Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 65-70)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { قَالُواْ يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ } الآية : وهنا حذف والتقدير : فحضروا الموضع قالوا السحرة يا موسى . قوله : { إِمَّا أَن تُلْقِيَ } فيه أوجه : أحدها أنه منصوب بإضمار فعل تقديره : اختر أحد الأمرين . كذا قدره الزمخشري . قال أبو حيان : هذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وتفسير الإعراب إما أن تختار الإلقاء . والثاني : أنه مرفوع على خبر ميتدأ محذوف تقديره : الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤنا . كذا قدره الزمخشري . الثالث : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره : إلقاؤك أول ، ويدل عليه قوله : { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } ، واختار أبو حيان ، وقال : فتحسن المقابلة من حيث المعنى ، وإن لم تحسن المقابلة من حيث التركيب اللفظي . قال : وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك فيه . وتقدم نظير هذا في الأعراف . فصل معنى الكلام : إما أن تلقي ما معك قَبْلنا ( وإما أنْ نلقي ما معنا قبلك ) وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع ، فلا جرم رزقهم الله الإيمان ببركته ، ثم إن موسى - عليه السلام - قابل أدبهم بأدب فقال : " بَلْ أَلْقُوا " . فإن قيل : كيف يجوز أن يقول موسى " بَلْ أَلْقُوا " فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى - عليه السلام - كان كفراً ؟ فالجواب من وجوه : الأول : لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ، لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهروا ، الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة موسى - عليه السلام - ( كان ذلك الإلقاء إيماناً إنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى - عليه السلام - ، وهو عليه السلام ) إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال . والثاني : ذلك الأمر كان مشروطاً ، والتقدير : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين ، كقوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ( أي : إن كنتم قادرين ) . الثالث : أنه لما تعيَّن ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً ، وهذا كالمحقق إذا علم في أن قلب واحد شبهة ، وأنه لو لم يطالبه بذكرها وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه ويخرج بسببها عن الدين ، فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ، ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ، ويزيل أثرها عن قلبه ، فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض جائز فكذا ههنا . الرابع : أن لا يكون ذلك أمراً بل معناه : إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حسًّا لكي ينكشف الحق . الخامس : أن موسى - عليه السلام - لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاهم عن ذلك بقوله : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] وإن كان كذلك استحال أن يأمرهم بذلك ، لأن الجمع بين كونه ناهياً آمراً بالفعل الواحد محال ، فعلمنا أن أمره غير محمول على ظاهره ، وحينئذ يزول الإشكال . فإن قيل : لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم إسماع الشبهة على إسماع الحجة غير جائز ، فكذا تقديم إرائة الشبهة على إرائة الحجة يجب أن لا يجوز ، لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده ، فيبقى حينئذ في الكفر والضلال ، وليس لأحد أن يقول : إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو - عليه السلام - قابل ذلك بأن قدمهم ، لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز . فالجواب أنه - عليه