Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 64-72)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . قال ابن عطية : الواو عاطفة جملة كلام على أخرى ، واصلة بين القولين ، وإن لم يكن معناهما واحداً . وقد أغرب النقاش في حكاية قول : وهو أن قوله : " وما نَتَنَزَّلُ " متصل بقوله : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ } [ مريم : 19 ] . وقال أبو البقاء : " وما نَتَنَزَّلُ " أي : وتقول الملائكة . فجعله معمولاً لقول مضمر . وقيل : هو من كلام أهل الجنة . وهو أقرب مما قبله . و " نَتَنَزَّلُ " مطاوع نزَّل - بالتشديد - ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها . قال الزمخشري : التنزل على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق ، كقوله : @ 3612 - فَلَسْتُ لإنْسِيّ ولكن لملأكٍ تَنَزَّلَ من جَوِّ السَّماءِ يَصُوبُ @@ لأنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى أنزل ، ويكون بمعنى التدرج ، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل ، والمراد : أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت . قال شهاب الدين : وقد تقدم أنه يفرق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضوع . وقرأ العامة " نَتَنَزَّلُ " بنون الجمع . وقرأ الأعرج " يَتَنَزَّلُ " بياء الغيبة ، وفي الفاعل حينئذ قولان : أحدهما : أنه ضمير جبريل - عليه السلام - . قال ابن عطية : ويرده قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } ، لأنه لا يطرد معه ، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أي : القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها . وقد يجاب ابن عطية بأنه على إضمار القول ، أي : قائلاً ما بين أيدينا . والثاني : أنه يعود على الوحي ، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضمير للوحي . ولا بد من إضمار هذا القول أيضاً . قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } . استدل بعض النحاة على أن الأزمنة ثلاثة : ماض ، وحاضر ، ومستقبل بهذه الآية وهو كقول زهير : @ 3613 - واعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ولكِنَّنِي عن عِلْمِ ما فِي غدٍ عَمِ @@ فصل روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما منعك أن تزورنا " فنزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . وقال عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل ، والكلبي : " احتبس جبريل - عليه السلام - عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح فقال : " أخبركم غداً " ، ولم يقل : إن شاء الله حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون ودَّعهُ ربه وقلاه ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبطأت علي حتى ساء ظني ، واشتقت إليك " فقال له جبريل - عليه السلام - إني كنت إليك أشوق ، ولكنني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست " فنزل قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } ، وقوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللهُ } [ الكهف : 23 ، 24 ] وسورة الضحى وفي هذه الآية سؤال : وهو أن قوله : { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] كلام الله ، وقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ } كلام غير الله ، فكيف جاز هذا على ما قبله من غير فصل ؟ . وأجيب : بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كقوله - تعالى - : { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ مريم : 35 ] ، ( وهذا كلام الله تعالى ، ثم عطف عليه ) { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } [ مريم : 36 ] . واعلم أنَّ ظاهر قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } خطاب جماعة لواحد ، وذلك لا يليق بالذين ينزلون على الرسول ، فلذلك ذكروا في سبب النزول ما تقدم . ثم قال : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } أي : علم ما بين أيدينا قال سعيد بن جبير وقتادة ، ومقاتل : { ما بَيْنَ أيدِينَا } من أمر الآخرة ، والثواب , والعقاب ، " ومَا خَلْفَنَا " من أمر الدنيا ، { ومَا بَيْنَ ذلِكَ } ما يكون في هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل : { مَا بَيْنَ أيْدِينَا } من أمر الآخرة ، " ومَا خَلْفَنَا " من أمر الدنيا ، { ومَا بَيْنَ ذلِكَ } أي : بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة . وقيل : { مَا بَيْنَ أيدينَا } ما بقي من أمر الدنيا ، " ومَا خَلْفَنَا " ما مضى منها ، { ومَا بَيْنَ ذَلِكَ } هذه حياتنا . وقيل : { مَا بَيْنَ أيْدِينَا } بعد أن نموت ، " ومَا خلفنا " قبل أن نخلق ، { ومَا بَيْنَ ذلكَ } مدة الحياة . وقيل : { مَا بَيْنَ أيدِينَا } الأرض إذا أردنا النزول إليها ، " ومَا خَلْفَنَا " السماء وما أنزل منها ، { ومَا بَيْنَ ذلِكَ } الهواء ، يريد أن ذلك كله لله - عز وجل - فلا يقدر على شيء إلاَّ بأمره . ثم قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي : ناسياً ، أي : ما نسيك ربك بمعنى تركك ، والناسي التارك ، كقوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 3 ] أي : ما كان امتناع النزول لترك الله لك وتوديعه إياك . قوله : { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه بدل من " ربُّكَ " . الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هُو ربُّ . الثالث : كونه مبتدأ والخبر الجملة الأمرية بعده . وهذا ماشٍ رأي الأخفش ، إذ يجوِّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً . قوله : " لِعبادَتِهِ " متعلق بـ " اصْطَبَرْ " فإن قيل : لِمَ لَمْ يقُلْ : واصطبر على عبادته ، لأنها صلته ، فكان حقه تعديه بـ " على " ؟ . فالجواب : أنَّه ضمن معنى الثبات ، لأنَّ العبادة ذات تكاليف قل من يصبر لها ، فكأنَّه قيل : واثبت لها مصطبراً . واستدلوا بهذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق لله - تعالى - ، لأنَّ فعل العبدِ حاصل بين السموات والأرض ، وهو رب لكل شيء حاصل بينهما . قوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } أدغم الأخوان ، وهشام ، وجماعة لام " هَلْ " في " التاء " . وأنشدوا على ذلك بيت مُزاحِم العُقيليّ : @ 3614 - فَذَرْ ذَا ولكِنْ هَتُّعِينُ مُتَيَّماً عَلى ضَوْءِ برْقٍ آخِرَ اللَّيْلِ نَاصِبِ @@ فصل دلَّ ظاهر الآية على أنَّه - تعالى - رتب الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سميّ له ، والأقرب أنه ذكر الاسم وأراد هل تعلم له نظيراً فيما يقتضي العبادة والتي يقتضيها كونه منعماً بأصول ( النعم وفروعها ، وهي خلق الأجسام ، والحياة والعقل ، وغيرها ، فإنه لا يقدر على ذلك ) أحد سواه - سبحانه وتعالى - وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام ، وجب أن تعظمه بغاية التعظيم ، وهي العبادة . قال ابن عباس : هل تعلم له مثلاً . وقال الكلبي : ليس له شريك في اسمه . وذلك لأنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله - تعالى - على شيء . قال ابن عباس : لا يسمى بالرحمن غيره . وأيضاً : هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل ، لأنَّ التسمية على الباطل كلا تسمية ، لأنها غير معتد بها ، والقول الأول أقرب . قوله تعالى : { وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ } الآية . " إذَا " منصوب بفعل مقدر مدلول عليه بقوله تعالى : { لَسَوْفَ أُخْرَجُ } ، تقديره : إذا مت أبعث أو أحياً ، ولا يجوز أن يكون العامل فيه " أخْرَجُ " لانَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل ما قبلها قال أبو البقاء : لأن ما بعد اللام وسوف لا يعمل فيما قبلها كـ " إنَّ " قال شهاب الدين : قد جعل المانع مجموع الحرفين ، أما اللام فمسلم وأما حرف التنفيس فلا مدخل له في المنع ، لأن حرف التنفيس يعمل ما بعده فيما قبله ، تقول : زَيْداً سأضْرِبُ وسوف أضرب ، ولكن فيه خلاف ضعيف ، والصحيح الجواز ، وأنشدوا عليه : @ 3615 - فَلَمَّا رَأتْهُ آمِناً هَانَ وجْدُهَا وقَالَتْ أبُونَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ @@ فـ " هَكَذَا " منصوب بـ " يَفْعَلُ " بعد ( حرف التنفيس ) ، ( وقال ابن عطية ) : واللام في قوله : " لَسَوْفَ " مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى ، كأن قائلاً قال للكافر : ( إذَا متُّ ) يا فلان لسوف تخرج حيًّا ، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد ، وكرر اللام حكاية للقول الأول . قال أبو حيان : ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، ولا أن هذا حكاية لكلام تقدم بل هو من كلام الكافر ، وهو استفهام فيه معنى الجحد والاستبعاد . وقال الزمخشري : فإن قيل : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامعت حرف الاستقبال ؟ قلتُ : لم تجامعها إلاَّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض ، واضْمَحَلَّ عنها معنى التعريف . قال أبو حيان : وما ذكر من أن اللام تعطي " معنى " الحال مخالف فيه ، فعلى مذهب من لا يرى ذلك يسقط السؤال ، وأما قوله : كما أخلصت الهمزة . فليس ذلك إلاَّ على مذهب من يزعم أن أصله : إله ، وأما من يزعم أن أصله : لاه . فلا تكون الهمزة فيه للتعويض " إذْ لم يحذف منه شيء ، ولو قلنا : إنَّ أصله إله ، وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض " ، إذ لو كانت عوضاً من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره ، ولما جاز حذفها في النداء ، قالوا : يا لله بحذفها ، وقد نصوا على أن " قطع " همزة الوصل في النداء شاذ . وقرأ الجمهور : " أءِذَا " بالاستفهام ، وهو استبعاد كما تقدم . وقرأ أبو ذكوان بخلاف عنه ، وجماعة " إذَا " بهمزة واحدة على الخبر أو الاستفهام وحذف أداته للعلم بها ، ولدلالة القراءة الأخرى عليها . وقرأ طلحة بن مُصرِّف " لسَأخرجُ " بالسين دون سوف . هذا نقل الزمخشري عنه . وغيره نقل " سَأخْرَجُ " دون لام الابتداء ، وعلى هذه القراءة يكون العامل في الظرف نفس " أخْرَجُ " ، ولا يمنع حرف التنفيس على الصحيح . وقرأ العامة " أخْرَجُ " مبنياً للمفعول . والحسن ، وأبو حيوة " أخْرُجُ " مبنياً للفاعل . و " حيًّا " حال مؤكدة ، لأنَّ من لازم خروجه أن يكون حيًّا ، وهو كقوله : { أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] . فصل لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها ، فكأنَّ سائلاً سأل وقال : هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا ، وأمَّا في الآخرة فقد أنكرها قوم ، فلا بُدَّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى تظهر فائدة الاشتغال بالعبادة ، فلهذا حكى الله - تعالى - قول منكري الحشر ، فقال : { وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ } الآية : قالوا ذلك على سبيل افنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين : أحدهما : أن يكون المراد الجنس كقوله : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } [ الإنسان : 1 ] . فإن قيل : كلهم غير قائلين بذلك ، فكيف يصح هذا القول ؟ . فالجواب من وجهين : الأول : أنَّ هذه المقولة لمَّا كانت موجودة في جنسهم صحَّ اسنادها إلى جميعهم ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناًَ ، وإنما القاتل رجل منهم . الثاني : أنَّ هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلاَّ أنَّ بعضهم تركه للدلالة القاطعة على صحة القول به . القول الثاني : أنَّ المراد بالإنسان شخص معين ، فقيل : أبيُّ بن خلف الجمحي . وقيل : أبو جهل . وقيل : المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث . ثم إن الله - تعالى - أقام للدلالة على صحة البعث فقال : { أَوَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَانُ } الآية قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وجماعة : " يَذْكُرُ " مضارع ذكر . والباقون بالتشديد مضارع تذكَّر . والأصل : يتذكر ، فأدغمت التاء في الذال . وقد قرأ بهذا الأصل وهو " يتذكَّر " أبيٌّ . والهمزة في قوله : " أو لا يذكُرُ " مؤخرة على حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور وقد رجع الزمخشري إلى قول الجمهور هنا فقال : الواو عطفت " لا يذكُرُ " على " يَقُولُ " ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف " عليه " وحرف العطف . ومذهبه : أن يقدر بين حرف العطف وهمزة الاستفهام جملة يعطف عليها ما بعدها . وقد فعل هذا أعني الرجوع إلى قول الجمهور في سورة الأعراف كما نبَّه عليه في موضعه . قوله : " مِنْ قَبْلُ " أي : من قبل بعثه ، وقدره الزمخشري : من قبل الحالة التي هو فيها ، " وهي حالة " بقائه . فصل قال بعض العلماء : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه ، إذ لا شك أنَّ الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ، ونظيره قوله تعالى { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] ، وقوله : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] واحتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم ليس بشيء ، وهو ضعيف ؛ لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض ، وهذا المجموع ما كان شيئاً ، ولكن لم قلت : إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً فإن قيل : كيف أمر الله - تعالى - الإنسان بالتذكر مع أنَّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو ؟ . فالجواب : المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرىء " أو لا يذَّكَّرُ " مشدداً ، أما إذا قرىء " أو لا يذكُرُ " مخففاً ، فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأنَّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حيًّا في الدنيا ثم صار حيًّا . ثم إنه تعالى لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتشديد فقال { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَٰطِينَ } أي : لنجمعنهم في المعاد ، يعنى المشركين المنكرين للبعث مع الشياطين ، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة . وفائدة القسم أمران : أحدهما : أنَّ العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين . والثاني : أنَّ في إقسام الله - تعالى - باسمه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعاً منه لشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله : { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } [ الذاريات : 23 ] . والواو في " والشَّياطين " يجوز أن تكون للعطف ، وبمعنى " مع " وهي بمعنى " مع " أوقع . والمعنى ، أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغروهم . { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ } أي : نحضرهم على أذل صورة لقوله : " جِثِيًّا " لأنَّ البارك على ركبتيه صورته صورة الذليل ، أو صورة العاجز . فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل لقوله : { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ] ، ولأنَّ العادة جارية بأنَّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق ، أو لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان حاصلاً للكل ، فكيف يدل على مزيد ذل الكفار . فالجواب : لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحال ، وذلك يوجب مزيد ذلهم . قوله : " جِثِيًّا " حال مقدرة من مفعول " لنُحْضرنَّهُمْ " . و " جِثِيًّا " جمع جاثٍ جمع على فعول ، نحو قَاعد وقُعُود ، وجَالس وجُلوس ، وفي لامه لغتان : أحدهما : الواو . والأخرى : الياء . يقال : جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا ، وجَثَا يَجْثِي جِثِيًّا . فعلى التقدير الأول : يكون أصله جُثُوو . بواوين الأولى زائدة علامة للجمع والثانية لام الكلمة ، ثم أعلت إعلال عِصِيّ ودليّ ، وتقدم تحقيقه في " عِتيًّا " . وعلى الثاني يكون الأصل : جُثُوياً ، فأعل إعلال هيِّن وميِّت . وعن ابن عباس : أنه بمعنى جماعات جماعات ، جمع جثْوة ، وهو المجموع من التراب والحجارة ، وفي