Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 17-21)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } الآية . ( مَا ) مبتدأة استفهامية و ( تِلْكَ ) خبره ، و " بِيَمِينِكَ " متعلق بمحذوف ، لأنه حال كقوله : { وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] ، والعامل في الحال المقدرة معنى الإشارةَ وجوَّز الزمخشري أن تكون ( تِلْكَ ) موصولة بمعنى ( التي ) و ( بِيَمِينِكَ ) صلتها . ولم يذكر ابنُ عطية غيره . وهذا ليس مذهب البصريين أنهم لم يجعلوا ( من أسماء ) الإشارة موصولاً إلا ( ذَا ) بشروط تقدمت . وأما الكوفيون فيجيزون ذلك جميعها ، ومنه هذه الآية عندهم أي : وَمَا التي بيمينك وأنشدوا : @ 3651 - نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ @@ أي والذي تحملين . وقال الفراء معناه : وَمَا هِذهِ التي فِي يمينِكَ . فصل السؤال إنما يكون لطلب العلم ، وهو على الله تعالى محال . فما فائدة قوله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينكَ } ؟ والجواب فيه فوائد ، الأُولَى : حكمةُ هذا السؤال تنبيهُهُ وتَوْقيفُه على أنها عصا ، حتى إذا قلبها حية عَلِم أنها معجزةٌ عظيمةٌ ، وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره : هَلْ تَعْرِف هَذا ؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه . الثانية : أن يقرَّرُ عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافُها . الثالثة : أنه تعالى لمَّا أراه الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء ، وأسْمَعَهُ كلام نفسه ، ثم أورد عليه التكليف الشاق ، وذكر له المعاد ، وختم ذلك بالتهديد العظيم ، فتحيَّر موسى - عليه السلام - ودُهِشَ ، ( فقيل له : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينكَ } ، وتكلم معه بكلام البشر إزالةً لتلك الدهشة والحيرة ) . فصل هذا خطاب من الله مع موسى بلا واسطة ، ولم يحصل ذلك لمحمد عليه السلام فيلزم أن يكون موسى أفضلَ من محمد عليهما السلام . فالجوابُ : أنَّه تعالى كما خاطبَ موسَى فقد خاطب محمداً في قوله : { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 10 ] إلا أن الفرق أنَّ الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه إلى الخلق ، والذي ذكره مع محمد كان سراً لم يستأهل له أحداً من الخلق . وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمةُ محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مرات على ما قاله عليه السلام : " المُصَلِّى يُنَاجِي رَبَّهُ " والرَّبُ يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . قوله : " هِيَ عَصَايَ " هِيَ يعودُ على المستفهم عنه . وقرأ العامة " عَصَايَ " بفتح الياء . والجَعْفَرِيّ وابنُ أبي إسحاق " عَصَيَّ " بالقلب والإدغام . وقد تقدَّم توجيه ذلك أوّل البقرة ، ولِمَنْ تنسب هذه اللغة والشعر المروي في ذلك . وروي عن أبي عمرو ابن أبي إسحاق أيضاً ( والحسن " عِصَاي " بكسر الياء لالتقاء الساكنين ، وعن أبي إسحاق ) " عِصَايْ " بسكونها وصلاً وقد فعل ذلك نافع مثل ذلك في " مَحْيَايَ " فجمع بين ساكنين وصلاً ، وقد تقدم الكلام هناك . قوله : " أَتَوَكَّأُ " يجوز أن يكون خبراً ثانياً لـ " هِيَ " ويجوز أنْ يكونَ حالاً إمَّا مِنْ " عَصَايَ " وإمَّا مِنْ " الياء " وفيه بُعدٌ ، لأن مجيء الحال من المضاف إليه قليل ، وله مع ذلك شروط ليس فيه شيء منها هنا . ويجوز أن تكونَ مستأنفة . وجوَّز أبو البقاء نقلاً عن غيره : أن يكون " عَصَايَ " منصوبة بفعل مقدر ، و " أَتَوكَّأُ " هو الخبر . ولا ينبغي أن يقال ذلك . والتَّوكّؤُ : التحامُلُ على الشيء ، وهو بمعنى الاتِّكاء ، وقد تقدم تفسيره في يوسف فهما من مادة واحدة ، وذكر هنا ، لاختلاف وزنيهما . والهَشُّ بالمعجمة : الخَبْطُ ، يقال : هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّهُ أي : خبطته ليسقط ، والمعنى : أَخْبِطُ بِهَا وَأَضْرِبُ أغصانَ الشجر ليسقط ورقُهَا على غنمي لتأكله وأما هَشَّ يَهِشُّ - بكسر العين في المضارع - فبمعنى البشاشة وقد قرأ النخعي بذلك ، فقيل : هو بمعنى : أَهُشُّ - بالضم - والمفعول محذوف في القراءتين أي : أَهُشُّ الورقَ أو الشجرَ وقيل : هو في هذه القراءة من هَشَّ هشاشَةً إذا مال . وقرأ الحسن وعكرمة : " وأَهُسُّ " بضم الهاء والسين المهملة وهو السَّوْقُ ، ومنه الهَسُّ ( والهَسَّاسُ ) وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه ، ولكنه ضمِّن معنى ما يتعدى بعلى وهو أقوم ( وَأَهْوَنُ ) . ونقل ابن خالوية عن النخعي أنه قرأ " وأُهِسُّ " بضم الهمزة وكسر الهاء من ( أَهَسَّ ) رباعياً بالمهملة . ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة ، فيكون عنه قراءتان ونقل صاحب اللوائح عن مجاهد وعكرمة " وأهُشُ " بضم الهاء وتخفيف الشين ، قال ولا أعرف لها وجهاً إلا أن يكون قد استثقل التضعيف مع تفشي الشين فخفف ، وهي بمعنى قراءة العامة . وقرأ بعضهم : " غَنْمِي " ( بسكون النون ) ، وقرىء " عَلَيَّ " بتشديد الياء والمَآرِبُ : جمع مَأْرُبَة ، وهي الحاجة وكذلك الإرْبَة أيضاً . وفي ( راء ) المَأرُبَة الحركات الثلاث . وإنما قاال : " مَآرِب " في معنى جماعة ، فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى ، ولم يقل أخر لرؤوس الآي ( و " أُخْرَى " ) كقوله : " الأسْمَاءُ الحُسْنَى " وقد تقدَّم قريباً . قال أبو البقاء : ولو قال : أخر لكان على اللفظ . يعني أُخَر كقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر } [ البقرة : 184 ، 185 ] بضم الهمزة وفتح الخاء واللفظ لفظ الجمع . ونقل الأهوازي عن شيبة والزهري : مَارِبُ قال : بغير همز كذا أطلق والمراد بغير همز محقق بل مسهل بَيْنَ بَيْن وإلا فالحذف بالكلية شاذ . فصل قيل : كما قال : " هِيَ عَصَايَ " فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر ، لأنه كان يحب المكالمة مع ربه تعالى ، فجعل ذلك كوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض . " أَتَوكَّأُ عَلَيْهَا " التوَكُّؤُ والاتِّكَاءُ واحد كالتوقي والاتقاء ، أي أعتمد عليها إذا عييت ، أو وقفت على رأس القطيع { وأهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي } أي : أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على الغنم ( فتأكله ) . { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي حوائج ومنافع ، وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب ، فيسمع كلام الله مرة أخرى ، ويطول أمر المكالمة بسبب ( ذلك ) . قال وهب : كانت ذات شعبتين ( ومحجن ، فإذا طلبَ ثمرَ الشجرة جناه بالمحجن ، فإذا حاول كسره لواه بالشعبتين ) . فإذا سارَ وضعهَا على عاتقه يعلق عليها أداته من القوس والكنانة والثياب ، وإذا كان في البرية ركزها وألقى عليها كساء فكان ظلاً . وقيل : كانَ فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطولُ طولَ البئر ، وتصير شعبتاها دلواً ، ويصيران شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت يابسة ويركزها فينبع الماء ، وإذا رفعها نضب ، وكان تقيه الهوام قال مقاتل : كان اسمها نبعة . وروي عن ابن عبَّاس : أنها كانت تماشيه وتحدثه . قال الله تعالى : { أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ } أي انبذها . قال وهب ظن موسى أنه يقول أرفُضْهَا " فَأَلْقَاهَا " على وجه الأرض ثم نظر إليها { فَإِذَا هِيَ حَيَّة تَسْعَىٰ } صفراء أعظم ما تكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرَس ، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً ، صارت شعبتاها شدقين لها والمِحجن عنقاً يهتز ، وعيناها متقدان كالنار ، وتمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها ، وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ، ويسمع لأسنانها ( صريف عظيم ) . وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء كُنْ فيكون . فصل والحكمة في قلب العصا حيَّةً في ذلك الوقت من وجوه : أحدها : لتكون معجزةً لموسى - عليه السلام - يعرف بها نبوة نفسه ، لأنه عليه السلام - إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء . والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا أنه لم يكن معجزاً ، لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن ، فقلب العصا حيَّةً ليكون دليلاً قاهِراً على الممعجزة . الثاني : أنه تعالى عرضهَا عليه ليشاهدها أولاً ، فإذا شاهدها عند فرعون لا يخافها . وثالثها : أنه كان راعياً فقيراً ثم نُصِّب للمنِصبِ العظيم فلعله بقي يتعجب من ذلك ، فقلب العصا حيَّة تنبيًّا على أني لما قدرت على ذلك ، فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين . فإنْ قيل : كيف قال ههنا " حَيَّة " وفي موضع آخر " جَان " وهو الحية الخفية الصغيرة ، وقال في موضع " ثُعْبَانٌ " وهو أكبر ما يكون من الحيات ؟ فالجواب : أن الحيَّة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما الجَانُّ فقيل : عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حيَّةً على قدر العصا ثم تورمت وتزايدت وانتفخت حتى صارت ثعباناً . وقيل : كانت في عظم الثعبان وسرعة الجانِّ لقوله تعالى : { فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ النمل : 10 ، القصص : 31 ] . ( و " تَسْعَى " ) يجوز أن تكون خبراً ثانياً عند من يجوز ذلك ويجوز أن تكون صفة لـ " حَيَّةً " فلما عاين موسى ذلك " وَلَّى مُدْبِراً " ، وهرب ثم ذكر ربه فوقف استحياءً فنودي : { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَها } ( وهيئتها ) " الأُولَى " أي نردها عصا كما كانت . قوله : " سِيرَتَهَا " في نصبها أوجه : أحدها : أن تكون منصوبةً على الظرف ، أي في سيرتها أي : طريقتها . الثاني : أن تكونَ منصوبة على البدل من " ها " " سَنُعِيدُهَا " بدل اشتمال لأن السيرة الصفة ، أي سنعيدها صفتها وشكلها . الثالث : أنها منصوبةٌ على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عَادَ أي عادَ إليه ، فيتعدى لمفعولين ، ومنه بيت زهير : @ 3652 - وَعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيهَا عَدَاءُ @@ وهذا هو ( معنى قول من قال : إنه على إسقاط ( إلى ) و ) كان قد جوَّز أن يكون ظرفاً كما تقدَّم ، إلا أن أبا حيَّان ردَّه بأنّه ظرف مختص فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة ( في ) إلا فيما ( شذ . والسيرَةُ ) فِعْلَة تدل على الهيئة من السَّيْر كالركبة من الركُوب ، ثم اتسع فعبر بها عن المذهب والطريقة ، قال خالد الهذلي : @ 3653 - فَلاَ تَغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍِ أَنْتَ سِرْتَهَا فَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا @@ وجوَّز أيضاً أن ينتصب بفعل مضمر ، أي : يسير سيرتها الأولى ، وتكون هذه الجملة المقدرة في محل نصب على الحال ؛ أي : سَنعيدُها سائرةً سيرتَهَا . فإن قيل : لمَّا نوديَ يا مُوسى ، وخصَّ بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلماذا خاف ؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه - عليه السلام - ما شاهد مثل ذلك قط ، وهذا معلوم بدلائل العقول . قال أبو القاسم الأنصاري : وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة ، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة . وثانيها : خاف لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها . وثالثها : أن مجرد قوله " وَلاَ تَخَفْ " لا يدل على حصول الخوف كقوله : { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ } [ الأحزاب : 1 ، 48 ] لا يدل على وجود تلك الطاعة ، لكن قوله : { فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً } [ النمل : 10 ، القصص : 31 ] يدل عليه . فصل قال المفسرون : كانَ علَى موسى مَدْرَعة من صوف قد خللها بعيدان . فلما قال له : " خُذْهَا " لف طرف المَدْرَعةِ على يده ، فأمره الله أن يكشف يده ، فكشف . وقيل : إن مَلَكاً قال : أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدْرعة تغني عنك شيئاً ؟ فقال : لا ولكني ضعيف ، ومِنْ ضَعْفٍ خُلِقَتُ ، فكشف يده ، ثم وضعَها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها إذا تَوَكَّأَ . واعلم إن إدخاله يده في فم الحية من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر ، وانقلاب العصا حيَّة معجز آخر ، ففيها توالي معجزات مع المآرب التي تقدمت .