السلام - كان قد أظهر المعجزة مرةً واحدةً فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى ، والقوم إنما جاءوا لمعارضته ، فقال - عليه السلام - لو أظهرت المعجزة أولاً لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وهو لا يجوز ، ولكنني أفوض الأمر إليهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ، ثم أظهر أنا ذلك المعجز الذي يبطل سحرهم ، فيكون هذا التقديم سبباً لدفع الشبهة فكان أولى . قوله : " فَإِذَا حِبَالُهُمْ " هذه الفاء عاطفة على ( جملة محذوفة دل عليها السياق ، والتقدير : فَأَلْقُوا فَإذَا ، وإذا هي التي للمفاجأة وفيها ثلاثة أقوال تقدمت : أحدها : أنها باقية على ظرفية الزمان . الثاني : أنها ظرف مكان . الثالث : أنها حرف . قال الزمخشري : والتحقيق فيها أنها الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها ، وجملة تضاف إليها ، خصت في بعض المواضع بأن يكون الناصب لها فعلاً مخصوصاً ، وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير ، فتقدير قوله : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } ففَاجأ موسى وقتَ تخييل سَعْي حِبَالهم وعصيّهم ، وهذا تمثيل ، والمعنى : على مفاجأته حبالهم وعصيّهم مخيِّلةً إليه السعي . قال أبو حيان : قوله : إنها زمانية قول مرجوح ، وهو مذهب الرياشي . وقوله : الطالبة ناصباً لها صحيح . وقوله : وجملة تضاف إليها ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا ، لأنها إما أن تكون هي خبراً لمبتدأ ، وإما أن تكون معمولة لخبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة ، لأنها إما أن تكون بعض الجملة أو معمولة لبعضها ، فلا يمكن الإضافة . وقوله : خصت في بعض المواضع إلى آخره . قد بيَّنا الناصبَ لها . وقوله : والجملة بعدها ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح ، بل جوَّز الأخفش على أن الجملة الفعلية المقترنة بقد تقع بعدها نحو خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك مسألة الاشتغال نحو : خرجتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمرو ، برفع زيد ونصبه على الاشتغال . وقوله : والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيِّلةً إليه السعي ، فهذا عكس ما قدر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيِّهم إياه . فإذا قلت : خرجت فإذا السبع ، فالمعنى : أنه فاجأني وهجم ظهوره . انتهى . قال شهاب الدين : وما ردَّ به غير لازم له ، لأنه ردَّ عليه بقول بعض النحاة ، وهو لا يلزم ذلك القول حتى يرد به عليه لا سيما إذا كان المشهور غيره ومقصوده تفسير المعنى . وقال أبو البقاء : الفاء جواب ما حذف وتقديره : فألقوا فإذا ، فـ " إذا " في هذا ظرف مكان العامل فيه " أَلْقُوا " . وفي هذا نظر . ، لأن " أَلْقُوا " هذا المقدر لا يطلب جواباً حتى يقول : الفاء جوابه ، بل كان ينبغي أن يقول : الفاء عاطفة هذه الجملة الفجائية على جملة أخرى مقدرة ، وقوله : ظرف مكان هذا مذهب المبرد ، وظاهر قول سيبويه أيضاً وإن كان المشهور بقاؤها على الزمان وقوله : إن العامل فيها " فَأَلْقُوا " لا يجوز لأن الفاء تمنع من ذلك . هذا كلام أبي حيان . ثم قال بعده : ولأن " إذا " هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو حبالهم وعصيهم إن لم يجعلها هي في موضع الخبر ، لأنه يجوز أن يكون ) الخبر " يُخَيَّل " ، ويجوز أن تكون " إذا " و " يُخَيَّلُ " في موضع الحال ، وهذا نظير : خرجت فإن الأسد رابضٌ ورابضاً ، وإذا رفعت رابضاً كانت إذا معمولة له والتقدير : فبالحضرة الأسد رابض ، أو في المكان ، وإذا نصبت كانت " إذا " خبراً ، ولذلك يكتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد . قوله : " يُخَيَّل إلَيْهِ " قرأ العامة " يُخَيَّل " بضم الياء الأولى وفتح الثانية مبنيًّا للمفعول ، و " أنَّهَا تَسْعَى " مرفوع بالفعل قبله لقيامه مقام الفاعل تقديره : يُخَيَّل إليه سعيُهَا . وجوز أبو البقاء فيه وجهين : أحدهما : ( أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير الحِبَال والعِصِيّ وإنما ذكَّر ولم يقل " تُخَيَّلُ " بالتاء من فوق ، لأن تأنيث الحبال غير حقيقي . الثاني : أن القائم مقام الفاعل ضمير يعود على الملقي ، فلذلك ذكر . وعلى الوجهين : ففي قوله : " أَنَّهَا تَسْعَى " وجهان أحدهما ) : أنه بدل اشتمال من ذلك الضمير المستتر في " يُخَيَّل " والثاني : أنه مصدر في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر أيضاً ، والمعنى : يُخَيَّل إليه هي أنها ذات سعي . ولا حاجة إلى هذا ، وأيضاً فقد نصوا على أن المصدر المؤول لا يقع موقع الحال ، لو قلت : جاء زيد أن رَكَض ، تريد ركضاً بمعنى ذا ركض لم يجز . وقرأ ابن ذكوان : " تُخَيَّلُ " بالتاء من فوق ، وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الفعل مسند لضمير الحِبَال والعِصِيّ ، أي : تُخَيَّل الحبال ( والعصي ، و ) " أنَّهَا تَسْعَى " بدل اشتمال من ذلك الضمير . الثاني : كذلك إلا " أنَّهَا تَسْعَى " حال ، أي : ذات سَعْي كما تقدم تقريره قبل ذلك . الثالث : أن الفعل مسند لقوله : " أنَّهَا تَسْعَى " كقراءة العامة في أحد الأوجه وإنما أنَّثَ الفعل لاكتساب المرفوع التأنيث بالإضافة ، إذ التقدير : تُخَيَّلُ إلَيْه سَعْيُها ، فهو كقوله : @ 3674 - شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ @@ ( { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } ) . وقرأ أبو السمال : " تَخَيَّلُ " بفتح التاء والياء مبنياً للفاعل ، والأصل : تَتَخَيَّلُ ، فحذف إحدى التاءين نحو " تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ " ، و " أَنَّهَا تَسْعَى " بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير . وجوَّز ابن عطية أيضاً أنه مفعول من أجله . ونقل ابن جبارة الهذلي : قراءة أبي السمال : " تُخَيِّل " بضم التاء من فوق وكسر الياء ، فالفعل مسند لضمير الحبال ، و " أنَّهَا تَسْعَى " مفعول ، أي : تُخَيِّل الحبال سعيها . ونسب ابن عطية هذه القراءة للحسن وعيسى الثقفي . وقرأ أبو حيوة : " نُخَيِّل " بنون العظمة ، و " أَنَّها تَسْعَى " مفعول به أيضاً على هذه القراءة . وقرأ الحسن والثقفي " عُصيِّهم " بضم العين حيث وقع ، وهو الأصل ، وإنما كسرت العين إتباعاً ( للصاد ، وكسرت الصاد إتباعاً ) للياء نحو دَلْو ودِلِيّ ، وقوس وقِسِيّ ، والأصل : عُصُوو ، بواوين فأًُعِلَّ كما ترى بقلب الواوين ياءين استثقالاً لهما ، فكسرت الصاد لتصح الياء ، وكسرت العين إتباعاً . ونقل صاحب اللوامح : أنَّ قراءة الحسن " عُصْيُهُمْ " بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع ، وهو أيضاً جمع كالعامة إلا أنه على فُعْل ، والأول على فُعُول كفُلُوس . والجملة من " تُخَيِّل " يحتمل أن تكون في محل رفع خبراً لهي على أن " إذا " الفجائية فضلة . وأن تكون في محل نصب على الحال على أن " إذا " الفجائية هي الخبر والضمير في " إِلَيْه " الظاهر عوده على موسى . وقيل يعود على ( فِرْعَون ) ( ويدل للأول ) قوله تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } . وفيه إضمار أي : فألقوا فإذا حبالُهُم وعِصِيُّهم ، جمع حبل وعصا . فصل قال ابن عباس : أَلْقَوا حِبَالَهُمْ وَعِصيَّهُم وأخذوا أعين الناس فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيَّات وكانت أخذت مَيْلاً من كل جانب ، وأنها تسعى فخاف ، و { أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً } وأوجَسَ : أضمر في نفسه خوفاً . ( وقيل : وجد في نفسه خيفة ) . فإن قيل : كيف استشعر الخوف وقد عرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد ، فجعل العصا حيَّة عظيمة ، ثم إنه تعالى أعادها لما كانت ، ثم أعطاه الاقتراحات الثمانية ، وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن وقال له بعد ذلك كله : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [ طه : 46 ] ، فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه ؟ فالجواب من وجوه : أحدها : قال الحسن : إن ذلك الخوف إنما كان لطبع البشرية من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره . والثاني : قال مقاتل : خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره ، فيظنون أنهم قد ساووا موسى - عليه السلام - ويؤكده قوله تعالى : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } . الثالث : خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه ، فيدوموا على اعتقاد باطل . الرابع : لعلَّه - عليه السلام - كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي ، فلما تأخر نزول الوحي في ذلك الجمع بقي في الخجل . الخامس : لعله - عليه السلام - خاف من أنه لو أبطل سحرهم ، فلعلَّ فرعون قد أعد أقواماً آخرين فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهلم جرًّا ، فلا يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود . فصل اختلفوا في عدد السحرة ، فقال الكلبي : كانوا اثنين وسبعين ساحراً ، اثنان من القبط ، وسبعون من بني إسرائيل ، أكرههم فرعون على ذلك مع كل واحد منهم عصا وحبل . وقال ابن جريج : تسعمائة ، ثلاثمائة من الفرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية . وقال وهب : خمسة عشر ألفاً . وقال السدي : بضعة وثلاثون ألفاً . وقال القاسم بن سلام : سبعون ألفاً . وظاهر القرآن لا يدل على شيء من هذه الأقوال . ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بقوله : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } أي الغالب : يعني : لك الغلبة والظفر ، وذلك يدل على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أنَّ أمره لا يظهر للقوم ، فآمنه الله بقوله : { إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } ، وفيه أنوع من المبالغة : أحدها : ذكر كلمة التأكيد وهي ( إنَّ ) . وثانيها تكرير الضمير . وثالثها : لام التعريف . ورابعها : لفظ العلو ، وهو الغلبة الظاهرة . قوله : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } وهاهنا سؤال ، وهو أنه لم لم يقل وألق عصاك ؟ والجواب : جاز أن يكون تصغيراً لهما ، أي : لا تبالِ بكثرة حِبالِهِمْ وعِصِيهم ، وألق العُوَيد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك ، فإنَّه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها ، وصغره وعظمها . وجاز أن يكون تعظيماً لها أي لا تُخيفك هذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها ، وهذه على كثرتها أقل شيء عندها ، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها . قوله : " تَلْقَفْ " أي : تَلْقَمْ وتبتلع " مَا صَنَعُوا " بسرعة . قرأ العامة بفتح اللام وتشديد القاف وجزم الفاء على جواب الأمر ، وقد تقدم أن حفصاً يقرأ " تَلْقَفْ " بسكون اللام وتخفيف القاف ، وقرأ ابن ذكوان هنا " تَلَقَّفُ " بالرفع إما على الحال ، وإما على الاستئناف ، وأنّث الفعل في " تَلْقَفْ " حملاً على معنى " ما " لأن معناها العصا ، ولو ذكَّر ذهاباً إلى لفظها لجاز ولم يقرأ به . وقال أبو البقاء : إنه يجوز أن يكون فاعل " تَلْقَفْ " ضمير موسى فعلى هذا يجوز أن يكون " تَلْقَفُ " في قراء الرفع حالاً من موسى ، وفيه بُعْد . و ( " صَنَعُوا " ههنا : اختلقوا وزَوّرُوا ) والعرب تقول في الكذب : هو كلام مصنوع . قوله : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحر } العامة على رفع " كَيْد " على أنه خبر " إنَّ " و " مَا " موصولة ، و " صَنَعُوا " صلتها ، والعائد