلوا نون الزيادة أعني الوقاية على " لَدُن " لتقيها من الكسر ؛ محافظة على سكونها ، حوفظ على سكون نون " مِنْ " و " عَنْ " فألحقت بهما نون الوقايةِ ، فيقولون : منِّي وعنِّي بالتشديد . ونافع بتخفيف النون ، والوجه فيه : أنَّه لم يلحقُ نون الوقاية لـ " لَدُن " إلا أن سيبويه منع من ذلك وقال : " لا يجوز أن تأتي بـ " لَدُنْ " مع ياء المتكلم ، دون نون وقاية " وهذه القراءة حجة عليه ، فإن قيل : لم لا يقال : إن هذه النون نون الوقاية ، وإنَّما اتصلت بـ " لَدُ " لغة في " لَدُنْ " حتى يتوافق قول سيبويه ، مع هذه القراءة ؟ قيل : لا يصحُّ ذلك من وجهين : أحدهما : أنَّ نون الوقاية ، إنما جيء بها ؛ لتقيَ الكلمة الكسر ؛ محافظة على سكونها ، ودون النون لا سكون ؛ لأنَّ الدال مضمومة ، فلا حاجة إلى النُّون . الثاني : أن سيبويه يمنع أن يقال : " لَدُنِي " بالتخفيف . وقد حذفت النون من " عَنْ " و " مِنْ " في قوله : [ الرمل ] @ 3551 - أيُّهَا السَّائلُ عنهم وعنِي لستُ من قَيْسٍ ولا قَيْسُ مني @@ وقرأ أبو بكر بسكون الدَّال ، وتخفيف النون ، لكنَّه ألزم الدال الضمة منبهة على الأصل . ولكن تحتمل هذه القراءة أن تكون النون فيها أصليَّة ، وأن تكون للوقاية على أنها دخلت على " لد " الساكنة الدال ، لغة في " لدُنْ " فالتقى ساكنان ، فكسرت نون الوقاية على أصلها ، وإذا قلنا بأنَّ النون أصلية ، فالسكون تخفيف ؛ كتسكين ضاد " عضدٍ " وبابه واختلف القراء في هذا الإشمام ، فقائل : هو إشارة بالعضو من غير صوتٍ ، كالإشمام الذي في الوقف ، وهذا هو المعروف ، وقائل : هو إشارة للحركة المدركة بالحسِّ ، فهو كالرَّوْم في المعنى ، يعني : أنه إتيان ببعض الحركة ، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قوله { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] ، وفي قوله في هذه السورة " من لدنه " في قراءة شعبة أيضاً ، وتقدَّم بحثٌ يعود مثله هنا . وقرأ عيسى وأبو عمرو في رواية " عُذُراً " بضمتين ، وعن أبي عمرو أيضاً " عذري " مضافاً لياءِ المتكلم . و " مِنْ لدُنَّي " متعلق بـ " بَلغْتَ " أو بمحذوف على أنَّه حال من " عُذْراً " . فصل في معنى الآية قال ابن عباس : معناه : أعذرت فيما بيني وبينك . وقيل : حذَّرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً . وقيل : اتَّضح لك العذر في مفارقتي . والمراد أنَّه مدحه بهذه الطريقة من حيث إنَّه احتمله مرَّتين أولاً وثانياً . روى ابن عبَّاس عن أبيِّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَحْمَةُ الله عليْنَا ، وعلى مُوسَى " وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بدأ بنفسه لولا أنَّه عجَّل ، لرأى العجب ، ولكنَّه أخذته من صاحبه ذمامة ، قال : " إنْ سَألتُكَ عَن شيءٍ بعدها ، فلا تُصَاحِبنِي ، قَدْ بلغْتَ من لدُنِّي عُذْراً ؛ فلو صبر ، لرأي العجب " . قوله : { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } الآية . قال ابن عباس : هي أنطاكية . وقال ابن سيرين : هي [ الأبلة ] ، وهي أبعد الأرض من السَّماء وقيل : بَرْقَة . وعن أبي هريرة : بلدة بالأندلس . { ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } قال أبي بن كعبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم : حتَّى إذا أتيا أهل قريةٍ لئاماً ، فطافَا في المجلسِ فاستطعما أهلها ، فأبوا أن يضيفوهما . وروي أنَّهما طافا في القرية ، فاستطعماهم ، فلم يطعموهما ، فاستضافاهم ، فلم يضيِّفوهما . قال قتادة : شرُّ القرى التي لا تضيِّف الضَّيف . وروي عن أبي هريرة : " أطعمتهما امرأةٌ من أهل بربر بعد أن طلبا من الرِّجال ، فلم يطعموهما ؛ فدعوا لنسائهم ، ولعنا رجالهم " . قوله : { ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } : جواب " إذا " أي : سألاهم الطعام ، وفي تكرير " أهلها " وجهان : أحدهما : أنه توكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ؛ كقوله : [ الخفيف ] @ 3552 - لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيءٌ نَغَّص المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا @@ وقول الآخر : [ الكامل ] @ 3553 - لَيْتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعُبُ دائماً كَانَ الغُرابُ مُقطَّعَ الأوْدَاجِ @@ والثاني : أنَّه للتأسيس ؛ وذلك أنَّ الأهل المأتيِّين ليسوا جميع الأهل ، إنما هم البعض ؛ إذ لا يمكن أن يأتينا جميع الأهل في العادة في وقتٍ واحدٍ ، فلما ذكر الاستطعام ، ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل ، كأنهما تتبعا الأهل واحداً واحداً ، فلو قيل : استطعماهم ، لاحتمل أنَّ الضمير يعودُ على ذلك البعضِ المأتيِّ ، دون غيره ، فكرَّر الأهل لذلك . فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام ، فكيف أقدم عليه موسى ، مع أنَّ موسى كان من عادته طلبُ الطعام من الله تعالى ، كما حكى عنه قوله : { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] . فالجواب : أنَّ إقدام الجائع على الاستطعام أمرٌ مباحٌ في كلِّ الشرائع ، بل ربَّما وجب عند خوف الضَّرر الشديد . فإن قيل : إنَّ الضيافة من المندوبات ، فتركها ترك المندوب ، وذلك أمرٌ غير منكرِ ، فكيف يجوز من موسى - عليه السلام - مع علوِّ منصبه أن يغضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } . وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلةٍ واحدةٍ ، لا يليقُ بأدونِ الناس فضلاً عن كليم الله ؟ . فالجواب : أنَّ الضيافة قد تكون من الواجبات ، بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل ، لهلك ، وإذا كان كذلك ، لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل [ ليلة ] ، بل كان لأجل تركهم الواجب عليهم . فإن قيل : إنه ما بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ؛ بدليل أنَّه قال : { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، ولو كان بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ، لما قدر على ذلك العمل ، فكيف يصحُّ منه طلب الأجرة ؟ . فالجواب : لعلَّ ذلك الجوع كان شديداً ، إلاَّ أنه ما بلغ حدَّ الهلاك . قوله : " أنْ يُضيِّفُوهمَا " مفعولٌ به لقوله " أبَوْا " والعامة على التشديد من ضيَّفه يضيِّفه . والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف من : أضافه يضيفه وهما مثل : ميَّله وأماله . رُوِيَ أنَّ أهل تلك القرية ، لمَّا سمعوا نزول هذه الآية ، استحيوا ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من الذَّهب ، وقالوا : يا رسول الله ، نشتري بهذا الذَّهب أن تجعل الباء تاء ؛ حتى تصير القراءة " فأتوا أن يضيفوهما " ، أي : أتوا [ لأجل أن ] يضيِّفوهما ، أي كان إتيانهم لأجل الضِّيافة ، وقالوا : غرضنا منه أن يندفع عنَّا هذا اللُّؤم ، فامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : " تغير هذه النُّقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى ، وذلك يوجب القدح في الإلهيَّة " . قوله : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي : فرأيا في القرية حائطاً مائلاً . وقوله : " أنْ ينْقَضَّ " مفعول للإرادة ، و " انقضَّ " يحتمل أن يكون وزنه " انفعل " من انقضاضِ الطائر ، أو من القضَّة ، وهي الحصى الصِّغار ، والمعنى : يريد أن يتفتَّت ، كالحصى ، ومنه طعام قَضَضٌ ، إذا كان فيه حصى صغارٌ ، وأن يكون وزنه " افْعَلَّ " كـ " احمَرَّ " من النقض ، يقال : نقض البناء ينقضه ، إذا هدمه ، ويؤيد هذا ما في حرف