Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 83-98)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا } الآية . لمَّا ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا ، وأنهم يتولونهم وينقادون لهم ، فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّٰاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } احتج أهل السنة بهذه الآية على أنَّ الله - تعالى - سلَّطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم ، ويتأكد هذا بقوله " تؤزُّهُم أزًّا " فإن معناه لتؤزُّهُمْ أزاً ، ويتأكد بقوله : { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 64 ] . قال القاضي : حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء ، بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم ، ولا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عليه الشياطين من الإغواء ، فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين ، وذلك كفر من قائله ، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك ، لأن عندهم أن ضلالهم من قبله - تعالى - خلق فيهم الكفر وقدر الكفر ، فلا تأثير لما لا يكون من الشياطين . وإذا بطل حمل اللفظ على ظاهره فلا بد من التأويل ، فنحمله على أنه - تعالى - خلَّى بين الشياطين وبين الكفار ، وما منعهم من إغوائهم ، وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة ، كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال : أرسل كلبه علينا ، وإن لم يرد أذى الناس . وهذه التخلية وإن لم يكن فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون بأن لا يقبلوا منهم ، ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم ، والدليل عليه قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُم } [ إبراهيم : 22 ] . قال ابن الخطيب : وهذا لا يمكن حمله على ظاهره ، فإنَّ قوله : الشياطين لو أرسلهم الله - تعالى - إلى الكفار " لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين . قلنا : الله - تعالى - ما أرسل الشياطين إلى الكفار " بل أرسلهم عليهم ، والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه ، فأين هذا من الإرسال إليهم . وقوله : ضلال الكافر من قبل الله - تعالى - ، فأي تأثير للشياطين فيه . قلنا : لِمَ لا يجوز أن سماع الشياطين إياه تلك الوسوسة يوجب في قلبه الضلال بشرط سلامة فهم السامع ، لأن كلام الشياطين " من خلق الله - تعالى - فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان ، وإلى الله - تعالى - من هذين الوجهين . وقوله : لِمَ لا يجوز أن يكون بالإرسال التخلية . قلنا : كما خلَّى بين الشياطين والكفرة " فقد خلَّى بينهم وبين الأنبياء ، ثم إنه - تعالى - خص الكافر بأنه أرسل الشياطين عليه ، فلا بد من فائدة زائدة ههنا . ولأن قوله " تؤزُّهُمْ أزًّا " أي : تحركهم تحريكاً شديداً ، فالغرض من ذلك الإرسال موجب أن يكون ذلك الأزُّ مراداً لله - تعالى - إذ يحصل المقصود منه . قوله : " أزًّا " مصدر مؤكد . والأزُّ ، والأزيزُ ، والاستفزاز . قال الزمخشري : أخوات وهو التهيج وشدة الإزعاج ، أي : تغريهم على المعاصي ، وتهيجهم لها بالوساوس . قال ابن عباس : " تَؤزُّهُمْ أزًّا " أي : تزعجهم في المعاصي إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية . والأزُّ أيضاً : شدة الصوت ، ومنه : أزَّ المِرْجَلُ أزًّا وأزيزاً ، أي : غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت ، وفي الحديث " فكَانَ له أزيزٌ " أي للجذع حين فارقه النبي صلى الله عليه وسلم . قوله : { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي : لا تعجل بطلب عقوبتهم ، يقال : عجلت عليه بكذا إذا استعجلت منه " إنِّا نعدُّ لهُمْ عدًّا " . قال الكلبي : يعنى الليالي والأيام والشهور والأعوام . وقيل : الأنفاس التي يتنفّسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجِّل لعذابهم . وقيل : نَعُدُّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها . وقيل : نَعُدُّ الأوقات ، أي : الوقت الأجل المعين " لكل أحد " الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان . قوله : " يَوْم نَحْشُرُ " منصوب بـ " سَيَكْفُرونَ " ، أو بـ " يَكونُونَ " عليْهِمْ ضدًّا " أو بـ " نَعُد " " لأن " نَعُدُّ " تضمن معنى المجازاة ، أو بقوله : " لا يَمْلِكُونَ " الذي بعده ، أو بمضمر وهو " اذكُرْ " أو " احْذَرْ " . وقيل : هو معمول لجواب سؤال مقدر كأنه قيل : " متى يكون ذلك ؟ فقيل " : يكون يوم نحشر . وقيل : تقديره : يوم نحشر ونسوق : نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف . قوله : " وفداً " نصب على الحال ، وكذا " ورْداً " . والوَفْدُ : الجماعة الوافدون ، يقال : وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً ووفوداً ووفَادَةً ، أي : قدم على سبيل التكرمة ، فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالضيف . وقال أبو البقاء : وفد جمع وافد مثل راكب ورَكْب ، وصاحب وصَحْب . وهذا الذي قاله ليس مذهب سيبويه ، لأن فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه . وأجازه الأخفش . فأمَّا رَكْب وصَحْب فاسما جمع لا جمع بدليل تصغيرها على ألفاظها ، قال : @ 3625 - أخْْشَى رجَيْلاً وَرُكَيْباً عَادِيَا @@ فإن قيل : لعل أبا البقاء أراد الجمع اللغوي . فالجواب : أنه قال بعد قوله هذا : والوِرْد اسم لجمع وارد . فدل على أنه قصد الجمع صناعة المقابل لاسم الجمع . والوِرْد اسم للجماعة العطاش الواردين للماء ، وهو أيضاً في الأصل مصدر أطلق على الأشخاص ، يقال : وَرَد الماء يردُه وِرْداً وورُوداً ، قال الشاعر : @ 3626 - رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا كَدريَّةٍ أعْجَبْهَا بَرْدُ الْمَا @@ وقال أبو البقاء : هو اسم لجمع وارد ، " وقيل : هو بمعنى وارد " وقيل : هو محذوف من وراد ، وهو بعيد . يعني أنه يجوز أن يكون صفة على فَعْل . وقرأ الحسن والجحدري " يُحْشَرُ المتَّقُونَ " " ويُسَاقُُ المُجْرِمُون " على ما لم يسم فاعله . فصل قال المفسرون : اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن إلى جنته وفْداً ، أي جماعات ، جمع وافد مثل راكب ورَكْب وصاحب وصَحْب . وقال ابن عباس : رُكْبَاناً : وقال أبو هريرة : على الإبل . وقال علي بن أبي طالب - " رضي الله عنه " - : ما يُحْشَرون والله على أرجلهم ، ولكن على نوق رجالها الذهب ، ونجائب سروجها ياقوت إن هموا بها سارت وإنْ همُّوا طارت . { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } أي : مُشاة ، وقيل : عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش . وقوله " ونَسُوقُ المجرمينَ " يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم عطاش تساق إلى الماء ، والوِرْدُ للعطاش وحقيقة الوِرْد الميسرُ إلى الماء ، فسمي به " الواردون " . فصل طعن الملاحدة في قوله : { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ } فقالوا : هذا إنما يستقيم أن لو كان الحشر عند غير الرحمن ، أما إذا كان الحشر عند الرحمن ، فهذا الكلام لا ينتظم . وأجاب المسلمون : بأنَّ التقدير : يوم نحشُر المتَّقين إلى محلِّ كرامةِ الرحمن . قوله : " لا يَمْلِكُونَ " في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك . والثاني : أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم . وفي هذه الواو قولان : أحدهما : أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة ، وإنما هي علامة ، كهي في لغة أكلُوني البراغيثُ والفاعل " من اتَّخَذَ " لأنه في معنى الجمع قاله الزمخشري وفيه بعدٌ ، وكأنه قيل : لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً . قال أبو حيَّان : ولا ينبغي حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة ، مع وضوح جعل الواو ضميراً . وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : إنَّها لغةٌ ضعيفة . قال شهابُ الدين : قد قالوا ذلك في قوله : { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] فلهذا الموضع بهما أسوة . ثم قال أبو حيان : وأيضاً فالألف ، والواو ، والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع ، وصريح التثنية ، " أو العطف " ، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى ، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل ، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب ، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع . والثاني : أن الواو ضميرٌ ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه : أحدها : أنها تعود على الخلق جميعهم ، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم ، إذ هما قسماه . والثاني : أنه يعود على المتقين والمجرمين ، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً . لأن هذين القسمين الخلقُ كلُّه . والثالث : أنَّه يعود على المتقين فقط ، أو المجرمين فقط ، وهو تحكُّم . قوله : { إلاَّ من اتَّخَذَ } هذا الاستثناء يترتب على عود الواو على ماذا ؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق ، أو على الفريقين المذكورين " أو على المتقين فقط " . فالاستثناء حينئذ متصل ، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدل ، وإما النصب على أصل الاستثناء . وإن قيل : إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً ، وفيه حينئذ اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجاز التزام النصب ، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل " كالمتصل " . وجعل الزمخشري هذا الاستثناء من الشفاعة على وجهي البدل وأصل الاستثناء نحو : ما رأيت أحداً إلا زَيْداً . وقال بعضهم : إن المستثنى منه محذوف ، والتقدير : لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً ، فحذف المسثنى " منه للعلم " به ، فهو كقول الآخر : @ 3627 - نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومِئزَرا @@ أي : ولَمْ يَنْجُ بشَيْءٍ . وجعل ابنُ عطية الاستثناء متصلاً ، وإن عاد الضمير في " لا يَمْلِكُونَ " على المجرمين فقط على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين . قال أبو حيان : وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد . قال شهاب الدين : ولا بعد فيه ، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة ، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه . فصل قال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون . وقال آخرون : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم . وهذا أولى ، لأن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح . وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر . لأنه قال عقيبه { إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً } ، والتقدير : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً ، يعني للمؤمنين ، كقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [ الأنبياء : 28 ] فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه ، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً ، وهو التوحيد ، فوجب دخوله تحته ، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام - " قال لأصحابه يوماً : " أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء " عند الرَّحمن عهداً " قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : " يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء " : اللَّهُمَّ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنْتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ ، وأنَّ مُحَمَّداً عبدُكَ ورسُولُكَ ، فإنَّك إنْ تكلني إلى نفسِي تُقرِّبْنِي من الشَّر ، وتُباعدني من الخَيْر ، وإنِّي لا أثقُ إلاَّ برحْمتكَ ، فاجْعَلْ لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد . فإذا قال ذلِكَ طُبعَ عليه بطابعٍ وَوُضع تحت العرش ، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ : أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد ؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة " " . فظهر أن المراد من العهد كلمة الشهادة ، وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر . قوله تعالى : { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } تقدم خلافُ القراء في قوله " ولداً " بفتح اللام وسكونها ، وأنهما لغتان مثل العَرَب والعُرْب والعَجَم والعُجْم . واعلم أنَّه لمَّا ردَّ على عبدة الأوثان عاد إلى الردِّ على من أثبت له ولداً . فقالت اليهود : عزيزٌ ابنُ الله ، وقالت النصارى : المسيحُ ابن الله ، وقالت العرب : الملائكةُ بناتُ الله . وههنا الرد على الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، وهم العرب الذين يعبدون الأوثان ، لأن الرد على النصارى