Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 59-63)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الآية . لما وصف الأنبياء بالمدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذكر بعدهم من بالضد منهم ، فقال : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد هؤلاء الأنبياء " خَلْفٌ " من أولادهم ، يقال : خلفه إذا عقبه خلف سوء - بإسكان اللام - والخَلَف - بفتح اللام - الصالح ، كما قالوا : وعد في ضمان الخير ، ووعيد في ضمان الشر ، وفي الحديث : " في الله خلفٌ من كل هالك " وفي الشعر : @ 3610 - ذَهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ وبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ @@ قال السديُّ : أراد بهم اليهود ومن لحق بهم . وقال مجاهد وقتادة : هم في هذه الأمة . " أضاعُوا الصَّلاة " تركوا الصلاة المفروضة . وقال ابن مسعود وإبراهيم : أخروها عن وقتها . وقال سعيد بن المسيب : هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ، ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس . " واتَّبعُوا الشَّهواتِ " قال ابن عباس : هم اليهود تركوا الصلاة وشربوا الخمور ، واستحلوا نكاح الأخت من الأب . وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة . { فَسَوْفَ يلقَوْنَ غيًّا } قال وهب وابن عباس وعطاء وكعب : هو وادٍ في جهنم بعيد قعره . وقال أبو أمامة : مجازاة الآثام . وقال الضحاك : " غَيًّا " : خسراناً . وقيل : هلاكاً وقيل : عذاباً ، ونقل الأخفش أنه قرىء " يُلَقَّوْنَ " بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقَّاه مضاعفاً . وقوله : " يَلْقَوْنَ " ليس معناه " يرون " فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية . قوله : { إلاَّ من تَابَ } فيه وجهان : أظهرهما : أنه استثناء متصل . وقال الزجاج : هو منقطع . وهذا بناء منه على أن المضيع للصلاة من الكفار . وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعة " الصلوات " جمعاً . وقرأ الحسن هنا وجميع ما في القرآن " يُدْخَلُونَ " مبنيًّا للمفعول . فصل " احتجوا " بقوله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } على أن الإيمان غير العمل ، لأنه عطف العمل على الإيمان ، والمعطوف غير المعطوف عليه . أجاب الكعبي : بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان ، والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما . وهذا الجواب ضعيف ، لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي المغايرة بينهما ، لأن التوبة عزم على الترك ، والإيمان إقرار بالله ، وهما متغايران ، فكذلك في هذه الصورة . ولما بيَّن وعيد من لم يتب بيَّن أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة ولا يلحقهم ظلم . وهنا سؤالان : السؤال الأول : الاستثناء دل على أنه لا بُدَّ من التوبة والإيمان والعمل الصالح ، وليس الأمر كذلك ، لأن من تاب عن الكفر ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإن الصلاة لا تجب عليه ، وكذلك الصوم والزكاة فلو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل ، فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح . والجواب : أن هذه الصورة نادرة ، والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب . السؤال الثاني : قوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } يدل على أن الثواب مستحق بالعمل لا بالتفضّل ، لأنه لو كان بالتفضل ، لاستحال حصول الظلم ، لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد . وأجيب بأنه لما أشبهه أجري على حكمه . قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } العامة على كسر التاء نصباً على أنها بدل من " الجنة " . وعلى هذه القراءة يكون قوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } فيه وجهان : أحدهما : أنه اعتراض بين البدل والمبدل منه . والثاني : أنه حال . كذا قال أبو حيان . وفيه نظر من حيث إن المضارع المنفي بـ " لا " كالمثبت في أنه لا تباشره واو الحال . وقرأ أبو حيوة ، وعيسى بن عمر ، والحسن ، والأعمش : " جَنَّات " بالرفع وفيه وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : تلك أو هي جنات عدن . والثاني : وبه قال الزمخشري : أنها مبتدأ ، يعني ويكون خبرها " الَّتي وَعدَ " . وقرأ الحسن بن حيّ ، وعلي بن صالح ، والأعمش في رواية " جنَّة عدنٍ " نصباً مفرداً . واليماني ، والحسن ، والأزرق عن حمزة ، " جَنَّةُ " رفعاً " مفرداً " . وتخريجها واضح مما تقدم . قال الزمخشري : لما كانت مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، كقولك أبصرت دارك القاعة والعلالي ، و " عَدْن " معرفة بمعنى العدن ، وهو الإقامة كما جعلوا فينة ، وسحر ، وأمس فيمن لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس ، فجرى مجرى العدن لذلك ، أو هو أعلم لأرض الجنة ، لكونها دار إقامة ، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأنَّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ، ولما ساغ وصفها بـ " التي " . قال أبو حيان : وما ذكره متعقب ، أما دعواه : إن عدناً علم لمعنى العدن . فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب ، وكذا دعواه العلمية الشخصية فيه ، وأما قوله : ولولا ذلك ، إلى قوله : موصوفة ؛ فليس مذهب البصريين ، لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة إن لم تكن موصوفة ، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون ، وهم محجوجون بالسماع على ما بيناه ، وملازمته فاسدة . وأما قوله : ولما ساغ وصفها بـ " التي " ، فلا يتعين كون " التي " صفة ، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً . قال شهاب الدين : إن " التي " صفة ، والتمسك بهذا الظاهر كافٍ وأيضاً : فإن الموصول في قوة المشتقات ، وقد نصوا على أن البدل بالمشتق ، ضعيف ، فكذلك ما في معناه . قوله : " بالغَيْبِ " فيه وجهان : أحدهما : أن الباء حالية ، وفي صاحب الحال احتمالان : أحدهما : ضمير الجنة ، وهو عائد الموصول ، أي : وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها . والثاني : أن يكون هو " عِبَادَهُ " ، أي : وهم غائبون عنها لا يرونها ، إنما آمنوا بها بمجرد الإخبار عنه . والوجه الثاني : أن الباء سببية ، أي : بسبب تصديقه الغيب ، وبسبب الإيمان " به " . قوله : " إنَّهُ كَانَ " . يجوز في هذا الضمير وجهان : أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى يعود على " الرحمن " أي : إن الرحمن كان وعده مأتياً . والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن ، لأن مقام تعظيم وتفخيم . وعلى الأول يجوز أن يكون في " كان " ضمير هو اسمها يعود على الله - تعالى - و " وَعْدُهُ " بدل من ذلك الضمير بدل اشتمال ، و " مَأتيًّا " خبرها . ويجوز أن لا يكون فيها ضمير ، بل هي رافعة لـ " وعده " و " مأتياً " الخبر أيضاً . وهو نظير : إن زيداً كان أبوه منطلقاً . و " مأتيًّا " فيه وجهان : أحدهما : أنه مفعول على بابه ، والمراد بالوعد : الجنة ، أطلق عليها المصدر ، أي : موعود ، نحو درهم ضرب الأمير . وقيل : الوعد مصدر على بابه ، و " مأتيا " مفعول بمعنى فاعل . ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال : قيل في " مأتيا " مفعول بمعنى فاعل ، والوجه أن الوعد هو الجنة ، وهم يأتونها ، أو هو من قولك : أتى إليه إحساناً ، أي : كان وعده مفعولاً منجزاً . وقال الزجاج : كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه ، وما أتاك فقد أتيته . والمقصود من قوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } بيان أن وعده تعالى - وإن كان بأمر غائب - فهو كأنه مشاهد حاصل ، والمراد تقرير ذلك في القلوب . قوله : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } . اللغو من الكلام : ما يلقى ويطرح ، وهو المنكر من القول كقوله : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] . وقال مقاتل : هي اليمين الكاذبة وفيه دلالة على وجوب اجتناب اللغو ، لأن الله - تعالى - نزه عنه الدار التي لا تكليف فيها ، ولقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } [ الفرقان : 72 ] ، وقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] الآية . أبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون معناه : إن كان تسليم بعضهم على بعض ، أو تسليم الملائكة عليهم لغواً ، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك ، فهو من وادي قوله : @ 3611 - وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائِبِ @@ الثاني : أنهم لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع . الثالث : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ، ودار السلامة هي دار السلامة ، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث ، لولا ما فيه من فائدة الإكرام . وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل ، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح ، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره . وأما الاتصال في الأول فعسر ، إذ لا يعدّ ذلك عيباً ، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله - تعالى - عند قوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [ الدخان : 56 ] . قوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } فيه سؤالان : السؤال الأول : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة . والجواب من وجهين : الأول : قال الحسن : أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ، ولبس الحرير التي كانت عادة العجم ، والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرّة ، وكانت عادة أشراف اليمن ، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك . الثاني : المراد دوام الرزق ، تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء ، تريد الدوام ، ولا تقصد الوقتين المعلومين . السؤال الثاني : قال تعالى : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } وقال عليه السلام : " لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبداً " . والبكرة والعشيّ لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء . والجواب : أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي ، لا أن في الجنة غدوة ولا عشياً ، إذ لا ليل فيها . وقيل : إنهم يغرفون النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب . وقيل : المراد رفاهية العيش ، وسعة الرزق ، أي : لهم رزقهم متى شاءوا . قوله : { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ } صحت الإشارة بـ " تِلْكَ " إلى " الجَنَّة " لأنها غائبة . وقرأ الأعمش : " نورثها " بإبراز عائد الموصول . وقرأ الحسن ، والأعرج ، وقتادة : " نُوَرِّثُ " بفتح الواو وتشديد الراء من ورَّث مضعفاً ، وقوله : " نُورث " استعارة ، أي : نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث ، وقيل : معناه : ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم ، فجعل هذا النقل إرثاً ، قاله الحسن . المتقي : هو من اتقى المعاصي ؛ واتقى ترك الواجبات . قال القاضي : هذه الآية دالة على أن الجنة يدخلها من كان تقياً ، والفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك . وأجيب بأن هذه الآية تدل على أن المتقي يدخلها ، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها ؛ وأيضاً : فصاحب الكبيرة متقٍ عن الكفر ، ومن صدق عليه أنه متقٍ ( عن الكفر ، فقد صدق عليه أنه متق ) ، لأن المتقي جزء مفهوم قولنا : المتقي عن الكفر ، وإذا كان صاحب الكبيرة ( يصدق عليه أنه متقٍ ، وجب أن ) يدخل الجنة ، ( فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة ) أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها .