Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 36-39)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى . وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } فُعْل بمعنى مَفْعُول كقولك : خُبْزٌ بمعنى مَخْبُوز وأُكْلٌ بمعنى مَأْكُول ، ولا ينقاس و " مَرَّةً " مصدر ، و " أُخْرَى " تأنيث آخر بمعنى : غير ، وزعم بعضهم أنها بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى ، وتخيَّلَ لذلك بأن قال سمّاها أخرَى وهي أولَى ، لأنها أخرى في الذكر . فصل إن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية ، وكان في المعلوم أن قيامه بما كلفه ( لا يتم إلا بإجابته إليها ، لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على إبلاغ ما كلف به ) فقال : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ . وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىۤ } فنبه بذلك على أمور : أحدها : كأنه تعالى قال : إني رَاعَيْتُ مَصْلَحتَكَ قبل سؤالك فكيف لا أُعطيك مرادك بعد السؤال . وثانيها : إني كنت ربيتُك فلو منعتك الآن كان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان ، فكيف يليق بكرمي . وثالثها : إنا أعطيناك في الأزمنةِ السالفةِ كلَّ ما احتجتَ إليه ، ورقَّيْنَاكَ إلى الدرجة العالية ، وهي درجة النبوة ، فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع عن المطلوب . ومعنى " مَنَنَّا عَلَيْكَ " أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ " مَرَّةً أُخْرَى " فإن قيل : لِمَ ذكر تلك النِّعَم بلفظ المنّة مع أن هذه اللفظة مؤذية والمقامُ مقامُ التلطف ؟ فالجواب : إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها ، بل إنما خصَّه الله بها لمحض التفضل والإحسان . فإن قيل : لم قال : " مَرَّةً أُخْرَى " مع أنه تعالى ذكر " مِنَناً " كثيرة ؟ فالجواب : لَمْ يُعْن بـ " مَرَّةً أُخْرَى " مرة واحدة من المنن ، لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير . قوله : " إذْ أَوْحَيْنَا " العامل في " إذْ مَنَنا " أي مننا عليك في وقت إيحائنا إلى أمك ، وأبهَمَ في قوله : " مَا يُوحَى " للتعظيم كقوله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُم } [ طه : 78 ] وهذا وحي إلهام ، لأن الأكثرين على أن أم موسى - عليه السلام - ما كانت من الأنبياء ، وذلك لأن المرأة لا تصلح للقضاء والإمامة ، ولا تمكن عند أكثر العلماء من تزويج نفسها ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } [ الأنبياء : 7 ] . والوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [ النحل : 68 ] { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } [ المائدة : 111 ] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه : الأول : أنه رؤيا رأتها أم موسى ، وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت ، وقذفه في البحر ، وأن الله تعالى يرده إليها . الثاني : أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة . الثالث : المراد منه خطور البال وغلبته على القلب . فإن قيل : الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك ، وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعونَ ، فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانَة عن الثاني ؟ فالجواب لعلَّها عرفت بالاستقراء صدقَ رؤياها ، فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون ، أو لعله أوْحَى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشُعَيْب أو غيره ، ثم أن ذلك النبي عرفها إمّا مشافهة ، أو مراسلة . واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحقها الخوف . وأجيب : ذلك الخوف كان من لوازم البشرية ، كما أن موسى - عليه السلام - كان يخاف من فرعون مع أن الله - تعالى - كان أمره بالذهاب إليه مروراً . الرابع من الأوجه : لعل بعض الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب - عليهم السلام - أخبروا بذلك الخبر ، وانتهى ذلك الخبر إلى أمه . أو لعل الله بعثَ إليها مَلَكاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] . وأما قوله : " مَا يُوحَى " معناه : أوحينا إلى أمِّكَ ما يجب أن يُوحَى ، وإنما وجب ذلك الوحي ، لأن الواقعة عظيمة ، ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي ، فكان الوحي فيها واجباً . قوله : " أَن اقْذِفِيهِ " يجوز أن تكون " أَنْ " مفسِّرة ، لأن الوحي بمعنى القول ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وجوز غيره أن تكون مصدرية ، ومحلها حينئذ النصب بدلاً من " مَا يُوحَى " والضمائر في ( قوله : " أن ) اقْذِفيهِ " إلى آخرِها عائدة على موسى - عليه السلام - لأنه المحدَّث عنه . وجوَّز بعضهم أن يعود الضمير في قوله : { فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ } للتابوت ، وما بعده وما قبله لموسى - عليه السلام - وعَابَه الزمخشري وجعله تنافراً ومُخْرِجاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم ، فإن قلت : المقذوفُ في البحر هو التابوتُ ، وكذلك الملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر ، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسِّر . قال أبو حيَّان : ولقائلٍ أن يقول : إن الضمير إذا كانَ صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد ، كان عوده على الأقرب راجحاً ، وقد نص النحويون على هذا ، فعوده على التابوت في قوله : { فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ } راجح ، والجواب : أن أحدهما إذا كان محدَّثاً عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدَّث عنه أرجح ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن جزم في دعواه أن الضمير في قوله تعالى : " فَإنَّه رِجْسٌ " عائد على ( خِنْزِير ) لا على ( لَحْم ) ، لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه ، وغضروفه وعظمه وجلده ، فإن المحدَّث عنه هو لحم خنزير لا خنزير . وقد تقدمت هذه