محذوف ، والموصول هو الاسم ، والتقدير : إنَّ الذي صنعوه كَيْدُ سَاحِرٍ . ويجوز أن تكون " مَا " مصدرية فلا حاجة إلى العائد ، والإعراب بحاله والتقدير : ( إنَّ صُنْعَهُم ) كيدُ ساحر . ( وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن عليّ " كَيْدَ " بالنصب على أنه مفعول به و " مَا " مزيدة مهيئة . وقرأ الأخوان : " كَيْدُ سِحْرٍ " على أن ) المعنى : كَيْدُ ذُوِي سِحْرٍ ، ( أو جعلوا نفس السحر مبالغةً وتبييناً للكيد ، أي حيلةَ سحر ، لأنه يكون سحراً وغير سحر ) كما تميز سائر الأعداد بما يفسره نحو مائة درهم ، وألف دينارٍ ، ومثله علم فقهٍ وعلمُ نحوٍ . وقال أبو البقاء : " كَيْدُ سَاحِرٍ " إضافة المصدر إلى الفاعل ، و " كَيْدُ سِحْرٍ " إضافة الجنس من النوع . والباقون : ( " سَاحِرٍ " ) . وأفرد ساحِراً وإن كان المراد به جماعة ، قال الزمخشري : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد ( فلو جمع لَخُيِّلَ أنَّ المقصود هو العدد ) . وقرىء " سَاحِراً " بالنصب على أن " مَا " كافة . ثم قال : { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } من الأرض . قال ابن عباس : لا يسعد حيث كان . وقيل معناه : حيث احتال . قوله : { فَألْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً } لما ألْقَى ما في يمينه ، وصار حيَّةً ، وتلقف ما صنعوا ، وظهر الأمر ، خروا عند ذلك سجداً ، لأنهم كانوا في أعلى طبقات السحر ، فلما رأوا ما فعل موسى - عليه السلام - خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتّة ، روي أن رئيسهم قال : كُنَّا نغلِبُ الناسَ بالسحر ، وكانت ( الآلات ) تبقى علينا ، فلو كان هذا سحراً فأيْنَ ما ألقيناه ؟ فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القادر العالم ، وبظهوره على يد موسى - عليه السلام - على كونه رسولاً صادقاً من عند الله فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود . قال الأخفش : إنهم في سرعة ما سجدوا كأنهم خروا . قال الزمخشري : ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم للكفر والحجود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين . روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة ، والنار ، ورأوا ثواب أهلها ، وعن عكرمة : لما خروا سُجَّداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة . قال القاضي : هذا بعيد ، لأنهم لو أراهم عياناً لصاروا ملجئين ، وذلك لا يليق به قولهم : { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا } [ طه : 73 ] . وأجيب : أنه لما جاز لإبراهيم مع قطعه بكونه مغفوراً له أن يقول : { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِيَ خَطِيئَتِي } [ الشعراء : 82 ] فلم لا يجوز في حق السحرة ؟ قوله : { ءَامَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسَىٰ } احتج التعليمية بهذه الآية وقالوا : إنَّهم آمَنُوا بالله الذي عرفوه من قِبَل هارون وموسى ، وفي الآية فائدتان : الفائدة الأولى : أنَّ فرعون ادَّعى الربوبية في قوله : " أَنَا رَبُّكُم " . والإلهية في قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] فلو قالوا : آمَنَّا بربِّ العالمين ، لكان فرعون يقول : إنهم آمنوا بي لا بغيري ، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة ، ويدل عليه تقديمهم ذكر هارون على مُوسى ، لأن فرعون كان يدعي ربوبية موسى ( بناء على أنه ربَّاه ) ، وقال : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [ الشعراء : 18 ] ، فالقوم لما احترزوا على إيهامات ( فرعون قدموا ذكر هارون على موسى قطعاً لهذا الخيال . الفائدة الثالثة : هي أنهم لما شاهدوا ) ما خصهما الله تعالى به من المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة قالوا : { رَبِّ هارُونَ وَمُوسَىٰ } .