صحته عنه نظر من حيث إنَّ فعلهُ لا يجمع على فعول . ويجوز في " جِثِيًّا " أن يكون مصدراً على فعول ، وأصله كما تقدم في حال كونه جمعاً ، إمَّا جُثُوو ، وإمَّا جُثُوي . وقد تقدم أنَّ الأخوين يكسران فاءه ، والباقون يضمونها . والجُثوّ : القعود على الركب . قوله : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ } أي : ليخرجن من كل أمة وأهل دين من الكفار والشيعة فعلة كفرقة : ومنه الطائفة التي شاعت ، أي : تبعت غاوياً من الغواة . قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً } [ الأنعام : 159 ] . والمعنى : أنه - تعالى - يحضرهم أولاً حول جهنم ، ثم يميز البعض من البعض ، فمن كان منهم أشد تمرداً في كفره خص بعذاب عظيم ، لأنَّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره ، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد ، ومعنى الآية : أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتياًّ وتمرداً ليعلم أنَّ عذابه أشد وفائدة هذا التمييز التخصيص " بشدة العذاب لا التخصيص " بأصل العذاب ، فلذلك قال في جميعهم : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } ولا يقال : " أوْلَى " إلا مع اشتراكهم في العذاب . قوله : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ } فيه أقوال كثيرة ، أظهرها عند جمهور المعربين ، وهو مذهب سيبويه : أنَّ " أيُّهُمْ " موصولة بمعنى " الذي " ، وأنَّ حركتها حركة بناء ، بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر . و " أشَدُّ " خبر مبتدأ مضمر ، والجملة صلة لـ " أيُّهُمْ " ، و " أيُّّهُمْ " وصلتها في محل نصب مفعولاً بها بقوله : " لنَنْزِعَنَّ " . و لـ " أيّ " أحوال الأربعة : إحداها تبنى فيها ، وهي كما في هذه الآية أن تضاف ويحذف صدر صلتها ، ومثله قول الآخر : @ 3616 - إذَا مَا أتَيْتَ بَنِي مَالِكٍ فَسَلِّمْ عَلَى أيُّهُمْ أفْضَلُ @@ بضم " أيُّهُمْ " . وتفاصيلها مقررة في كتب النحو . وزعم الخليل - رحمه الله - أنَّ " أيُّهُمْ " هنا مبتدأ ، و " أشدُّ " خبره ، وهي استفهامية ، والجملة محكية بالقول مقدراً ، والتقدير : لنَنْزِعَنَّ من كُل شيعةٍ المقول فيهم أيُّهُم . وقوى الخليل تخريجه بقول الشاعر : @ 3617 - ولقَدْ أبِيتُ مِنَ الفتاةِ بِمَنْزِلٍ فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم @@ قال : فأبيتُ يقالُ فيَّ : لا حرجٌ ولا محْرُوم . وذهب يونس إلى أنَّها استفهامية مبتدأ ، وما بعدها خبرها كقول الخليل إلاَّ أنَّه زعم أنها متعلقة لـ " نَنْزِعَنَّ " ، فهي في محل نصب ، لأنَّه يجوز التعليق في سائر الأفعال ، ولا يخصه " بأفعال القلوب كما يخصه " بها الجمهور . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون النزع واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] ، أي : لننزعنَّ بعض كل شيعة ، فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هُمْ ؟ فقيل : أيهم أشدّ عِتيًّا . فجعل " أيُّهُمْ " موصولة أيضاً ، ولكن هي في قوله خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين هم أشد . قال أبو حيان : وهذا تكلف ما لا حاجة إليه ، وادعاء إضمار غير محتاج إليه ، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين . وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أن مفعول " نَنْزعنَّ " : " مِنْ كُلِّ شيعةٍ " و " مِنْ " مزيدة ، قال : وهما يجيزان زيادة " مِنْ " " في الواجب " ، و " أيُّهُم " استفهام أي : لنَنْزِعَنَّ كُلَّ شيعةٍ . وهذا مخالف في المعنى تخريج الجمهور ، فإنَّ تخريجهم يؤدي إلى التبعيض ، وهذا يؤدي إلى العموم ، إلاَّ أن يجعل " مِنْ " لابتداء الغاية لا للتبعيض فيتفق التخريجان ، وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى " لنَنْزِعَنَّ " لنُنَادِينَّ ، فعومل معاملته ، فلم يعمل في " أيّ " . قال المهدوي : " ونادى " يعلق إذا كان بعده جملة نصب ، فيعمل في المعنى ولا يعمل في اللفظ . وقال المبرد : " أيُّهُمْ " متعلق بـ " شيعةٍ " فلذلك ارتفع ، والمعنى من الذين تشايعوا أيهم أشد ، كأنهم يتبادرون إلى هذا . " ويلزمه على هذا " أن يقدر مفعولاً لـ " ننزعنَّ " محذوفاً وقدر بعضهم في قول المبرد : من الذين تعاونوا فنظروا أيهم . قال النحاس وهذا قول حسن . وقد حكى الكسائي تشايعوا بمعنى تعاونوا قال شهاب الدين : وفي هذه العبارة المنسوبة للمبرد قلق ، ولا بيَّن الناقل عنه وجه الرفع عن ماذا يكون ، وبيَّنه أبو البقاء ، لكن جعل " أيهم " فاعلاً لما تضمنه " شِيعَةٍ " " من معنى الفعل ، قال : التقدير : لننزعن من كل " فريق يشيع أيهم . وهي على هذا بمعنى " الذي " , ونقل الكوفيون أنَّ " أيُّهُم " في الآية بمعنى الشرط ، والتقدير : إن اشتدَّ عتوهم أو لم يشتد ، كما تقول : ضرب القوم أيهم غضب . المعنى : إن غضبوا أو لم يغضبوا . وقرأ طلحة بن مصرِّف " ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء ، وزائدة " عن الأعمش " أيَّهُمْ " نصباً . فعلى هذه القراءة والتي قبلها ينبغي أن يكون مذهب سيبويه جواز إعرابها وبنائها ، وهو المشهور عند النقلة عنه ، " وقد نقل عنه " أنَّه يحتم بناءها . قال النحاس : ما علمتُ أحداً من النحويين إلاَّ وقد خطَّأ سيبويه ، " قال : وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : ما يبين لي أنَّ سيبويه " غلط في كتابه إلاَّ في موضعين هذا أحدهما . قال : وقد أعرب سيبويه " أيًّا " وهي مفردة ، لأنَّها تضاف فكيف يبينها مضافة . وقال الجرميّ : خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول : لأضربن أيُّهم قائم ، بالضم بل ينصب . قوله : " على الرَّحمنِ " متعلق بـ " أشَدُّ " ، و " عِتِيًّا " منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ ، " إذ التقدير " : أيُّهُم هو عتوه أشد . ولا بُدَّ من محذوف يتم به الكلام ، التقدير : فيلقيه في العذاب ، أو فنبدأ بعذابه . قال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق " عَلَى " ، و " البَاء " ، فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه . قلتُ : هما للبيان لا للصلة ، أو يتعلقان بأفعل ، أي : عتوهم أشد على الرحمن ، وصليهم أولى بالنار ، كقولهم : هو أشد على خصمه ، وهو أولى بكذا . يعني بـ " عَلَى " قوله : " على الرَّحمنِ " ، وبـ " الباء " قوله : " بالَّذينَ هُمْ " وقوله : بالمصدرين . يعني بهما " عِتِيًّا " و " صِلِيًّا " . " وأما كونه لا سبيل إليه " ، فلأنَّ المصدر في نية الموصول ، ولا يتقدم معمول الموصول عليه " وجوَّز بعضهم " أن يكون " عِتِيًّا " ، و " صليًّا " في هذه الآية مصدرين كما تقدم وجوَّز أن يكون جمع عاتٍ وصالٍ فانتصابهما على هذا الحال . وعلى هذا يجوز أن يتعلق " عَلى " و " الباء " بهما لزوال المحذوف المذكور . قال المفسرون : معنى قوله : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } أي أحق بدخول النار . يقال : صَلِيَ يَصْلَى صُليًّا مثل لَقِيَ يَلْقَى لُقِيًّا ، وصَلَى يَصْلِي صُليًّا مثل مَضَى يَمْضِي مُضيًّا ، إذا دخل النار ، وقَاسَى حرَّها . قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الآية . الواو في " وإنْ " فيها وجهان : أحدهما : أنها عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها . وقال ابن عطية : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قسم ، والواو تقتضيه ، ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم " من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلاَّ تحله القسم " وأراد بالقسم قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } . قال أبو حيان : " وذهل عن " قول النحويين : إنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بـ " إنَّ " ، والجواب هنا على زعمه بـ " إنْ " النافية ، فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا . وقوله : والواو تقتضيه . يدلُّ على أنها عنده واو القسم ، ولا يذهب نَحْوِي إلى أنَّ مثل هذه الواو واو القسم ، لأنَّهُ يلزم عن ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار ، ولا يجوز بذلك إلا إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه ، كما أولوا في قولهم : نِعْمَ السَّيْرُ على بِئْسَ العيرُ . أي : على عير بئس العير ، وقول الشاعر : @ 3618 - واللهِ مَا لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ @@ أي : بِلَيْل نام صاحبه ، وهذه الآية ليست من هذا الضرب ، إذ لم يحذف المقسم " به " وقامت صفته مقامه . و " إنْ " حرف نفي ، " و " مِنْكُم " صفة لمحذوف تقديره : وإن أحد منكم " ويجوز أن يكون التقدير : وإن منكم إلاَّ من هو واردها وقد تقدم لذلك نظائر . والخطاب في قوله : " مِنْكُمْ " يحتمل الالتفات وعدمه . قال الزمخشري : التفات إلى الإنسان ، ويعضده قراءة ابن مسعود وعكرمة ، " وإنْ مِنْهُمْ " أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور . والحَتْمُ : القضاءُ ، والوجوب حَتْم ، أي : أوجبه حتماً ، ثم يطلق الحتم على الأمر المحتوم كقوله تعالى : { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 11 ] ، وهذا درهمٌ ضرب الأمير . و " على ربِّك " متعلق بـ " حَتْم " ، لأنَّه في معنى اسم المفعول ولذلك وصفه بـ " مَقْضِيًّا " . فصل المعنى : وما منكم إلا واردها ، والورود هو موافاة المكان . وقيل القسم فيه مضمر ، أي : والله ما منكم من أحد إلا واردها . واختلفوا في معنى الورود هنا فقال ابن عباس والأكثرون : الورود ههنا هو الدخول ، والكناية راجعة إلى النار ، وقالوا : يدخلها البر والفاجر ، ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها ، ويدلُّ على أنَّ الورود هو الدخول قوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } [ هود : 98 ] . روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنَّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس : هو الدخول . وقال نافع : ليس الورود الدخول ، فتلى ابن عباس { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] أدخلها هؤلاء أم لا ؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها ، وأنا أرجو أن يخرجني الله ، وما أرى الله أن يخرجك منها بتكذيبك . ويدلُّ عليه أيضاً قوله تعالى { ثُمَّ نُنَجِّي الذينَ اتَّقَوْا } ، أي : ننجي من الواردين من اتقى ، ولا يجوز أن يقول { ثُمَّ نُنجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } إلاَّ والكل واردون . والأخبار المروية دل على هذا القول ، وهو ما " روي عن عبد الله بن رواحة قال : أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا ابن رواحة " اقرأ ما بعدها { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } فدلَّ على أنَّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر أنَّه سُئِلَ عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الورودُ الدخولُ ، ولا يبقى برٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً ، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها " . وقيل : المراد من تقدم ذكره من الكفار ، فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة . قالوا : ولا يجوز أن يدخل النار مؤمن أبداً لقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [ الأنبياء : 101 ، 102 ] والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها ، ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها . وقوله : { وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ } [ النمل : 89 ] . والمراد في قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الحضور والرؤية لا الدخول ، كقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] أراد به الحضور . وقال عكرمة : الآية في الكفار يدخلونها ولا يخرجون منها . وقال ابن مسعود : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } يعني القيامة والكناية راجعة إليها . وقال البغوي : والأول أصح ، وعليه أهل السنة أنهم جميعاً يدخلون النار ، ثم يخرج الله منها أهل الإيمان ، لقوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } أي : الشرك ، وهم المؤمنون ، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه . قوله : { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي : كان ورودكم جهنم حتماً لازماً مقضياً قضاه الله عليكم . قوله : " ثُمَّ نُنَجِّي " . قرأ العامة " ثُمَّ نُنَجِّي " بضم " ثُمَّ " على أنَّها العاطفة . وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي ، والجحدري ويعقوب " ثَمَّ " بفتحها على أنَّها الظرفية ، ويكون منصوباً بما بعده ، أي : هُناك نُنَجِّي الذين اتََّقَوا . وقرأ الجمهور " نُنَجِّي " بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم من نجَّى مضعفاً . وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن " نُنْجِي " من أنْجَى . والفعل على هاتين القراءتين مضارع . وقرأت فرقة " نُجِّي " بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة ، وهو على هذه القراءة ماض مبني للمفعول ، وكان من حق قارئها أن يفتح الياء ، ولكنه سكنه تخفيفاً . وتحتمل هذه القراءة توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترة في آخر سورة الأنبياء . وقرأ علي بن أبي طالب - أيضاً - " نُنَحّي " بحاء مهملة من التنحية . ومفعول " اتَّقَوْا " محذوف مراد للعلم به ، أي : اتقوا الشرك والظلم . قوله : " جِثِيًّا " إمَّا مفعول ثان إن كان " نَذَرُ " يتعدى لاثنين بمعنى " نترك ونصير " . وإمَّا حال إن جعلت " نَذَرُ " بمعنى نخليهم . و " جِثِيًّا " على ما تقدم . و " فيها " يجوز أن يتعلق بـ " نَذَرُ " ، وأن يتعلق بـ " جِثِيًّا " إن كان حالاً ولا يجوز ذلك فيه إن كان مصدراً ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " جِثِيًّا " ، لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم عليها فنصب حالاً . فصل اختلفوا في أنَّه كيف يندفع عن المتقين ضرر النار إذا ورودها بأنَّ القول هو الدخول . فقيل : " البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، وإذا كان كذلك لا يمتنع " أن يدخل الكل في جهنم ، ويكون المؤمنون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار في وسط النار ، وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عيله وسلم قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا أن نرد النار ؟ فيقال لهم : قد دخلتموها وهي خامدة " . وقيل : إنَّ الله - تعالى - يخمد النار فيعبرها المؤمنون ، وتنهار بالكافرين . قال ابن عباس : يردونها كأنَّها إهالة . وقيل : إنَّ الله - تعالى - يجعل النار الملاصقة لأبدان المؤمنين برداً وسلاماً كما جاء في الحديث المتقدم ، وكما في حق إبراهيم - عليه السلام - ، وكما في حق الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فيكون دماً ، ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً ، وفي الحديث : " تقول النار للمؤمن جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " وعن مجاهد في قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : من حُمَّ من المسلمين فقد وردها . وفي الخبر " الحمى كنز من جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار " واعلم أنه لا بُدَّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين . فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول ؟ فالجواب : أنَّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه . وأيضاً : فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه وأيضاً : إن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فيزداد غم الكفار وسرور المؤمنين . وأيضاً : فإن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ، ويستدلون على ذلك ، فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوه ، وأنَّ المكذّبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين . وأيضاً : إنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة على ما قيل : وبضدها تتبين الأشياء .