المسألة في الأنعام . قوله : " فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ " هذا أمر معناه الخبر ، ولكونه أمراً لفظاً جُزم جوابُه في قوله " يَأْخُذهُ " ، وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطعُ الأفعال وآكدها ، قال الزمخشري : لما كانت مشيئةُ الله وإرادته أن يجري ماءُ اليَمِّ ، ويلقى بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز ، وجعل اليَمَّ كأنَّه ذو تمييزٍ أمر بلك ليطيع الأمر ، ويتمثل رسمه فقيل : { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ } . و " بالسَّاحِلِ " يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال . أي : ملتبساً بالسَّاحل . وأن يتعلق بنفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى ( في ) والقذفُ يستعمل بمعنى الإلقاء والوضع ، ومنه قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } [ الأحزاب : 26 ] واليَمُّ البحر ، والمراد به ههنا نيلُ مصرَ ( في قول الجميع ) واليَمُّ : اسم يقع على النهر والبحر العظيم . قال الكسائي : والسَّاحِلُ فاعل بمعنى مَفْعُول ، سمي بذلك لأن الماءَ يسحله أي : يغمره إلى أعلاه . فصل روي أنها اتخذت تابوتاً . قال مقاتل : إن الذي صنع التابوت حُزَيْقِيل مؤمن آل فرعون وجَعَلت في التابوت قطناً محلوجاً ، ووضعت فيه موسى ، وقيرت رأسه وشقوقه بالقير ، ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسيةَ إذا بتابوت يجيء به الماء ، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه ، وفتحوا رأسَه ، فإذا صبيٌّ من أصبح الناس وجهاً ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك ، فذلك قوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } قال ابن عباس : أَحَبَّه وحبَّبَهُ إلى خَلْقِه . وقال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه . فإن قيل : قوله : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } ولم يكن موسى في ذلك الوقت معادياً له . فالجواب : من وجهين : الأول : كونُه كافراً عدواً لله ، وكونه عدواً لموسى - عليه السلام - ، فإنه بحيث لو ظهر له حاله لقتله . والثاني : عدواً بحيث يؤول أمره إلى عداوته . قوله : " مِنِّي " فيه وجهان : قال الزمخشري : " مِنِّي " لا يخلو إما أن يتعلق بـ " أَلْقَيْتُ " فيكون المعنى : على أني أحببتك ، ومن أحبه الله أحبته القلوب . وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لـ " مَحَبَّةً " أي : محبة حاصلة وواقعة مِني قد ركزتها أنا في القلوب ، وزرعتها فيها ، فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ } [ القصص : 9 ] . روي أنه كان على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة ، لا يكاد يصبر عنه من رآه ، وهو كقوله - تعالى - : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً } [ مريم : 96 ] قال القاضي : هذا الوجه أقرب ، لأنه حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين ؛ لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب . فالمراد أول ما ذكر في كيفيته في الخلقة يستحلى ويغتبط به ، وكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته . ( ويمكن أن يقال ) بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار ، وهو أن يقال : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً حاصلةً مِنِّي وواقعة بتخليقي ، وعلى الأول لا حاجة إلى الإضمار . وأما قوله : إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله . فممنوع ، لأن معنى الله هو اتصال النفع إلى عباده ، وهذا المعنى كان حاصلاً في حقه في زمان صباه ، وعلم الله أن ذلك يستمر إلى آخر عمره ، فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة . قوله : " وَلِتُصْنَع " قرأ العامة بكسر اللام وضم التاء وفتح النون على البناء للمفعول ، ونصب الفعل بإضمار ( أنْ ) بعد لام ( كي ) ، وفيه وجهان : أحدهما : أن هذه العلة معطوفة على علة مقدرة قبلها . والتقدير : ليتلطف بك ولتصنع ، ( أو ليعطف عليك ) . وترأم ولتصنع ، وتلك العلة المقدرة متعلقة بقوله : " وَأَلْقَيْتُ " أي : ألقيت عليك المحبة ( ليعطف عليك ولتصنع ، ففي الحقيقة هو متعلق بما قبله من إلقاء المَحَبَّة ) . والثاني : أن هذه اللام تتعلق بمضمر بعدها ، تقديره : ولتصنع على عيني فعلت ذلك ، أي : ألقيت عليكَ محبةً مِنِّي ، أو كان كيت وكيت . ومعنى " وَلِتُصْنَعَ " أي لِتُرَبِّى ويُحْسَن إلَيْكَ ، وأنا مراعيك ، ومراقبك كما يراعى الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به . قال الزمخشري . ومجاز هذا أنَّ مَنْ صنعَ للإنسان شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه كما يُحِبُّ ، ولا يمكنه أن يخالف غرضه فكذا هنا . وفي كيفية المجاز قولان : الأول : المراد من العَيْن العلم ، أي تُرَبَّى على علمٍ مِنِّي ، ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العَيْن على العلم ( لاشتباههما ) من هذا الوجه . الثاني : المراد من العَيْن الحراسة ، لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما لا يريده ، فالعين كأنها سبب الحراسة ، فأطلق اسم السبب على المسبب مجازاً وهو كقوله تعالى : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [ طه : 46 ] . ويقال : عَيْنُ الله عليك ، إذا دعا له بالحفظ ( والحياطة ) . وقرأ الحسن وأبو نهيك : " وَلِتَصْنَعَ " بفتح التاء . ( قال ثعلب ) : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عينٍ مني . وقال قريباً منه الزمخشري . وقال أبو البقاء : أي : لتفعل ما آمرك بمرأى مني . وقرأ أبو جعفر وشيبة " وَلْتُصْنَعْ " بسكون اللام والعين وضم التاء ، ( وهو أمر معناه : لتُربَّ وليُحْسَن إليك ) . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءة كسر لام الأمر . ويحتمل مع كسر اللام أو سكونها حالة تسكين العين أن تكون لام كي ، وإنما سكنت تشبيهاً بكَتْف وكَبد ، والفعل منصوب ، والتسكين في العين لأجل الإدغام لأنه لا يقرأ في الوصل إلا بإدغام فقط .