عبد الله وقراءة الأعمش " يُرِيدُ ليُنْقَضَ " مبنيًّا للمفعول ؛ واللام كهي في قوله { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] . وما قرأ به أبيٌّ " يُرِيدُ أن ينقض " بغير لامِ كيْ . وقرأ الزهريُّ " أن ينقاضَ " بألف بعد القاف . قال الفارسي : " هو من قولهم قضته فانقاضَ " أي : هدمته ، فانهدم . قال شهاب الدين : فعلى هذا يكون وزنه ينفعلُ ، والأصل : " انْقيضَ " فأبدلت الياء ألفاً ، ولمَّا نقل أبو البقاء هذه القراءة قال : " مثل : يَحمارُّ " ومقتضى هذا التشبيه : أن يكون وزنه " يفعالَّ " ونقل أبو البقاء : أنه قُرىء كذلك بتخفيف الضاد ، قال : " هو من قولك : انقاضَ البناءُ ، إذا تهدَّم " . وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين - كرَّم الله وجهه - ، وعكرمة في آخرين " يَنقَاصُ " بالصاد مهملة ، وهو من قاصه يقيصه ، أي : كسره ، قال ابن خالويه : " وتقول العرب : انقاصتِ السِّنُّ : إذا انشقَّت طولاً " وأنشد لذي الرّمّة : @ 3554 - … … مُنقاصٌ ومُنْكثِبُ @@ وقيل : إذا تصدَّعتْ ، كيف كان وأنشد لأبي ذؤيبٍ : [ الطويل ] @ 3555 - فراقٌ كقَيْصِ السنِّ ، فالصَّبْرَ إنَّه لكلِّ أنَاسٍ عَثْرةٌ وجُبورُ @@ ونسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ ، وهو شائع جدًّا . وقد ورد في النَّثر والنَّظم ، قال الشاعر : [ الوافر ] @ 3556 - يُرِيدُ الرُّمح صَدرَ أبِي بَراءٍ ويَرْغَبُ عنْ دِمَاءِ بنِي عَقيلٍ @@ والآية من هذا القبيل . وكذا قوله : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ } [ الأعراف : 154 ] وقوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ومن أنكر [ المجاز ] مطلقاً أو في القرآن خاصة ، تأوَّل ذلك على أنه خُلق للجدارِ حياةٌ وإرادةٌ ؛ كالحيوانات ، أو أنَّ الإرادة صدرت من الخضرِ ؛ ليحصل له ، ولموسى ما ذكره من العجب . وهو تعسفٌ كبيرٌ ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغاً جدًّا . قوله : " فأقَامهُ " قيل : [ نقضه ] ، ثم بناه ، قاله ابن عبَّاس . وقيل : مسحه بيده ، فقام ، واستوى ، وذلك من معجزاته ، هكذا ورد في الحديث . وهو قول سعيد بن جبير . واعلم أن ذلك العالم ، لمَّا فعل ذلك ، كانت الحالة حالة اضطرارٍ إلى الطعام ، فلذلك نسيَ موسى قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } فلا جرم قال : { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، أي : طلبت على إصلاحك الجدار جعلاً ، أي لصرفه في تحصيل المطعوم ؛ فإنك قد علمت أنَّا جياعٌ ، وأنَّ أهل القرية لم يطعمونا ، فعند ذلك قال الخضر : " هذا فراقُ بَيْنِي وبيْنكَ " . قوله : { لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو " لتخِذْتَ " بفتح التاء ، وكسر الخاء مِنْ تَخِذَ يتْخذُ كـ " تَعِبَ يَتْعَبُ " . والباقون " لاتَّخذتَ " بهمزة الوصل ، وتشديد التاءِ ، وفتح الخاء من الاتِّخاذ ، واختلف : هل هما من الأخذ ، والتاء بدلٌ من الهمزة ، ثم تخذف التاء الأولى فيقال : تَخِذَ ، كتَقِيَ من " اتَّقَى " نحو قوله : [ الطويل ] @ 3557 - … تَقِ الله فِينَا والكِتابَ الَّذي تَتْلُو @@ أم هما من تخذَ ، والتاء أصيلةٌ ، ووزنهما فعل وافتعل ؟ قولان تقدَّم تحقيقهما في هذا الموضوع ، والفعل هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ ؛ لأنَّه بمعنى الكسب . قوله : { فِرَاقُ بَيْنِي } : العامة على الإضافة ؛ اتِّساعاً في الظرف ، وقيل : هو بمعنى الوصل . كقوله : [ الطويل ] @ 3558 - … وجِلْدَةُ بين العيْنِ والأنْفِ سَالِمُ @@ وحكى القفال عن بعض أهل العربيَّة أنَّ البين هو الوصل ؛ لقوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ، فيكون المعنى هذا فراقُ اتصالنا ، كقول القائل : أخزى الله الكاذب بيني وبينك ، أي : أحدنا هكذا . قاله الزجاج . وقرأ ابن أبي عبلة " فِراقُ " بالتنوين على الأصل ، وتكرير المضاف إليه عطفاً بالواو هو الذي سوَّغ إضافة " بين " إلى غير متعددٍ ؛ ألا ترى أنَّك لو اقتصرت على قولك : " المَالُ بيني " لم يكن كلاماً ؛ حتى تقول : بيننا أو بيني وبين فلانٍ . وقوله : " هذا " أي : هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرَّق بيننا . وقيل : إنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا شرط أنَّه إنْ سأله بعد ذلك سؤالاً آخر ، حصل الفراق بقوله : [ { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم ، وقال ] : { هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي : هذا الفراق [ الموعود ] ، ثم قال : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } . قرأ ابن وثَّاب " سَأنْبِيكَ " بإخلاص الياء بدل الهمزة . قوله تعالى : { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } : العامة على تخفيف السين ، جمع " مِسْكين " . وقرأ عليٌّ أميرالمؤمنين - كرَّم الله وجهه - بتشديدها جمع " مسَّاك " وفيه قولان : أحدهما : أنه الذي يمسكُ سكَّان السفينة ، وفيه بعض مناسبة . والثاني : أنَّه الذي يدبغُ المُسوكَ جمع " مَسْكٍ " بفتح الميم ، وهي الجلود ، وهذا بعيدٌ ؛ لقوله : { يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ } قال شهاب الدين ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين ، و " يَعْملُونَ " صفة لمساكين . قوله : { وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } " وَرَاء " هنا بمعنى المكان . وقيل : " وَراءَهُمْ " بمعنى " أمَامَهُمْ " ؛ كقوله : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] وقيل : " وَراءَهُمْ " خلفهم ، وكان رجوعهم في طريقهم عليه . والأول أصحُّ ؛ لقوله : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] ويؤيِّده قراءة ابن عباس : وكان أمامهم ملكٌ يأخذ كلَّ سفينةٍ غصباً وقال سوارُ بن المضرِّب السعديُّ : [ الطويل ] @ 3559 - أيَرْجُو بنُو مَرْوانَ سَمْعِي وطَاعتِي وقَوْمِي تَميمٌ والفَلاةُ وَرائِيَا @@ وقال تعالى : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ الإنسان : 27 ] وتحقيقه : أنَّ كلَّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك وتواريت عنه ، وقيل : إنَّ تحقيقه أنَّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك ، وأنت متوارٍ عنه ، فكلُّ ما غاب عنك ، فهو وراءك ، وأمام الشيء وقدامه ، إذا كان غائباً عنك ، متوارياً عنك ، فلم يبعد إطلاق لفظة " وراء " عليه ، ويراد بها الزَّمان ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3560 - ألَيْسَ وَرائِي أنْ أدبَّ على العَصَا فَيأمَنَ أعْدائِي ويَسْأمنِي أهْلِي @@ وقال لبيد : [ الطويل ] @ 3561 - أليْسَ ورَائِي إنْ تَراخَتْ منيَّتِي لُزومُ العَصَا تُحْنَى عليْهَا الأصَابِعُ @@ قوله : " غَصْباً " فيه أوجه : الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أو منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ ، أو منصوب على المفعول له ، وهو بعيد عن المعنى ، وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فقال : " فإن قلت : قوله : " فأردتُّ أن أعيبها " مسبَّبٌ عن خوفه الغصب عليها ، فكان حقه أن يتأخَّر عن السبب ؛ فلمَ قُدِّم عليه ؟ قلتُ : النيةُ به التأخيرُ ؛ وإنما قدِّم للعناية به ، ولأنَّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها للمساكين ، فكان بمنزلةِ قولك : زيدٌ ظنِّي مقيمٌ " . قوله : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } : التثنية للتغليب ، يريد : أباه وأمَّه ، فغلَّب المذكَّر ، وهو شائع ، ومثله : القمران والعمران ، وقد تقدَّم [ في يوسف ] : أنَّ الأبوين يراد بهما الأب والخالة ، فهذا أقربُ . والعامة على " مُؤمنين " بالياء ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ ، والجحدريُّ " مُؤمنانِ " بالألف ، وفيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه على لغة بني الحارث ، وغيرهم . الثاني : أن في " كان " ضمير الشَّأن ، و " أبواهُ مُؤمِنانِ " مبتدأ وخبر في محل النصب ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3562 - إذَا مِتُّ كان النَّاسُ صِنفَانِ شَامتٌ … @@ فهذا أيضاً محتمل للوجهين . الثالث : أن في " كان " ضمير الغلام ، أي : فكان الغلامُ ، والجملة بعده الخبر ، وهو أحسن الوجوه . قوله : { فَخَشِينَآ } أي : فعلمنا { أَن يُرْهِقَهُمَا } يفتنهما . وقال الكلبيُّ : يكلِّفهما طغياناً وكفراً . وقال سعيد بن جبيرٍ : فخشينا أن يحملهما حبُّه على أن يتابعاه على دينه . قيل : إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً ، وكان يقطع الطريق ، ويقدم على الأفعال المنكرة ، وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق ، وربما يؤدِّي ذلك الفسق إلى الكفر . وقيل : كان صبيًّا إلا أن الله تعالى علم منه أنَّه لو صار بالغاً ، لحصلت منه تلك المفاسد . وقيل : الخشية بمعنى الخوف ، وغلبة الظنِّ ، والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنِّه تولُّد المفاسد منه . فإن قيل : هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظنِّ ؟ فالجواب : أنَّه إذا تأكَّد ذلك الظنُّ بوحي الله تعالى إليه ، جاز . قوله : { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا } : قرأ نافع ، وأبو عمرو بفتح الباء ، وتشديد الدال من " بدَّل " هنا ، وفي التحريم [ الآية : 5 ] { أَن يُبْدِلَهُ } وفي القلم [ الآية : 32 ] { أَن يُبْدِلَنَا } والباقون بسكون الباء ، وتخفيف الدال من " أبْدلَ " في المواضع الثلاثة ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، وقال ثعلبٌ : الإبدال تنحيةُ جوهرةٍ ، واستئناف أخرى ؛ وأنشد : [ الرجز ] @ 3563 - عَزْلَ الأميرِ للأمِيرِ المُبدَلِ @@ قال : ألا تراه نحَّى جسماً ، وجعل مكانه آخر ، والتبديل : تغيير الصورة إلى غيرها ، والجوهرة باقية بعينها ؛ واحتجَّ الفراء بقوله تعالى : { يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] قال : والذي قال ثعلبٌ حسنٌ ، إلاَّ أنَّهم يجعلون " أبدلتُ " بمعنى " بدَّلتُ " قال شهاب الدين : ومن ثم ، اختلف الناس في قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ } [ إبراهيم : 48 ] : هل يتغير الجسمُ والصفة ، أو الصفة دون الجسم ؟ . قوله : { يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَٰوةً } أي : يرزقهما الله ولداً خيراً من هذا الغلام " زَكَاةً " أي : ديناً ، وصلاحاً . وقيل : ذكر الزكاة تنبيهاً على مقابلة قول موسى - عليه السلام - " أقتَلْتَ نفساً زكيَّة بغيرِ نفسٍ " فقال العالم : أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً ، بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه بما ذكره من الزَّكاة ، ويكون المراد من الزَّكاة الطهارة ، وكان قول موسى : " أقَتَلْتَ نَفْساً زكيَّة " ، أي : طاهرة ، لأنَّها ما وصلت إلى حدِّ البلوغ ، فكانت زاكية طاهرة من المعاصي ، فقال العالم : إن تلك النفس ، وإن كانت طاهرة زاكية في الحال ، إلاَّ أنه تعالى علمَ منها أنَّها إذا بلغتْ ، أقدمت على الطغيان ، والكفر ، فأردنا أن يحصل لهما ولدٌ عظيمٌ ، أي : أعظم زكاة وطهارة منه ، وهو الذي يعلمُ الله منه أنَّه عند البلوغ لا يقدم على شيءٍ من هذه المحظورات . ومن قال : إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً ، قال : المراد من وصف نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله . قوله : " رُحْماً " قرأ ابن عامر " رُحُماً " بضمتين ، والباقون بضة وسكون ، وهما بمعنى الرحمة ؛ قال رؤبة : [ الرجز ] @ 3564 - يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسَا ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إبْليسَا @@ وقيل : الرُّحُم بمعنى الرَّحم ، وهو لائِقٌ هنا من أجلِ القرابةِ بالولادة ؛ ويؤيِّده قراءة ابن عباس " رَحِماً " بفتح الراءِ ، وكسر الحاء ، و " زَكاةً ورُحْماً " منصوبان على التمييز . والمعنى : هذا البدل يكون [ أقرب ] عطفاً ورحمة بأبويه ، وأشفق عليهما . فصل في المبدل به قال الكلبيُّ : أبدلهما الله جارية تزوَّجها نبيٌّ من الأنبياء ، فولدت له نبيًّا ، فهدى الله على يديه أمَّة من الأمم . قوله : { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } وكان اسمهما " أصْرَم " و " صَرِيم " . واعلم أنه سمَّى القرية في قوله : { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } وسمَّى القرية هنا مدينة بقوله : " يَتيميْنِ في المدينةِ " فدلَّ على جواز [ تسمية ] إحداهما بالأخرى ، ثم قال : " وكَان تحته كنزٌ لهُمَا " . روى أبو الدرداء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " كَانَ ذهباً ، وقضَّة " . وقال عكرمة : كان مالاً ، ويدلُّ على ذلك أنّ المفهوم من لفظ الكنز هو المالُ . وعن ابن عباس قال : " كَانَ لوحاً من ذهبٍ مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن بالموتِ ، كيف يفرحُ ، عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصبُ ، عجباً لمن أيقن بالرزقِ كيف يتعب ، عجباً لمن يؤمنُ بالحساب كيف يغفل ، عجباً لمن أيقن بزوالِ الدُّنيا ، وتقلبها بأهلها كيف يطمئنُ إليها ، لا إله إلا الله ، محمدُ رسول الله ، وفي الخطاب الجانب الآخر : أنا الله ، لا إله إلا أنا ، وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشرَّ فطوبى [ لمن ] خلقته للخير ، وأجريته على يديه ، والويل لمن خلقته للشرِّ ، وأجريته على يديه " . وهذا قول أكثر المفسِّرين وروي أيضاً مرفوعاً ، قال الزجاج : والكنزُ إذا أطلق إنما ينصرفُ إلى كنز المال ، ويجوز عند التَّقييد لكنز العلم ، يقال : عنده كنز علم . وهذا اللوح كان جامعاً لهما . " وكان أبُوهمَا صالحاً " قيل : كان [ اسمه ] " كَاشِحٌ " وكان من الأنبياء ، قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولهذا قيل : إنَّ الرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال ، قيل : كان بينهما وبين الأب الصَّالح سبعة آباء وهذا يدل على أنَّ صلاح الإنسان يفيد العناية بأحوال أبنائه ، فإن قيل : اليتيمان ، هل أحد منهما عرف حصول الكنز تحت ذلك الجدار ، أو ما عرف أحد منهما ذلك ؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار ، وإن كان الثاني فكيف يمكنه بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به ؟ . الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلاَّ أن وصيَّهما كان عالماً به ، إما أن ذلك الوصيَّ غاب ، وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السُّقوطِ ، ثم قال : " فأرادَ ربُّك أن يبلغا أشدَّهُما " أي : يبلغا ويعقلا ، وقيل : يدركا شدَّتهما وقوتهما . وقيل : ثماني عشرة سنة ، ويستخرجا حينئذ كنزهما " رحْمةً من ربِّك " أي : نعمة من ربِّك . وفي نصب " رَحْمَةً " ثلاثة أوجه : أظهرها : أنه مفعول له . الثاني : أن يكون في موضع الحال من الفاعل ، أي : أراد ذلك راحماً ، وهي حالٌ لازمة . الثالث : أن ينتصب انتصاب المصدر ؛ لنَّ معنى " فأراد ربُّك أن يبلغا " معنى : " فرحمهما " ثم قال : " وما فعلتهُ عن أمْرِي " أي : ما فعلته باختيارِي ورأيي ، بل فعلتهُ بأمر الله وإلهامه ، بأنَّ الإقدامَ على تنقيص أموالِ النَّاسِ وإراقةِ دمائهم ، لا يجوز إلاَّ بالوحي والنفي القاطع ، " وذلِكَ تأويلُ ما لمْ تَسْطِع عليه صبراً " أي : لم تطقْ عليه صبراً . قوله : " تَسْطِعْ " قيل أصله " اسْتطاعَ " فحذفت تاء الافتعال ، وقيل : المحذوف الطاء الأصلية ، ثم أبدلت تاءُ الافتعال طاء بعد السِّين ، وهذا تكلف بعيدٌ . وقيل : السِّين مزيدة عوضاً من قلب الواو ألفاً ، والأصل : أطاع ، ولتحقيق القول فيه موضعٌ غير هذا ، ويقال : استتاع - بتاءين ، واستاع - بتاء واحدة ، فهذه أربع لغاتٍ حكاها ابن السِّكيتِ . فصل اعلم أنَّ أحكام الأنبياء - عليهم السلام - مبنيةٌ على الظواهر ؛ كما قال - عليه السلام - : " نَحْنُ نحكمُ بالظَّاهرِ والله يتولَّى السَّرائرَ " وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وذلك لنَّ الظاهر في أموال النَّاس ، وفي أرواحهم في المسالة الأولى والثانية من غير سببٍ ظاهرٍ لا يبيح ذلك التصرف ؛ لأن تخريق السفينة تنقيصٌ لملك الغير من غير سبب ظاهر يبيحُ ذلك التصرُّف ، والإقدام على قتل الغلامِ إلحاقٌ بضررِ القتل به من غير سبب ظاهر والإقدامُ على إقامةِ الجدار المائل تحملٌ للتَّعَب والمشقَّة من غير سبب ظاهر ، فهذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيًّا على الأسباب الظاهرة ، بل كان مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر ، وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان قد آتاهُ الله قوة عقلية يقدر بها أن يشرفَ على بواطن الأمور ، ويطَّلع بها على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى - عليه السلام - في معرفةِ شرائع الأحكام بناء على الظواهر ، وهذا العالم مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائقها ، فلهذا كانت مرتبته في العلم فوق مرتبة موسى . إذا عرف هذا ؛ فنقول : هذه المسائل الثلاثة مبنيةٌ على حرف واحد ، وهو أنه : إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأولى ، لدفع الأعلى ، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة ، أمَّا الأولى : فلأنَّ ذلك العالم علم أنَّه لو لم يعب السفينة بالتخريقِ ، لغصبها ذلك الملك ، وفاتت منافعها بالكليَّة على ملاَّكها ، فوقع التعارضُ بين أن يخرقها ويعيبها ، ويبقى مع ذلك العيب على ملاَّكها وبين ألاَّ يخرقها ، فيغصبها الملك ، وتفوت منافعها على ملاكها بالكلِّية ، ولا شكَّ أن الضرر الأوَّل أقلُّ ؛ فوجب تحمُّله ؛ لدفع الضرر الثاني ؛ لكونه أعظم ضرراً . وأمَّا المسألة الثانية فكذلك ؛ لأنَّ بقاء ذلك الغلام كان مفسدة للوالدين في دينهم ، وفي أبنائهم ، ولعلَّه علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسدِ للأبوين ؛ فلهذا السَّبب أقدم على قتله . والمسألة الثالثة - أيضاً - كذلك ؛ لأنَّ المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على بناء الجدار المائل أسهل من المضارِّ الحاصلة بسبب ترك إقامته ، لأنَّ ذلك الجدار لو سقط ، لضاع مال أولئك الأيتام ، وفيه ضررٌ شديدٌ ، فالحاصل أنَّ ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على حقائق الأشياء وببناء الأحكام على حقائقها ، وأنّ موسى - عليه السلام - كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، فبهذا ظهر التفاوتُ بينهما في علمه . فإن قيل : فحاصل الكلام أنَّه تعالى أطلعه على حقائق الأشياء ، وهذا النَّوعُ من العلم ما يمكنُ تعلُّمه ، وموسى - عليه السلام - إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم ، فكان الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكنُ تعلُّمه ، وهذه المسائل علمها لا يمكن تقاسمه ، فما الفائدة في إظهارها ؟ فالجواب : أنَّ العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة ، وأمَّا العلم بحقائق الأشياء ، فإنَّه لا يمكن تحصيله إلاّ بناءً على تصفية الباطن ، وتطهير القلب عن العلائق الجسمانية ، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم : { وعلَّمناهُ من لدُنَّا علماً } ثم إن موسى - عليه السلام - لمَّا كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله تعالى إلى ذلك العالم ، ليعلِّم موسى أنَّ كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظَّواهر إلى علوم البواطنِ المبنية على الإشراف على حقيقة الأمور . فصل احتجُّوا بهذه الآية على أن الفقير أشدُّ حاجة من المسكين ؛ لأنَّه تعالى سمَّاهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون السفينة . واعلم أن العالم بيَّن مراده من تخريق السفينة ، وأنه لم يكن مقصوده تغريق أهلها ؛ بل كان مقصوده تعييبها ، لئلاَّ يأخذها ذلك الملك الظَّالم ؛ لأنه كان من عادته أخذ السفن الخالية من العيوب ، وضرر هذا التخريق أسهل من ضرر الغصب . فإن قيل : هل يجوز للأجنبيِّ أن يتصرَّف في ملك الغير لمثل هذا الغرض ؟ . فالجواب : هذا مما تختلف أحواله بسبب اختلاف الشرائع ، فلعلَّ هذا كان جائزاً في تلك الشريعة ، وأما في شريعتنا فهذا الحكم غير بعيدٍ ، فإنَّا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق يأخذون جميع مال الإنسان ، فإن دفعنا إلى قاطع الطَّريق بعض ذلك المال سلم الباقي ، فحينئذ يحسنُ منَّا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ؛ ليسلم الباقي ، وكان هذا إحساناً منا لذلك المالك . كذلك قيل في السفينة المشحونة إذا خيف عليها الغرق ، وأنه إذا ألقي منها شيءٌ في البحر خفَّت وسلم ما فيها جاز الإلقاء ، بل يجب كذلك ، وكذلك مسألة التترُّس بالمسلمين . واعلم بأنَّ هذا التخريق يجب أن يكون على وجه لا يبطل منافع تلك السفينة بالكلِّية ، إذ لو كان كذلك ، لم يكن الضَّررُ الحاصل من غصبها أعظم من الضَّرر الحاصل من تخريقها ، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً . فصل اعلم أنَّه قال : { فأردتُ أن أعيبها } وقال : { فأردْنَا أن يبدلهما ربُّهما خيراً منهُ } ، وقال : { فأرَادَ ربُّك أن يبلُغا أشدَّهما } فاختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاثة ، وهي كلها قضيَّة واحدة ، وفائدة ذلك أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه ، فقال : { فأرَدْتُ أن أعيبها } ولمَّا ذكر القتل ، عبَّر عن نفسه بلفظِ الجمع تنبيهاً على أنَّه من العظماء في علوم الحكمة ، فلم يقدم على هذا القتل إلاَّ لحكمةٍ عاليةٍ ، ولمَّا ذكر رعاية صالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى ، لأنَّ المتكفِّل بمصالح الأبناء برعاية حقِّ الآباء ليس إلاَّ الله تعالى . فصل اختلفوا : هل الخضر حيٌّ أم لا ؟ فقيل : إنَّ الخضر وإلياس حيَّان يلتقيان كلَّ سنةٍ بالموسم ، قيل : وسبب حياته أنَّ ذا القَرنَيْنِ دخل الظلمات ، لطلب عين الحياة ، وكان الخضر على مقدِّمته ، فوقع الخضر على عين الحياة ، فنزل ، واغتسل ، وشرب ، وقيل : وأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد . وقيل : إنه ميتٌ ، لقول الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] وقال عليه الصلاة والسلام بعدما صلى العشاءَ ليلة : " أرَأيْتكُمْ ليْلتَكُم هذه ، فإنه على رأس مائة سنةٍ لا يبقى ممَّن هو اليوم على ظهر الأرضِ أحدٌ " ولو كان الخضر حيًّا ، لكان لا يعيش بعده . رُويَ أنَّ موسى لمَّا أراد أن يفارقه قال : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدِّث به ، واطلبه لتعمل به .