تقدم أول السورة . قوله : { لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } . العامة على كسر الهمزة من " إدَّا " ، وهو الأمر العظيم المنكر المتعجب منه . قاله ابن عباس . " وقال مجاهد : عظيماً " وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها . وخرَّجُوه على حذف مضاف ، أي شيئاً ذا أَدّ " لأنَّ الأدَّ - بالفتح - يقال : أدَّ الأمر وأدَّني يؤدُّنِي أدًّا . أي : أثقلني . وكان أبو حيان ذكر : أنَّ الأدَّ والإدّ - بفتح الهمزة وكسرها - هو العجب ، وقيل : " . هو العظيم المنكر ، والإدَّة : الشدَّة . وعلى قوله : إنَّ الأدّ والإدّ بمعنى واحد ينبغي أن لا يحتاج إلى حذف مضاف " إلا أن يريد أنَّه أراد بكونهما بمعنى العجب في المعنى لا في المصدرية وعدمها ، والإدَد في كلام العرب الدواهي . قوله : " تَكَادُ " . قرأ نافع والكسائي بالياء من تحت . والباقون بالتاء من فوق وهما واضحتان ، إذ التأنيث مجازي . وكذا في سورة الشورى . وقرأ أبو عمرو : وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وحمزة " يَنْفَطرن " مضارع انفطرَ ، لقوله تعالى : { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] والباقون : " يتَفَطّرْن " " مضارع تفطَّر " بالتشديد في هذه السورة ، وأما التي في الشورى فقرأها حمزة وابن عامر بالياء والتاء وتشديد الطاء . والباقون على أصولهم في هذه السورة . فتلخص من ذلك أن أبا بكر وأبا عمرو يقرآن بالياء والنون في السورتين . وأن نافعاً وابن كثير والكسائي وحفصاً عن عاصم يقرءون بالياء والتاء وتشديد الطاء فيهما ، وأن حمزة وابن عامر في هذه السورة بالياء والنون ، وفي الشورى بالياء والتاء وتشديد الطاء " فالانفطار من فطرهُ إذا شقه ، " والتفطُّر من فطَّره إذا شقَّقهُ " ، وكرر فيه الفعل . قال أبو البقاء : وهو هنا أشبه بالمعنى ، أي : التشديد . و " يَتَفَطَّرْنَ " في محل نصب " خبراً لـ " كَانَ " " وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإرادة ، وأنشد : @ 3628 - كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيْرُ إرَادةٍ لَوْ عَادَ مِنْ زمنٍ الصَّبابةِ مَا مَضَى @@ فصل يقال : انفطر الشيء وتفطَّر أي تشقَّق . وقرأ ابن مسعود " يتَصدَّعْنَ " . و " تَنْشَقُّ الأرْضُ " أي تخسفُ بهم ، والانفطار في السماء ، أي : تسقط عليهم . { وتخُرُّ الجِبَالُ هدّاً } أي : تُهَدَّ هَداً ، بمعنى : تنطبق عليهم . فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ؟ فالجوابُ من وجوه : " الأول : أنَّ الله - تعالى - يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود " هذه الكلمة غضباً منِّي على من تفوَّه بها ، لولا حلمي ، وإني لا أعجِّل بالعقوبة ، كقوله - تعالى - : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ فاطر : 41 ] . الثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة ، وتهويلاً من فظاعتها ، وهدمها لأركان الدين وقواعده . الثالث : أنَّ السمواتِ والأرضِ والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول ، وهذا تأويل أبي مسلم . الرابع : أنَّ السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب ، فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها . قوله : " هدًّا " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّه مصدر وفي مضع الحال ، أي : مهدودة ، وذلك على أن يكون هذا المصدر من هدَّ زيدٌ الحائط يهدُّه هدًّا ، أي : " هدمهُ " . والثاني : وهو قول أبي جعفر : أنه مصدر على غير المصدر لما كان في معناه ، لأن الخرور : السقوطُ والهدمُ ، وهذا على أن يكون من هدَّ الحائطُ يَهِدُّ - بالكسر - انهدم ، فيكون لازماً . الثالث : أن يكون مفعولاً من أجله ، قال الزمخشري : أي : لأنها تهد . قوله : " أنْ دَعَواْ " في محله خمسة أوجه : أحدها : أنه في محل نصب على المفعول من أجله ، قاله أبو البقاء ، والحوفي ، ولم يُبيِّنَا ما العامل فيه ، ويجوز أن يكون العامل " تَكَادُ " ، أو " تَخُرُّ " ، أو " هَدًّا " ، أي : تَهُدُّ لأن دعوا ، ولكن شرطُ النصب هنا مفقود ، وهو اتحاد " الفاعل في المفعول له والعامل فيه ، فإن عنيا على أنه على إسقاط اللام مطرد في " أنْ " فقريب " . وقال الزمخشري : وأن يكون منصوباً بتقدير سقوط اللام " وإفضاء الفعل ، أي هدًّا لأن دعوا " ، علل الخرور بالهدِّ ، والهدُّ بدعاء الولد للرحمن . فهذا تصريح منه على أنه بإسقاط الخافض . " وليس مفعولاً له صريحاً . الوجه الثاني : أن يكون مجروراً بعد إسقاط الخافض " كما هو مذهب الخليل والكسائي . والثالث : أنه بدل من الضمير في " مِنْهُ " كقوله : @ 3629 - عَلَى حَالةٍ لوْ أنَّ في القَوْمِ حَاتِماً عَلى جُودهِ لضن بالمَاءِ حاتمِ @@ بجر " حاتم " الأخير بدلاً من الهاء في " جوده " . قال أبو حيان : وهو بعيد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين . الوجه الرابع : أن يكون مرفوعاً بـ " هَدًّا " . قال الزمخشري : أي هدَّهَا دعاءُ الولدِ للرحمن . قال أبو حيان : وفيه بعدٌ ، لأن الظاهر في " هَدًّا " أن يكون مصدراً توكيدياً ، والمصدر التوكيدي لا يعمل ، ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمراً ، أو مستفهماً عنه نحو ضرباً زيداً ، وأضربا زيداً ؟ على خلاف فيه ، وأما إن كان خبراً كما قدَّره الزمخشري ، أي : هدَّها دعاء الولد للرحمن . فلا ينقاس ، بل ما جاء من ذلك هو نادر كقول امرىء القيس : @ 3630 - وقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُمْ يقُولُونَ لا تَهْلَكْ أسًى وتجمَّلِ @@ أي : وقَفَ صَحْبِي . الخامس : أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : الموجب لذلك دعاؤهم . كذا قدره أبو البقاء . و " دَعَا " يجوز أن يكون بمعنى سمَّى ، فيتعدى لاثنين ، ويجوز جر ثانيهما بالباء ، قال الشاعر : @ 3631 - دَعَتْنِي أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ولمْ أكُنْ أخَاهَا ولَمْ أرْضَعْ لهَا بِلبَانِ دَعَتْنِي أخَاهَا " بَعْدمَا كَانَ بَيْنَنَا مِنَ الفِعْلِ ما لا يفعلُ الأخوانِ " @@ وقول الآخر : @ 3632 - ألا رُبَّ مَنْ يُدْعَى نَصِيحاً وإن تَغِبْ تَجِدْهُ بِغَيْبٍِ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ @@ وأولهما في الآية محذوف ، قال الزمخشري : طلباً للعموم والإحاطة بكل ما يدعى له ولد ، ويجوز أن يكون من " دَعَا " بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله - عليه السلام - : " مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ موالِيهِ " ، وقول الشاعر : @ 3633 - إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأب عَنْهُ ولا هُوَ بالأبْنَاءِ يَشْرِينَا @@ أي : لا ننتَسِبُ إليه . " يَنْبَغي " مضارع انْبَغَى ، وانْبَغَى مطاوعٌ لبغى ، أي : طلب ، و " أنْ يتَّخِذَ " فاعله . وقد عد ابن مالك " يَنْبَغِي " في الأفعال التي لا تتصرف . وهو مردودٌ عليه ، لأنه قد سُمِع فيه الماضي قالوا : انْبَغَى . وكرَّر لفظ " الرَّحْمَنِ " تنبيهاً على أنه - تعالى - هو الرحمنُ وحدهُ ، لأن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه . فصل قال ابن عباس وكعب : فَزِعَت السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول ، وغضبت الملائكةُ ، واستعرت جهنم حين قالوا : لله ولدٌ ، ثم نفى الله - تعالى - عن نفسه فقال : { وما يَنْبَغِي للرَّحمنِ أن يتَّخذَ ولداً } أي : ما يليق به " اتِّخَاذُ الولد " ، لأنة ذلك محال ؛ أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها ، وأما التبني ، فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد ، ولا شبيه لله - تعالى - ، ولأن اتخاذ الولد إنَّما يكون لأغراض إما لسرور ، أو استعانةٍ ، أو ذكرٍ جميلٍ ، وكلُّ ذلك لا يصح في الله - تعالى - . قوله : { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . يجوز في " مَنْ " أن تكون نكرة موصوفة ، وصفتها الجار بعدها ، ولم يذكر أبو البقاء غير ذلك ، وكذا الزمخشري إلا أن ظاهر عبارته تقتضي أنه لا يجوز غير ذلك ، فإنه قال : " مَنْ " موصوفة فإنها وقعت بعد " كُل " " نكرة أشبهت وقوعها بعد " رُبَّ " في قوله : @ 3634 - ربَّ مَنْ أنْضَجَتْ غَيْظاً صَدْرَهُ @@ انتهى " . ويجوز أن تكون موصولة . قال أبو حيان : ما كُل الذي في السموات ، و " كلُّ " تدخل على الذي ، لأنها تأتي للجنس كقوله - تعالى - : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ونحوه : @ 3635 - " وكُلُّ الذي " حَمَّلْتَنِي أتحَمَّلُ @@ يعني أنه لا بد " من تأويل " الموصول بالعموم حتى تصح إضافة " كُل " إليه ، ومتى أريد به معهود بعينه لشخص استحال إضافة " كُلّ " إليه . و " آتِ الرَّحْمَنِ " خبر " كل " جعل مفرداً حملاً على لفظها ، ولو جمع لجاز ، وقد تقدم أول الكتاب : أنها متى أضيفت لمعرفة جاز الوجهان . وقد تكلم السهيلي في ذلك فقال : " كُلُّ " إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني لمعرفة فلا يحسن إلا إفراد الخبر حملاً على المعنى ، تقول : كُلكم ذاهب ، أي : كل واحد منكم ذاهب ، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح . فإن قلت في قوله : { وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ } : إنما هو حمل على اللفظ ، لأنه اسم مفرد . قلنا : بل هو اسم للجمع ، واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد ، تقول : القوم ذاهبُون ، ولا تقول : ذاهب ، وإن كان لفظ " القَوْم " لفظ المفرد ، وإنما حسن " كُلكُم ذاهِبٌ " لأنهم يقولون : كل واحد منكم ذاهب ، فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى . قال أبو حيان : ويحتاج " كُلكُمْ ذاهِبُون " ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب . قال شهاب الدين : وتسمية الإفراد حملاً على المعنى غير الاصطلاح بل ذلك حمل على اللفظ والجمع هو الحمل على المعنى . وقال أبو البقاء : ووحد " آتِي " حملاً على لفظ " كُل " ، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها . قال شهاب الدين : قوله : في موضع آخر . إن عنى في القرآن فلم يأت الجمع إلا و " كُل " مقطوعة عن الإضافة نحو { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] ، وإن عنى في غيره فيحتاج إلى سماع عن العرب كما تقدم . والجمهور على إضافة " آتي " إلى " الرَّحْمَن " . وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنوينه ونصب " الرَّحْمَن " وانتصب " عَبْداً " و " فَرْداً " على الحال . فصل المعنى : أن كل معبود من الملائكة في السموات وفي الأرض من الناس إلا يأتي الرحمن يلتجىء إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد . ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة . والأول أولى ، لأنه لا تخصيص فيه . { لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي : عدَّ أنفاسهم وأيامهم وآثارهم ، فكلهم تحت تدبيره وقهره محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } أي : كل واحد منهم يأتيه { يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فَرْداً } وحيداً ليس معه من الدنيا شيء " ويبرأ المشركون منهم " . قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } إلى آخر السورة . لمَّا ردَّ على الكفرة ، وشرح أقوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين . قوله : " وُدَّا " العامة على ضم الواو . وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها ، وجناح بن حبيش بكسرها . فيحتمل أن يكون المفتوح مصدراً ، والمكسور والمضموم اسمين . قال المفسرون : سَيجْعَلُ لهُم الرَّحمنُ محبةً ، قال مجاهد : يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا أحبَّ اللهُ العبد قال لجبريل - عليه السلام - : " قَدْ أحببتُ فلاناً فأحِبَّه ، فيُحبُّهُ جبريلُ ، ثم ينادي في أهْلِ السَّماءِ : إنَّ الله - تعالى - قد أحبَّ فلاناً فأحبُّوه ، فيحبه أهلُ السَّماء ، ثُمَّ يوضعُ لهُ القبُولُ في الأرضِ ، وإذا أبغضَ العبد " قال مالك : لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك . والسِّين في " سَيَجْعلُ " إما لأن السورة مكية ، وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة ، فوعدهم الله ذلك إذا جاء الإسلام . والمعنى : سَيُحْدِثُ لهم في القلوب مودة . وإمَّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم . روي عن كعب قال : مكتوب في التوراة لا محبَّة في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله - تعالى - ينزلها على أهل السماء ، ثم على أهل الأرض . وتصديق ذلك في القرآن قوله : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً } . وقال أبو مسلم : معناه يهبُ لهم ما يحبون . والوُدُّ والمحبَّةُ سواء ، يقال : آتيتُ فلاناً محبته ، وجعلت له ودَّه ، ومن كلامهم : يوَدُّ لو كان كذا ، " ووددتُ أن لو كان كذا أي أحببتُ " ، فالمعنى : سيعطيهم الرحمن ودَّهم ، أي : محبوبهم في الجنة . والقول الأول أولى ، لتفسير الرسول - عليه السلام - ، ولأن حمل المحبة على المحبوب مجاز ، " ولأن رسول الله قرأ هذه الآية وفسَّرها بذلك فكانت أولى " . قال أبو مسلم : القول الثاني أولى لوجوه : أحدها : كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم التقي يبغضه الكفار ، وقد يبغضه كثير من المسلمين . وثانيها : أنَّ مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر ، فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين ؟ . وثالثها : أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أنَّ الله - تعالى - فعله ، فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى . وأجيب عن الأول : بأن المراد يجعل له محبة عند الملائكة والأنبياء . وعن الثاني : ما روي عنه - عليه السلام - : " أنه حكى عن ربه - سبحانه وتعالى - أنه قال : " وإذا ذكرِني عَبْدي في نفسه ذكرتُهُ ( في نَفْسِي ، وإنْ ذَكرنِي ) في ملأ ذكرتهُ في ملأ أطيب منهم وأفضل " والكافر والفاسق ليسا كذلك . وعن الثالث : أنه محمول على فعل الألطاف ، وخلق داعية إكرامه في قلوبهم . قوله : " بِلِسَانِكَ " يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال ، واللسان هنا اللغة ، أي : أنزلناه كائناً بلسانِكَ . وقيل : هي بمعنى " على " ، وهذا لا حاجة إليه ، بل لا يظهر له معنى ، " و " لُدَّا " جمع " ألَدَّ " ، وهو الشديد الخصومة كالحُمْر جمع أحْمَرٍ . قال أهل اللغة : اللُّدُّ جمع الألَدّ ، وهو المعوج في المناظرة الرواغ من الحق الميال عنه ، وفي الحديث " إنَّ أبغضَ الرِّجال إلى الله الخَصْمُ الألَدُّ " أي المعوج " قوله : " يَسَّرْنَاهُ " سهلناهُ يعني القرآن " بلسانِكَ " يا محمد " لِنُبشَّر به المُتَّقين " يعني المؤمنين ، وهذا كلام مستأنف " بيَّن به عظيم " موقعِ هذه السورة لما فيها من ذكر التوحيد والنبوة والحشر ، والرد على فرق المبطلين ، فبين - تعالى - أنَّه يسَّر ذلك بلسانه ، ليبشر وينذر ، ولولا أنه - تعالى - نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسَّر ذلك على الرسول . وكما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ ، وهو الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه فقال : " ويُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا " ، وهو جمع الألد ، " وهو الشديد الخصومة . وقال مجاهد : هو الظالم الذي لا يستقيم . وقال أبو عبيدة الألد " الذي لا يقبل الحقَّ ويدَّعي الباطل . وقال الحسن : الألد الأصم عن الحق . ثم ختم السورة بموعظةٍ بليغة فقال : { وكمْ أهْلكْنَا قبلهُمْ مِنْ قرنٍ } لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا ، وأنه لا بد فيها من الموت خافوا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب ، ثم أكد تعالى ذلك فقال : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ } . قرأ الناس بضم التاء وكسر الحاء من أحسَّ . وقرأ أبو حيوة ، وأبو جعفر ، وابن أبي عبلة " نَحُسُّ " " بفتح التاء وضم الحاء " وقرأ بعضهم : " تَحِس " بالفتح والكسر ، من حسَّه : أي شعر به ، ومنه الحواس الخمس . و " مِنْهُم " حال من " أحَد " ، إذ هو في الأصل صفة له . و " مِنْ أحَد " مفعول زيدت فيه " مِنْ . وقرأ حنظلة " تُسْمَعُ " بضم التاء وفتح الميم مبنياً للمفعول . و " رِكْزاً " مفعول على كلتا القراءتين ، إلا أنه مفعول ثان في القراءة " الشاذة " . والرَِّكْزُ : الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ، " ومنه ركز الرمح " أي غيب طرفه في الأرض وأخفاه ، ومنه الرِّكاز ، وهو المال المدفون لخفائه واستتاره ، وأنشدوا : @ 3636 - فَتَوجَّسَتْ رَكْزَ الأنيسِ فَراعهَا عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ ، والأنيسُ سَقامُهَا @@ فصل قال المفسرون : " هَلْ تُحِسُّ " هل ترى ، وقيل : هل تجد . { مِنْهُم مِنْ أحَدٍ } ، لأنَّ الرسول - عليه السلام - إذا لم يحسّ منهم أحداً برؤية وإدراك ووجدان ، ولا يسمع لهم ركزا ، أي : صوتاً خفياً دلَّ ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية . قال الحسن : بادوا جميعاً ، فلم يبق عين ولا أثر . روى الثعلبي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وموسى ، وهارون ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل عشر حسنات ، وبعدد من دعا لله ولداً ، وبعدد من لم يدع له ولداً " .